إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلاف أهل السنة والجماعة مع مرجئة الفقهاء في تعريف الإيمان مبني على إنكار المرجئة لدخول العمل في مسمى الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص عندهم، وأهل السنة والجماعة يردون قولهم هذا مستدلين بما نطق به القرآن، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
    [وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى.

    والأصل الذي هو حجتنا في ذلك: اتباع ما نطق به القرآن؛ فإن الله -تعالى ذكره علواً كبيراً- قال في محكم كتابه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه، وأنزل به كتابه فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة].

    الدخول في الإيمان بالنطق بالشهادتين

    هذا من شريف فقه المصنف رحمه الله ؛ فإنه أبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث -وهذا مجمع عليه بين المسلمين- إنما بعث بالشهادتين، فمن قال الشهادتين فإنه يكون مؤمناً، ولهذا لم يكن صلى الله عليه وسلم يكتفي من أحد باعتبارها في قلبه، بل كان لا بد من التصريح بذكرها؛ ونتيجة هذا الاستدلال أن القول بالإيمان أصل فيه، ولهذا كان الشارع صلى الله عليه وسلم يعتبر ثبوت الإسلام والإيمان بالنطق بها على يقين وتصديق في معناها.

    وهذا يبين أيضاً: أن أصل الإيمان هو أصل الإسلام، ويبين أن أصل الإيمان هو تصديق القلب، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الأمر.

    [وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذٍ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين، وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذٍ -فيما يرويه العلماء- رحمةً من الله لعباده ورفقاً بهم؛ لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم؛ فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذٍ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها وبضعة عشر شهراً بالمدينة وبعد الهجرة، فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، فقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] وقال في النهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]].

    وجه هذا الاستدلال أن اقتران خطاب العمل بنداء الإيمان دليل على أن هذه الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذا معروف من جهة لسان العرب؛ فإن ما طلب فعله بنداء مختص بصفة داخل في الصفة التي وقع بها هذا الطلب أو لازم لها، ولهذا لزم من مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] أن يكون هذا الركوع لازماً للإيمان أو داخلاً في مسماه.

    الجواب عن شبهة المرجئة: لو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان قبل فرض العمل

    [وعلى هذا كل مخاطبته كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده إذ لم يكن هناك فرض غيره. فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينها؛ لأنها جميعها من عند الله، وبأمره وبإيجابه].

    هذا الكلام فيه رد على شبهة بعض المرجئة، فإن من شبههم وحججهم أنهم يقولون: إن الإيمان كان ثابتاً في أول الإسلام قبل العمل، فلو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان في أول الإسلام.

    وهذا غلط من جهة العقل قبل أن يكون غلطاً من جهة الشرع؛ لأن الإيمان هو ما وجب الإيمان به في كلام الله ورسوله، والعمل قبل فرضه ليس حكماً شرعياً.

    وهذه القاعدة التي فرضوها لو طردوها ما صحت لهم؛ فإن هناك تصديقات ذكرت في الكتاب والسنة بعد كلمة الشهادتين -كالتصديق بقصص الأنبياء، فإن من لم يؤمن بقصص الأنبياء والمرسلين في القرآن وكذبها يكون كافراً- ومع ذلك أصبح التصديق بهذه الأخبار من الإيمان، مع أن إيمان المؤمن قبل بلوغ الخطاب كان ثابتاً.

    فقولهم: لو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان قبل فرض العمل، يرد عليه بأنه لو كان الأمر كذلك لقيل أيضاً: إن ما زاد على أصل الإيمان من التصديقات لا يعد من الإيمان؛ لأن الإيمان الأول ثبت قبل نزولها أو قبل الخبر بها، فكل ما فرضوه على العمل يلزم فرضه على التصديقات التي تأخر الإخبار بها.

    أثر الامتناع عن العمل في الإقرار والفرق بينه وبين ترك العمل

    [فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يُصلّوا إليها وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعاً معاً هما يومئذٍ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار].

    وهذا أيضاً فقه منه رحمه الله ، فهو يقرر أنهم لو امتنعوا عن العمل بعد المخاطبة به لبطل إقرارهم.

    وفي مقام العمل هنا مقامان:

    المقام الأول: الترك الذي لا يصاحبه إباء وامتناع.

    المقام الثاني: الامتناع عن العمل.

    أما الترك لآحاد الأعمال فإنه لا يستلزم النفي لأصل الإيمان، وأما جملة الأعمال فهذا له تفصيل يأتي إن شاء الله.

    وأما الامتناع فإن المصنف يقرر أن حقيقة الامتناع عن العمل هو الترك للإقرار الأول.

    وقد يقول قائل: باب الامتناع ليس هو باب الترك للعمل؛ فإن الامتناع فوق الترك.. وهذا صحيح، لكن لما كان الامتناع عن العمل مسقطاً للإقرار -وهذا وجه بيّن من جهة الشرع- دل على أن هذا العمل داخل في مسمى الإيمان؛ لأنه لو لم يكن داخلاً في مسماه لما أمكن أن يكون الامتناع عن فعله يستلزم إفساد الإيمان الأول؛ فإنه لو كانت الجهة منفكة تمام الانفكاك بين العمل وبين الإيمان الأول -الذي هو الإقرار- لما أمكن أن يكون الامتناع عن هذا موجباً لإبطال هذا.

    وبعبارة أخرى: إن مما هو متقرر في الشريعة أن الامتناع عن الاستجابة للعمل الذي أمر الله ورسوله به يعد إسقاطاً للإقرار، وهذا يدل على أن الأعمال أصل في الإيمان أو داخلة في مسماه على أقل درجة؛ لأنه لو لم يكن العمل داخلاً في مسمى الإيمان لما كان الامتناع عنه مسقطاً لأصل الإقرار.

    وهذا فقه شريف من الإمام رحمه الله ، ولاسيما أن كلامه يعتبر بوجه؛ لكونه إماماً في اللغة فضلاً عما له من الإمامة في الشريعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088538971

    عدد مرات الحفظ

    777205941