قول المصنف: "وهذا يبنى على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع" هذا التقرير الذي ذكره المصنف إنما هو تقرير المتأخرين من أهل السنة، فهم الذين فصلوا من جنس هذا التفصيل.
وأما المعتبر في مسألة تكفير أهل البدع فهو المأثور عن السلف، وهو ما أبانه المصنف بقوله: وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا.. إلخ.
إذاً التقرير السابق هو تقرير المتأخرين، وليس هذا التقرير على وجه تام من التحقيق، بل فيه بعض القصور والتردد، وإنما المعتبر في مراد شيخ الإسلام رحمه الله -وهو المعتبر الشرعي الصحيح- هو ما كان دارجاً عند السلف ومستقراً عندهم رحمهم الله.
وقد بين في كلامه هذا أن الطوائف عند السلف في الجملة تنقسم إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة أجمع السلف على عدم كفرهم.
الطائفة الثانية: طائفة حصل في كلام السلف تردد أو تنازع في كفرهم.
الطائفة الثالثة: طائفة قد استقر الأمر على كفرهم.
وهذا التقسيم إذا ذكر فهو باعتبار المعاني والحقائق ولا يلزم أن يكون باعتبار الأعيان، فإن هذا الاطراد قد لا يكون متحصل العلم على الضرورة.
هذا هو النوع الأول، وهو الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم كفرها، وقوله: "في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة" لا يعني انحصار هذا النوع في هاتين الطائفتين.
والشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر ، فبدعة التفضيل عند الشيعة بإجماع السلف ليست من البدع الكفرية.
أما المرجئة فهم: من أخرج الأعمال -إما الظاهرة فقط، أو الظاهرة والباطنة- عن مسمى الإيمان، وهذا الذي عليه عامة المرجئة، وهؤلاء -أيضاً- لم يتنازع السلف في عدم تكفيرهم.
فإذا قيل: إن جهم بن صفوان من المرجئة، وفي تكفيره والجهمية كلام معروف للسلف.
قيل: جهم بن صفوان ومن معه يعتبر القول في تكفيرهم بجملة أصول، أعظمها وأجلها: قولهم في باب الأسماء والصفات، فهو أشد أغلاطهم وضلالاتهم.. هذه جهة.
الجهة الثانية: أن قول جهم بن صفوان في مسألة الإيمان قد نص غير واحد من السلف على أنه كفر إذا ما التزم جهم ظاهر مقالته، فإنه يقول: إن الإيمان هو المعرفة. فمن التزم أن الإيمان هو المعرفة -بمعنى العلم الإدراكي الذي لا يصاحبه قبول- وجعل هذا هو الإيمان الذي أوجبه الله ورسوله، فلا شك أن قوله هذا كفر؛ لأنه يلزم منه أن يكون اليهود والكفار مؤمنين أي: إذا ما فسر الإيمان بالعلم أو بالمعرفة التي هي محض الإدراك للمسائل أو للمعاني، وإن لم تقع استجابة وإذعان وقبول، فلا شك أن هذا القول كفر؛ لأنه يلزم منه أن اليهود وفرعون مؤمنون؛ لقول الله تعالى في اليهود: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] ولقوله في فرعون ومن معه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].
إذاً: إنما قرر من قرر من السلف في قول جهم في الإيمان أنه كفر؛ لهذا الاعتبار.
أي: إذا ما قصر الإيمان على العلم أو المعرفة الإدراكية المحضة التي ليس معها قبول فهذا القول كفر؛ لأنه قطع لامتياز الإسلام عن غيره من الملل، وتسوية بين الإسلام واليهودية وكفر فرعون... إلى غير ذلك، وهذا لا شك أنه كفر.
فإذا قيل: هل جهم يقول بذلك؟
قيل: من تكلم من السلف في مقالته فعلى هذا المراد. وأما أن جهم يقول ذلك أو لا يقوله فهذه مسألة سبق أن بينا أنها مسألة محتملة ومترددة.
[ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء] .
قال: ولم تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر هؤلاء، مع أن الإمام أحمد وردت عنه رواية أن قول جهم بن صفوان في الإيمان كفر، وقد نقلها شيخ الإسلام عن الإمام أحمد في مسألة قول جهم ، وهذا ليس تعارضاً في كلام الشيخ، فإذا ما كان كذلك فهو على التفسير السابق.
وقد تقدم أنه لا يعتبر تقرير المتأخرين في فهمهم لكلام المتقدمين إلا إذا حكوا الإجماعات، وأما تحصيل مذهب السلف في أي باب من الأبواب -وهذا الباب منها، وهو باب التكفير- بمحض الفهم، حتى لو كان المحصل من أهل السنة، فإن تحصيله لا يلزم، وأما إذا بنى تحصيله على النقل استفاضةً أو إجماعاً فإنه يلزم.
وقد يعترض معترض، فيقول: يلزم من هذا أن تحصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لمذهب السلف لا يعتبر جميعه.. فما الجواب؟
نقول: أمثال شيخ الإسلام من المحققين لا يمكن أن يجزموا بقول ما أنه مذهب للسلف إلا وقد انضبط عندهم النقل فيه، فهو ممن يقرر هذه القاعدة، بل هو الذي قررها: أن مذهب السلف لا يعتبر بالفهم وإنما يعتبر بالنقل.
وعليه: فكل ما جزم شيخ الإسلام بأنه مذهب للسلف فهو قد انضبط عنده نقلاً: إما استفاضةً وإما إجماعاً، وإنما التعليق الذي يشار به لا إلى أمثال شيخ الإسلام من المحققين، فإن المحققين من المتأخرين لا يلتزمون ذكر مذهب السلف إلا فيما انضبط نقله، بالإجماع أو الاستفاضة، وإنما ينبه في ذلك إلى بعض أصحاب الأئمة كبعض أصحاب أحمد وغيرهم؛ فإن كثيراً من أصحاب أحمد وغيرهم إذا ذكروا مسألة تكفير أهل البدع قالوا: وفيها قولان للأئمة. فبعض الشافعية يقول: فيها قولان للشافعي . وكثير من الحنابلة يقولون: عن أحمد روايتان في هذا: التكفير وعدم التكفير..
والحق أن إطلاق القول بتكفير أهل البدع أو عدمه ليس قولاً لواحد من السلف، فليس هناك إمام من أئمة السلف -لا أحمد ولا غيره- نطق بتكفيرهم أو عدمه على الاطراد، بل هذا حكم ممتنع في الشرع وممتنع في العقل، فإن البدع تختلف، والطوائف تختلف... إلى غير ذلك، فمن الممتنع عقلاً وشرعاً أن يذهب ذاهب إلى أن هذا الكفر يطلق إثباتاً، أو يطلق نفياً.
وعليه: فجمهور تقرير المتأخرين لمسألة تكفير أهل البدع إما أن يكون غلطاً محضاً، وإما أن يكون دخله شيء من التقصير، وهذا كلام يلتزم على ظاهره.
وهذا يدل على أن هذه المسألة مسألة استقراء في كلام السلف أنفسهم، وفي كلام المحققين من أصحابهم من المتأخرين كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
[حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة] .
وعلى مذهبه: أي: مذهب الإمام أحمد ، وغلط على الشريعة: أي: على الديانة؛ فإن الدلائل الشرعية تمنع هذا الإطلاق بتكفيرهم أو عدمه.
وهذا تقرير طائفة من أصحاب الأئمة المائلين إلى الطرق الكلامية، أو المتأثرين بطرق المرجئة كما هو شأن طائفة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله ، وهو أنهم يطلقون ذلك ويجعلونه من البناء على الأصل، أي: يردون مسألة تكفير أهل البدع إلى أصل يدعون إنه مستقر عند أهل السنة، وهو أنهم لا يكفرون بالمعاصي والذنوب، ويرون أن حقيقة هذه البدع أنها معاصي..
وهذا التقرير والبناء ليس بمحقق؛ لأن القول بأن من أصول أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحداً بذنب قول مجمل؛ فإن الذنب كلمة مجملة، فإذا ما أريد بالذنب الكبائر دون الشرك بالله والكفر به فلا شك أن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب. وأما إذا أريد بالذنب الإطلاق فليس بصحيح؛ فإن الشرك يسمى -كما في الصحيحين- ذنباً: (أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ففي هذا الحديث أقر النبي صلى الله عليه وسلم السائل على تسمية الشرك ذنباً.
إذاً: هذا الإطلاق: أن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون بالذنوب. يقال: هذا إطلاق مجمل، إن أريد بالذنب ما دون الكفر والشرك فهو صحيح، وإن لم يرد ذلك فهذا لا شك أنه غلط على أهل السنة؛ فإنهم يكفرون بالشرك، والتكفير بالكفر والشرك مجمع عليه بين المسلمين، وليس فيه مادة من النزاع.
إذاً: التفريع على مسألة حكم أهل الكبائر في أهل البدع ليس بالمحكم؛ لأن الكبائر في نفسها ليست كفراً، لأن الكبائر مهما كان صاحبها مفرطاً فإنه لا يكون كافراً، إلا إذا استحل أو ما إلى ذلك؛ وأما هذه البدع فإنها متعلقة بالتصديقات، ولهذا يدخل مقامها قدر من الرد، أو المعاندة، أو الإباء، فهي محتملة لأن يقارنها شيء كثير من موجبات الكفر.
والنتيجة من هذا: أن بناء مسألة تكفير أهل البدع على مسألة الكبائر بناء ليس بمحقق؛ لأن المناط مختلف، فالكبائر هي قدر من المعصية والمخالفة يفعلها العبد لحظ نفسه وشهوته، وأما هذه البدع فهي مقامات من الديانة؛ ولهذا من يفعلها إنما يقصد بها التدين، فإذا ما كان هذا التدين فيه قدر من المعاندة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو الإعراض عنها فهذه مقامات يدخلها شيء من مادة الكفر، وإن لم يلزم من ذلك أن كل من ابتدع يكون كافراً.
النوع الثاني: وهي طوائف أطبق السلف على كفرهم: كالجهمية المحضة.. ومراده بالجهمية المحضة كما سبق في كلام ابن المبارك : الغلاة، وليس من كان في كلامه مادة من التجهم، فإن السلف تارةً يريدون بالجهمية من في كلامه مادة من التجهم، أي: مادة من تعطيل الصفات، وهؤلاء ما نطق السلف بتكفيرهم على الإطلاق، إنما الذي أطبق السلف على كفرهم هم الجهمية المحضة الغالية المنكرة لأسماء الرب وصفاته.
[وحقيقة قولهم: أن الله لا يتكلم ولا يُرى] .
لا يُرى، أي: لا يرى في الآخرة.
[ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار.. وأمثال هذه المقالات] .
فهذه هي حقيقة قول الذين التزموا التعطيل المحض للصفات، فمن عطل الصفات تعطيلاً محضاً من جنس تعطيل جهم بن صفوان وأمثاله، فهؤلاء أطبق السلف على كفرهم.
وهذا هو النوع الثالث.
إذاً: النوع الأول: طوائف لم يتنازع السلف في تكفيرهم، بل أطبقوا على عدم كفرهم.
النوع الثاني: طوائف أطبق السلف على تكفيرهم، وذكر مثالاً لذلك الجهمية الغالية المحضة، ولهم مثال آخر؛ فإن السياق ليس سياق حصر، ومن مثال ذلك: القدرية الغلاة، وهم الذين ينكرون علم الرب بما سيكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لم يعلمها إلا عند وقوعها، فهؤلاء زنادقة كفار، وليسوا من الإسلام في شيء، ولا ينظر في شبهتهم أو حججهم.
وكالشيعة الغلاة الذين ألهوا علي بن أبي طالب ؛ فإن هؤلاء أيضاً كفار بإجماع المسلمين.
إذاً أمثال هذه الطوائف الغالية لم يتنازع السلف في ثبوت كفرها.
النوع الثالث: هم قوم في تكفيرهم نزاع وتردد عند أحمد وغيره.
والفرق بين النزاع والتردد أن النزاع يكون بين اثنين، واحد يذهب إلى كفرهم والآخر يذهب إلى عدمه.
وأما التردد: فهو في مقام الواحد، وهو أن الإمام الواحد يتردد جوابه في ثبوت الكفر أو عدمه بحسب الموجب، وبحسب المقتضي.
أما موجب هذا التردد فقد يكون من داخل اجتهاد الإمام، أو يكون من تنوع مقالة هذه الطائفة.
إذاً: تبين هنا أن ثمة طوائف تردد السلف أو تنازعوا في ثبوت كفرهم، ومثال ذلك الخوارج؛ فإن بعض الأئمة كفرهم وهو رواية عن الإمام أحمد .
والذي عليه جمهور الأئمة، وهو ظاهر مذهب الصحابة أنهم ليسوا كفاراً، وكذلك الروافض الذين يطعنون على جملة الصحابة، فإن في كلام الأئمة تردداً وتنازعاً في تكفيرهم؛ ومن حكى الإجماع على تكفير الشيعة الإمامية الرافضة فقد أخطأ، فضلاً عمن حكى الإجماع على تكفير أعيانهم، فإن من ادعى الإجماع على تكفير أعيانهم فلا شك أنه قد أخطأ، فمن المعلوم أن هذه الطائفة موجودة منذ زمن السلف، ومع ذلك ما التزم أئمة السلف تكفير أعيانهم.
الأمر الأول: لا يلزم أن أقوالها لا تكون أقوالاً كفرية، أي: إذا قيل عن طائفة ما: إنها ليست كافرة عند السلف، أو: إن السلف تنازعوا في ثبوت كفرها، فإنه لا يلزم من ذلك أن السلف تنازعوا في كون أقوال هذا الطائفة فيها مادة من الكفر الأكبر، ولذلك لا شك أن في أقوال هذه الطوائف وأصولها ما هو من حيث المقالة والحقيقة كفر بإجماع السلف، وهذا لا جدل فيها، بل شيخ الإسلام ابن تيمية يقول -وهذا كلمة بنصها-: "ما من إمام من أئمة المتكلمين إلا وفي كلامه ما هو كفرٌ في نفس الأمر" . حتى ابن كلاب الذي كان ينتسب إلى أهل السنة، ويعده كثير من أصحاب السنة المتأخرين من أصحاب السنة المتكلمين، وكذلك أبو الحسن الأشعري في كلامهم ما هو كفر، وأيضاً الأشاعرة المتأخرون في كلامهم ما هو كفر، لكن أطبق أهل السنة المتأخرون على عدم تكفيرهم، وهذا قول محققيهم، وإن نازع من نازع كـأبي إسماعيل الهروي ؛ فإن المحققين كـشيخ الإسلام وأمثاله لا يرون كفرهم مع أن في أقوالهم ما هو كفر.
إذاً: لا يلزم أن تكون أقوال الطائفة التي تنازع السلف -كالخوارج والروافض- أو ترددوا في تكفيرهم بريئة من الكفر، بل قد يكون عندهم مقالات كفرية، لكنهم لا يكفرون بها كطائفة، فضلاً عن أنهم يكفرون بها كأعيان.
قد يقول قائل: وكيف نعلم هذا المنافق؟
نقول: العلم به ليس بلازم؛ لأن المنافقين الأولين الكفار حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن عارفاً بجميع أعيانهم، وإن كان يعلم بعضهم، وهذا واضح في كتاب الله بعد استقرار شأن النفاق وفضح المنافقين في سورة التوبة، فإنه مع ذلك بقي في المنافقين بقية غير معلومة، فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101].
ثم إن هذا العلم لم يكن من العلم الفاضل، ولو كان علماً فاضلاً لجميع المسلمين، أو من علم التكليف، أو من علم الديانه لعلّمه الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة، ولم يخص به حذيفة رضي الله عنه دون غيره.
فإن قيل: خشي الفتنة.
قلنا: لو كان خشي الفتنة بتعليم العامة من الصحابة -أي: جمهور الصحابة- لم لم يعلمه الكبار: كـأبي بكر ، وعمر وأمثالهما؟!
فهذا دليل على أنه ليس من العلم المقصود لذاته، ولكن من أظهر النفاق عُلم نفاقه، كما أن من أظهر الإسلام عُلم إسلامه، ومن استفاض إيمانه عُلم إيمانه، ومن أظهر الكفر عُلم كفره.. وهكذا، فالأمور معتبرة بظواهرها في الأحكام الشرعية.
والنتيجة الأولى: أن القسم الثالث طوائف تنازع السلف -أي: بين أعيانهم- أو ترددوا -أي: تردد الواحد منهم- في تكفيرهم، وهذا التردد، أو التنازع، لا يلزم منه براءة أصول هذه الطائفة أو تلك من مادة الكفر.
والنتيجة الثانية: أنه لا يلزم منه أن لا يقع في أعيانهم من هو كافر في نفس الأمر، ويكون ما يظهره من الإسلام من باب النفاق، وإن قيل: إنه ممكن إلا أنه لا يلزم أن يعين ويعلم.
وعليه: فحكاية الإجماع في مسألة الرافضة ليست حكاية منضبطة.
قيل هنا مقامان:
المقام الأول: مقام أن هذا القول كفر في نفس الأمر.
المقام الثاني: مقام التكفير للأعيان، ومقام التكفير للأعيان ينضبط بحسب مرادات المتكلم بهذه البدعة، فمن سب أبا بكر من جهة أنه جحد أموال آل البيت، وغصبها وأنه لم يعطهم الخمس كما أوجب الله لهم في كتابه.
فإننا نقول: هذا الطعن بدعة وهو حرام، ومنكر، منكر، لكن هذا الطعن لا يكفر صاحبه ويخرج به من الملة.
ومن قال: بلى يكفر، من باب الغيرة لـأبي بكر .
نقول: هذا خطأ؛ لأن علياً والعباس تنازعا عند أبي بكر كما في الصحيح، وقال العباس عن علي عند عمر رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب، الآثم، الغادر، الخائن. ثم قال عمر رضي الله عنه: فرأيتماه -أي: أبا بكر - كاذباً، آثماً، غادراً، خائناً، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق" ، وقد تخلف علي بن أبي طالب عن البيعة ستة أشهر بسبب قضية الخلافة وقضية أموال آل البيت، وكذلك فاطمة رضي الله عنها لم تكلم أبا بكر حتى توفيت، ولم تكن رضي الله عنها عندها قضية في الخلافة، بل كانت متمسكة بمسألة مال أبيها صلى الله عليه وسلم ، فقد أرسلت إلى أبي بكر تسأله الميراث من أبيها، فقال أبو بكر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) لكنها لم تقتنع بهذا.
إذاً: من تكلم في شأن أبي بكر من الشيعة، وقيل له: ما وجه كلامك في أبي بكر ، فقال: لأنه لم يعط آل البيت حقهم، ولأنه ظلمهم. نقول: هذا القول لا شك أنه ضلال؛ لأن أبا بكر كان على سنة وعلى هدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فـأبو بكر كان على سنة.
لكن هل هذا الطعن والسب لـأبي بكر يوجب الكفر والخروج من الملة؟
الجواب: لا، ومن يقول: انتصاراً أو غيرةً. نقول: هذا ليس على تحقيق لا شرعي ولا سلفي، فإنه لا أحد من أئمة السلف قال هذا، حتى المتأخرون كـشيخ الإسلام ابن تيمية ينص على أن هذا ليس موجباً للتكفير، وكذلك المعاصرون الذين بعد شيخ الإسلام وأجلهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد نص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على أن من سب الصحابة بمثل هذا الموجب ليس كافراً.
إذاً: هذه مسألة لا ينبغي التقدم فيها إلى أن مجرد سب واحد من الصحابة يكون كفراً يخرج به صاحبه من أهل القبلة ومن ملة المسلمين.
لكن من سب الصحابة من باب الطعن في ديانتهم، أو من باب الطعن في صحبتهم لرسول الله، أو لكونهم أصحاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو لأن الرسالة لم تكن لمحمد وإنما كانت لـعلي فجاء بها جبريل لمحمد.. فهذه المبادئ التزامها والقول بها كفر.
إذاً: السب يختلف موجبه؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم سب بعضهم بعضاً في بعض حالات الغضب بينهم، فقد طعن علي والعباس على أبي بكر طعناً معروفاً في أول الأمر، ثم رجعوا عن طعنهم، وكذلك طعن علي على العباس ، وطعن العباس على علي ، ولم يكن هذا من باب الكفر المخرج من الملة.
إذاً: مثل هذا الطعن على أبي بكر رضي الله عنه ، وإن كان منكراً من القول وزورا، ولا شك أنه ظلم وتعدي على إمام الصحابة، وسيد هذه الأمة بعد نبيها وهو الصديق رضي الله عنه ، إلا أن مسألة التكفير بهذا لم يصرح بها إمام سلفي، وإنما صرح بها بعض المبالغين في الرد على الطوائف، والذين يرون أن الرد على الطوائف إنما يكون بدايةً بتكفيرهم. وهذا خطأ؛ فإن مسألة ديانات الناس، وعقائد الناس، مسألة عظيمة، فلا يجوز القول بكفر شخص إلا حيث علم كفره، ولا يجوز القول بإسلام شخص إلا حيث علم إسلامه، ومن تُردد في شأنه وُكِل أمره إلى الله.
فإن قيل: فظاهره؟
قيل: ظاهره بحسب ما يظهر، إن أظهر الشعائر أجريت عليه أحكام المسلمين، كما أجرى الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء الله أحكام المسلمين على المنافقين. وإن قيل: في الآخره؟ قيل: الآخرة ليست لأحد، لا لزيد ولا لعمر، بل حكمها إلى الله، والله سبحانه وتعالى يعلم ما في الصدور، وما يوافي العبد به ربه سبحانه وتعالى ؛ لأن الإنسان قد يقول قولاً كفراً ولا يكون به كافراً كما سيأتي تفصيل المصنف في هذا.
مثلاً: مسألة تحريف القرآن، بعض طلبة العلم في هذا العصر يقول: الشيعة كفار.
تقول له: لم؟
يقول: لأنهم يقولون بتحريف القرآن..
وهذا ليس بصحيح؛ فإن الذي ذهب إلى القول بتحريف القرآن طائفة من الشيعة ليست بالكثيرة، وجمهور الشيعة ينكرون هذا القول.
وهناك فائدة لا بد أن تعلم عند قراءة كتب الطوائف، وهي أنه من طرق أئمة الطوائف سواء من الشيعة، أو المعتزلة، أو الأشاعرة أن الواحد من أئمتهم إذا انتصر لقول في مذهبهم حكاه إجماعاً عن طائفته، فيأتي من يأتي من القراء من أهل السنة، فيقول: إن هذا القول إجماع عند هذه الطائفة، وممن نص على الإجماع عندهم فلان من أئمتهم، فيحكم على الطائفة كلها بناءً على هذا.
مثلاً: أبو المعالي الجويني في كتبه يحكي إجماعات، لا يقول: إجماع الأشاعرة، بل يقول: هذا إجماع المسلمين. مع أن الحقيقة في هذه المسألة التي حكى عليها الإجماع أن أهل السنة بإجماعهم، والمعتزلة بإجماعهم، والأشعري وكبار أصحابه المتقدمين بإجماعهم، يعارضون كلام أبي المعالي الجويني فيها.
قد يقول قائل: هل يكذب أبو المعالي كذباً محضاً؟
نقول: لا. بل نرجع إلى القاعدة التي قررت في أول هذا الشرح، وهي أنه قد يفهم أن المعنى الذي وصل إليه مبني على أصول إسلامية مسلَّمة عند جميع المسلمين، فإذا ما فرض أن معناه المعين مبني على أصل مجمع عليه بين المسلمين ذهب ليقول عن معناه: إن هذا إجماع المسلمين. وهذا من مثالات التحصيل بالفهم الذي عابه شيخ الإسلام رحمه الله.
والنتيجة من هذا: أنه عند قراءة نقل من أحد أئمة طائفة من الطوائف كالشيعة والمعتزلة يقول فيه: وأجمع أصحابنا، وذهب أصحابنا إلى كذا. ليس المقصود أن نقول: لابد أن يكون عندهم مخالف، فقد يكون فعلاً إجماعاً محققاً عندهم، لكن المقصود ذكره هنا: أن حكاية الإجماع من واحد لا يلزم منه أن يكون في المسألة إجماع، وهذا قد يقع حتى من علماء السنة المتأخرين، فإن بعضهم قد يحكي إجماعاً على مسألة ويكون والإجماع على خلافها، أو تكون المسألة مسألةً خلافية.
فصحيح أن بعض علماء الشيعة يقول: أجمع أصحابنا على القول بسقط في القرآن وتحريف فيه.. لكن هذا ليس إجماعاً صحيحاً؛ لأن كتب القوم الأخرى نص فيها كبار أئمتهم على البراءة من ذلك.
إذاً: مسألة الحكم على الطوائف لابد أن تعتبر بطرق معتدلة، مبنية على الحقائق الشرعية.
وإنك لتعجب من أحد الباحثين -وهو باحث كبير- حيث يقول: إذا اختلفت الشيعة في مسألة كمسألة تحريف القرآن، وكان منهم من يقول بالتحريف ومنهم من يقول بعدم التحريف، قال: فإن القول الذي ينسب إليهم كطائفة هو القول بالتحريف؛ لأن من أئمتهم من يقول: إذا اختلف أصحابنا فالحق من أقوالهم ما خالف الجمهور. ويقصدون بالجمهور: أهل السنة.
وهذا أيضاً مبدأ لبعض أئمتهم، لكنه ليس بالضرورة أن يكون مبدأًً مطرداً.
إذاً: هذه الطوائف في تقرير مذاهبها تعقيد وإشكال كثير؛ ولكن من التزم القول بتحريف كتاب الله، وأن هذا القرآن ليس كتاباً محكماً، بل دخله تحريف من جنس ما دخل التوراة والإنجيل، فلا شك أن قائل ذلك يكفر مباشرة، ولا يحتاج إلى مجادلة؛ لأنه كفر بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإذا شُك في القرآن لم يبق في الدين شيء؛ لأن الإسلام إنما عرف من القرآن، حتى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما عرفت من القرآن والوحي، ومن البعثة والرسالة.
إذاً: من قال هذا لا شك أنه يكفر، لكن هل جميع هذه الطائفة تقول بذلك؟
مسألة الإطلاقات هذه مسألة لابد من ضبطها؛ لأنه قد تكون الطائفة تشترك في معنى ولكنه معنى متفاضل، بعضه أشد غلواً من بعض، ومثال ذلك: التجهم، بعضه أشد من بعض، فعلى قاعدة السلف السابق توضيحها: كلام جهم بن صفوان تجهم، وكلام المعتزلة تجهم، وكلام ابن سينا تجهم، وكلام ابن رشد تجهم، وكلام الأشعري تجهم لكن هل الدرجة واحدة؟
الجواب: كلا، فإذا ما رأيت كلمة لإمام من أئمة السلف في تكفير الجهمية؛ فلا يعني أن كل من في كلامه مادة جهمية يكون عنده كافراً.
ومن المعلوم أن الإمام أحمد تواتر عنه تكفير الجهمية، والقول بأن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، ومع ذلك لم يذهب إلى تكفير المعتصم الخليفة العباسي الذي كان يقول بخلق القرآن، يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: "ومع ذلك فالإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن مشتغلاً بتكفير أعيانهم، فضلاً عن من دخل عليه شيء من مقالاتهم؛ فإن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وانتصر له بالسيف، ومنع القول بغيره، ومع هذا كله فإن الإمام أحمد كان يذهب إلى إسلامه وديانته، ودعا له، واستغفر له، وصلى خلفه" .
وبعض المعلقين من المتأخرين ممن يريد أن يغالط المسألة، يقول: إنما صلى الإمام أحمد خلف المعتصم لأنه خليفة، والسلف كانوا يتورعون من ترك الصلاة خلف الخلفاء!
نقول: هل يعقل أن يكون الإمام أحمد يرى أن الرجل مرتد، وأنه خرج من الملة ثم يصلي خلفه من باب أنه خليفة؟!
هذا مستحيل؛ فإن عن الإمام أحمد روايةً أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، فما بالك بالكافر؟!
إذاً: من المقطوع به أنه صلى خلف الرجل، ودعا له واستغفر له، لأنه يرى أن الرجل مسلم.
وهناك من يعلق الأمر على مسألة قيام الحجة، فنقول: ألم يسمع المعتصم المناظرة غير مرة، فقد كانت بين يديه؟! لقد سمع المناظرة بين الإمام أحمد وبين ابن أبي دؤاد وغير ابن أبي دؤاد ، وسمع -أيضاً- انقطاع ابن أبي دؤاد وغيره بين يدي الإمام أحمد وسقوط حجتهم، ومع ذلك لم يعتبر الإمام أحمد أن المعتصم قامت عليه الحجة.
ولا يعني هذا أن الإمام أحمد قال مقولته تلك: القول بخلق القرآن كفر. من باب التهديد والتخويف، بل كان يقصد هذه الكلمة، ولا شك أن القول بأن هذا القرآن مخلوق هو قول من جنس كلمة المشركين ومرادات المشركين الذين قالوا: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] ولكن الكلمة قد تكون كفراً في نفس الأمر وقائلها ليس بكافر.
وإذا قيل: ليس بكافر؛ فإنه لا يلزم أن يكون ليس بكافر ظاهراً وباطناً -وهذه مسألة مهمة- فقد يكون ليس بكافر ظاهراً، وهو في حكم الله كافر منافق.
إذاً: هذه المسائل تفقه على هذا الوجه، ويأتي إن شاء الله مزيد من التفصيل.
مثلاً: مسألة عصمة الأئمة عند الشيعة: عامة الشيعة الإمامية تقول بعصمة الأئمة. لكن البعض أحياناً يغلو في مقدار هذه الكلمة إلى درجة لا تقع إلا من كافر، كمن يقول بأن الأئمة معصومون، وأن أمر الكون وتدبيره بيدهم، وما الأنبياء والمرسلون إلا فيض من علومهم... إلى غير ذلك من التقارير، فهذا لا شك أنه تقرير كفري؛ لأنه منازعة لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وملكوته.
أما من يقول: إنهم لا يتواردون على الخطأ، وأن الله فضلهم... إلخ، وإن كانت هذه الكلمة قد تتضمن كفراً في نفس الأمر، ولكنه معنىً يقع فيه قدر من التأويل والاشتباه.
فهؤلاء زنادقة، وهم الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وقوعها أو عند وقوعها ولا يعلمها قبل وقوعها.. وهذا لا شك أنه كفر؛ فهو إنكار لربوبية الله سبحانه وتعالى ، وهذا القول -أصلاً- ليس من أقوال المسلمين، بل من أقوال الغلاة من الفلاسفة الملاحدة، ودخل على بعض طوائف المسلمين.
وهم جمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم، وهم الذين قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يردها ولم يشأها، ولكنه علمها قبل كونها، فالقول بنفي الخلق لأفعال العباد، ونفي مشيئة الرب لها، والقول: بأنه لم يردها، وأن العبد مستقل بالإرادة.. قول من أقوال أهل البدع مجمع على ضلاله وبغيه، ولكن أصحابه ليسوا كفاراً عند السلف، حتى إن شيخ الإسلام في موضع آخر قال: "وهذا النوع من القدرية ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم. وإن كان من السلف من قال: إن مقالتهم كفر.. وهذا مقام آخر" .
وخلاصة المسألة السابقة وهي: هل السلف يكفرون أهل البدع؟
نقول: أما جواب المتأخرين فهو: الإطلاق بالإثبات أو النفي.. وهذا خطأ على السلف وعلى الشريعة.
والصواب: أن هناك طوائف أجمع السلف على عدم كفرهم، وطوائف أجمع السلف على كفرهم كالغلاة من الشيعة المؤلهة لـعلي بن أبي طالب ، التي تقول: إنه إله معبود من دون الله، أو مستحق لمقام من الألوهية.. وكالقدرية الغلاة المنكرة للعلم السابق والجهمية المنكرة لكمال الرب سبحانه وتعالى جملة وتفصيلاً، ظاهراً وباطناً.
وهناك طوائف -وهي كثيرة- تردد السلف أو تنازعوا في تكفيرهم، وهؤلاء المتنازَع فيهم قد تكون جملة من أقوالهم أقوالاً كفرية، وقد يكون في وسطهم من هو في حكم الله كافر وإن لم نعلم ذلك..
هذه هي القاعدة المنضبطة الصحيحة، ثم بعد ذلك أصول..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر