فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه المحاضرة (يا لجراحات المسلمين) تُلقى في هذا المسجد الجامع الكبير، بمدينة المجمعة، في ليلة الجمعة آخر يوم من شهر صفر من سنة (1413هـ).
أيها الأحبة.. من الحضور، وأيها الأحبة.. من أهل المجمعة، إني لا أشكركم لأنكم دعوتموني إلى المحاضرة فحسب؛ ولكنني أشكركم لأمورٍ، منها:
إلحاحكم الدائم الذي أحرجني وأشعرني بالتقصير في حقكم، وبُعد العهد معكم، فقلما يمر أسبوع أو أقل من ذلك، إلا وألتقي بوجوه أحبة كرام من هذا البلد الكريم يطلبون إليَّ فيها الشخوص إليهم، والحديث معهم، وزيارة مدينتهم المباركة الطيبة.
وأشكرهم أيضاً للزيارة المستمرة التي يشمرونني بها شيباً وشباباً للسلام، والمحادثة، والجلوس، والزيارة في الله عز وجل.
وأشكرهم أيضاً للبذل الكريم السخي، الذي لمسته منهم كما لمسه غيري في قضايا المسلمين وحاجاتهم، وهذا مما يدل على عُمق الرابطة الأخوية بيننا وبين إخواننا المسلمين في كل مكان.
كما أشكرهم أخيراً لنشاطهم العلمي والدعوي الذي نحمد الله تبارك وتعالى عليه.
وربما كُنت ذكرت لكم يوماً من الدهر، أنني أتيت قبل سنين طويلة إلى هذا البلد، فلم أجد فيه ما نجده اليوم من هذا الإقبال الكبير على الخير، وهذا الاندفاع المبهج نحو الأعمال الصالحة، وهذا الحضور الحاشد لمثل تلك المجالس والمحاضرات والدروس، فالحمد لله الذي بدّل الأحوال بما هو خير وأفضل، وأرانا في هذه البلاد كلها ما يسر كل غيورٍ على دينه، حريصٍ على أمته، ثم شكراً لكم شكراً على كل ما قدمتم وبذلتم.
إننا نستطيع أن نُشخِّص مصيبة فرد واحد، أو كارثة أسرة بعينها، ونتكلم عن ذلك بما يبكي العيون، ويحرِّك جامد القلوب، ويهز الضمير والوجدان.
وأنت تسمع أحياناً قصيدة عربية، أو نبطية، يتكلم فيها الشاعر عن مصابه الشخصي، وهو سجين،أو مريض، أو طريد، أو شريد، أو فقير، أو مات أهله وأقرباؤه وذووه، فلا تملك الدمعة من عينه، ومن هو الذي يستطيع -مثلاً- أن يسمع قصيدة أبي ذؤيب الهذلي حين مات بنوه السبعة بالطاعون في عام واحد، فأنشأ قصيدة طويلة معروفة:
أمن المنون وريبها تتوجعُ؟ ولدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ |
أودى بنيَّ فأعقبوني حسرةً بعد الرقادِ وعبرةً ما تقلعُ |
ولقد حِرصتُ بِأن أُدافعَ عنهُمُ وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفعُ |
وإذا المنية أنشبت أظفَارَها ألفيتُ كُل تَميمةٍ لا تنَفعُ |
فالعين بعدهم َكأنَّ حداقها كحِلتْ بِشوكٍ فهي عُورُُ تَدمعُ |
وتجلُدي للشامتينَ أُرِيهُمُ أني لِريبَ الدهرُ لا أتزعزعُ |
من هو الذي يستطيع أن يسمع هذه القصيدة، فلا يتأثر قلبه أو يهتز أو يملك عينه من الدمع؟ أو يسمع قصيدة ذلك الشاعر الآخر، الذي شُرِّد وطُرد من بلده، وأُبعد عن أهله وأحبابه وجيرانه، فكتب قصيدةً بدمع العيون بل بدم القلوب، يصف فيها حاله:
طال اغترابي وما بيني بمُقتضب والدهرُ قد جدَّ في حربي وفي طلبي |
والشوقُ في أضلعي نارٌ تذوبني ما أفتكَ الشوقَ في أضلاعِ مُغتربِ |
كم ذا أحنُّ إلى أهلي.. إلى ولدي.. إلى صِحابي وعهد الجَد واللعـِـبِ |
إلى المنازل من دينٍ ومن خُلقٍ إلى المناهلِ من علمٍ ومن أدبِ |
إلى المساجدِ قد هامَ الفُؤادُ بها إلى الآذان كلحن الخُلد في صببِ |
الله أكبر هَل أحيا لِأسمعها إن كان ذلكَ يا فوزي ويا طربي |
إني غريبُُ غريبُ الروح منفردُُ إني غريبُُ غريبُ الدارِ والنسبِ |
ألقى الشدائدَ ليلي كُلهُ سهرُُ وما نِهاري سِوى ليلي بِلا شُهُبِ |
أكابد السقم في جسمي وفي ولدي ,في رفيقةَ دربٍ هدها خببِ |
من يستطيع أن يسمع تلك القصيدة الطويلة، فلا يحزن ويأسى ويشارك الشاعر في مُصابه، أو من ذا الذي يستطيع أن يسمع قصائد كثيرة من هذا القبيل، أو كلماتٍ منثورة، تحكي مصيبة فردٍ، أو أسرة إلا ويتأثر بها؟
فما بالك إذا كان الحديث عن مصاب أمةٍ بأكملها، ثم هذا المصاب الطويل العريض، ماذا تأخذ منه وماذا تذر؟ أتتحدث عن مصاب الأمة، وهى تتحطم تحت سنابك خيول العدو؟ أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة وهى تموت جوعاً، وعرياً، وفقراً، ومسغبةً على حين أنها أغنى الأمم وأثراها وأكثرها أموالاً وأولاداً؟!
أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم تتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟! أم تتحدث عن هذا أم عن ذاك أم عن غيرهم؟
إن الذي يريد أن يتكلم عن مصائب هذه الأمة في دقائق أو ساعات، أو حتى في كتاب، يحاول أمراً مُحالاً، ولكنني في هذه الكلمة والجلسة أريد أن نتذاكر معكم نماذج من هذا وذاك، ليس لمجرد التلذذ بنكء الجراح، وتهييج القلوب على المصائب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر؛ وبالتأكيد فهذا الحزن الذي يملئ قلوبنا لا يمكن أن يشبع جائعاً، ولا يروي ظمئاناً، ولا يؤمن خائفاً، ولا يسلّح أعزلاً، ولا يعلِّم جاهلاً، وإنما نريد أن نتحدث لنضع أيدينا على الداء والعلة، ونحاول أن نتعرف على الدواء والعلاج، ثم لنعرف موقعنا نحن من هذه الخريطة الحمراء بالدم، السوداء بالقحط والجفاف، البيضاء بأكفان الموتى، لندرك أن ما أصاب أخاك اليوم قد يصيبك غداً، وإنما أُكُلت يوم أكلُ الثور الأبيض.
هذا الحصار على البقية الباقية من أرض المسلمين هناك وإلاَّ فإن أعداء الإسلام قد سيطروا على نحو (70%) من الأرض الإسلامية، أمَّا (30%) فهي المنطقة التي تدور فيها حرب الشوارع، ويقتل فيها المسلمون في بيوتهم، أما الحديث عن الاعتداء على أعراض المسلمات بالقوة والاغتصاب من قبل جنود الصرب، فهو حديثُُ بشعُُ فظيعُُ فوق مستوى ما يتصوره إنسان.
أما الحديث عن الآلاف من الأطفال الذين منهم من قتل بصورة بهيمية بشعة، والكثيرون منهم وصلوا إلى البلاد الأوروبية، حيث يُنّصرون هناك، ويكفي أن تعلم أن ألمانيا فقط استقبلت ما يزيد على مائتي ألف إنسان مسلم من تلك البلاد!! وحدّث ولا حرج عن البلاد الأخرى وهى كثيرة في أمريكا وبريطانيا، وفرنسا، وكرواتيا، وصربيا، وفي بلاد أخري كثيرة.
لم يكتف العدو بالحصار، ولم يكتف بحرب الشوارع، بل أصبحت الطائرات تقصف المدن الإسلامية بقسوة وضراوة، وأصبحت تستخدم حتى القنابل المحرمة دولياً كقنابل النابال، والقنابل والأسلحة الكيماوية، والجرثومية، والعنقودية وغيرها، والعالم كله يتفرج وٌيطّمئن الصرب! لأنه لا يمكن أن يتدخل ولا يفكر في التدخل، لأن البوسنة والهرسك ليست الكويت، وأوروبا قالتها صريحة: نحن لا نريد دولة إسلامية أصولية في أوروبا، والرئيس بوش حذر رئيس البوسنة والهرسك: علي عزت من العرب والأصوليين، وقال: هذه خطوط حمراء يجب أن تقفوا دونها فماذا يملك المسلمون؟!
حتى الإغاثة تتم تحت سيطرة الأمم المتحدة، وهناك معلومات مؤكدة، حتى في الصحف غير الإسلامية، تؤكد أن مندوبي الأمم المتحدة سواءً من العسكريين، أو القائمين على أعمال الإغاثة، أنهم ينحازون دائماً إلى جانب الصرب، وهاهنا تقارير عدة في مجلة المجتمع، وفي مجلة روز اليوسف المصرية، وفي تقارير غربية كثيرة، تؤكد انحياز موظفي الأمم المتحدة إلى جانب الصرب، لأنهم في الغالب من النصارى، حتى في موضوع الإغاثات والمساعدات الإنسانية.
ولذلك صرحوا بأننا تأخرنا في قضية إغاثة الصومال، أكثر مما يجب، وهذه الأعداد التي تُعاني من الفقر والمجاعة، هي هاربة من جحيم الحرب، هذه الحرب التي أوجدها الغرب بين عملائه من العلمانيين الذين يحملون شتى الأسماء والشعارات واللافتات، وهم على كل حال مدافعون عن مصالح الغرب، وهي الفرصة الذهبية للمنظمات التنصيرية، حيث أصبحت تستقبل أعداداً كبيرة من الهاربين من جحيم الحرب، والفقر، والمجاعة، وقد تكلم أحد التقارير المتأخرة التي وصلتني قبل يومين، عن بعض المشاهدات.
فعلى سبيل المثال: أعداداً غفيرة من الناس، تقف طوابير عند إحدى المنظمات، لماذا؟
لأجل أن تسجل أولادها وأطفالها في قوائم الراغبين في السفر إلى أوروبا، وأمريكا، حتى يجدوا الحياة المطمئنة هناك وهم أطفال، وقطعاً سوف يتخرج هؤلاء قُسساً ورهباناً، ومنصرين، ثم يعودون إلى الصومال بأسماء نصرانية، ويحملون الصليب بيد، والإعانة بيدٍ أخرى، وربما عادوا حكاماً للصومال في وقت من الأوقات كما يطمح الغرب، وإحدى المنظمات النصرانية الأخرى، تمد العون للمسلمين، ثم يقول أحد المسئولين فيها بصوت جهوري، يقول: ها نحن نقدم لكم الكساء والغذاء، فأين المسلمون؟!
فماذا تتصور إزاء مثل هذا الوضع، ثم تجد أن جميع الدول الإسلامية، لم تُبدِ واحدة منها استعداداً لاستقبال اللاجئين المسلمين، بل لقد مكث اللاجئون في البحر أياماً طويلة على حدود اليمن قبل أن يؤذن لهم، حتى مات منهم في الباخرة أكثر من مائتي إنسان!! وماذا يشكل موت مائتي إنسان مسلم على الباخرة؟ إنه أمرٌ عادي غير ذي بال.
إنك تأسف حين تعلم أن أكثر اللاجئين المسلمين الصوماليين ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا، فنصف اللاجئين تقريباً في أوروبا وأمريكا، أما النصف الآخر فهم موجودون في كينيا وغيرها من الدول المجاورة.
وتحزن أكثر حينما تعلم أن منظمة الصليب الأحمر الدولي، قد خصصت أكثر من (20%) هذا العام من ميزانيتها لإنقاذ الوضع في الصومال، وأي شيء هي منظمة الصليب الأحمر الدولي؟
فما بالك بالقتلى قبل ذلك وبعده، أو القتلى في الولايات الأخرى، أو القتلى الذين لم تأتِ عليهم تلك الإحصائيات فضلاً عن انقطاع المؤن، والأغذية، والإمدادات، والكهرباء، والاتصالات، وغير ذلك.
فضلاً عن أن هناك حلماً كبيراً كان المسلمون جميعاً يُعلقون عليه آمالاً عريضة، بدأ المسلمون يراجعون نظرتهم، والكثير منهم بدأت تساوره الشكوك تجاه جدية وجود دولة إسلامية صادقة في أفغانستان.
وطالما دميت قلوبنا ونحن نسمع في وكالات الأنباء الغربية، أن أجهزة الأمن تطلق عيارات نارية على شباب في سن السادسة عشرة، والسابعة عشرة في الشوارع، فترديهم قتلى، وما أسهل أن تقول أجهزة الأمن: إن هؤلاء الناس منتسبون إلى جماعات إسلامية، أو متطرفون، أو أنهم قاموا بأعمال تخريبية، والعجيب في الأمر أن هذه الأجهزة لا حسيب عليها، ولا رقيب!
تتساءل: ماذا صنع المسلمون؟ أين الاحتجاجات من الجمعيات الإسلامية؟! أين الاحتجاجات من العلماء في هذا البلد أو في غيره؟! أين الاحتجاجات من الدعاة؟!
نعم صدرت -مع الأسف- من منظمة أمريكية غربية نصرانية اسمها: منظمة ميدل إيست، وهي إحدى المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ومقرها في نيويورك، حيث أصدرت بياناً تندد فيه بالأوضاع المأساوية التي آلت إليها حقوق الإنسان في مصر، وتقول: إن أجهزة الأمن المصرية تزج بكل المعارضين في السجون، دون محاسبة ولا محاكمة، ولا تحقيق، ولا تحري، وأن الأوضاع في داخل السجون أوضاع صعبة، وأن مصر تنكر ذلك، ولهذا تشعر بأنها غير مطالبه بأي تغيير، وطالبت تلك المنظمة، الدول الغربية أمريكا وغيرها بأن لا تعطي مصر أي مساعدة إنسانية، إلا وتكون مساعدة مشروطة بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، فإلى الله المشتكى!
وفي الوقت الذي نجد أن منظمات حقوق الإنسان تعترض وتحتج، حتى منظمة حقوق الإنسان في تونس نفسها، حلت نفسها، واعترضت على الأوضاع السيئة للسجناء، لكننا في الوقت نفسه لم نسمع من هؤلاء الألف مليون إنسان الذين يملئون هذه الساحة الإسلامية الطويلة العريضة، لم نسمع منهم صوت احتجاج في الخارج، تقول: أين العلماء؟ أين الجمعيات الإسلامية؟ أين الدعاة إلى الله تعالى؟ أين المجلات الإسلامية؟ أين الأصوات الإسلامية؟ إنها أصوات تضيع في الزحام!!
فهم يأخذون الإنسان ويسجنونه عشرات السنين دون أن يقال لهم: لماذا؟ وأوضاع الإنسان وحقوق الإنسان أيضاً في إسرائيل حقوق صعبة عسيرة، وإن كانت إسرائيل تحسن المماطلة والخداع والتضليل للعالم، بحيث يبدو كما لو كانت تحافظ على حقوق الإنسان.
شعبُُ برمته في العري يحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا |
فما هم من وجود الناس إن ذكروا مشردون بلا تيهٍ فلو طلبوا |
تجدد التيه في الآفاق ما قدروا |
يلقى الشريد فجاج الأرض واسعةً لكنهم بمدى أنفاسهم حشروا |
لا طعام، لا شراب، لا علم، لا عمل، حتى الأنفاس! وهناك حصار غريب، الحصار الدولي الذي يمنع عنهم الطعام، والشراب، والإغاثات الإنسانية وكل شيء، وإضافةً إلى ذلك، الحصار الداخلي من حكومتهم العلمانية الكافرة، التي تحسب عليهم الأنفاس، وتُصادر حرياتهم، وأديانهم! بل استطاعت تحويل العراق إلى حظيرةٍ لا يستطيع أحدُُ أن يفعل فيها إلا ما تريده السلطة، وأصبح الكثيرون، يتاجرون بكل شيء، بحثاً عن الحياة.
ثم لو نظرت إلى ما لم أذكر من هذا الجسد الإسلامي المضخم بالجراح، لوجدت أن في كل بلدٍ مصيبة، وفي كل منطقة كارثة، وفي كل ناحية نكبة، فالأمر أعظم من أن يتحدث عنه الإنسان لكن هذه نماذج، ولو نظرت -مثلاً- إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، التي خرجت لتوها من جحيم الشيوعية، لوجدت أنه في الوقت الذي تمتعت فيه، الجمهوريات الأخرى بحريتها، وقطعت مراحل طويلة في تحسين أوضاعها الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية؛ أما الجمهوريات الإسلامية بالذات فلا زال الغرب والشرق يتحالفان على خنق أنفاسها وكتمها، والدول التي بقيت فيها الشيوعية قوية، هي الجمهوريات الإسلامية فقط.
ولعل من الطريف أن تعلم أن الغرب يوزع خيرات المسلمين على المسلمين، فهذه الإغاثات التي تنقلها الأمم المتحدة -مثلاً- إلى الصومال، من أين هي؟ هل هي من كد جبينهم، ومما عملت أيديهم، كلا.
إنها بعض ثروات المسلمين، وبعض خيرات المسلمين، التي استطاع الغرب بخبرته، وسبقه، وذكائه، وسياسته، استطاع أن يمتصها؛ فهو يمتصها في بنوكه، ويمتصها في مصانعه، ويمتصها في ميزانياته، ويمتصها في وزارات دفاعه واقتصاده، وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم يجعل جزءاً يسيراً منها إلى البلاد الإسلامية المنكوبة، وهذا الجزء اليسير، إنما يستخدمه الغرب لتنصير المسلمين، ولعلك تعجب أكثر حينما تعلم أن هناك أموالاً جمعها المسلمون في مساجدهم، وبلادهم، ومجتمعاتهم، قامت منظمات صليبية بتوزيعها على المسلمين أيام الفيضانات، أو أيام المجاعات، سواءً في بنجلادش أو في كشمير أو في البوسنة والهرسك وغيرها، وأحياناً منظمات ألمانية نصرانية، تقوم بتوزيع بعض أموال المسلمين التي جمعت هنا على المسلمين في البوسنة والهرسك أو غيرها من البلاد.
وأعجب من ذلك -أيضاً- أن الغرب يتكلم عن -صندوق التنمية- صندوق دولي للتنمية يقوم بمساعدة الدول الفقيرة، أو الدول النامية، أو دول العالم الثالث كما يسميها، وهذا الصندوق أمواله من البلاد الإسلامية، وبالذات من دول الخليج العربي، والذي يقوم بإدارته، هي أمريكا، وتوزعه على المناطق الفقيرة، وهذا يذكرني بنكته يتناقلها العوام، يقولون:
"إن رجلاً مغفلاً، جاء إلى أحد الأغنياء الأذكياء، فقال الغني له يا فلان: إنني سمعت أن هناك منطقة في الصحراء المحيطة بنا، يوجد فيها الكمأ، فأريدك أن تذهب لتلتقط الكمأ لي، مناصفةً بيني وبينك، فهزَّ الفقير رأسه وذهب موافقاً وركب حماره، وفي أول يوم ذهب إلى تلك المنطقة، فأصبح يبحث في الأرض، ويلتقط الكما، ثم وصل إلى هذا التاجر فقسمه بينه وبينه مناصفة، أعطاه نصفه وأخذ النصف، وفي اليوم الثاني ذهب الفقير إلى المنطقة نفسها، وبدأ يلتقط أيضاً من الأرض، فلما كان في عرض الطريق أصابته صحوة فهز رأسه، وقال: الحمار حماري، وأنا أنا، والأرض لله، والمطر من الله، وأنا أعطي هذا التاجر نصف ما أجمع، هذا لا يصح!! فألقى بها في الأرض، ورجع بلا شيء! لماذا؟ لأنه يريد أن يحرم هذا التاجر من هذا الكمأ، فانظر كيف عالج هذه المشكلة، فهذه النكتة، هي فعلاً ما يقع الآن.
بنك أو صندوق للتنمية العالمية يُنفقُ عليه المسلمون، وتديره الدول الغربية، إذاً هو سوف يخدم مصالح الغرب في بلاد المسلمين، وبناءً عليه سوف يستطيع المسلمون، أن يحققوا ويضمنوا مصالح الدول الغربية في بلادهم بأموالهم، والأمر لله من قبل ومن بعد، وقد ذكر الله عز وجل عن بعض المعاندين والمكابرين من أهل الكتاب أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا اليوم مع الأسف أصبح تشبهاً من المسلمين بأعدائهم، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وأيدي الكافرين، هذه إحدى المضحكات المبكيات.
حتى الحصار المزعوم على صربيا كذبُُ في كذب، وهي تتمتع بمنطقة بحرية، ولها صلات اقتصادية، وسياسية منوعة مع جميع دول العالم، فما يسمى بالحصار على صربيا ليس سوى حبرٍ على ورق، وأين يوجد الفقر في أي دولة من دول العالم؟ إلا في دول غالبها إن لم يكن كلها دولٌ إسلامية!!
فالوقت الذي فيه للمسلمين نصيب الأسد من هذه المآسي، فإن مما يزعجك ويحزنك كثيراً أن الذين يظهرون تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم، هم النصارى والكفار، وأي خيرٍ في أمة يتولى عدوها الدفاع عنها، يُصاب المسلمون في أي بلد فلا يعلن الدفاع عنهم إلا منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العدل، والمنظمات الدولية الإنسانية في أوروبا وأمريكا وغيرها، التي هي في غالبها إن لم تكن كلها منظمات نصرانية، ليس للمسلمين أي وجود فيها. هذا مثال أين الأمة التي جُعلت شاهداً على العالم، الأصل ما هو؟
الأصل: أن المسلمين كان يجب أن يدافعوا عن المستضعفين في كل بلد، قال الله تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً [النساء:75].
فالأصل أن المسلمين هم الشهود على العالم: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].
هم حُماة الفقراء، والضعفاء، والمأسورين والمقهورين، حتى لو كانوا من غير المسلمين!!
أما اليوم فقد انعكست الآية، وأصبح من المضحك المبكي، أننا ننتظر منظمات حقوق الإنسان، حتى تُدافع عن المسلمين، أو تتكلم عن مُصاب المسلمين في تونس، أو مصر، أو في أي دولة من دول العالم.
نعم! لقد أصيب المسلمون بالجبن، والهلع، والخوف، والتمزق، فأصبح المسلم أولاً لا يشعر بمصاب أخيه، ولو شعر به فإنه لم يملك الشجاعة والجرأة أن يتكلم ويضع النقاط على الحروف، ويرفع عقيرته منادياً بإنصاف أخيه المسلم، في سجن الطاغية فلان، أو في بلد فلان.
إضافةً إلى أن المنظمات النصرانية الغربية، لم تكتف فقط بإصدار البيانات، والقرارات، والتقارير، وعقد المؤتمرات الصحفية، وفضح الأنظمة التي تضطهد المسلمين، وتتسلط على الشعوب الإسلامية، بل تعدت ذلك إلى خطوات عملية، فقامت بأعمال إغاثية ضخمة، ومساعدات قوية، في مصر -مثلاً- عقدت المنظمة التي ذكرتها -منظمة ميدل إيست- وهي منظمة من منظمات حقوق الإنسان في نيويورك، عقدت في مصر نفسها مؤتمراً صحفياً، وأعلنت في القاهرة نفسها أن حكومة مصر تضطهد المسجونين، وتضيق على المعارضين، وتزج بهم في السجون دون تحقيق ولا محاكمة، وتقتلهم بمجرد الظن، ورفعت صوتها، ونشرت الصحف خبرها، لكن أعطوني شريطاً مسجلاً واحداً، نتناقله عن أوضاع إخواننا المسلمين في مصر، وقُل مثل ذلك في تونس أو بلاد المغرب كلها، أو بلاد المشرق، أو سوريا، أو فلسطين، أو غيرها من بلاد الله.
أيضاً الصليب الأحمر تعدى مرحلة الكلام إلى مرحلة إيجاد أكثر من ثلاثين منظمة إغاثية في الصومال، ليست كلها تابعة للصليب، لكن كلها صليبية، وخصصت منظمة الصليب كما أسلفت، أكثر من (20%) من موازنتها لمساعدة المسلمين في الصومال، على حين أنك تجد أن المسلمين لم يفعلوا شيئاً يُذكر في هذا الصدد، بل أعجب من ذلك أنه في الأمس الذي ليس بعده إلا اليوم أني قرأت في جريدة الشرق الأوسط وغيرها، إعلاناً من كندا.
يقول الإعلان: أي إنسان يريد أن يحصل على الجنسية، والمميزات، ما عليه إلا أن يملأ هذه الورقة ويرسلها إلى السفارة صندوق بريد ورقم فقط، بغض النظر عن دينه، وجنسيته، ومن أي بلد، وما هي الأسباب وما هي الدوافع، وعليه أن يستفيد فوراً من النظام، لأن النظام هذا قد يتغير فيما بعد، فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر.
وقد حدثني شهود عيان، جاءوني بالأمس أيضاً، أنه يوجد في كندا وغيرها آلاف مؤلفة من الشباب الصوماليين -ذكوراً، وإناثاً، وكباراً، وصغاراً- يقيمون هناك، في إسكانات حكومية بالمجان، وتعطيهم الحكومة نفسها ما يسمى ببدل بطالة -مرتب تصرفه لهم باستمرار- ويعيشون في بحبوحة من العيش، وإذا حصل أي مشكلة اجتماعية بالمسلمين فإنها تحال إلى المراكز الإسلامية والجمعيات الإسلامية هناك، ويعاملون معاملة تليق بهم، باعتبارهم بشراً من البشر، لكن حدثوني أي بلدٍ إسلامي يفعل بعض هذا، ثم حدثوني -بارك الله فيكم- ما هو موقف المسلم البسيط المغفل، ضعيف الإيمان، قليل العلم، إذا وجد هذه التيسيرات والخدمات والمساعدات، ووجد أن النصارى قد هبوا معه بكل قواهم، وناصروه وأيدوه في محنته؟!
ثم وجد أن أبواب المسلمين موصدةُُ في وجهه، وأن المسلمين لا يملكون له إلا التنقص والشتيمة والتهمة، وأن أبواب الدول الإسلامية وحدودها مغلقة، وأن السفينة ترسوا على شاطئ بحر لإحدى الدول، فتُمنع من النـزول أياماً حتى يموت فيها أكثر من مائتين! ثم يؤذن لها بعد ذلك، نتيجة وساطات دولية.
فمثلاً: التنصير على قدم وساق في هذه الأمة، وأعظم وأكبر هدف للتنصير في العالم اليوم، هو منطقة الشرق الأوسط، وقد عقد مجلس الكنائس العالمي، اجتماعاً في استراليا، وقرر أن منطقة الشرق الأوسط، هي أخطر وأهم منطقة يجب التركيز عليها.
وخص من ذلك أيضاً منطقة الخليج العربي، والجزيرة العربية، ولذلك عين البابا شنودة مندوباً له في الشرق، إشعاراً بالاهتمام، وأعطاه صلاحيات لم تمنح لغيره من المندوبين في أنحاء العالم، ونجح التنصير فعلاً باستقطاب أعداد من المسلمين، سواءً ممن تنصروا ودخلوا في النصرانية، أو ممن خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، وأصبحوا عملاء للنصارى، أو من العلمانيين الذين عقدوا حلفاً مع النصرانية، لأن النصارى يرونهم بديلاً مناسباً عن الإسلام، والعلمانيون يرون النصارى أفضل لهم من المسلمين، وهذا مقتضى دينهم الذي يدينون به، ولذلك وجدت أن التنصير يسير في بلاد المسلمين على قدمٍ وساق.
ثم تجد أن العلمانية نفسها قد أصبحت ديناً يدين به قطاع عريض، ولعل المتقاتلين في الصومال نموذج لذلك، وهم يتقاتلون على الدنيا، وكلها لافتات علمانية، ومثل ذلك الرايات المرفوعة في طول العالم الإسلامي وعرضه، إنما هي رايات علمانية، تُنادي بفصل الدين عن الدولة؟
لا؛ بل تنادي بفصل الدين عن الحياة، في الوقت الذي تجد فيه أن زعيماً للعالم متوجاً هو: جورج بوش يضرب على وتر المشاعر الدينية.
وهذا خبر قبل خمس أيام في جريدة الخليج، يقول: اتهم الرئيس جورج بوش بطريقة غير مباشرة، الديمقراطيين المنافسين له في الانتخابات، بأنهم تخلوا عن الله والدين، ويقول: هذا الهجوم شديد العنف، حتى بالمعايير القاسية أصلاً لهجمات انتخاب الرئاسة.
وقال بوش في خطاب أمام زعماء المنظمات الدينية: إذا كان لي أن أُدلي بتعليقٍ سياسيٍ واحد، فلقد أذهلني في الواقع أن الحزب الآخر اختار كلمات مبلورة لبرنامجه، ولكنه ترك ثلاثة أحرف بسيطة، وهنا نطق الرئيس بلفظ الجلالة المكون من ثلاثة أحرف باللغة الإنجليزية، فهو ينتقد الحزب الآخر المنافس، لأنه أبعد كلمة (الله) عن برنامجه الانتخابي، ثم يقول بوش: إن برنامج حزبي وهو الحزب الجمهوري مختلف ونحن فخورون بتمجيد تراث بلدنا اليهودي، المسيحي، المنقطع النظير في العالم، وقد صفق الحضور وهتفوا لقوله هذا، إلى آخر الكلمة الطويلة التي تتكلم عن المشاعر الدينية.
وقبل ذلك سبق أن قلتُ لكم أن الرئيس نفسه يتكلم عن الشعب الأمريكي المتدين، ويقول: إن (99%) من الشعب الأمريكي يحافظون على أداء الصلوات باستمرار.
ومثل ذلك: أن من لم يقع في فخ النصرانية، ولا في فخ العلمانية، فإن الكثيرين منهم وقعوا في شرك الإباحية الغربية، فأصبح معبودهم هو اللذة، أو الشهوة، أو المادة، ولا شيء آخر غير ذلك، فأين المبادئ والمثل والقيم التي نستطيع أن نقدمها للغرب الذي يشعر بالجوع الروحي؟
إن الغرب نفسه يتكلم الآن عن جوعٍ في البلاد الإسلامية، فيقول: إن العالم الإسلامي كما هو بحاجة إلى الإغاثة في مجال المساعدات المادية، فهو أيضاً بحاجة إلى الإغاثة والمساعدة فيما يتعلق بنقل تعاليم المسيح إليهم، وقد انتكست الآية مع الأسف الشديد.
فالغرب -مثلاً- يغضب لأن العراق حكم بالسجن سبع سنوات على بريطاني قبض عليه متهماً بالتجسس، لكن الغرب لا يحرك ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟!
لأنهم مسلمون، فالإنسان الغربي -الرجل الأبيض- له ميزانٌُ خاص، وكذلك الإنسان المسلم هو رخيص أيضاً عند المسلمين، حكاماً ومحكومين، فنحن نعلم أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات، ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن، بل لذلك نستطيع أن نقول: ربما الكلب الأوروبي، أغلى أحياناً من الإنسان العربي أو المسلم، فنحن نجد الإعانات حتى للكلاب، والقطط الأوروبية، لماذا؟!
لأنها قططُُ يملكها الرجال البيض، فقد نـزلت عليها أو شملتها الكرامة التي أضفوها على أنفسهم، فأصبح لها منـزلة ومكانه عند حلفائهم في كل مكان، فوجدنا المساعدة لهؤلاء، ووجدنا الغضب لغضب الغربيين، أما الإنسان المسلم فلم نجد شيئاً من ذلك، اللهم إلا السب والشتيمة في أجهزة الإعلام العربية كلها دون استثناء، فالموت والقتل بالنسبة للمسلم لا شيء.
أمرُُ آخر يظهر لكم جلياً هذا الأمر: قضية الجنسية، ماذا يستفيد الإنسان إذا منح جنسية لإحدى الدول الإسلامية وماذا سيجد؟ هل سيجد الحرية التي سينشدها؟ كلا هل سيجد الغناء والثراء؟ كلا هل سيجد أن يعبد الله تعالى كما أمره الله تعالى دون أن يُضيِّق عليه أحد؟ كلا بل سيجد المضايقة، والسجن، والتشديد عليه، والمطاردة، وقد يُهدد بهذه الجنسية عند كل مناسبة، ومع ذلك هذه الجنسية في أي دولةٍ عربية أو إسلامية، ربما يكون الحصول عليها أحياناً ضرباً من المستحيل؛ لكن الدول الغربية تعلن في الصحف أن تعالوا!!
ولم نكن نستغرب أن تمنح الدول الغربية الجنسية للأطباء المسلمين وهذا أمرُُ معروف، وليس سراً أن كثيرا من المستشفيات في الغرب القائمون عليها أو على عدد منها، هم من العرب ومن المسلمين، بل وأحياناً من الصالحين، ولكنهم وجدوا هناك البيئة المناسبة التي لم يجدوها في بلدانهم، فهاجروا إلى هناك حيث التكريم للإنسان من حيث هو إنسان، وحيث الإعانة، وحيث المساعدة، وحيث الرواتب، وحيث مراكز العلم التي تمكنه من المواصلة في الطلب والتحصيل في علمه الدنيوي الذي يتجه إليه.
لقد هان المسلم على نفسه، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً، ولا يري نفسه أهلاً لشيء، لا يعمل، ولا يتكلم، ولا يشارك، ولا يناقش، ولا يُفكِّر، ولا يسمع، ولا يبصر، ويرى أنه قد كفي، وأنت اليوم تجد المسلم العادي -ودعونا من البعيدين- دعونا نتكلم في محيط الحضور في هذا المسجد، ربما تجد أفكار البعض يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟! إذاً هو أقنع نفسه أنه لا يسمع، وأيضاً لا يبصر، يقول: لماذا أشاهد الأحوال والأحداث والأوضاع والأمور وأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟! فأقنع نفسه أنه لا داعي لأن يبصر، وهو لا يفكر أيضاً، لأنه يرى أنه لا يوجد فائدة، وأن الأمور كلها كما يعبر البعض: خربانة، ولا فائدة للتفكير، إذاً لا داعي لأن أفكر، ولا يعمل شيئاً لأنه يقول: ليس بيدي حيلة والشكوى إلى الله.
وهكذا هان الإنسان على نفسه، الإنسان الذي كرّمه رب العالمين من فوق سبع سماوات، وأنـزل في كتابه آيات بينات: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
هان الإنسان المسلم على نفسه، حتى أصبح يرى نفسه ليس أهلاً، لشيء وليس عليه أن يفعل أي شيء، فلمّا هان على نفسه، هان على غيره، هان على الحكومات، فأصبحت أي حكومة لا ترى حرجاً في أن تسوم شعوبها سوء العذاب، وتضطهد من شاءت، وتسجن من شاءت، وتعذب من شاءت، وتقتل من شاءت، لأنها دجنت هؤلاء، وزرعت الذل في قلوبهم، وصدورهم، فأصبح الواحد منهم يمشي خطوة إلى الأمام، ويلتفت إلى الوراء، يبحث عن الرقيب، يخاف من كل شيء، يخاف من ظله، يخاف من الكلمة، يخاف من زوجته أحياناً، لماذا؟!
الذل باض وفرّخ في صدورنا، الجبن الهلع، أصبح الواحد يخشى من كل شيء، يخشى من الوهم: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
أصبحنا نخشى من رجل المباحث، ونخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا، ونخشى من اليهود، ونخشى من النصارى، ونخشى من كل أحد، وأصبح الواحد ربما إذا خلى بنفسه تكلم، أو بخاصته وأصدقائه من الناس، فهو ربما يملك فكراً سليماً، وربما يتكلم، ولكنه بعد ذلك يغلق فمه، ويرى أن من أغلق عليه فمه فهو آمن، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه، فرأت أن هذه الشعوب التي قبلت الذل، والخضوع، والخنوع، ودجنت، وهجنت، وتربت على أساليب الخصم، أنها جديرة بألوان الاضطهاد، ولعل أقرب مثال أسوقه لكم العراق، شعب مكون من ثمانية عشر مليون إنسان، من أقوى الناس عبر التاريخ، وأشد الناس برأسه، وأكثرهم عناداً، ومع ذلك تمكن هذا الطاغوت، أكثر من عشرين سنه من رقابهم، لم يترك أسلوباً من أساليب الاستدلال، والقتل، والسجن، والتعذيب، والتشريد، والاغتيال، إلا مارسه.
ومع ذلك لا يزال الرجل -تتكلم التقارير الغربية، بل حتى التقارير العربية، بل حتى شهود العيان الذين جاءوا من هناك، أن الرجل- تتدعم وتتقوى مكانته يوماً بعد يوم في أرض العراق، ولذلك الغرب أصبح يتحرك في منطقة العراق، كما لو كان في منطقة يملكها هو، فاليوم يجعل منطقة في بلاد الأكراد محمية، لا يستطيع الطيران العراقي أن يحلق فيها، وغداً بل اعتباراً من الليلة سوف تكون منطقة الشيعة أيضاً منطقة محمية، من الذي يحميها؟
تحميها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، ونحن نقول: نعم، حاكم العراق استغل قومه، واستخفهم فأطاعوه، ولكن الغرب أيضاً رأى أن الأبواب مشرعة أمامه، لأن هذه الشعوب التي لا تقدم ولا تؤخر، جديرة بأن يمارس الجميع ألوان الخسف والاستدلال، وكل هذه من المضحكات المبكيات.
أولها: الجهل بالدين، والجهل بالدنيا، فأما الجهل بالدين، فإن المسلمين يعانون أزمة علماء في كل بلد، والقدر الضروري من العلم الذي لابد لكل مسلم أن يعلمه وما يسمى من المعلوم بالدين من الضرورة، أو العلم الضروري، حتى العلم العملي، والاعتقادي أكثر المسلمين لا يعرفونه، ولا أتحدث عن الجمهوريات السوفيتية، لأنها كانت تحت الشيوعية أكثر من سبعين سنة، ولا عن المسلمين -مثلاً- في البوسنة والهرسك، لأنهم أيضاً كانوا تحت الشيوعية، أو ألبانيا لأنها كانت شيوعية، بل أتكلم عن البلاد الإسلامية التي تحررت من الاستعمار منذ زمن بعيد، لا يعرفون حتى فرض العين الذي يجب عل كل مسلمٍ أن يعلمه.
أمرٌ آخر: أستطيع أن أقول وأنا متأكد مما أقول، لو جمعنا علماء المسلمين كلهم، ودعاة المسلمين كلهم، لو حشرناهم في بلد إسلامي واحد متوسط العدد، لم يستطيعوا أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي في هذا البلد، أي: لو حشدنا علماء المسلمين الصادقين من العالم كله، ووزعناهم على بلدٍ واحد، مثل تونس، أو الجزائر، أو مصر -من بابٍ أولى- لم يستطع هؤلاء العلماء أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي، فما بالك إذا فرقوا على مساحة شاسعة واسعة من العالم الإسلامي.
أصبح العالم عزيزاً نادراً، وقد زرت بلداً إسلامياً هو إندونيسيا الذي بلغت إحصائيته اليوم أكثر من مائة وثمانين مليون مسلم، فلم أجد في العاصمة جاكرتا إلا أربعة علماء، وأقول: علماء تجوزاً؛ لأن بعضهم مثقفين ومفكرين وليسوا علماء شرعيين، والعالم الشرعي الوحيد الذي أعتبره فعلاً عالم، وله كتاب مصنف في التفسير، وكتب أخرى، كان كبير السن، جاءوا به إلينا يحملونه على نقالة -عربة- لأنه رجل مقعد وقد جاوز الثمانين من عمره.
أما الجهل بالدنيا فالأمر أوضح من أن يتكلم عنه إنسان، وعلى الرغم أن لدينا علماء وخبراء وعقول، إلا أن التربة هنا والمجتمع والبيئة والظروف السياسية، والعلمية، غير قابلة لنشوء علم صحيح، فجو القهر والحرمان والخوف، يحطم كل الطاقات وكل الإمكانيات، ولذلك تهاجر العقول العربية والإسلامية إلى المراكز العلمية بالغرب فيستفيد الغرب من هذا التزيف للعقول البشرية.
الاختلافات بين الشعوب، بالأمس كانت الاختلافات مع الحكومات، أما اليوم فأصبحت الاختلافات بين الشعوب، فلا تجد مسلماً ينتمي إلى شعب إلا ويشتم الشعب الآخر، ويعتبر أنه شعب فاسد، وفيه من المصائب والمعائب كذا وكذا، فإذا وقع هذا الشعب في مصيبة، قال: نعم! هم يستحقون هذا بما كسبت أيديهم، هذا الشعب فعل كذا وفعل كذا، وهو أمر خطير.
الخلاف بين الجماعات الإسلامية، وإذا صح أن نعتبر أن الجماعات الإسلامية على ما فيها من عيوب أيضاً، لكنها تعتبر صفوة المجتمعات الإسلامية في الجملة، فإن هذا الخلاف على أشده، وتجد أن بعض هذه الجماعات الإسلامية تتنافس في كسب الشعوب لصالحها ضد الطرف الآخر، ومع الأسف الشديد أنك قد تجد بلداً إسلامياً منكوباً مصاباً، وتجد هذه الجماعات تتناحر فيما بينها، وتتهارش، وتتحارب، ولا ترضى بأن تتفق ولو على عمل إغاثي، على رغم أن العدو يسعى للقضاء عليها، بل على المسلمين جميعاً، وتحويل هذا الشعب إلى شعبٍ كافر، أو القضاء عليه وإبادته بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله!!.
الخلاف بين القبائل؛ القبائل في الصومال تتقاتل, والقبائل في أفغانستان تتقاتل، وليس بالضرورة أن الخلاف بين القبائل معناه حرب قبلية (100%) الجانب القبلي موضوع في الاعتبار، وقد يضاف إليه عناصر وأسباب وعوامل أخرى كثيرة، مبنية على سوء الظن المتبادل بين الأطراف، أو على اعتقادات، وتصورات، وخلفيات تاريخية معينة، وهذا الخلاف يجعل الأعداء في كثير من الأحيان لا يحتاجون إلى التدخل بين المسلمين، فالمسلم نفسه يقوم بمهمة القضاء على أخيه المسلم أو مقاومة جهده!
فمثلاً! أنا اليوم أكتب كتاباً وأؤلفه وأنشره بين المسلمين، فبدلاً من أن يسعى العدو إلى القضاء على هذا الكتاب، أو محاربته، لا يحتاج العدو إلى شيء؛ لأن هناك مسلماً آخر سوف ينبري ويتصدى لإصدار كتاباً للرد على هذا الكتاب، وبالتالي تتحطم هذه الجهود بعضها على بعض، فلا أنا الذي استطعت أن أقضي على اجتهادات أخي المسلم الآخر، ولا هو الذي استطاع أن يقضي على اجتهاداتي، ولكننا استطعنا ونجحنا أن نقنع المسلمين بأنه أنا وأخي -ذلك الذي رد علي- كلنا لا نصلح لشيء، ونتخالف ونتهارش حول قضايا، وبالتالي تركنا الساحة لغيرنا، واشتغلنا فيما بيننا.
وأيضاً لا يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُصّوِب بندقيته في صدري، لأن هناك مسلماً قد سبقه، وصوّب البندقية في صدري، ربما يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُساعد المسلم الضعيف، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ لتطول مدة الحرب فيما بيننا، وما خبر -مثلاً- الحرب العراقية الإيرانية -مع أن القياس مع الفارق طبعاً- لكن فالحرب العراقية الإيرانية، تبين بالحقائق والوثائق أن الغرب كان يغذي الطرفين، من أجل مزيد من الإنهاك لقوة البلدين، ومزيد من نـزيف الدماء، وتجربه لبعض الأسلحة الجديدة في منطقة إسلامية.
إن هناك نصيحة غالية ينبغي أن نقولها في ظل الحرب الشاملة التي يواجهها المسلمون، في موضوع الخلاف:
إننا بحاجة إلى قلوب واسعة، لا تحمل حقداً أو كراهيةً أو بغضاء لمسلم، ولا تتهم مسلماً يظن سوء وهي تجد له من الخير محملاً، وبحاجة إلى عقول واسعة، تُقدر اجتهادات الآخرين، وتفهم دوافعهم، وآرائهم، وحججهم في كل أمر، وتجعل ميداناً واضحاً في الأمور التي يمكن الخلاف فيها، وميداناً أيضاً واضحاً للتعاون حتى مع الذين تختلفون معهم، إنني أعتقد أنه لا مجال للخلاف بين المسلمين، إذا كنا نستطيع أن نردم الخلاف، أنا لا أقول: تُنهى الخلاف مع كل الأطراف، ولا أقول: اترك الخلاف مع المبتدعة، فهذا موضوعُُ آخر، بل أنا أخاطب أهل السنة والجماعة، وهم كثير.
فأقول: لماذا لا توحدون صفوفكم، ألستم أنتم المخاطبين بقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ألستم أنتم المعنيين بقوله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] ألستم أنتم ممن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الذي رواه مسلم: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً -وذكر منها-: أن تعتصموا بحبل الله جمعيا ولا تفرقوا} وهل معنى الاعتصام بحبل الله والاتفاق أن يجتمع المسلمون على رأيك أنت الخاص؟ أو على اجتهاداتك أنت الشخصية، أو على قناعة هذه الجماعة، أو على آراء هذه الطائفة؟ كلا.
فمن المستحيل أن يجتمع الناس على ذلك، ولكنهم يجتمعون على الأصول العامة، المستقرة، الناصعة، الواضحة في القرآن والسنة والتي اتفق عليها المسلمون من فجر التاريخ، أما الاجتهادات الفردية فهي لا تتوقف ولا تنتهي، وإذا لم يتفق المسلمون اليوم، وعدوهم يسعى إلى قتلهم، وينهب خيراتهم، ويستعمر بلادهم، وأقول بالحرف الواضح: يستعمر بلادهم، ويسعى إلى تنصيرهم وتكفيرهم، فإن عجز سعى لتصفيتهم والقضاء عليهم، إذا لم يتفق المسلمون وهم يواجهون اليوم عدواً مدججاً أعدادهم بالمليارات، وأموالهم طائلةُُ هائلة، وقوتهم الأسلحة النووية والكيماوية، وهذا أقل ما يملكون، فإذا لم يتفق المسلمون في ظل هذه الظروف، فقولوا لي بالله عليكم متى يتفقون؟ ومتى يعقلون؟!
وأقول للمسلمين الذين لا يزالون يدندنون حول الخلافات التي يمكن تجاوزها، أو حتى يمكن إثارتها، ومع إثارتها يكون هناك قدر من التعاون على البر والتقوى، أقول: أكل يومٍ لا تعقلون؟!
وقال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
وفي الآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11] وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129].
هذه تقريباً سبع أو ثمان آيات من كتاب الله تعالى، وهي ناطقة، لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو بيان، وخلاصة هذه الآيات أن كل ما أصاب الإنسان من مصيبةٍ دينية أو دنيوية، فهي من عند نفسه، فهذا هو خلاصة المعنى العظيم الذي دلت عليه هذه الآيات.
بقى في الموضوع أيها الإخوة كثير، وبقى في الوقت قليل، وهذه الأسئلة أمامي، ولذلك فسوف أسرد عليكم بقية الموضوع باختصار، في نحو دقائق، حتى نفرغ بعض الوقت لهذه الأسئلة.
وإذا كان هذا هو السبب الإجمالي، وهو بسبب الذنوب والمعاصي، فإننا نستطيع أن ننتقل إلى ذكر وتشخيص بعض الذنوب والمعاصي، فإن الكثيرين إذا سمعوا كلمة الذنوب والمعاصي، لم يتصوروا من الذنوب والمعاصي إلا الذنوب والمعاصي الفردية: كالزنا، أو شرب الخمر، أو السرقة، أو أكل المال الحرام، أو حلق اللحية -مثلاً- أو تطويل الثياب، أو ما أشبه ذلك من الذنوب الكبيرة أو الصغيرة، وظنوا هذه هي الذنوب والمعاصي فقط، والواقع أن الذنوب والمعاصي أعظم وأشمل وأوسع من هذا المفهوم، فمثلاً.
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] وقال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] وقال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:115].
والإسلام لم يبعث فقط لإصلاح القلوب، بل بعث لإصلاح القلوب، والسلوك، والحياة الفردية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية، وغيرها، ولا شك أن الانحرافات السلوكية مثل: أكل الحرام، أو النظر إلى الحرام، أو تعاطي الحرام، أو التعامل بالحرام، على مستوى الفرد، والجماعة، والدولة، هو من أسباب تشتت القلب، وبعده عن الله تعالى، ومن أسباب ضعف الهمة، ومن أسباب الخور والجبن والخوف، ومن أسباب قلة التوفيق للعبد في دينه ودنياه.
ويأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والسير في الأرض، والاعتبار بالآيات في النفس، وفي الكون، وفي هذا دعوة إلى التعلم والتعليم والتأمل، وأول آية نـزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فهذا المسلم الذي دعي إلى النظر في الملكوت والتأمل في جميل صنع الله تعالى وإبداعه في الأرض، وفي الكون وفي النفس، لم يستعد ولا يزال متخلفاً في المجال العلمي، والتقني، وبالأمس كان المسلمون يملكون ناصية العلم، والحضارة، واليوم أصبحوا عاجزين حتى عن مجرد الاستفادة من إنتاج العلم والحضارة، وهم سوق غير جيدة لمنتجات الغرب.
أحياناً: قد يشتري المسلمون مصنعاً بأكمله، بل وعماله معه أيضاً، وقد يقوم المسلمون ببناء مؤسسات، وشركات، وقواعد، ومراكز، كلها غربية من الألف إلى الياء، ويحصل في ذلك نصب، واحتيال، وخداع، وتضليل، وألاعيب، تبدأ من عند السمسار الذي يأخذ الأموال، إلى البائع، إلى ما يعلم الله تبارك وتعالى به، وفي ذلك خطورة كبيرة تكلم عنها مجموعة من الخبراء في ندوة بعنوان: هل انتقلت التقنية إلى العالم الإسلامي؟
ومن الذنوب والمعاصي والتخلف في الإعداد، أيضاً: التخلف العسكري، والتخلف العسكري أمر واضح، سواءً في المجال الفردي، أو في مجال التسليح، والغرب يفرض حصاراً على ألوان الأسلحة إلى العالم الإسلامي بالذات، وهذا نموذج للرغبة في بقاء المسلمين محتاجين، ومهددين من قبل عدوهم، وليس سراً أن أمريكا قد التزمت لإسرائيل ضمن محادثات السلام القائمة اليوم، أن تظل إسرائيل متفوقة عسكرياً على الأمة الإسلامية والعربية، مجتمعة وذلك لضمان سلامة إسرائيل وأمنها، مع أن أحد الخبراء الألمان يقول: هذا أمر عجيب!! لأنه إذا كان مطلوباً أن لا تقوم حرب في الشرق الأوسط، فيجب على الغرب أن يزود العرب بقنبلة نووية أيضاً، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ النووي، أو ما يسمى بالردع الذي يضمن ألا تعتدي إسرائيل أو تقوم باستخدام هذا السلاح، لأن الطرف الآخر لا يملكه.
وعلى كل حال فليست مشكلة المسلمين من الناحية العلمية، أو من ناحية السلاح أو غيره ليست مشكلتهم التسليح فقط بل إن كل التيسيرات المادية التي تمكن الإنسان من قضاء حاجاته الدينية والدنيوية بيسر وسهوله، وتسهل له القيام بأعماله بأقل قدر من الوقت، وأقل قدر من الجهد، وأقل قدر من المال، هي مما كان يجب أن يسعى إليه المسلم؛ فالمسلم كان ينبغي أن يسبق الغرب -مثلاً- في اختراع المكيف، واختراع مكبر الصوت، واختراع السيارة، واختراع الهاتف، واختراع الفاكس، واختراع ألوان التيسيرات المادية والعلمية، التي تخدم الإنسان وتحفظ عليه وقته وجهده وماله، ولكن المسلمين آثمون وعصاة، لأنهم قصروا في ذلك كله، وأخص القادرين على ذلك.
أولاً: المخرج بالإصلاح الشامل في مناهج التعليم، وفي مناهج الإعلام، والسياسة، والاقتصاد.
ثانياً: إعداد الجامعات، والمراكز العلمية التخصصية، للإفادة من النهضة العلمية العالمية اليوم، وتطويرها وتوسيع نطاقها، والإمساك بزمامها وناصيتها.
ثالثاً: تخلي المتسلطين على رقاب المسلمين عن حماية المصالح الغربية، إلى حماية مصالحهم وشعوبهم، وقيامهم بتحكيم شريعة الله تعالى في عباده.
لكن هذه المطالب لمن تُوجِهها؟ إن من توجهها إليهم هم مصدر الداء وهم البلاء! وكما قيل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تُنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخُ في رمادِ |
ولهذا أنتقل لأقول: لا يجوز أبداً أن يُلقي المسلمون باللائمة والمسئولية على الحكومات، فإن هذه الحكومات، يجب ألا ينتظر منها المسلمون شيئاً يذكر، بل إنها في كثيرٍ من البلاد، هي مصدر البلاء، ولهذا على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيق ما يستطيعون بإمكانياتهم الذاتية، من خلال الأفراد، ومن خلال المؤسسات، والهيئات الإسلامية الشعبية، التي لا تهيمن عليها السياسة، ولا تديرها الحكومات لمصالحها الذاتية، وأنت بذاتك أيها المسلم، عليك واجب ودور كبير، وأقول:
هل تظن أن ألف مليون مسلم -بل آخر إحصائية تقول: ألفاً ومائتين مليون مسلم- ليس فيهم شخص واحد لو أقسم على الله لأبره، أو لو دعا الله تعالى أجابه، بلى، وأنا أحلف أنه -إن شاء الله تعالى- لا تخلوا هذه الأمة من أخيار، وأطهار وأبرار فلماذا إذا لا نحشد هؤلاء؟ ولماذا لا ندعوهم إلى أن يقوموا في الهزيع الأخير من الليل؟! حين ينـزل ربنا إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل؟} فيقولون: نعم، يا رب نحن السائلين، نمد لك أكف الضراعة أن ترحم هذه الأمة الملهوفة، فلو أننا ركزنا على هذا الأمر، ودعونا الشِّيِبِ، والكبار، والصغار، والأطفال، والغافلون، وأصحاب القلوب النظيفة، إلى أن يدعو الله تعالى في مشاكل المسلمين دعواتٍ عامة، وخاصة، ولعلك واحدٍ من هؤلاء، يقول: ولو كنت ملوثاً بالذنوب والمعاصي؛ لا تقل هذا، بل العلم عند الله تعالى.
قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيدُ |
ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستُزغردُ الغيدُ |
في كل شبرٍ أمةُُ هُتكت أستارها واغتُيل توحيدُ |
في كل شبرٍ صرخة نغم فدوت بِالصدى البيدُ |
لكننا نلهو فلا غضبُُ نبدي ولا الإيثارُ موجودُ |
وكأنَّ وقراً قد تغلغلَ في آذنِنا فالسمع مسدودُ |
صِربُُ وصهيونُُ تمُزقنا وسِلاحنا في الصدر تهيدُ |
والمجلس المأمول في شُغلٍ عنَّا يُماطِل فوقه الهودُ |
ويسومنا أبناءُ جلدتِنا بِسياطِهم والعدلُ مفقودُ |
والنخوة القعساءُ صادرها متفردُُ بالرأي نُمرودُ |
أدمى بخنجره حشاشتنا فإذا العراق الحُر مصفودُ |
وإذا العُروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمُنُ السُودُ |
يا أمةً شاخ الزمان بها وعلت مُحياها التجاعيدُ |
عاثَ الخلاف بها وفرقها بُعد عن الإسلامِ مشهودُ |
الهَدي فيها وهي ضائعةُُ يقتادها القيثارُ والعودُ |
قد خُدِّرت بفم مُنغمة شُغلت بها والسيفُ مغمودُ |
وعلى رُباها ألفُ غانيةٍ رقصت ومِلءُ السمعِ ترديدُ |
هي والليالي الحُمر في طربٍ سكرى وليلُ الشِرك تصعيدُ |
في كل يومٍ يُستباحُ بها دم يُقامِر فيه عِربيدُ |
يا أمتي ما ضاع يُرجِعهُ سيف بِه الإيمانُ معقودُ |
يا أمتي هذا الكتابُ لنا ولنا به عز وتسويدُ |
فإذا به سِرنا سيغمِرُنا نصر مِن الرحمنِ موعودُ |
إذاً لابد من التوجع، نريد منك حزناً، نريد منك دمعة عين، وآهة أسف، وتنهيده لأخيك المسلم الجائع، أو العاري، أو المقتول، أو الجاهل، أو المريض.
وأنت خبيرُُ بقصة صاحب الحديقة ملكُُ من السماء يقول: أسق حديقة فلان، لماذا؟ لأنه يأكل ثلثاً ويتصدق بثلث، ويرد الثالث في الحديقة، فكن أنت صاحب هذه الحديقة، والأمر سهلٌ ميسور.
الذهاب للجهاد في البلاد الملتهبة مطلوبٌ، ممن يملك ذلك، ولكن ينبغي أن نعلم أن من أعظم ألوان الجهاد أن نعلمهم الدين، ونعرفهم ونعرف هؤلاء الشباب المتحمسين للجهاد، الذين نشد على أيديهم، ونقول: هلموا، فالمسلمون يحتاجونكم في كل مكان، في يوغسلافيا، وفي غيرها، نقول لهم: مع ذلك كله ليس بالبندقية وحدها ينتصر الإنسان، قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون )َ) [آل عمران:160] وقال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51].
أولاً: الرغبة الصادقة.
ثانياً: المال. فإذا ملكنا الرغبة الصادقة مع المال، فلن يقف في وجوهنا بإذن الله تعالى شيءٌ سيكون الله تعالى معنا متى كنا مخلصين.
أيها الإخوة! هذا ما أحببت أن أقوله لكم، وأنا إذ أتحدث إليكم الآن عن جراحات المسلمين، أدعوكم إلى أن تصدقوا مع ربكم جل وعلا في أن تتخلوا عن كل ما تستطيعون التخلي عنه الآن، وليس غداً، لإخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وبعد إقامة الصلاة سيقف بعض الشباب على الأبواب، لجمع التبرعات التي ستوزع مناصفةً بين إخوانكم في البوسنة والهرسك، وإخوانكم في الصومال، جزاكم الله تعالى خيراً.
السؤال يقول: كم كانت الأنفس مستبشرة بانتصار المجاهدين الأفغان، ولكن لم تكتمل الفرحة حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، فهل أطلعتمونا على الصورة الحقيقية؟
الجواب: الصورة الحقيقية سبق أن تكلمت عنها في مناسبات عدة، ينبغي أن نفرح لكل ما يقع للمسلمين، لكن ينبغي أن يكون فرحنا مشروطاً واعياً، فلا ينبغي أن يكون فرحنا كفرح الأطفال الذين لا يدركون المخاوف التي تهددهم.
ففي أفغانستان أولاً: هناك مشاكل داخلية -تكلمت عنها مرات- وأخطرها قضية المليشيات، والمليشيات فعلاً هي تمارس دوراً خطيراً الآن، وهي السبب الرئيسي في الصراع بين المجاهدين.
ثم هناك الخطر الخارجي، فالغرب لن يرضى أبداً بانتصار إسلامي وسيقاومه! مع أنه يقاومه... وأنا أقول لكم: لا يجوز أبداً أن نخاف من الغرب، بل ينبغي أن ندرك أن الغرب عاجز، وإذا وجد قوة إسلامية صادقة، فإنه سيقف مكتوف الأيدي، وماذا تنفع روسيا أسلحتها السوفيتية النووية القوية، لم تمنعه من أن يسقط ويتهاوى كما تتهاوى وتتساقط أوراق الخريف، لكن سيحاول الغرب أن يستغل نقاط الضعف الموجودة فينا، وعلى سبيل المثال قرأت تقريراً غربياً يقول: تُحاول أمريكا أن تجعل في شمال أفغانستان منطقة خاصة للمليشيات يحكمونها -مستقلة- وأمريكا اليوم كانت تمارس دوراً في تجزئة العالم الإسلامي، ولعل العراق يعاني شيئاً من ذلك، وأفغانستان أيضاً، لماذا المنطقة المعزولة في شمال أفغانستان؛ حتى تحول بين الحكومة الأصولية في كابول، وبين أن ينتقل تأثيرها إلى الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك أدعو لإخوانكم المسلمين في أفغانستان.
الجواب:
أولاً: أدع الإخوة إلى أن يبذلوا مزيداً من الجهد في هذا السبيل.
ثانياً: أدعوهم إلى أن يكونوا على اتصال قوي بالناس، فنحن كما نحتاج إلى دور الإخوة في العمل في مجال الهيئات، نحتاج أيضاً إلى هؤلاء العاملين أنفسهم، أن يكون لهم اتصال إعلامي قوى في وسط المجتمع، بحيث يكون المجتمع معك في أي خطوة ويكون معك في الصورة، بحيث يشعر كل مواطن بأنك تُدافع عن عرضة وعن بنته، وعن قريبته، وعن أهله، وعن جيرانه، وأنك حريص عل الستر، وحريص على الإصلاح، وحريص على أن تسير الأمور بطريقةٍ هادئةٍ وسليمةٍ بعيدةٍ عن الإثارة، حتى تستطيع أن تكسب الناس إلى صفك، فعلينا أن نبذل ذلك، كما أن على العلماء والخطباء والدعاة دوراً في ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر