إسلام ويب

شرح حديث الافتراق [9]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التفصيل في ذكر طوائف أهل البدع وتقسيمهم لا يقصد منه عدم التكفير بعامة عند أهل السنة، وإنما المقصود ذكر التفصيل والتحقق من ثبوت الكفر على المعين، وإلا فالأصل: أن من شهد الشهادتين وأظهر شعائر الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج فإنه يسمى مسلماً، فقد سمى الله من لم يدخل الإيمان في قلبه مسلماً، وكان الصحابة يحكمون على المنافقين بالإسلام، ويعاملونهم على أساس ذلك.
    [وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:

    أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة، وإنما يردونها بالتحريف].

    قوله رحمه الله: "وتغلظ مقالاتهم" أي: مقالة الجهمية التي هي نفي الأسماء والصفات، أو التعطيل للصفات.

    وهو يبين هنا أن هذه المقالة من المقالات الكفرية، وهذا القول فرع عن قوله السابق: "ومقالات الجهمية هي من هذا النوع". أي: من المقالات الكفرية التي لا يلزم أن يكون قائلها كافراً، وهذا ما قرره في الأصل الثاني: أن المقالة قد تكون كفراً، والقائل بها لا يلزم أن يكون كافراً، وإنما يُكفر حيث عُلم قيام الحجة عليه.

    مخالفة كثير من نصوص الكتاب والسنة والإجماع لقولهم

    قوله: " أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة". بمعنى: أن قول الجهمية ليس عليه أثرٌ من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

    وهذا بخلاف أقوال الفرق الأخرى، فإن قول الخوارج: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، اعتبروه بمثل قول الله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، وقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20] وأمثال ذلك من الدلائل القرآنية المجملة في وعيد العصاة، وقد استدل بها الخوارج بين يدي كثير من الصحابة، كما في حديث يزيد الفقير الذي أخرجه مسلم في صحيحه في قصة مجيء الخوارج إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وما حصل من المناظرة بينه وبين شيوخ الخوارج، حتى رجع أولئك النفر إلا رجلاً واحداً.

    وكذلك كثير من مقالات المرجئة يستدل عليها أصحابها بأدلة من الكتاب والسنة، بخلاف مقالة الجهمية فإنها بريئة من الاستدلال، وإنما معتبر قولهم هو ما سموه في كتبهم وتكلم به نظارهم وهو دليل الأعراض، ولا يتسع المقام للكلام عن هذا الدليل، وإنما الذي يدرك هنا أن هذه المقالة ليس عليها أثر من الهدي، بل الدلائل من القرآن المجملة والمفصلة وكذا من السنة والإجماع تعارض قول هؤلاء وتبطله.

    وهذا يبين أن معارضة الأصول الثلاثة -الكتاب والسنة والإجماع- لأقوال أهل البدع فيها تفاوت، وإن كانت جميع البدع باطلة بالكتاب والسنة والإجماع، إلا أن هذه المعارضة يدخلها قدر من التفاوت؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مقالة الجهمية ليس عليها أثر من آثار الأنبياء، وإنما هي قول قوم من الملاحدة الفلاسفة، نقلها من نقلها من النظار إلى من انتصر لشيء من أصول الإسلام أو تسمى بدين الإسلام، ولهذا بين سابقاً أن الجهمية يكثر في طائفتهم الزنادقة، وهم المنافقون، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

    أن حقيقة قولهم تعطيل الله تعالى عن كماله

    [الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله] .

    يبين المصنف في كلامه أن حقيقة مذهب الجهمية التعطيل للصانع، فإن نفي صفات الله، ونفي أفعال الرب سبحانه وتعالى المتعلقة بمشيئته وإرادته هذا هو التعطيل، ولهذا كان إثبات الكمال له بأسمائه وصفاته، وكان نفي الصفات هو التعطيل لمقام ربوبيته ومعرفته... إلخ.

    فهو يبين أن حقيقة قولهم -أي: الحقيقة العلمية في نفس الأمر- هي التعطيل، ولهذا كل من قال بقولهم ممن يعرف حقيقة قولهم، ومتضمنه فإنه لابد أن يكون كافراً، وعن هذا قال المصنف لمن ناظره ممن تأثر بشيء من أصول الجهمية وهم غلاة الأشاعرة، قال: "أنا لو أقول بقولكم كفرت" . وهذا في مسألة العلو؛ لأن من أنكر علو الرب سبحانه وتعالى فقد جحد كمالاً من كماله، وأصلاً من أصول كماله الواجب، وهو أصل -لا بد منه- في مقام ربوبيته سبحانه تعالى.

    ولكن المصنف قد أبان: أنه لا يلزم أن يكون من تكلم بكلمة الجهمية، أو من نسب إلى هذه الطائفة يعلم حقيقة قولها.

    وعليه: يمكن أن يقال: إن من بان له أن قول الجهمية مستلزم تعطيل الصانع فالتزم به فإنه يكون كافراً.

    ما معنى تعطيل الصانع؟

    أي: تعطيل الله سبحانه وتعالى عن كماله، ومن المعلوم أن المسلمين أجمعوا -من أهل السنة وغيرهم- على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، وقد حكى هذا الإجماع المصنف وغيره.

    وتعتبر أقوال الجهمية ضرباً من نقص الباري سبحانه وتعالى ، فإن كل ما خالف وعارض كماله فإنه نقص ولابد، ومع ذلك فإن من تكلم بهذا الكلام من النظار لا يرون أن قولهم تعطيل للباري، ونقص له بل يرونه كمالاً، وهذا ليس موجباً لإسقاط العذر في حقهم من كل وجه، فإنه لا يرفع عنهم قدر الظلم والتفريط، بل لا يرفع عنهم أن يكون منهم من يكون كافراً في نفس الأمر، بل لا يرفع عنهم أن يكون منهم من يقال بكفره ولو على مقام من مقامات الاجتهاد.

    إنما المقصود: أن من التزم مبدأ النقص أو إسقاط الكمال -ولو في مسألة واحدة- فهذا يعد كافراً ظاهراً وباطناً.

    والمقصود هنا: أن يعتبر في قول المصنف "وإن كان منهم" أي: من الجهمية، ومن أخذ بأقوالهم "من لا يعلم أن قولهم مستلزم لتعطيل الصانع" فإن من علم ما في قولهم والتزمه فإن هذا لابد أن يكون كافراً.

    مخالفتهم لما اتفقت عليه الملل وأهل الفطر السليمة

    [الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها] .

    فإن الله فطر الخلق على الإيمان بأسمائه وصفاته، حتى إن مشركي العرب لما نزل القرآن وفيه ذكر للأسماء والصفات لم ينازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، لا بشيء من عقلهم ولا غير ذلك، وإنما نازع من نازع منهم في مسألة البعث، في مثل قول الله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] فهذه منازعة عقلية في مسألة البعث، وقد أجيب عنها في القرآن في قول الله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]. وأما صفاته سبحانه وتعالى فلم ينقل عن المشركين نزاع فيها من جهة العقل، وهذا يدل على أن العقل يقضي بالتسليم بثبوتها وليس بمنعها كما يزعم القوم.

    فالقصد: أن مقالة الجهمية بتعطيل صفات الرب سبحانه مخالفة لقول أهل الملل، فإن الكتب السماوية قبل التحريف فيها ذكر لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، وحتى بعد التحريف؛ فقد ذكر المصنف أن في التوراة بعد تحريفها بقية كثيرة من ذكر أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته.

    خفاء كثير من مقالات الجهمية على كثير من أهل الإيمان

    [لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم؛ لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله، ورسوله باطناً وظاهراً] .

    لقد تكلم المصنف رحمه الله في مقالات وصفها في الابتداء بأنها مقالاتٌ كفرية، ثم ذكر بعد ذلك أنها مقالاتٌ كفرية مغلظة من ثلاثة أوجه، وهذا يبين أن المقالات الكفرية لا يلزم أن تكون مقالات متساوية، بل يدخلها قدر من التفاوت من جهة بيان الكفر، فمقالة الجهمية من أظهر المقالات من حيث مخالفتها للإجماع والنصوص، ومن حيث ما تتضمنه وتستلزمه من التعطيل، ومن حيث مخالفتها للملل والفطرة.

    لكن مع هذا التقرير من المصنف: إلا أنه يستدرك فيقول: "لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان، حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات".

    ثم يقول: "ويكون أولئك" أي: من تقلد شيئاً من أقوال الجهمية الكفرية الظاهرة الكفر في حكم الله ورسوله.

    "مؤمنين بالله ورسوله باطناً وظاهراً" أي: ليسوا كفاراً، وهذا تصريح من المصنف يمنع القول بتكفير جميع الأعيان الذين يقولون بشيء من أقوال الجهمية، وأن من قال ذلك من السلف إنما أراد به الغالية، الذين ظهر من قرائن أحوالهم الالتزام بالتعطيل، وتبين لنا أن من التزم التعطيل على حقيقته بعد ما تبين له موجبات الصواب، وموجبات مناطات الكمال الصحيحة، فهذا لا شك أنه لا يصدر إلا عن زندقة وإلحاد.

    [وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً] .

    هذا تصريح متين من المصنف بأن القائل قد يقول قولاً كفرياً بالإجماع، لكنه على قدر من الاشتباه، فإن حكم هذا القول في حق من تبين له لا يلزم أن ينطبق على من التبس عليه.

    [بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي؛ وقد يكون منهم المخطئ المغفور له؛ وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه] .

    هذا التقرير الذي ذكره المصنف رحمه الله مقالات الجهمية يقال في غيره من الأصول وفي غيره من المقالات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088543244

    عدد مرات الحفظ

    777231178