[كتاب العتق.
يسن عتق من له كسب ويكره لمن لا قوة له ولا كسب، ولا تصح الوصية به، بل تعليقه بالموت وهو التدبير، ويعتبر من الثلث.
وتسن كتابة من علم فيه خيراً وهو الكسب والأمانة، وتكره لمن لا كسب له.
ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتبه، فإن أدى عتق، وولاؤه لمنتقل إليه.
وأم الولد تعتق بموت سيدها من كل ماله، وهي من ولدت ما فيه صورة ولو خفية، من مالك ولو بعضها، أو محرمة عليه، أو من أبيه إن لم يكن وطئها الابن، وأحكامها كأمة إلا فيما ينقل الملك في رقبتها أو يراد له.
ومن أعتق رقبة أو أعتقت عليه فله عليها الولاء، وهو أنه يصير عصبة لها مطلقاً عند عدم عصبة النسب].
العتق: هو إزالة الرق، أو هو: تحرير الرقاب وإزالة الرق عنها.
يقول: (يسن عتق من له كسب).
السنن ما فيها أجر وثواب، وقد ورد ما يدل على عظم الأجر، وهو مشهور قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه) ، وهذا دليل على فضل العتق.
الأصل أن الرق إنما يجوز لأجل الكفر، يقولون في تعريف الرقيق: هو عجز حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر. هكذا عرفوه، وذلك لأن الكفار تعبدوا لغير الله وعبدوا غيره، فصاروا عبيداً للشيطان، ومن عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإذا كانوا كذلك فإن الله أباح استرقاقهم، فإذا استولى عليهم المسلمون فإنه يجوز استرقاقهم واستعبادهم، ويكونون ملكاً لمن استولى عليهم؛ وذلك لأنهم لما خرجوا عن عبودية الله، وبلوا برق النفس والشيطان، فكان من أثر ذلك أن أباح الله استرقاقهم، وأنهم يكونون من ملك اليمين.
فنساؤهم يملكهن من استولى عليهن، ورجالهم كذلك، فالمملوك يصير رقيقاً لمن كان تحت يده، فيستخدمه ويلزمه بما يلتزم به، وكذلك الأمة يستخدمها، ويطؤها كسرية، فتكون حلالاً له؛ لقول الله تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6] ، فجعل الاستمتاع بملك اليمين حلالاً.
وقد أمر الله تعالى بحسن الملكة، وجعل للمماليك حقاً من الحقوق العشرة في آيات الحقوق العشرة، وهي قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، أي: أحسنوا إليهم، فجعل لهم حقاً مع الوالدين والأقربين ونحوهم، فإذا كان كذلك دل على أن الإسلام جاء بالإحسان إليهم.
والجواب: أولاً: أنه ما استبيح إلا لأنه كان عبداً للشيطان، كافراً بالله تعالى، فلما كان كافراً أباح الله للمسلمين إذا تغلبوا عليه أن يسترقوه وأن يجعلوه مملوكاً لهم، بدل ما كان عبداً للهوى والنفس والشيطان.
ثانياً: معلوم أنهم إن استولوا على النساء وعلى الأولاد، فإنهم يستولون عليهم ويكونون مماليك، وأما الرجال والأكابر فقد يخيّرون إذا استولوا عليهم بين أربعة أشياء:
بين أن يكونوا أرقاء ولو كانوا كباراً.
وبين القتل لأنهم كفار.
وبين المنّ عليهم.
وبين أخذ الفدية.
قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] يعني: أوثقوهم وأسروهم فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] فخيرهم بين المن وبين الفداء، ولما أسر الذين أسروا في غزوة بدر منَّ النبي صلى الله عليه وسلم على بعضهم، وفادى ببعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك استرق بعضهم، فكان هذا هو الذي جاء به الإسلام.
معلوم أنه إذا كان رقيقاً وهو كافر، فإن صاحبه الذي هو في ملكه قد يبيعه، فتشتريه أنت وتبذل ثمنه، فإذا أسلم بقي مملوكاً حتى لا يضيع مالك الذي بذلته فيه، فيبقى على رقه بعد أن يسلم؛ وذلك لأنه أصبح مملوكاً، وأصبح مالاً متمولاً، ولو كان من أسلم تحرر لضاعت أموال كثيرة.
فالمسلمون يتبادلون هؤلاء الأرقاء فيبيع هذا ويشتري هذا، فإذا اشتراهم وهم أرقاء ثم أسلموا بقوا على رقهم، وحق له أن يستخدمهم، وله أن يبيعهم، وله أن يعتقهم.
وكذلك في كفارة القتل: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] جاء في هذه الآية (مؤمنة) في ثلاثة مواضع: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] ، فذكر الله تحرير رقبة مؤمنة في ثلاثة مواضع في هذه الآية، فيحمل قوله في سورة المجادلة: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] على أنها مؤمنة؛ لأن الأجر فيها.
وكذلك في كفارة اليمين في قوله تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] ثم قال: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89] ثم قال: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89] ، فالرقبة هنا أيضاً أطلقت، ولكن يحمل المطلق على المقيد، لأن الأجر يكون في تحرير الرقبة المؤمنة، فيقولون: لا بد أن تكون مؤمنة، وكذلك في كفارة الوطء في نهار رمضان، جاء في السنة الأمر بعتق رقبة مؤمنة.
كذلك أيضاً ورد عن أبي مسعود أنه سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب عبداً له، فقال: (اعلم
وورد أيضاً النهي عن التمثيل بالمملوك، في حديث: (من لطم عبده لطمناه، ومن مثّل بعبده فإنه يعتق، من جدع عبده جدعناه) يعني: عقوبة له على هذا الفعل.
كما جاء الأمر بإحسان الملكة، أي: الإحسان إلى المملوك، حتى ورد في حديث: (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه ليأكل، فإنه ولي حره وعلاجه، فإن لم يفعل فليناوله لقمة أو لقمتين) بمعنى: أن عادة السيد أن يكون له الطعام الحسن الشهي، والذي يتولى إصلاحه هو عبده، فإذا جاءه به فعليه أن يطعمه معه، وأن يجلسه معه.
وقد عمل بذلك أبو ذر لما أنه عيّر رجلاً بأمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه؟ هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) ، فكان أبو ذر إذا لبس حلة ألبس مملوكه مثلها، ويساويه بنفسه، وإذا اشترى حذاء اشترى لعبده مثله، وإذا اشترى عمامة اشترى لعبده مثلها، وكذلك أيضاً يواسيه: فلا يأكل إلا معه؛ يواسيه في الأكل، يواسيه في الشرب، وفي اللباس، وما أشبه ذلك، كل ذلك حرصاً منه على حفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم).
ثم استحباب العتق خاص بمن له كسب، أي: من إذا أعتقته قدر على أن يكتسب أموالاً ويغني نفسه، هكذا استحبوا.
يعيبوننا ويقولون: كيف تستحلون ملكية الإنسان، وتجعلونه كسلعة؟ ولا يفكرون في حالتهم هم، حيث إنهم يقتلون الأطفال، ويقتلون الرجال، ويودعونهم السجون مدة طويلة، فأيما أفضل لهؤلاء المستولى عليهم؟ لا شك أن كونهم يبقون أحياء ينفعون أنفسهم وينتفعون، وقد يتعرضون لأن يكونوا عتقاء يعتقهم من استولى عليهم، ذلك بلا شك خير.
ثم في القرن الماضي في أول القرن الرابع عشر وفي آخر القرن الثالث عشر، كان هناك أناس يسرقون بعض الأطفال ويبيعونهم على أنهم مماليك، فيأتون إلى بعض البلاد التي فيها شيء من الجوع ونحوه، مثل السودان أو الحبشة وتلك البلاد، ثم يستدعون بعض الأولاد الذين في سن العاشرة والحادية عشرة، ويختطفونه فيطعمونه ويكسونه ويقولون: اذهب معنا ونحن نطعمك ونعطيك.. ونحو ذلك.
فيذهب معهم يعتقد أنهم سوف يحسنون إليه، ويأتون إلى هذه البلاد ويبيعونه على أنه مملوك، وكثر بيع هؤلاء الذين ليسوا مماليك، وإنما هم أحرار، فلما كثر بيعهم وقلّ أو انقطع الجهاد من عشرات السنين، رأت الحكومة في هذه البلاد أن أكثر هؤلاء المماليك ليست ملكيتهم صحيحة، وأنهم مظلومون، وأنهم قد بيعوا وهم أحرار، فرأت الحكومة تحريرهم، ففي سنة ست وثمانين صدر الأمر بتحرير كل الرقاب الموجودين في المملكة، وتعويض أهاليهم عنهم، ولو كان عند أحدهم عشرة أو عشرون دفعت الحكومة قيمهم وتحرروا، ولم يبق في هذه البلاد أرقاء.
ولكن إذا حصل قتال مع الكفار ثم حصل الاستيلاء على سبيهم، فإن الرق يعود، وهذا هو الأصل؛ لأن أصله الاستيلاء على سبي المشركين أطفالهم ونسائهم ونحو ذلك، فإذا قوتل مثلاً اليهود واستولي على سبيهم فلا شك أنهم يكونون أرقاء، وكذلك إذا استولي على سبي بعض المشركين والكفار، فلو أن المجاهدين في الأفغان أو في الشيشان يستولون على سبي من سبي الكفار الذين هم شيوعيون كفرة، فإنهم يسترقون، ولكنهم لم يتجرءوا على السبي، لأجل ذلك من استولوا عليه قتلوه، مع أنه قد ورد النهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب؛ وذلك لأنهن لا يقاتلن، وكما ذكر أن في غزوة وجدوا امرأة مقتولة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتل).
لهذا إذا استولى المسلمون في حرب من الحروب الإسلامية التي هي ضد الكفار على سبيهم من نساء وأطفال، فإنه لا يجوز قتل النساء والأطفال، بل إما أن يمنوا عليهم، وإما أن يسترقوهم، وإما أن يفادوا بهم: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] .
ذكر أيضاً أنه يكره عتق من لا قوة له ولا كسب؛ لأن الأرفق به أن يبقى عند سيده، ينفق عليه، فإذا كان هناك مملوك كبير السن، إذا أعتقه فمن الذين ينفق عليه، لكبر سنه وعجزه، إذ لا قوة له، وليس له قدرة على الكسب؟ فبقاؤه في رق سيده ينفق عليه ويقوم بكفايته أولى به من العتق وأفضل، مع أن العتق فيه هذا الأجر الكبير.
فأما الوصية به، أن يقول: إذا مت فأعتقوا من مالي كذا، فهذا لا يصح؛ وذلك لأنه تتعلق به بعد ذلك حقوق الورثة.
أما تعليقه بالموت وهو التدبير فيصح، والتدبير أن يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أشهدكم أني دبرت هذا المملوك أو هذه الأمة.
دبرتها: يعني جعلتها حرة بعد موتي، التدبير معناه: أن يعلق عتقه بموته، فيقول: إذا مت فعبدي حر، لماذا سمي تدبيراً؟ لأنه دبر حياته باستخدام العبد، ودبر ما بعد الموت بحصول أجر العتق، فما دام مدبراً فإنه يستمتع به فيستخدمه، وكسبه له، وإن كانت أمة فله وطؤها؛ لأنها لم تخرج عن ملكه، فيكون بذلك كأنه دبر حياته ودبر ما بعد الموت، هذا تعليقه بالموت وهو التدبير.
وإذا دبره وعتق بعد موته عتق من الثلث، إن خرج من الثلث خرج كله، وإن لم يخرج عتق منه بقدر ثلث ماله إلا أن يجيز الورثة ما زاد على الثلث، هذا المدبر في حديث جابر ذكر أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر، ليس له مال غيره، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه ثمنه، وقال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها..) إلى آخره. فدل على جواز بيع المدبر، إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، أو: إذا مت ففلان حر، فإنه يجوز له في الحياة أن يبيعه وينتفع بثمنه، فإذا باعه بطل التدبير، وإذا دبره وعتق بعد الموت فإنه لا يعتق إلا إذا خرج من الثلث، فإن كان أقل من الثلث عتق منه بقدر الثلث بما في ذلك قيمته.
هذا يسمى المكاتب، وقد ذكر في القرآن، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] وصورة ذلك أن يقول العبد: أنا أشتري نفسي وأستطيع أن أحرر نفسي، أعمل لنفسي، وأؤدي دين الكتابة، فيتفق مع سيده على أن يشتري نفسه بثمن مقسط، يؤدي كل شهر أو كل سنة قسطاً، إلى أن يؤدي الثمن كله فيعتق، هذا هو المكاتب.
وذلك فيما إذا كان يعلم منه أنه قادر على الكسب، وهذا معنى قوله: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، فالخير في الآية: الكسب والأمانة، فإذا علم بأنه مأمون، بحيث إنه لا يهرب، ولا يبقى كلاً على الناس يتكفف الناس ونحوه؛ ففي هذه الحال يكاتبه إذا طلب العبد، فيقول: قيمتك مثلاً عشرة آلاف، وأنا أبيعك نفسك بخمسة عشر، تعطيني كل سنة ألفين حتى تتحرر، هذه هي الكتابة، يعني مكاتبته، فيحرص العبد على أن يؤدي الأقساط، يشتغل بالأجرة أو بالتجارة، أو يكون له حرفة يدوية أو ما أشبه ذلك، فيؤدي الكتابة التي تلزمه.
فإذا تأخر سنة فلسيده أن يلغي الكتابة، ويقول: أنت لست أهلاً؛ وذلك لأنك ما عملت بما وعدت، حيث إنك ما أديت الكتابة والدين في حينه، فإذا ألغاه لُغي، وعاد قناً، وهكذا إذا عجز وجاء إلى سيده وقال: عجزت، فإنه يعود مملوكاً له، ويعود إلى كونه رقيقاً، ورد في حديث: (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم).
والحاصل: أنه إذا علم فيه خيراً فإنه يكاتبه.
فإذا علم فيه خيراً فإنه يكاتبه، وإذا عرف بأنه ليس من أهل الكسب، ولا من أهل القدرة على أداء ما التزم به، أو خاف أنه يهرب، فإن الكتابة لا تصح؛ لأنه يساعده على الإفساد، وكثير من المماليك إذا عتق فسد، من حيث يقع في الزنا، ويقع في المسكرات، ويقع في الفواحش وما أشبهها، فبقاؤه مملوكاً أولى به.
دليل ذلك قصة بريرة : أنها كاتبت أهلها على تسع أواق..
الأوقية أربعون درهماً، يعني: نحو ثلاثمائة وستين درهماً، وقيمتها يمكن أنها مائتا درهم، ولكن لما كانت مؤجلة زادوا في ثمنها، ولكن جاءت إلى عائشة تطلب منها أن تساعدها في دين كتابتها، فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أدفع لهم الثمن ويكون ولاؤك لي فعلت، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها بأن تشتريها ويكون لها الولاء، لكن أهلها الذين كاتبوها قالوا: نريد أن يكون الولاء لنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) ، فجعل الولاء لمن أعتق، وفي هذه الصورة عائشة هي التي أعتقتها، فهذا معنى قوله: (يجوز بيع المكاتب).
وقوله: (ومشتريه يقوم مقام مكاتبه):
إذا اشتراه المشتري مكنه من الاحتراف، فإن أدى ما عليه عتق، وكان ولاؤه للمشتري، وإن عجز عاد رقيقاً وصار مملوكاً للمشتري، أي: إذا أدى عتق وولاؤه لمن انتقل إليه، فالذي باعه باع العبد وثمنه وولاءه.
أم الولد هي الأمة التي يطؤها سيدها فتلد منه ولداً واحداً أو عدداً، ذكراً أو أنثى، فإنها تصير أم ولد، وسواء كان ذلك الولد حياً أم ميتاً إذا وضعته بعدما يتبين فيه خلق الإنسان، يعني: إذا وضعت ما تبين فيه خلق الإنسان كرأسه، وعلامة رأسه عيناه وشفتاه، أو يداه ورجلاه، وأصابع يديه ورجليه، أي أنها وضعت حملاً ولو ميتاً، وقد مضى عليه نحو أربعة أشهر، فإذا وضعته أصبحت أم ولد.
وما دامت أم ولد فإن حكمها حكم الأمة عند سيدها، له أن يطأها، وله أن يستمتع بها، وله أن يستخدمها، إلا في نقل الملك؛ فليس له أن يبيعها، ولا أن يهبها لمن يملكها، لماذا؟ لأنه قد انعقد سبب عتقها؛ وذلك لأنها لما ولدت منه صار لها من تمنّ عليه وهو ولدها، في هذه الحال إذا مات سيدها عتقت من رأس المال.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تعتق من نصيب ابنها؛ لأنها ولدته، فسواء كان واحداً أو عدداً، وسواء كان ذكراً أم أنثى، فكأنهم يقولون: إن ولدها يملكها، وإذا ملكها فإنه لا يستخدمها، بل تعتق عليه.
وقد ذكروا من أسباب العتق: أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فإذا ملك الإنسان أباه عتق، أو ملك ابنه عتق، أو ملك أخاه أو ابن أخيه أو عمه أو خاله، يعني: الذي بينه وبينه محرمية، فبمجرد ما يملكه يعتقه.
فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فكأن ابنها ملكها، أو ملك جزءاً منها، أما في حالة حياة السيد فليس لهم ملك، بل الملك للسيد، أما بعد وفاته فيملكها أولاده، ومن جملتهم ولدها الذي منه واحداً كان أو عدداً، وإذا كان ولدها قد ملكها فإنها تعتق من نصيبه.
ولكن القول المشهور: أنها تعتق من رأس المال، أي: تعتق من جميع التركة، فمتى مات سيدها عتقت.
تعريفها: من ولدت ما فيه صورة، ولو خفية، من مالك، يعني: ولدت من الذي ملكها مولوداً فيه صورة الإنسان، ولو كانت تلك الصورة خفية، ولكن بالتأمل يُعرف أن هذا رأسه، وأن هذا وجهه، وأن هذه عيناه، وهذه خلقته، ورجلاه، ويداه، يكون ذلك من أسباب عتقها، أنها انعقد سبب عتقها بولادتها ولداً ولو ميتاً ولكن فيه صورة الإنسان ولو خفية، وأن ذلك الولد من سيدها الذي وطئها فأحبلها.
يعني: لو أن إنساناً وطئ أمة بشبهة فولدت منه عتقت، وكذلك لو كانت مشتركة بينه وبين ثلاثة، وهو رابعهم، فوطئها أحدهم، فحرام عليه أن يطأها، لكن بشبهة، فحملت منه فولدت؛ أصبحت أم ولد له، وعليه أن يعطي شركاءه حصصهم، وتبقى مملوكة له، فإذا مات عتقت من رأس ماله.
يقول: (أو محرمة عليه): يعني: لكونها مشتركة.
(أو من أبيه): لو وطئ أمة لأبيه فأولدها صارت أم ولد له.
يقول: (إن لم يكن وطئها الابن): لأنه يحرم على الأب أن يطأ أمة ابنه، ويحرم على الابن أن يطأ أمة أبيه، فإذا قدر أنه وطئها، وحملت منه، أصبحت أم ولد لمن وطئها.
يقول: (وأحكامها كأمة إلا فيما ينقل ملك رقبتها أو يراد له):
يعني: تبقى في حال حياة سيدها كأنها أمة يستخدمها، ويطؤها، ويستمتع بها، وهي خادمة عنده، وله أيضاً أن يزوجها، وإذا زوجها وولدت أولاداً من ذلك الزوج، أصبحوا مماليك له، فإذا مات عتقت، وعتق أولادها؛ لأنه قد انعقد سبب عتقها، فيعتقون معها، هذا معنى قوله: (أحكامها كأمة إلا فيما ينقل الملك لرقبتها)، يعني البيع أو الهبة، وكذلك الرهن؛ لأن الرهن يراد للبيع، فليس له أن يرهنها؛ لأنه قد يُعسِر ويحل الدين فيبيعها ذلك المرتهن.
فلا بد أنه يحافظ عليها، فلا يبيعها، ولا يهبها، ولا يرهنها، هذا معنى: (أو يراد له) يعني: يراد للبيع، ويراد لنقل الملكية.
قد ذكرنا أن الولاء من أسباب الإرث، فمن الأسباب التي يحصل بها التوارث الولاء، وذكرنا أنهم عرفوه بأن الولاء: عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فيرثه هو وورثته المتعصبون بأنفسهم، لا بغيرهم ولا مع غيرهم؛ وذلك لأنه إذا أعتق هذا العبد أو تسبب في عتقه، حتى ولو كان كفارة، أصبح ذلك العبد مولىً لذلك المعتق، قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ.. [الأحزاب:4] إلى قوله: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5] ، فسماهم الله إخواناً وموالي وهم عتقاء.
المولى: هو الذي يتولى إنساناً، فيسمى مولىً له، ثم يطلق الولاء على ولاء العتاقة، ويطلق على ولاء الإسلام، يعني: أن هناك من تدعوه فيسلم على يديك، فيكون مولىً لك، وينتسب إلى قبيلتك، من ذلك ما ذكروا أن جد البخاري الذي هو أبو المغيرة كان مجوسياً دعاه رجل من قبيلة جعف، فأسلم على يديه، فصار يقال له: الجعفي، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي ، فهو جعفي بالولاء، وليس هو ولاء الرق ولكنه ولاء الإسلام، لأنه أسلم على يدي بعض قبيلة بني جعف.
وهذا الولاء لا يحصل به توارث: لا ولاء الإسلام، ولا ولاء الموالاة، وهو أن يأتي إنسان ضعيف، فينضم إلى قبيلة فيقول: أنا لكم وأنا منكم، هذا أيضاً لا يحصل به التوارث.
بخلاف ولاء العتق، فإنه يحصل به التوارث، ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق) ، لما أن عائشة أعتقت بريرة ، وقد كان أهلها أرادوا الولاء لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق) ، فالرقيق بعد عتقه يصير مولىً لمن أعتقه، فله عليه الولاء، ويصير عصبة له مطلقاً، يرثه عند عدم عصبة النسب، أي: إذا لم يوجد له أقارب من النسب ورثه معتقه الذي منّ عليه بالعتق، وإذا مات السيد قام مقامه أولاده الذكور دون الإناث، فيكون عصبة له هو وأولاده الذكور دون الإناث.
هذا آخر العتق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر