[قال
أبو عبيد : قالت هذه الفرقة: إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه، فذلك الإيمان كله؛ لأن الله عز وجل سماهم مؤمنين، وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولاً، ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين:-
أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقرار فقط.
وأما الحجة الأخرى: فإنا وجدنا الأمور كلها، يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة، وراكع وساجد.. وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم: مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون].
الطائفة التي تقول بأن الإيمان هو الإقرار والشهادة
هذه الطائفة التي أراد المصنف رحمه الله ذكرها في هذا الباب هم من يقولون بأن من أقر وشهد فقد آمن. وكلمة "أقر" تعني: إقرار القلب، و"شهد" أي: بلسانه.
وقد تقدم أنه يقرر أن المرجئة من الفقهاء يذهبون إلى أن الإيمان يكون بإقرار القلب وتصديقه وبقول اللسان، ومع ذلك ذكرهم على أنهم طائفة من أهل العلم والديانة، أما من ذكرهم في هذا الباب فمن الملاحظ أنه مغلظ في ذكره لهم، فهو لم يذكرهم على أنهم طائفة من أهل العلم والديانة كما سبق في مرجئة الفقهاء.
وهو يريد بهذا إحدى طائفتين:
إما من يقول بأن الإيمان هو القول، وهذا القول قاله محمد بن كرام السجستاني، وهو متأخر في التاريخ عن المصنف، وعلى هذا يكون هذا القول قد قاله طوائف من قدماء المرجئة الذين أدركهم المصنف فنَسَبَ هذا القول على إطلاق عام، ونسبه المتأخرون إلى محمد بن كرام ؛ لأنه هو الذي نظمه وشهره، وليس بالضرورة أن يكون هو الذي ابتدعه واخترعه.. فهذا وجه التفسير لكلامه.
قبل أن نتكلم عن التفسير الصحيح لكلام المصنف نريد أن نبين أن المتأخرين إذا ذكروا المرجئة فإنهم يقسمونهم إلى طوائف، فيقولون:
منهم من يقول: الإيمان المعرفة.. وهذا قول الجهم بن صفوان ، وأبي حسين الصالحي وأمثالهم.
ومنهم من يقول: هو التصديق، وهذا القول لـبشر المريسي وجماعة.
فإذا قالوا: ومنهم من يقول: إنه قول اللسان وتصديق القلب، جعلوا هذا القول قول مرجئة الفقهاء، وكأن هذا القول هو قول المرجئة الفقهاء فقط.
والصحيح: أن القول بأن الإيمان شهادة باللسان وإقرار بالقلب هو قول لكثير من المرجئة، من فقهائهم ومتكلميهم، من المنتسبين إلى السنة كـحماد بن أبي سليمان ، وممن هو خارج عن السنة والجماعة ممن عرفوا بالابتداع، والخروج عن طريقة الأئمة.
لكن الاشتراك بين فقهائهم كـحماد بن أبي سليمان وبين غيرهم من متكلميهم أو من خرج عن السنة والجماعة هو اشتراك في قدره الكلي.
إذاً نقول: إن طائفة من المرجئة يذهبون إلى أن الإيمان شهادة باللسان، وإقرار بالقلب. وهذا القول هو قول طائفة من المرجئة من فقهائهم ومتكلميهم، من المعروفين بالسنة والخارجين عنها، وهذا الاتفاق اتفاق في جملة القول وقدره الكلي وليس في تفصيله؛ فإنه من حيث التفاصيل ثمة فرق.
وقبل تقرير الفرق نورد تقريراً لمقدمة أخص، وهي: أن فقهاء هذا النوع من المرجئة المعروفين بالسنة والجماعة كـحماد أقرب في تقرير هذا القول ومرادهم به إلى السنة والجماعة من متكلمة هذا القول، فإن هؤلاء يبتعدون في تقريرهم عن كلام الأئمة من جهة الدلائل ومن جهة تقرير الحقائق.
والفرق بين فقهائهم ومتكلميهم الذين يشتركون في تقرير هذه الجملة من وجهين:
الوجه الأول: من جهة الدلائل وطرق الاستدلال، فإن حماداً وأمثاله لم يخرجوا في طرق الاستدلال عن المعروف عند السلف، وهو الاعتبار بكلام الله ورسوله في الدليل. أي: لم يستعملوا علم الكلام وغيره من الطرق المبتدعة في الاستدلال، بخلاف متكلمة المرجئة؛ فإنهم استعملوا هذا العلم.
وكذلك حماد بن أبي سليمان وأمثاله، لم يطعنوا في شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يطعن متكلمة المرجئة، كطعنهم في أخبار الآحاد.
الوجه الثاني: من جهة المعاني؛ فإن تقرير حماد بن أبي سليمان لمقام العمل أشرف من تقرير متكلمة المرجئة، وإن كان حماد وأبو حنيفة رحمهما الله لا يدخلون العمل في مسمى الإيمان، إلا أنهم يعظمون شأنه، ويعظمون شأن الواجبات، ويذكرون مسألة الوعيد.. وما إلى ذلك؛ ولهذا هم في مسألة وعيد أهل الكبائر لا يخالفون جملة السلف.
إذاً: تقرير حماد لمسألة العمل وإن كان خارجاً عن السنة والجماعة، باعتباره لا يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، إلا أنه أشرف من تقرير متكلمة المرجئة.
وإذا تبين أن هذا القول: -وهو أن الإيمان إقرار بالقلب وقول باللسان- هو قول لكثير من المرجئة، وليس مختصاً بفقهائهم؛ تبين ما سبق الإشارة إليه، وهو أن كثيراً من شراح الحنفية -ولا سيما متكلمة الحنفية- لمقالة أبي حنيفة التي أخذها عن حماد ، إنما ينسب عند التحقيق إلى الحنفية المتكلمين به، ولا يلزم أن ينسب إلى حماد وأمثاله.
ولسنا هنا نقصد إلى المدافعة عن قول حماد ؛ فقد تقدم أن قول حماد بدعة بإجماع السلف، وخارج عن السنة والجماعة بإجماع السلف، ولكن الزيادة أيضاً على الأعيان في الأقوال مما لا ينبغي أن يصار إليه، فقد شرح المتأخرون كثيراً من الأقوال وزادوا عليها، كزيادة بعض الحنابلة الذين قصدوا السنة والجماعة على أقوال الإمام أحمد في الصفات، كزيادات أبي عبد الله بن حامد مثلاً، ومنهم من تأولوا أقواله إلى شيء من التعطيل كـابن الجوزي وابن عقيل في أول أمره، وكذلك القاضي أبو يعلى في أول أمره.
ومن هنا يتبين أن شرح أصحاب الأئمة لكلام الأئمة لا يلزم أن يكون جميعه صواباً.
هذا ليس من مسائل الأصول التي قد يتعذر على كثير منهم الضبط لها، ولا سيما أصحاب أبي حنيفة ، فإنهم مختلفون في ضبط عقيدته اختلافاً واسعاً، فصوفيتهم يميلون إلى الصوفية، والكرامية يميلون إلى التشبيه، والماتريدية يميلون إلى طريقتهم، وأشعريتهم كذا... ومن المعروف أن أكثر ما استعمل من المذاهب الفقهية مذهب الأحناف.. فهذا المذهب فيه إشكال من هذا الوجه.
وكذلك فيه إشكال من جهة أن أبا حنيفة رحمه الله رجل اختلف عليه كثيراً، وروي عنه أشياء، وبلغت الأئمة الكبار كـأحمد وأمثاله عنه بلاغات شديدة، لو صحت عنه لكان من كبار أهل البدع، كما يذكر ذلك عبد الله بن أحمد والخطيب البغدادي وابن عدي وأمثال هؤلاء.
وقد يقول قائل: إن بعض الأسانيد في السنة لـعبد الله بن أحمد أسانيد صحيحة عن فلان وفلان من الأئمة..
فنقول: صحة الإسناد لا تعني أن المتكلم أخذ هذا القول أو سمعه من أبي حنيفة ، إنما هذا الإمام الذي صح الإسناد إليه بحسب إسناد عبد الله بن أحمد بلغه هذا القول عن أبي حنيفة فقاله، وهذه بلاغات، فليس الشأن مقتصراً على الطعن في أسانيد ثابتة إلى فلان وفلان من الأئمة، بل الشأن في المقدمة التي هي أهم من هذا، وهي: أن هذا المتكلم -في الغالب- لم يسمع هذا القول من أبي حنيفة ، وإنما بلغه بلاغاً، ولهذا لم ينضبط عن أبي حنيفة شيء ثابت، ولو انضبط لشاع عند الأئمة، ولهذا يجعل شيخ الإسلام ابن تيمية أبا حنيفة على السنة والجماعة، وإنما نستثنيه في مسألة الإيمان، وهذا هو التحقيق.
ولو فرض جدلاً أن أبا حنيفة كان عنده بدع ما بلغت فهذا بينه وبين ربه، وليس من المقصود في السنة أن يتهم أحد أو يجزم له بشيء لم ينضبط عنه.