ثم زادت محبتهم له لما كان في خلافة بني أمية بعض الأمراء الذين يسبونه ويتبرؤون منه، وذلك في إمارة الحجاج الذي تولى العراق نحو عشرين سنة أو أكثر، وكان مبتلى بالبغض لـعلي رضي الله عنه، فكان في المنبر يعلن سبه أمام الناس، ولا شك أن هذا مما يحزن أولئك المتشيعين له، فكلما سمعوه يشتمه أمام الناس على المنبر فلابد أن يحز في نفوسهم ويقلقهم ويفزعهم ذلك؛ لأنهم يحبونه، فلابد أنهم كانوا يجلسون مجالس خاصة ويتبادلون فيها سيرة علي ويتحدثون فيها عن فضائله، ولابد أنه يدخل بينهم من يريد الغلو فيه حتى يطمئنهم إلى محبته، ويبين لهم خطأ هذا الأمير الذي يسبه ويشتمه.
فكان ولابد من وقوع الكذب في فضائله، فكان أولئك المتشيعون له يكذبون ويبالغون في الكذب، ويصفونه بصفات أرفع من صفات الخلفاء كلهم، بل قد تصل إلى صفات الأنبياء، بل قد تصل إلى صفات الرب تعالى، يصفونه بأنه يفعل كذا ويعلم كذا ويتصرف في كذا، وأنه الذي له الولاية وله وله، فإذا سمع هذه الأكاذيب تلامذتهم وصغارهم فلابد أن يستنكروا أو يستغربوا أمرهم ويقولوا لهم: كيف حاز هذه الفضائل؟ وكيف وصل إلى هذه الرتبة؟ وكيف صار أهلاً لهذه الصفات والسمات العالية الرفيعة ومع ذلك تقدم عليه بالخلافة فلان وفلان، أليس هذا تنقصاً له؟ أليس هذا افتراء عليه؟ فلو كان -كما تقولون- بهذه الصفات وهذه الخلال الرفيعة لما كان أحد يتقدمه.
فكان هذا مما أحقدهم على الخلفاء الراشدين، فقالوا: لابد أن نسكت جهالنا، ونعتذر لهم فندعي بأن الخلفاء الثلاثة مغتصبون كذبة لا حق لهم في هذه الخلافة، وأنهم احتقروا علياً واغتصبوه حقه الذي هو الولاية الحقة، وأنه هو الوصي والولي والإمام والمقدم، ولكنهم احتقروه واستصغروه، فولوا عليه فلاناً ثم من بعده فلاناً. فلم يجدوا بداً من أن يصفوهم بأنهم مغتصبون، ثم لم يجدوا بداً لتسكيت سفهائهم من أن يطعنوا في أشخاص الخلفاء وخلافتهم وأهليتهم ويدعوا أنهم مرتدون ومغتصبون وكذبة، وأن الصحابة الذين ولوهم وصبروا على ولايتهم خونة وكذبة؛ حيث خانوا الوصية التي أوصاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يولوا علياً .
إذاً فجميع الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان عند الرافضة خونة، هذه هي فكرتهم.
فلما كان كذلك اهتم الأئمة رحمهم الله تعالى بذكر فضائل الخلفاء، وبذكر خلافتهم على أنها من جملة العقيدة، وإلا فالمبتدئ يستغرب أن يذكر أمر الخلافة مع العقيدة؛ لأن العقيدة إيمان بالغيب والخلافة أمر مشاهد ظاهر.
وكان أول ما مر بي وأنا مبتدئ الأبيات التي قرأتها في عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني لما ذكر عقيدته التي مبدأها قوله:
دع عنك تذكار الخليط المنجد والشوق نحو الراميات الآنسات الخرد
والنوح في أطلال سعدى إنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد
ثم ذكر الخلافة في آخرها بقوله:
قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد
حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد ياله من مسعد
خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد
قالوا فمن صديق أحمد قلت من تصديقه بين الورى لم يجحد
قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا قلت الإمارة في الإمام الأزهد
فاروق أحمد والمهذب بعده نصر الشريعة باللسان وباليد
قالوا فثالثهم فقلت مسارعاً من بايع المختار عنه باليد
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد
أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذا النورين صهر محمد
إلى آخرها، فاستغربت؛ لأن أمر العقيدة إيمان بالغيب والخلافة تاريخ وحكاية شيء واقع، ولكن لما قرأت بعد ذلك وجدت أن سبب ذكر هذه الخلافة هو طعن الرافضة في هؤلاء الخلفاء الثلاثة وإنكارهم لخلافتهم.
فمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه له مزايا وفضائل، فهو أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقوله، وبه أيضاً فتح الله على قلوب كثير من الصحابة، فهو الذي دعى عثمان فأسلم، ودعى سعداً وطلحة وابن عوف فأسلموا، أي: أكثر الصحابة -سيما من العشرة- أسلموا بدعوته رضي الله عنه، وذلك لأنه كان شريفاً في قومه، وكان له مكانته، وكان أيضاً يكرم الضيف، ويكسب المعدوم، ويرفع الكل والثقل ويحمله، ويعين على نوائب الحق، فهو جواد ذو مكانة في قومه، فلما أسلم كان هذا مما دفع كثيراً من الصحابة إلى الإسلام.
ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه خليلاً وصديقاً وفضله على غيره، وقال في آخر حياته: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
هذا هو الذي يشهد به الواقع الحقيقي، حتى إن بعض أمهات المؤمنين وهماعائشة وحفصة رضي الله عنهما قالت له: (لو أمرت
ولما توفي صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وخطبهم عمر ، وخطبهم أبو بكر واتفقوا على أن يبايعوا أبا بكر ، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذا كان رضيه إماماً لنا يتقدم بنا في الصلاة فإن ذلك دليل على أفضليته، فنختاره أميراً لنا يتصرف فينا ويدبر شئون الأمة. فولوه ورضوا به، ونعم الخليفة كان، لقد ثبت ثبوت الجبال الراسية، ولما استخلف ارتد من حولهم من الأعراب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة، أما الأعراب الذين حولهم فارتدوا، ولكن ماذا حصل؟
ثبت رضي الله عنه، ثم جهز جيش أسامة الذي كان عليه الصلاة والسلام قد عزم على بعثه، فقالوا له: كيف تجهزه والناس مرتدون؟ فقال: لو جرت السباع بأرجل أمهات المؤمنين لم أترك جيشاً أمر بإنفاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب ذلك الجيش يشق تلك الفيافي ويمر على أولئك الأعراب، وكلما مر على قوم قالوا: هذا دليل على عزتهم وقوتهم، لو كان فيهم ضعف ما أرسلوا هذا الجيش في هذا الوقت الحرج. فغزوا وأغاروا على بلاد الروم وما حولها، ثم رجعوا سالمين غانمين.
وبعد ذلك أغار على المدينة بعض الأعراب يريدون أن يستحلوا المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه حازماً، فجمع أهل المدينة وقابلوا أولئك الأعراب وهزموهم شر هزيمة وانقلبوا خاسئين، وبعد ذلك رجع من كان أسلم، ثم عند ذلك جهز سبعة عشر جيشاً لغزوا أولئك المرتدين، فلما أن جهز هذه الجيوش علم الناس أنه ذو قوة، فعاد الذين كانوا قد ارتدوا ودخلوا في الإسلام. وكل ذلك بفكرته رضي الله عنه. وبسيرته الحسنة.
ثم إنه لم تطل به المدة، إنما استقام في الخلافة سنتين وأشهراً، وحسده بعض الحسدة وسقوه سماً، وقالوا: إنه مات مسموماً. والله أعلم بذلك، وبكل حال فهو الخليفة الراشد رضي الله عنه، ولما علم بأنه سوف يموت رأى أن عمر رضي الله عنه أولى بالخلافة، وذلك لأنه رأى فيه الحزم والعزم والقوة والجد والنشاط في الأمر، فولاه الخلافة بعده.
ثم تسلط عليه أبو لؤلؤة فقتله وهو في المحراب، فجعل رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من الصحابة، ولم يجعل منهم سعيد بن زيد لكونه ابن عمه.
وتمت له الخلافة، ووالى أيضاً الجيوش، وفتحت في عهده كثير من بلاد الترك والروم وما وراء النهر وما أشبه ذلك، وتسلط عليه بعض الثوار والأعراب في آخر خلافته وقتل رضي الله عنه.
وبعد أن قتل تولى ولده الحسن نصف سنة، ثم تنازل عن الخلافة لـمعاوية في سنة إحدى وأربعين من الهجرة، واجتمعت الخلافة لـمعاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واستمرت الخلافة في بني أمية في معاوية وابنه، ثم في بني مروان إلى أن انتهت دولتهم في سنة اثنين وثلاثين وما تولى الخلافة بنو العباس، وكل ذلك مذكور في السير وفي كتب التاريخ.
قال المؤلف رحمه الله: [نعتقد خلافة الخلفاء الراشدين وأن خلافتهم حق، دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)].
هذا هو الحديث المشهور عن العرباض في السنن، وكذلك قوله في حديث رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)، وهذه الخلافة التي أخبر بأنها ثلاثون هي مدة خلافة الخلفاء الراشدين الذين آخرهم الحسن بن علي رضي الله عنه، ثم بعد ذلك صارت ملكاً، ومعاوية أول الملوك وهو أحسن وأفضل الملوك الذين هم ملوك الإسلام، وله سيرة حسنة، فيقول الكلوذاني في آخر عقيدته:
ولابن هند في القلوب مودة ومحبة فليرغمن المعتدي
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ وحي المنزل ذو التقى والسؤدد
ومثله أيضاً مسلم في صحيحه، فقد بدأ بفضائل الأربعة الخلفاء على ترتيبهم، وذكر كل فضائلهم التي صحت عنده، وذلك دليل على مزايا لهم، وهي فضائل من قرأها عرف بذلك صحة خلافتهم، وعرف أهليتهم لهذه الولاية.
وكذلك الترمذي في سننه، فإنه جعل في آخر سننه كتاب الفضائل، بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، واستوفى ما ثبت عنده أو ما يقرب من الثبوت، وكذلك أيضاً قد أفردت بكتب، فمنها (كتاب فضائل الصحابة) للإمام أحمد، مطبوع في مجلدين بهذا العنوان: (كتاب فضائل الصحابة)، وهكذا فعل الذين كتبوا في التاريخ.
ولا شك أن ذلك دليل على أهمية خلافة هؤلاء وصحتها، وأن من طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله، كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية.
والكلام في ترتيبهم طويل، وله جانبان:
أولاً: ترتيبهم في الخلافة.
وثانياً: ترتيبهم في الفضل.
فقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره)، وهذا يعني ترتيبهم في الفضل، يعني أبا بكر أفضلهم، بل أفضل هذه الأمة، ثم يليه بالفضل عمر ، ثم يليه بالفضل عثمان ، هكذا كانوا يقولون، وهكذا أيضاً أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وثبت أيضاً في الصحيح عن علي رضي الله عنه من طرق متواترة أنه كان يخطب على المنبر في الكوفة فيقول على رؤوس الأشهاد: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر .
ولكن الرافضة لا يأخذون من كلامه إلا ما يوافق أهواءهم، ويكذبون عليه ويردون ما ثبت عنه حقاً، وسأله مرة الحسن فقال: يا أبت! من أفضل هذه الأمة؟ فقال: يا بني! أبو بكر ، فقال: ثم من؟ قال: عمر. قال الحسن : ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا واحد من المسلمين. قال ذلك على وجه التواضع.
وعلى كل حال هكذا ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة.
قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في كلامه على حقوق الصحابة رضي الله عنهم: [ويقولون بتفضيل الصحابة رضي الله عنهم؛ لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [التوبة:100]، ومن أثبت الله رضاه عنه لم يكن منه بعد ذلك ما يوجب سخط الله عز وجل، ولم يوجب ذلك للتابعين إلا بشرط الإحسان، فمن كان من التابعين من بعدهم لم يأت بشرط الإحسان فلا مدخل له في ذلك.
ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه؛ لقوله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، فأخبر أنه جعلهم غيظاً للكافرين.
وقالوا بخلافتهم؛ لقول الله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، فخاطب بقوله: ( منكم ) من نزلت الآية وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فقال بعد ذلك: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، فمكن الله بـأبي بكر وعمر وعثمان الدين وعد الله آمنين يغزون ولا يُغزون، ويخيفون العدو ولا يخيفهم العدو.
وقال عز وجل لقوم تخلفوا عن نبيه عليه السلام في الغزوة التي ندبهم الله عز وجل بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83]، فلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الإذن في الخروج للغزو فلما يأذن لهم أنزل الله عز وجل: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15] وقال لهم: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16].
والذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي منهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب الأليم إيذاناً من الله عز وجل بخلافتهم رضي الله عنهم، ولا جعل في قلوبنا غلاً لأحد منهم، فإذا ثبتت خلافة واحد منهم انتظم منها خلافة الأربعة].
قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي
وثبت أن امرأة جاءت إليه تسأله عن أمر فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك -كأنها تعني الموت- ؟ فقال: (إن لم تجديني فائتي
ونزل فيه أيضاً قول الله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، فالذي جاء بالصدق نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله عنه، وذلك لأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً بقصة الإسراء وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع، لما أخبر بذلك قريشاً استغربوا لذلك وقالوا: هذا هو علامة الكذب، كيف ونحن نسافر مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر رجوعاً وأنت تقطع ذلك في ليلة واحدة؟! هذا هو عين الكذب. فجاؤوا إلى أبي بكر وقالوا: أدرك صاحبك، فإنه يزعم أنه أسري به البارحة إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة! فقال: لقد صدق، لقد صدق. فقالوا: أتصدقه في هذا؟ فقال: أصدقه في أعجب منه، في خبر السماء. يعني أنه: يصدقه في أن خبر السماء ينزل إليه في لحظة من اللحظات ويرتفع، فنزلت هذه الآية: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33].
مع أنه أيضاً يعتبر صاحب الفضل الكبير في قصة الهجرة، فإنه لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: (الصحبة)، ثم قال: إن عندي راحلتين كنت أعلفهما أعدهما لهذا السفر فخذ إحدهما، فقال: (نعم ولكن بالثمن)، فعند ذلك لما عزما على السفر وكانت قريش قد دبرت مكيدة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج هو وأبو بكر ليلاً ولجأا إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاثة أيام، وصار ولد أبي بكر يأتيهما في الليل بغنمه ويحلب لهما من الغنم، وأعطيا رواحلهما إلى رجل يقال له: ابن أريقط لحيفظها لهما، وجاءت قريش تلتمسه فأعماهم الله تعالى عنه، وأنزل الله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] قال له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) فالله يحرسهما والله يحفظهما، هذه خصيصة لـأبي بكر رضي الله عنه.
صحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفره من مكة إلى المدينة، ولازمه ملازمة تامة إلى أن توفي وهو ملازم له، ولم يتخلف عنه في غزوة من الغزوات.
وفي سنة تسع ائتمنه على الحجاج، وأرسله ليحج في ذلك العام وليبلغ الناس ما أنزل الله تعالى، وليقيم للناس حجهم، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في سنة عشر في حجة الوداع، فكل ذلك دليل على فضله.
وقد استدل الرافضة على قولهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فالرافضة يقولون: إن الصحابة أحدثوا بعده. أي أن من حدثهم كتمانهم -بزعم الرافضة- الخلافة التي لـعلي أو الوصية التي لـعلي ، وبهذا الكتمان صاروا بذلك محدثين مرتدين.
مع أنَّا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين قاتلوا المرتدين، وأنزل الله تعالى فيهم الآيات، ومنها آية سورة المائدة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، هكذا وصفهم بست خصال، من هؤلاء؟
هم الصحابة الذين قاتلوا المرتدين من العرب الذين ارتدوا حول المدينة، ثبت هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة وبمكة وبغيرها من القرى التي حولها، ثبتوا رغم كثرة من انحرف وارتد، فقاتلوا أولئك الذين ارتدوا حتى ردوهم إلى الإسلام.
وشهد الله لهم بأنهم: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وأنهم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] متواضعين لبعضهم، و: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وكذلك قوله: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وهذه الصفات تنطبق على الصحابة رضي الله عنهم، وقد جحدها الرافضة وادعوا أن هذا ليس وصفاً لهم.
وأنزل الله فيهم أيضاً آيات في آخر سورة الأنفال، وهي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، فمن تنطبق عليه هذه الآيات؟
ذكر الله تعالى فيها الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، هؤلاء هم المجاهدون، ثم ذكر فيها الأنصار وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72]، فالأنصار والمهاجرون هم الذين تضمنتهم هذه الآية بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، فالذين لم يتولوهم ماذا تقول فيهم؟
تقول: ليسوا منهم، وليسوا من المؤمنين ولا من أولياء المؤمنين، بل هم برآء منهم.
فالرافضة الذين يتبرؤون منهم يتصفون بهذه الصفات -أنهم ليسوا منهم- ويدخلون في النص الذي بعده: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:74] ثم قال تعالى في وصف الصحابة مرة أخرى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74]، كل هذا وصف للمؤمنين وشهادة لهم.
والرافضة يقولون: إن هذه الفضائل التي مدحهم الله بها بطلت بردتهم؟! وهل الله تعالى يمدحهم وهو يعلم أنهم سيرتدون؟! أليس الله عالماً بمن يستحق المدح؟! لو كانوا سيرتدون ما مدحهم الله تعالى ولا أثنى عليهم هذا الثناء، فإن الله عالم بمن يموت على الإسلام ومن يموت مرتداً.
فهذه هي القاعدة عند الرافضة، أن فضائل الصحابة بطلت بردتهم، وهذه الحجة واهية؛ فإن الله تعالى لا يمكن أن يمدحهم هذا المدح وهو يعلم أنهم سيرتدون في وقت من الأوقات وستحبط أعمالهم، فالله تعالى عالم بكل شيء.
ثم نقول للرافضة: هذا تنقص منكم لله تعالى؛ إذ معناه أن الله لا يعلم الأمور المستقبلة، فيمدحهم وهو لا يعلم أنهم سوف ينقلبون ويرتدون ويكفرون بعد ذلك وسوف ينقضون بيعتهم.
واستدل المؤلف بهذه الآية في سورة الفتح: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] رضي الله عن الذين بايعوه تحت الشجرة وهم أكثر من ألف وأربعمائة، ومنهم الخلفاء الراشدون، والعشرة وأجلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بايعوه على أن لا يفروا، وقيل: إنهم بايعوه على الموت. والمعنى متقارب، كأنهم يقولون: نبايعك على أن نقاتل فنقتل أو ننتصر ولو أدى ذلك إلى الموت، وعلى أننا لا نفر ولو قتلنا واحداً بعد واحد.
هذا الرضا معناه أن الله تعالى رضي أعمالهم وأقوالهم، وعلم سعادتهم وأهليتهم فصرح بأنه رضي عنهم.
ومن العجائب أني رأيت لبعض الرافضة في هذا الزمان رسالة بعنوان (المراجعات)، ومن عجائبها أنه لما ذكر هذه الفضيلة قال: اقرءوا ما قبلها، إن الله تعالى ذكر أنهم سوف يرتدون، فالله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10]، فيقول: هذا دليل على أن منهم من نكث. فهل هذا صحيح؟! هل في الآية دليل على أن فيهم من ينكث أو من نكث؟!
إنما أخبر الله بأن من نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى فإنما يوفي لنفسه، وليس فيها أن أنهم نكثوا كلهم كما تقوله الرافضة، إنما فيها الإخبار بأن الذين يبايعونه فإنهم يبايعون الله، ثم أيضاً ليست هي بيعة الرضوان، بل البيعة العامة؛ إذ كل من جاء مسلماً فإنه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يخبرهم ويقول: أيها المؤمنون الأعراب وأهل الحضر والصغار والكبار والنساء والرجال! أنتم تبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولكن احذروا إذا نكثتم، فإن نكثكم على أنفسكم وضرركم بهذا النكث يعود عليكم فخذوا حذركم.
ومعلوم أن هناك من بايع من الأعراب ثم نكث وارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فليست الآية يراد بها أهل بيعة الرضوان؛ لأن أهل بيعة الرضوان ثبت رضا الله تعالى عنهم، فلا يمكن أن يسخط عليهم بعده أبداً؛ لأنه إذا حل رضاه على قوم فلا يسخط بعده أبداً.
ثبت أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، ولما كان في غزوة حنين وتقابلوا مع هوازن، وكانت هوازن معها نبال شديدة انهزم الكثير من الصحابة، فعند ذلك أمر العباس بأن يصيح وينادي: يا أصحاب الشجرة. فلما سمعوا ذلك قالوا: لبيك لبيك. ولووا أعناق رواحلهم وجاؤوا مسرعين نحو الصوت، تذكروا هذه البيعة، ولا شك أن هذا دليل على أنهم أوفياء بما عاهدوا الله تعالى عليه.
كذلك هذه الآية في سورة التوبة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100] هذه الآية ذكر الله تعالى فيها نوعين من الصحابة، الأول هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والثاني هم الأتباع من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة أو من غير مكة من القرى إلى المدينة، والأنصار هم الذين أسلموا من أهل المدينة ونصروا الله تعالى ورسوله.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] قيل: إن المراد الذين أسلموا بعد الفتح، وقيل: الذين أسلموا بعد صلح الحديبية. وقيل: المراد الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة. أي: ساروا على طريقتهم، وتمسكوا بسنتهم فهؤلاء جميعهم من أتباعهم، فهؤلاء المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم، فما أعظمها من فضيلة أن يرضى الله تعالى عنهم وأن يثبت الله تعالى رضاه عنهم.
إذاً من أثبت الله رضاه عنهم لم يكن منهم بعد ذلك ما يوجب سخط الله، ولا يمكن أن يثبت الله أنه رضي عنهم وهو يعلم أنهم سيسخطون ربهم فيما بعد ذلك، ولم يوجب للتابعين ذلك إلا بشرط الإحسان فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، ولم يقل: اتبعوهمَ فقط، بل: (بِإِحْسَانٍ)، فأوجب للمحسنين من أتباعهم الرضا، فمن كان من التابعين ومن بعدهم يتنقصهم لم يقم بالإحسان، ولم يكن حرياً بالإحسان، فلا مدخل له في ذلك، فالذين جاؤوا من بعدهم ولكنهم يتنقصونهم ويعيبونهم ويقدحون في خلافتهم لا شك أن مثل هؤلاء لم يتبعوهم بإحسان بل اتبعوهم بإساءة. فأساؤوا صحبتهم، وأساؤوا سمعتهم، وسبوهم وتنقصوهم، فأين هم من الإحسان؟! ليسوا من أهل الرضا.
يقول: [ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه].
الذي يغيظه مكانهم كافر، دليل ذلك هذه الآية في سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، ثم وصفهم بصفات فقال: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29] هكذا مثلهم الله، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].
فنقول: أيها الذي غاظوك، والذي وقع في قلبك حقد عليهم! لا تأمن أن تدخل في هذه الآية، فإنه يغيظ بهم الكفار، فإذا غاظتك مواقفهم فلست من المؤمنين بل أنت من الكافرين. وهكذا كل من غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه وهو الكفر، فقد أخبر بأنه جعلهم غيظاً للكفار.
وقد قرأت لبعض متأخري الشيعة لما ذكر هذه الآية قال: إن الله تعالى يقول في آخرها: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ [الفتح:29] يقول: إن (من) للتبعيض، فيدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قلة قليلة منهم، وأما الباقون فليسوا ممن وعدهم الله. هكذا يقول هؤلاء الرافضة، وهو أنهم يجحدون الفضائل، وتناسى أول الآية التي فيها أن الله أخبر بأنهم رحماء بينهم وأشداء على الكفار، وأنهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وأن سيماهم في وجوههم، فقوله: (منهم) ليس المراد به التبعيض، وليس المراد به أن الذين يستحقون العمل الصالح جزء منهم يسير.
ثم يقال أيضاً: ما الذي دلك على أن هذا التبعيض يخرج الخلفاء الراشدين؟! الخلفاء أولى بأن يدخلوا في هذه الآية.
ثم ذكر آية أخرى هي قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، في هذه الآية ذكر الله أنه يستخلفهم في سورة النور، فقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، والخطاب بـ(منكم) لا شك أنه يدخل فيه الصحابة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]، أليس الله تعالى استخلفهم في الأرض؟! لقد استخلفهم في الجزيرة، واستخلفهم في البلاد الإسلامية كلها التي دخل فيها الإسلام، وثبت أن أول الخلفاء هو أبو بكر ثم الخلفاء بعده.
خاطبهم بقوله: مِنْكُمْ [النور:55]، ثم قال بعد ذلك: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وهذه الثلاثة حصلت في عهد أبي بكر وعمر والخلفاء بعده، استخلفهم الله في الأرض، وكانت خلافتهم راشدة.
وكذلك مكن لهم دينهم الذي ارتضاه لهم بأن اتضح لهم الإسلام، وشرحت تعاليمه، وعرفوه حق المعرفة، وتبين لهم كيف يعبدون ربهم، وتبينت لهم التفاصيل التي فرضت عليهم، فمكن الله تعالى لهم دينهم، ثم أزال عنهم المخاوف والأحزان التي كانت تعتريهم عندما كانوا في الجاهلية، فأصبحوا آمنين لا يخافون، وأبدلهم الله تعالى بعد الخوف أمناً، وبعد الذل عزاً، وبعد القلة كثرة، وبعد الضعف قوةً، حتى تمكنوا ومكنوا إخوانهم من المؤمنين فصاروا يعبدون الله تعالى على بصيرة، فتحققت هذه الوعود الثلاثة، ولقد وفوا بقوله تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] وفوا بذلك رضي الله عنهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعد الله آمنين يغزون ولا يُغزون].
يعني: صاروا بذلك آمنين، صاروا يغزون الناس ولا يتجرأ أحد أن يغزوهم، ويخيفون العدو ولا يخيفهم عدو من الأعداء، والأعداء ولو كانوا بعيدين ترجف قلوبهم إذا سمعوا أن المسلمين قد توجهوا إليهم، ويقع في قلوبهم الرعب الذي ذكره الله في قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26].
ثم ذكر أن الله تعالى قال للذين تخلفوا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في الغزوة التي ندبهم فيها -وهي في غزوة تبوك-: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83].
هذه نزلت في المنافقين، وذلك لأن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك لما أنهم تخلفوا وبعد ذلك استأذنوه للخروج مرة أخرى قال لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83].
فلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الإذن في الخروج للعدو لم يأذن لهم، فأنزل الله تعالى الآيات التي في سورة الفتح: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح:15]، فهؤلاء أعراب تخلفوا عن غزوة خيبر وعن غيرها من الغزوات، فعند ذلك لما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخرج ويصيب من العدو مغنماً قالوا: ائذن لنا أن نتبعك. والله تعالى قد منعه وقال له: فقل لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا [التوبة:83]، فهذا الكلام أمر من الله أنه يمنعهم من الخروج، فقال لهم: إن الله تعالى قد منعكم. وهم يريدون أن يبدلوا كلام الله فقال: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا [التوبة:83]، كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح:15]، يعني: هذا كلام الله تعالى الذي أمر بأن لا تخرجوا، فقالوا: بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15].
ثم قال تعالى له: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16]، وهذه الآيات في الأعراب الذين لم يكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإذا رأوا أن المسلمين سوف يغنمون طلبوا أن يخرجوا معهم حتى يقاتلوا معهم، وإذا خافوا أنهم لا يغنمون تخلفوا وقالوا: ائذن لنا حتى لا نخرج؛ فإننا منشغلون، وإن بيوتنا عورة ونحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه, وبقي منهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فأوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب الأليم، إيذاناً من الله بخلافتهم] بمعنى أن الله تعالى أمرهم فقال: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الفتح:16]، فمتى دعوا؟ ومن الذي دعاهم؟ لقد دعاهم أبو بكر ثم عمر .
ستدعون إلى القتال إلى قوم: أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الفتح:16]، فدعاهم أبو بكر رضي الله عنه، وكان ذلك دليل على أن خلافة أبي بكر حق، وكذلك خلافة من بعده.
قال رحمه الله تعالى: [إيذاناً من الله عز وجل بخلافتهم رضي الله عنهم ولا جعل في قلوبنا غلاً لأحد منهم، وإذا ثبتت خلافة واحد منهم انتظم منها خلافة الأربعة رضي الله عنهم].
فيقال للذين قد غاظهم مكانهم: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، فإن الله تعالى قد رفع مكانة صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل لهم المحبة والمودة في قلوب المؤمنين، وحفظ بهم هذا الدين، وجعلهم خلفاً بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، فحفظوا على الأمة الإسلامية الدين، وحفظوا القرآن ودونه من حفظه منهم، وبثوه وكتبوه في المصاحف، وفسروه للأمة وبينوه، وحفظ بهم السنة والشريعة، فحفظها على من بعدهم، وجعل الله في قلوبهم المحبة للإسلام ولأهله، فنصحوا للمسلمين وبلغوهم الشريعة الإسلامية، وحرصوا على أن يكونوا دعاة إلى الله تعالى، فبذلوا في نصحهم لإخوانهم المسلمين النفس والنفيس، وتركوا بلادهم وأولادهم وأموالهم وغزوا في سبيل الله، وتعرضوا للقتل وللأذى وللتعب كل ذلك لنصر الإسلام ولنشره في ربوع البلاد الإسلامية، وللقضاء على الكفر والفسوق والعصيان والبدع.
فكيف مع ذلك يطعن فيهم؟! وكيف يدعى بأنهم كفار ومرتدون؟! فإذا كانوا مرتدين وكفاراً ولم يبق على الإسلام منهم إلا أفراد قلة، فمن الذي حفظ لنا الإسلام؟! ومن الذي نقل لنا القرآن؟! ومن الذي نقل لنا السنة؟! ومن الذي نقل لنا العبادات من الصلوات والزكوات والصيام والحج والجهاد والبيع والشراء والتجارة والحلال والحرام والأحوال الشخصية والعقود والجنايات والآداب والأخلاق؟! ما نقلت إلا بواسطتهم، فإذا كانوا كفاراً فإن هذه تكون باطلة ولا نكون على دين، ولا يكون هناك دين إسلامي.
فالذين طعنوا في القرآن وادعوا أنهم حذفوا منه الثلثين أو أكثر معناه أن الله ما حفظ على الأمة إسلامها، وما قامت الحجة على المتأخرين، مع أن الله تعالى يقول: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149]، فإذا لم يكونوا ثقات عدولاً فمن الذي حفظ لنا الإسلام؟! إذاً لا نكون على إسلام صحيح.
وكذلك حفظوا السنة حتى دونت في الصحيحين والسنن والمسانيد والمجاميع والكتب، حفظوها حتى دونت ورويت عنهم بالأسانيد الصحيحة، فإذا كانوا كفاراً أو مرتدين فمعناه أن هذه الثروات الكبيرة التي هي هذه الأحاديث النبوية غير صحيحة؛ لأنها نقلت عن هؤلاء الذين هم مرتدون على حد تعبير خصومهم، فبطلت بذلك السنة بأكملها، ولاشك أن هذا طعن كبير في هذه الشريعة الإسلامية.
ثم إذا اتفقنا على أن الله تعالى حفظ القرآن كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فإن هذا القرآن الذي حفظه إنما جاء بواسطتهم.
ففي سورة المائدة قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وفي آخر سورة الأنفال قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72] إلى آخر السورة، كل ذلك في مدحهم.
وفي سورة التوبة قول الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ [التوبة:100]، إلى قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:118].
وكذلك قوله: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120].
وهكذا قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] أربعون ألفاً من الصحابة اتبعوه في ساعة العسرة، أي: في غزوته إلى تبوك، هؤلاء قد تاب الله عليهم ورضي عنهم.
وكذلك قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
وكذلك قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الحشر:8]، وكذلك قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، إلى قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10].
ونحن نقوله ونرجو أن نكون من المعتقدين له: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، والغل الحقد والحسد والبغضاء، فمن كان في قلبه غل لهم فإنه شقي ليس من أتباعهم حقاً.
وهذه الآيات في سورة الحشر فيمن يستحق الفيء، فإن الآيات في تقسيم الفيء الذمي هو: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8]، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا [الحشر:10]، فالذين جاؤوا من بعدهم إن كانوا يدعون على الصحابة ويكفرون من آمن قبلهم فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقونه، هذا استنباط الإمام أحمد رحمه الله.
ثم إن المؤلف استنبط من بعض الآيات خلافة الخلفاء، فمن ذلك الآية التي في سورة النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55] فقوله: (منكم) لا شك أن الخطاب واقع للصحابة، وأن الصحابة هم الذين استخلفوا في الأرض، وقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55] شهادة لهم بأنهم آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم وعدهم بثلاثة أشياء:
الأول: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55].
الثاني: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]، وهذا قد حصل.
الثالث: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، وهذا أيضاً قد حصل، فإن الله تعالى قد أبدلهم بعد خوفهم أمناً، فأمنوا بعدما نشروا دين الله تعالى وانتشر الإسلام في أطراف البلاد فأمنت البلاد، فأصبح الناس إخواناً لا يعرض أحد لأحد، يسافر الرجل وحده ولا يعرض له أحد، وقد بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليوشكن أن ترى الظعينة ترحل من عدن حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله)، وعدن في أقصى اليمن كما هو معروف، وقد وجد ذلك في عهد الصحابة، والظعينة: هي المرأة تركب على بعير لوحدها. ولو كانت منهية عن السفر، ولكن معناه أنه وجد أمن حتى لو سافرت وحدها لرجعت إلى أهلها دون أن تخاف على شيء أبداً، وهذا واقع أيضاً.
وبكل حال فهذا قد تحقق مبدؤه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد ذلك في عهد الخلفاء رضي الله تعالى عنهم.
ثم إن الله تعالى أخبرهم بالمنافقين الذين أسلموا ظاهراً ولم يؤمنوا باطناً، وتخلفوا عن غزوة تبوك، وعاتبهم الله تعالى بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا [التوبة:83].
ثم أخبر بأنهم سوف يطلبون الخروج حتى يبدلوا كلام الله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] يريدون أن يغيروا كلام الله، فقال له في سورة التوبة: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا [التوبة:83]، ثم قال في سورة الفتح: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16]، فمتى دعوا؟
دعوا في عهد الصحابة وعهد الخلفاء الراشدين، سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16]، فهذا حصل في عهد الخلفاء، أنهم رضي الله عنهم دعوا هؤلاء الأعراب وغيرهم من المتخلفين، فمنهم من أطاع ومنهم من لم يطع، فوعد الله الذي أطاعوا بأن يثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتوعد الذين تولوا بأن يعذبهم عذاباً أليماً.
والذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي من هم في خلافة الخلفاء ما أوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب إيذاناً من الله بخلافتهم.
ولا شك أن هذه أدلة واضحة على خلافتهم، وكذلك على فضلهم، فيعتقد المسلم أنهم خير الأمة، ولا يكون مثلهم بعدهم، فهم خير قرون الأمة، زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الناس قرني -أو: القرن الذين بعثت فيهم- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
ولاشك أن هذه التزكية واقعة على الصحابة؛ إذ هم القرن الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة خير من الذين بعدهم من تلامذتهم وأولادهم -من حيث العموم-، ولأجل ذلك اتفق العلماء على عدالتهم، فإذا روى الحديث صحابي لم يسألوا عنه، بل يقولون: الصحابة كلهم عدول لا نتردد في أحد منهم؛ وذلك لأن الله تعالى زكاهم في هذه الآيات: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، فهذه التزكية تسبب قبول رواياتهم، وتسبب أيضاً الترحم عليهم.
هذا ما يعتقده كل مسلم، ولا عبرة بمن انحرف عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكر شيخ الإسلام : أن أهل السنة وسط في الصحابة بين غلاة وجفاة، ولكن في الحقيقة الغلو والجفاء كله في الرافضة، فإنهم غلوا في حق علي وذريته، وجفوا في حق الباقيين.
فغلوهم في علي وذريته الذين يسمونهم أهل البيت هو أن دعوهم من دون الله، وجعلوهم مقبولي الرواية، وعلقوا عليهم ما ليس لهم، وجفاؤهم في حق الباقين التكفير والتضليل والتنديد بهم، مع أن الخوارج أيضاً قد جفوا في حق علي وكفروه، وكذلك كفروا أكثر الصحابة الذين معه بل أكثر المسلمين، وادعوا أنهم مرتدون، وذلك لأن الخوارج يكفرون بارتكاب الذنب، فصار الخوارج جفاة في حق علي وذريته، والرافضة غلاة في حقهم جفاة في حق بقية الصحابة.
الجواب: معلوم أن الرافضة حدثوا في وسط القرن الأول ولكنهم كانوا قلة، ثم صاروا يتمكنون ويزدادون قوة إلى أن صار لهم مكانة، ولكن طوال هذه القرون كانوا أذلة لم يتمكنوا، ولما رأوا أنهم لابد يختلطوا بالناس رأوا كتمان أمرهم، ورووا عن جعفر الصادق أنه كان يقول: (التقية ديني ودين آبائي)، فصاروا يتعاملون معنا بالتقية، بمعنى أنهم إذا لقوا أهل السنة أخذوا يمدحون السنة ويترضون عن الصحابة ويمدحونهم، ولكن قلوبهم ممتلئة غيظاً وحقداً عليهم، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، فيتصفون بصفات المنافقين، هذه عقيدتهم، وأدلة ذلك كثيرة والواقع يشهد بذلك.
فإذا قرأنا في كتبهم التي فيما بينهم وجدناهم يصرحون بمعتقدهم، فيسبون الصحابة رضي الله عنهم، ويحملون الآيات ما لا تحتمله، فيقولون في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]: الجبت والطاغوت أبو بكر وعمر هكذا يقولون.
ويقولون في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] قالوا: يدا أبي لهب أبو بكر وعمر !!
ويقولون في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] البقرة هي عائشة بنت أبي بكر . هكذا يقولون!
ثم تأويلاتهم في كتب تفاسيرهم أمرها عجائب، لهم تفاسير ولكن أكثر تفاسيرهم التي في إيران والعراق يخفونها ويكتمونها، ولكن بعد أن طبعت لم تعد خفية.
فنحن نقول: إذا رأيتم وعلمتم أن هؤلاء من الرافضة الذين يسمون أنفسهم شيعة فخذوا حذركم منهم، وكونوا على حذر، وذلك لأنهم يضمرون العداوة لكل أهل السنة، ويودون أن يفتكوا بهم بكل ما يستطيعون، وتتقطع قلوبهم حسرة وغيظاً على كل من هو من أهل السنة، ويحبون أن يوصلوا إلى أهل السنة ما يستطيعونه من الأضرار، والشواهد كثيرة، والحكايات عنهم في ذلك مشهورة.
حتى إن بعض الإخوان في مكة ذكر أنه كان بجوارهم في الموسم بعض من الجعفرية، يقول: فكنا إذا خرجنا نحو المسجد ولقيناه فصافحناه بأيدينا رجع يغسل يديه؛ لأنه يعتقد أن أيدينا نجسة، فيرجع يغسلها حتى لا يصلي بهذه النجاسة، وفي زعمه أن أيدينا نجسة. والمكائد التي نقلت عنهم كثيرة.
وإذا قدر أن فيهم من هم قريبون من الحق فإننا نجادلهم ونبين لهم، فإذا هداهم الله تعالى ورجعوا وتركوا مذهبهم فلا بأس، وقد رجع كثير من شبابهم لما رأوا الأمور التي في مذهبهم والتي تضحك المجانين، وعرفوا بذلك بعدهم عن الصواب.
الجواب: هذا كان في أوائل القرن الرابع عشر، أي: في حدود سنة (1310) إلى حدود سنة (1350)، حين كان الرافضة الذين في إيران والعراق يتصلون بأهل مصر والشام ويحاولون التقريب، ويقولون: نحن مسلمون. ثم يذكرون خصالهم التي يتمدحون بها، فيقولون: لماذا نتفرق؟ ولماذا يحصل هذا التفريق بيننا وبينكم وأنتم مسلمون ونحن مسلمون؟ فما الفرق بيننا؟ هكذا يقولون.
ثم انتبه لهم بعض العلماء، وانخدع بهم كثير من علماء مصر وقالوا: إنهم إخواننا وإنهم مسلمون. وممن انتبه لهم: محب الدين الخطيب رحمه الله، وذلك لأنه عندما نظر إلى ما يدعون إليه من التقريب وما هو التقريب الذي يريدونه نظر إلى أنهم يجتذبوننا إلى أن نصير مثلهم، وإلى أن نتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر ونسبهما، وكذلك أيضاً نتبرأ من الصحابة ونطعن فيهم وما أشبه ذلك، ونرد كتب الصحيح ونتبرأ منها، هذا هو التقريب الذي يريدونه، فعند ذلك ألف رسالته المطبوعة التي صارت غيظاً لهم، وسماها (الخطوط العريضة).
ولما فطن لهم قال: هذا التقريب الذي يدعوننا إليه ليس تنازلاً منهم عن شيء من عقيدتهم، فما قالوا: تنازلوا عن شيء من عقيدتكم ونتنازل نحن عن شيء من عقيدتنا. ولا قالوا: اتركوا بعضاً من التشدد ونحن نترك بعضاً من التشدد. بل قالوا: ندعوكم إلى أن تتبرؤوا من الشيخين، وتتبرؤوا من الصحيحين اللذين فيهما أحاديث مكذوبة، وتقولوا كذا وكذا. هذا هو التقريب الذي يزعمونه.
وانتبه لهم أيضاً عالم آخر رد عليهم، يقال له: ابن جبهان وله الكتاب المطبوع الذي اسمه (تبديد الظلام وتنبيه النيام)، وفيه بيان لما يدعون إليه من هذا التقريب، وبيان أن تقريبهم إنما هو دعوة إلى عقيدتهم. هذا هو الصحيح.
فنحن نقول: أهل السنة قبلكم، وأنتم ما أحدثتم إلا في آخر القرن الأول وما بعده، فإذا كان أهل السنة قبلكم فلماذا تدعونهم إلى شيء حادث متجدد؟! وإذا كان كذلك فنحن ندعوكم إلى التقريب، نحن نترضى عن أهل البيت الذين تترضون عنهم، فأنتم تقولون: نحن نحب أهل البيت. ونحن كذلك نحب أهل البيت، ولكن لسنا مثلكم نعبد أهل البيت كما تعبدونهم، ونحن نحب بقية الصحابة وأنتم تبغضونهم وتلعنونهم، فأين التقريب؟! ونحن نتمسك بالقرآن وأنتم تطعنون فيه وتدعون التحريف فيه وأن الصحابة خانوه وحذفوا أكثر من ثلثيه مما يتعلق بولاية أهل البيت وبفضائل أهل البيت، حذفوا منه أكثر من عشرة آلاف آية على حد زعمهم.
ويقولون: إن جعفر الصادق -وقد كذبوا عليه عشرات الآلاف من الكذب- كان يقول: عندنا مصحف فاطمة مثل مصحفكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه آية من مصحفكم هذا. فأين هذا المصحف الذين يقولونه؟! فعرف بذلك أنهم أعداء ألداء لأهل السنة، فلا يعتبر تقريبهم الذي يدعونه.
الجواب: يمكن أن يكون هذا صحيحاً، وقد قال ذلك المتقدمون، فـابن القيم يقول في النونية:
إن الروافض شر من وطئ الحصى من كل إنس ناطق أو جان
ويدل على ذلك أفعالهم، وقد طبع كتاب يتحدث عن المقاربة بين اليهود والرافضة يذكر فيه كاتبه أن الرافضة قالوا كذا واليهود سبقوهم، وأن الرافضة قالوا كذا واليهود سبقوهم، وأن الرافضة واليهود اجتمعوا على مقالة كذا وكذا.
ثم بتتبع التاريخ يعلم أن كل نكبة حصلت على الإسلام والمسلمين سببها الرافضة، فمن ذلك القضاء على الخلافة في العراق، وقتل الخليفة العباسي المستعصم، وسبب ذلك أن الرافضة تمكنوا وكثروا في العراق وبالأخص في بغداد، وكان وزير الخليفة يقال له: ابن العلقمي وهو رافضي خبيث، كان يحب أن تنتقل الخلافة من آل العباس إلى آل علي ، فهو الذي مكن لـهولاكو رئيس التتار أن يخدع الخليفة فخرج إليهم، فلما خرج إليهم الخليفة قبضوا عليه وجعلوه في كيس وداسوه بالأرجل إلى أن مات، ثم بعد ذلك دخلوا بغداد، وماذا حصل؟
قتل فيها مئات الألوف أو ألوف الألوف، وسفكت فيها الدماء حتى كادوا ألا يبقوا أحداً، هذه المصيبة كلها بواسطة هذا الخبيث الذي هو ابن العلقمي.
الجواب: لا شك أنه خليفة راشد من الخلفاء الراشدين.
فأولاً: رضيه الصحابة وولوه.
وثانياً: أنه لم يبطل شيئاً من الجهاد، بل الجهاد مستمر في عهده، والغزو والفتوح تواصلاً في عهده رضي الله عنه.
وثالثاً: أن سيرته أتم سيرة، فهو الذي نسخ المصاحف وأرسلها إلى الآفاق، وأمرهم بأن يقتصروا عليها ويقرؤوها، وكان أيضاً في سيرته عابداً أشد العبادة، كما قيل عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وتحميداً
فهذه سيرته في نفسه.
أما كونه قرب أقاربه فهذا ليس بعيب عليه، ولا ينكر عليه إذا قرب مثلاً بعض أقاربه كـمعاوية ، مع أن معاوية ولاه قبله عمر رضي الله عنه على الشام، وكان حازماً فيه قوة وشجاعة وإقدام، وحصل في زمنه فتوح كثيرة، كذلك أيضاً كونه قرب مروان بن الحكم وجعله كاتباً عنده لا يستنكر ذلك عليه، لكن الثوار من الأعراب هم الذين استنكروا هذا التقريب وقالوا: كيف تقرب ابن عمك هذا؟ فإنك ما قربته إلا لأجل الحمية ونحو ذلك!
فهو يقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص أقاربه من بني هاشم بسهم ذوي القربى، وأنا رأيت أن هؤلاء هم ذوي القربى. فلا ينكر عليه.
الجواب: لا بأس بذلك مع الاعتذار عنهم أنهم مجتهدون، وأن نكف عن كل ما شجر بينهم من الخلاف، ونقول: أمرهم إلى الله تعالى، ونعرف أن الحوادث هذه التي حدثت كثير منها لا صحة له بل هو مكذوب، والذي منه صحيح هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد وخطؤهم مغفور.
الجواب: وردت أدلة في إجابة الدعوة، ولكن ذلك محمول على حالات خاصة، وهي إذا كان التخلف يسيء الظن بالمتخلف فيقال: امتنع عن هذه الدعوة فذلك دليل على أنه حاقد علينا. أو: إنه لم يرض. أو: يبغضنا. أو نحو ذلك، فلذلك قالوا: الوجوب الذي ورد في حديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله) خاص في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة.
فأما هذه الدعوات التي هي إما بطاقات تفرق أو نشرات أو نحوها فأرى أن الإنسان إذا أجاب فلا بأس حتى يجيب أصحابه وإخوته، وإذا اعتذر أو كان له عذر فلا حرج.
الجواب: معلوم أن الطفل الذي في سن الرابعة لا يملكه أبواه، فهو كثيراً ما يتقلب، وكثيراً ما يذهب ويجيء ويصعد وينزل، ولا يستطع أبوه ولا أمه أن يتحكما فيه أو أن يمسكاه، فأظن أنه لا كفارة على الأم؛ لأنها لا تستطيع أن تملكه، ولا على الأب في كونه أحضرهما إلى هذه المزرعة، ولا على صاحب المزرعة الذي جعل هذه البركة مكشوفة، فكل منهم لم يصدر منه ذنب يستحق به أن يدفع دية أو أن يصوم كفارة.
الجواب: ننصحك بأن تكرر قراءة العقيدة مرة بعد مرة، وكذلك أيضاً تقرأ الأدلة التي ترسخها في القلب وترسيها، وننصحك أن تكثر من قراءة القرآن؛ فإن العقيدة مأخوذة من أدلة القرآن والسنة، وننصحك بكثرة الاستعاذة من الشيطان والبعد عن وساوس الشيطان وأوهامه وتخيلاته، فلعلك إذا ابتعدت عن ذلك كله زالت عنك تلك الشكوك.
الجواب: هو كغيره من التفاسير، والصابوني معلوم أنه على عقيدة الأشاعرة، ولكن لكونه في هذه البلاد التي ظهر فيها مذهب أهل السنة لم يستطع أن يفصح بعقيدته كما أفصح الأولون بعقيدتهم من إنكار الاستواء وصفة العلو. والصفات الفعلية، وتأويل الرحمة والمحبة والغضب والرضا وما أشبه ذلك تأويلاً ظاهراً، وتأويل صفات الوجه واليد والساق وما أشبه ذلك، فهو ينكر هذه الصفات، وتأويله لها تأويل خفي لا يتفطن له، أما المتقدمون من الأشاعرة مثل الرازي والبيضاوي والنسفي ونحوهم فإنهم يصرحون بالتأويل، ويردون ذلك رداً واضحاً.
وبكل حال ففيه فوائد، ولكن الذي يكون جاهلاً بأمور العقيدة ينبغي أن يتجنب ما فيه من الأمور التي فيها شيء من المخالفة في العقيدة، أو يقرأه على عالم حتى ينبهه على الأخطاء العقدية التي فيه.
الجواب: معلوم أن الصيام عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى، واصطفاها لنفسه في قوله: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)، والإنسان ينبغي له أن يعود نفسه على الصوم حتى يحب العبادة التي يحبها الله تعالى، وأقل شيء أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وأفضلها أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأخبر بأنها أيام البيض؛ لكون لياليها بيضاً وأيامها بيضاً، فصيامها ورد فيه فضل: (إذا صمت فصم من الشهر ثلاثاً، فصم ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر).
وإن صام غيرها أجزأه ذلك، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يصوم ثلاثة من أول الشهر، فإذا قيل له: ألا تصوم أيام البيض يقول: وما يدريني أني أدرك البيض؟
وبعضهم يفضل أن يصوم من كل أسبوع يومي الاثنين والخميس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليهما، ويقول: (إنها تعرض الأعمال فيهما، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)، فمن صام الاثنين والخميس، أو أيام البيض، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو ثقل عليه في أيام الحر مثلاً وأجلها إلى الأيام التي يكون فيها الحر خفيفاً كان له بكل ذلك له أجر إن شاء الله.
الجواب: ننصحك بأن تتوب فيما بينك وبين الله تعالى؛ فإن التوبة تمحوا الذنب، والندم توبة، فحقق شروط التوبة:
أولاً: أنك تظهر الندم والأسف على ما وقع منك من هذه الكبيرة ومن هذا الذنب.
ثانياً: عاهد ربك على أن لا تعود ولا يتكرر منك هذا الذنب في بقية حياتك.
ثالثاً: أكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة، فإن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر