[فصل: والمرتد من كفر طوعاً ولو مميزاً بعد إسلامه، فمتى ادعى النبوة، أو سب الله أو رسوله، أو جحده، أو صفة من صفاته، أو كتاباً أو رسولاً أو ملكاً، أو إحدى العبادات الخمس، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه كفر، فيستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يتب قتل، ولا تقبل ظاهراً ممن سب الله أو رسوله، أو تكررت ردته، ولا منافق، وساحر، وتجب التوبة من كل ذنب، وهي إقلاع وندم وعزم أن لا يعود، مع رد مظلمة لاستحلال من نحو غيبة وقذف.
فصل:
وكل طعام طاهر لا مضرة فيه حلال وأصله الحل، وحرم نجس كدم وميتة، ومضر كسم، ومن حيوان بر ما يفترس بنابه كأسد ونمر وفهد وثعلب وابن آوى لا ضبع، ومن طير ما يصيد بمخلب كعقاب وصقر، وما يأكل الجيف كنسر ورخم، وما تستخبثه العرب ذوو اليسار كوطواط وقنفذ ونيص، وما تولد من مأكول وغيره كبغل، ويباح حيوان البحر كله سوى ضفدع وتمساح وحية، ومن اضطر أكل وجوباً من محرم غير سم ما يسد رمقه، ويلزم مسلماً ضيافة مسلم مسافر في قرية لا مصر يوماً وليلة قدر كفايته، وتسن ثلاثة أيام.
فصل:
لا يباح حيوان يعيش في البر -غير جراد- إلا بذكاة، وشروطها أربعة:
كون ذابحٍ عاقلاً مميزاً ولو كتابياً، والآلة، وهي كل محدد غير سن وظفر، وقطع حلقوم ومري.
وسن قطع الودجين، وما عجز عنه كواقع في بئر ومتوحش ومترد يكفي جرحه حيث كان، فإن أعانه غيره ككون رأسه في الماء ونحوه لم يحل.
وقول: (باسم الله) عند تحريك يده، وتسقط سهواً لا جهلاً، وذكاة جنين خرج ميتاً ونحوه بذكاة أمه، وكرهت بآلة كالة، وحدها بحضرة مذكىً، وسلخ وكسر عنق قبل زهوق، ونفخ لحم ببيع، وسن توجيهه إلى القبلة على شقه الأيسر، ورفق به، وتكبير].
نقول: المرتد: هو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه إذا كفر طوعاً واختياراً بشرط أن يكون مميزاً وأن يكون سليماً عاقلاً، فإذا أكره على الردة فإنه لا يحكم بردته، قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].
ذكر أن عمار بن ياسر رضي الله عنه عذبه الكفار عذاباً شديداً، وحملوه، وقالوا: لا نخلي سبيلك إلا إذا كفرت بمحمد وسببت دينه فاضطر إلى أن يسبه حتى يتخلص من شرهم وأذاهم، فجاء بعد ما خلوا سبيله باكياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ، فعذر الله تعالى المكره ورفع عنه الإثم، ثم قال بعد ذلك: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ [النحل:106] يعني: إذا تكلم بالكفر طوعاً واختياراً فعليه الغضب الشديد من الله تعالى، أما إذا كان مجنوناً فإنه مرفوع عنه القلم، فلو تكلم بالكفر فلا يؤاخذ، وكذلك إذا كان طفلاً لا يميز كابن أربع أو خمس أو نحو ذلك، فلو تكلم بكلمة كفر فإنه لا يعاتب لعدم تكليفه، فيكون بهذا الكلام مرتداً، قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217] يعني: إذا ارتد طائعاً مختاراً ومات على كفره حبط عمله وذكر الله أن الشرك يحبط الأعمال في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وفي قول الله تعالى في سورة الأنعام: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ، فالشرك والكفر والردة تحبط الأعمال، وتوجب لصاحبها الخلود في النار.
[أو سب الله أو سب رسوله] صلى الله عليه وسلم فإنه يعتبر مرتداً، أو جحد وأنكر وجود الله كالدهريين كفر أيضاً، أو جحد صفة من الصفات الثابتة كفر أيضاً، فإذا جحد -مثلاً- صفة السمع التي أثبتها الله، وصفة الوجه، وصفة العلم، وصفة القدرة أنكرها إنكاراً كلياً صدق عليه أنه ارتد، أو جحد كتاباً من كتبه فقال: هذا القرآن مفترى ليس هو كلام الله، وليس هو منزل، وإنما افتراه محمد، كقول المشركين الذين قالوا: إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان:4] ، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] أساطير الأولين أي: ما سطروه وما كتبوه وكقولهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، وكقولهم: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] ، أو جحد رسالة محمد، أو جحد رسالة موسى، أو إبراهيم، أو عيسى، أو أحد الأنبياء وقال: إنه كذاب، حتى الذين قالوا: إن سليمان كافر ليس بنبي يكفرون بذلك، أو جحد ملكاً من الملائكة الذين سموا في القرآن كجبريل وميكائيل ومالك خازن النار ونحوهم من الملائكة الذين ذكرهم وارد في القرآن.
إذا أنكر الشهادة وقال: لا فائدة فيها، أو لا أقر بـ(لا إله إلا الله)، أو جعل مع الله آلهة أخرى، أو استباح الشرك -أي نوع من الشرك- كالسجود للأصنام، أو دعاء الأموات مع الله تعالى، أو تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق، وكذلك إذا جحد وجوب الصلاة وقال: إن هذه الصلاة فكرة من محمد ما أمر بها، أو قال: لا فائدة، فيها أنها شاغلة عن الأعمال الدنيوية فلا فائدة فيها حتى ولو كان يصلي اعتبر كافراً.
أو جحد وجوب الزكاة المفروضة وادعى أنها تفليس وأنها ظلم، وأن الذي يأخذها من أهل الأموال إنما هي ضرائب لهم.
أو جحد وجوب الصوم وقال: إنه تكليف شاق، فماذا يفيد كونهم يظمئون أنفسهم ويجيعون أنفسهم؟! يكون بذلك كافراً مرتداً.
أو جحد وجوب الحج، حتى ولو حج اعتبر بذلك مرتداًً.
أو شرعية الجهاد وقال: إن هذا خطأ، حيث يكلف الإنسان أن يتعرض لقتل نفسه ويتعرض لأن يقتل، أو جحد أيضاً إباحة النكاح، أو حرم النكاح الحلال، أو حرم الطلاق وقال: لا يباح أنه يطلق، وكذلك الذين حرموا تعدد الزوجات وقالوا: إن هذا ظلم للمرأة أن يتزوج عليها. أو أباحوا للمرأة أن تتزوج اثنين يجتمعان في وطئها، أو كذلك من أباح نكاح ذوات المحارم كالبنات والأخوات.
وكذلك لو جحد حكماً ظاهراً مجمعاً عليه، كما إذا أباح الزنا وقال: إن الشرع أخطأ حيث حرمه إذا بذلت المرأة نفسها باختيارها، فتحريمه غلط، فهو لا بأس به، أو أباح الخمر وقال: إنها شراب طيب، كيف يحرمها الشرع؟! لقد أخطأ في تحريمها حتى ولو كان لا يشربها، أو أباح الربا وقال: إنما البيع مثل الربا لا فرق بينهما، فلماذا حرم هذا وأحل هذا؟! أو أباح أو حرم شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة تحليله أو تحريمه، فلو حرم مثلاً أكل الخبز التي هي إنتاج طيب، أو أباح أكل الرشوة، أو أباح قتل المسلم بغير حق، أو ما أشبه ذلك كفر، وذكرنا أن بعضهم أوصلها إلى مائة من الخصال التي يكفر بها.
وحدث قبل أربعين سنة أو ثلاث وأربعين أن اليهود نشروا صورة كاريكاتير في صحفهم، ثم التقطها أيضاً أتباع لهم من أهل مصر ونشروها، حيث صوروا صورة ديك وكتبوا تحته بخط عريض بالعامية معناه: (هذا محمد أفندي المتزوج تسعاً) هكذا تجرءوا هذه الجرأة! صوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة ديك، وادعوا أنه ليس له هم إلا فرجه، وأنه من أجل شهوته تزوج تسعاً، والتقطها بعض المصريين ونشروها كأنهم مقرون لها، ثم رد عليهم أحد علماء مصر واستبشع قولهم، وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رسالة رداً عليهم على هذه المقالة، ورداً على جمال في قوله بالاشتراكية في تلك السنوات، حيث أمم كثيراً من الأموال وانتزعها وقال: إن الناس شركاء، وعنوان رسالة الشيخ رحمه الله: (ردة عن الإسلام واشتراكية الحرام!)، فتكلم على تلك الصورة والذين أقروها من المصريين، واستبشع مقالتهم، وجعل هذا ردة عن الإسلام، ثم تكلم أيضاً عن الاشتراكية، فمثل هذه الكلمة تعتبر ردة.
ونقول: إن كثيراً من الناس يتهاونون في مثل هذه الكلمات، وقد عدت من أسباب الارتداد والعياذ بالله! قال الله تعالى في سورة البقرة: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] فالسخرية من الذين آمنوا تعتبر كفراً؛ لأنهم إذا سخروا منهم فكأنهم يسخرون من دينهم الذي يفتخرون به، وقال تعالى في قصة الذين قالوا مقولتهم في غزوة تبوك: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا [التوبة:65-66]، فكفرهم بهذا الأمر لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] أي: دل على أنهم كانوا آمنوا، وأن هذه الكلمة ارتدوا بها وأصبحوا كافرين.
وقال تعالى أيضاً في سورة التوبة: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79]، هكذا عادة الكفار أنهم يسخرون من المؤمنين، كما قال الله تعالى في قصة نوح لهود: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] يعن: أنهم يسخرون من نوح وصناعته للسفينة، ولكن هكذا قال لهم، فأنت -مثلاً- إذا جاءك من يسخر بك فقل: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ، فالذين مثلاً يسخرون من اللحية ويقومون بمعاداة اللحى وصاروا يسخرون من الذين يربونها فيلمزونهم بأنها كأنها ذنب تيس وكأنها مكنسة بلدية، هذا سخرية من السنة، فقل لهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ؛ لأن هذا استهزاء بالسنة، والسنة النبوية هي التي جاءت بهذا الأمر، ولا شك أن هذا سخرية بالشرع والشريعة، فيلحق بالمرتدين والعياذ بالله، وقد سماهم الله تعالى المجرمين، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] إلى آخر السورة.
يعني أنهم يتنقصونهم ويقولون: هؤلاء مساكين، أضاعوا حياتهم في تعلم هذه الأبواب، تعلم صلاة، وتعلم طهارة، وتعلم صيام، وفاتهم السبق والتقدم، فالناس وصلوا إلى الأفلاك العليا، ووصلوا إلى القمر، وصنعوا الذرة ونحو ذلك، وأما هؤلاء فإنهم أضاعوا أعمارهم يتعلمون باب التيمم، وباب الحيض وباب إزالة النجاسة وباب كذا وكذا، فلا يستفيدون إلا هذه العلوم التي نقصت أعمارهم وضيعت عليهم تقدمهم، أليس هذا سخرية؟ نعم إنه سخرية بعلوم الشريعة، وإنهم وإن تعلموا ما يقولون فإنه قد فاتهم الخير الكثير.
خفافيش هذا الوقت كان لها ضرر وأوباشها بين الورى شرها ظهر
يعيبون أهل الدين من جهلهم بهم كما عابت الكفار من جاء من مضر
يقولون رجعيون لما تمسكوا بنص من الوحيين كان له أثر
وإعفاؤهم تلك اللحى لجمالها وترك سواد حين كان به غرر
وحملهم تلك العصي لأنها لديهم حماقات ومسواك مطهر
يعيبونهم حتى بالسواك، مع أنهم جعلوا بدل السواك السني السجائر والعياذ بالله، فيفخرون بالسجائر، فلو أشعل أحدهم سجارته أخذ يتمايل ويفتخر، وإذا رأى من أمسك سواكاً وأخذ يدلك به جعل يتنقصه ويعيبه، فمثل هؤلاء يعتبرون مرتدين إذا كانوا يستبيحون مثل هذا.
وبذلك تعرف أن أمر الردة أمر خطير، وأنه يدخل فيه كل من يستهزئ بشيء من الشريعة، وأنهم سوف يعذبون في الآخرة، اقرأ قول الله تعالى في سورة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قال الله تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108-110] اتخذتموهم سخرياً لما كانوا يدعون ويتعبدون وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:111] ، فيحذر المسلم أن يقع في الردة وهو لا يشعر، فيستعمل مثل هذه الكلمات التي خطرها كبير، فيقع في تنقص الدين، أو تنقص المؤمنين لأجل إيمانهم ولأجل عقيدتهم ولأجل علومهم الشرعية، فيهلك ويحبط عمله وهو لا يشعر، يتساهل بكلمة يقولها وقد يقولها مازحاً، وقد يقولها ضاحكاً ولا يعلم أنها تتلفه، وأنها تهلك عليه أمر دينه ودنياه، وأنه أهل لذلك أن يقام عليه حد الردة.
يقول: إذا فعل ذلك الكفر [فيستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل].
لا شك أنه إذا عرض عليه القتل وقيل له: إنا سنقتلك فسيظهر التوبة والندم خوفاً من القتل، ولكن إذا عرف بأن توبته توبة الكذابين فلا يقبل منه.
وذكر أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: عسى الغوير أبؤساً. وهذا مثل قديم مضروب، يعني: ماذا عندك من الأخبار؟ فقال: رجل ارتد بعد إيمانه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: (هلا استتبتموه ثلاثة أيام ومنعتم عنه الطعام والشراب لعله أن يتوب؟! اللهم! إني أبرأ إليك مما فعلوا)، فأخذوا من هذا أنه لا بد أن يستتاب، فيحبس ويجوع ويضيق عليه ويقال: إن لم تتب قتلناك، فإذا أصر ثلاثة أيام وهو يهدد وقال: لا أتوب ولا أتغير ولا أتبدل فإنه -والحال هذه- يقتل، وإذا قتل فإنه يقتل كافراً، وحينئذ لا يرثه أقاربه المسلمون، ولا يورث، وماله يكون فيئاً لبيت المال، ولا يصلى عليه إذا قتل على ذلك، ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يدفن بعيداً، ويوارى إذا لم يجد من يواريه.
ذكر أن يهودياً في الشام في حدود سنة عشرين وسبعمائة أخذ يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه كذاب، وإنه مفترٍ، وإنه.. وإنه.. فلما ظهر من أمره هذا السب المعلن غضب عليه العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب كتابه المشهور: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وأورد فيه الأدلة فأطال وبسط فيه الكلام، وخلاصة كلامه أنه لا تقبل توبة مثل هذا ولو ادعى توبة، وإن كان من المعاهدين، ومن أهل الجزية الذميين فإنه ينتقض بذلك عهده، وإنه لتظاهره بهذا السب يجب قتله، وأورد أدلة كثيرة في أول الكتاب، فذكر قصة رجل كان عنده جارية مملوكة، ولكنها كانت كافرة، وكان قد تسراها فولدت له ولدين، فكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك قتلها، فلما قتلها ذكر ذلك لـعمر بن الخطاب فمدحه على قتلها لأنها تسب النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك كثير.
أي: لا تقبل توبة من تكررت ردته، وذلك لأن تكررها يدل على امتلاء قلبه بالكفر، فإذا تكلم -مثلاً بالكفر- ثم بعد ذلك استتيب فتاب، ثم ذكر عنه وثبت عنه أنه تكلم بكلمة كفر أو سخرية، ثم استتيب فتاب، ثم عاد مرة ثالثة عرف بذلك أنه مرتد، وأن قلبه مليء بالنفاق والكفر، فلا يقبل منه الرجوع، ولا تقبل منه التوبة.
ذكر أن أحد الزنادقة أحضر عند المهدي وقرره، فثبت عنده أنه زنديق فأمر بقتله، فقال ذلك المنافق والزنديق: هب أنك قتلتني، كيف تصنع بأربعة آلاف حديث كذبتها على نبيكم؟! فقال: تعيش لها نقادها يعني أن الله تعالى حفظ دينه، وهناك من ينتقدها، ويبينها، ومن يحذر منها.
وأحضر إليه رجل أديب ولكنه متهم أيضاً بالزندقة، فاستتابه فأظهر التوبة، ولما عفا عنه تذكر أبياتاً له فرده وقتله بسببها، وهي قوله:
وإن من أدبته في الصبى كالزرع يسقى الماء في غرسه
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنا عاد إلى نكسه
فقال: أنت شيخ -يعني: كبير- فلا تترك أخلاقك، وقد اعترفت على نفسك. فقوله: (والشيخ لا يترك أخلاقه) يعني: كبير السن (حتى يوارى في ثرى رمسه) يعني: حتى يدفن، (إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنا): يعني: المرض (عاد إلى نكسه)، فقتله على زندقتة في هذه الأبيات.
الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود، ورد المظالم إلى أهلها.
والإقلاع يعني: ترك ذلك الذنب، سواء أكان كفراً أم معصية، فالذي يقول بلسانه: أنا تائب، ولكنه مصر ومستمر على هذا الذنب لا يقبل منه.
وكذلك الذي لا يندم، يتمدح ويقول: أنا الذي قتلت فلاناً! أنا قد زنيت كذا وكذا.. أنا الذي سببت فلاناً! أنا الذي سخرت من كذا وكذا.. يتمدح بأفعاله ولا يتأسف عليها، وهكذا الذي يحدث نفسه أنه سوف يعود إلى الذنب، سوف يعود إليه إذا تسنى له، لا تقبل توبته.
ويشترط إذا كانت التوبة من حقوق آدميين أن يردها إليهم، فإن كان قتلاً مكن من نفسه وقال: أنا الذي قتلت ابنكم، وإن كان ضرباً قال: أنا الذي ضربت أو أنا الذي قطعت يده أو إصبعه، وإن كان مالاً قال: هذا مالكم الذي سرقته أو الذي نهبته أو جحدته، يرد المظالم.
فإذا كان الذنب غيبة أو قذفاً فهل يستحلهم فيقول: أنا يا فلان اغتبتك فاجعلني في حل؟ لا يشترط ذلك، ولكن يمدحه في الأماكن الذي كان يغتابه فيها، ولا يشترط أن يقول: أبحني أو أحلني، بل يمدحه ويثني عليه، ويستغفر الله من ذلك الذنب، وهكذا إذا كان الذنب قذفاً، والقذف: الرمي بفعل فاحشة فلا يحتاج أن يأتي إليه ويقول: اجعلني في حل فإني قد رميتك وقلت: إنك زان أو إنك لوطي. لا يشترط ذلك.
وأما إذا كان فيه مضرة ولو كان يأكله بعض الناس فإنه يكون حراماً، فهناك مثلاً ما يسمى بالحشيش، فإنه يأكله كثير من الناس، ولكنه محرم لأنه مضر، وهناك ما يصنع من عصير العنب حتى يسكر وهو الخمر، فهذا ولو شربه كثيرون لكنه حرام، ولو قالوا: إنه شراب طيب لكنه مضر بالعقل فيكون حراماً، وهناك -مثلاً- ما يسمى بالقات يأكله كثيرون، ولكنه مضر فيه مضرة، ولو كثر الذين يأكلونه فيكون حراما،ً ولا عبرة بمن يستحلونه فيدعون أنه مأكول وأن فيه وفيه، لا عبرة بهم، فإنهم كالبهائم التي تستحلي ما هو مر في ذوق الإنسان وتستجيز ما فيه مضرة.
والذين يشربون الدخان يعرفون بأنه مضر ويعترفون بذلك، ومع ذلك يستمرون فيه فلا عبرة بهم، والذين يشربون الخمر قد يعترفون بأنها حرام، ولكن مع ذلك يصرون على شربها، وكذلك الذين يأكلون الحشيش، وهو نوع من النباتات مضر، ظهر في حدود القرن السادس وانتشر الأكل منه، وأفتى العلماء بتحريمه، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الخمر بمنزلة الأبوال والحشيش بمنزلة العذرة، والعذرة: الغائط الذي يخرج من الإنسان، تنفيراً منه، ومع ذلك يكثر الذين يأكلونه، وكذلك الذين يستبيحون أكل هذا النبات الخبيث القات، وثمر آخر يقال له: (الجيرو)، قد يكون أخف ضرراً من القات، ولكن لا منفعة فيه، قد يكون ثمنه رفيعاً، ونبات آخر رائحته قبيحة يسمونه: (البردقان)، وليس هو البرتقال حيث هو من الطيبات، ولكن البردقان نبات رائحته خبيثة، وكذلك ما يسمى بالشمة التي يمضغونها، هؤلاء لا شك أنهم استحسنوا القبيح فلا عبرة بهم، ولو ادعوا أن هذا من الطيبات فإنه من الخبائث، فلا يغتر بكثرة من يتعاطى أو من يمدحه، وفيما يظهر أن الشيخ الحكمي رحمه الله أول من نظم منظومته لما سئل عن القات، فنظم فيه منظومة تائية في تحريمه وبيان آفاته، وذكر من مضاره أنه يضيع الصلاة، يقول في منظومته:
إن جاءه الظهر فالوسطى يضيعها أو مغرب فعشاء قط لن يأتي
وإن أتاها فمع سهو ووسوسة
يعني: يأتيها وهو غير عاقل.
ورد عليه بعض علماء اليمن يقال له: ابن المهدي رداً ضعيفاً، ثم جاءه ذلك الرد فرد عليه أيضاً نظماً، في منظومة طويلة استفتحها بالتاء:
الحمد لله في كل البريات وبدء كل شئوني واختتاماتي
ثم الصلاة على ختم النبـوات محمد من أتانا بالكرامات
فما يدل على تمكنه رحمه الله.
كل شيء نجس فهو محرم، كالدم، فهو نجس لأن الله تعالى حرمه، والميتة نجسة، فيحرم أكلها إلا ما ذكره الله في قوله: فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، ولحم الخنزير نجس، ومثله أيضاً المحرم من الحيوانات، وكل ما هو مضر مثل السم، ويذكر في اللغة أنه مثلث السين: (السُّم والسِّم والسَّم)، فكل ما يقتل إذا أكل أو إذا شرب فهو من السموم.
وكذلك ما هو مضر من الحيوانات البرية، فيحرم منها ما يفترس بنابه كالأسد والنمر والفهد والثعلب وابن آوى وابن عرس، فهذه تفترس ولها ناب، ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل ذي ناب من السباع) التي لها ناب تفترس به وتعدو على الناس، واستثني الضبع، وحرمه أكثر العلماء، وأباحه الإمام أحمد ؛ لأنه ورد فيه حديث، ولكن الأقرب أنه حرام، وذلك لأنه ذو ناب ولأنه يفترس، ولأنه يأكل الجيف، فيكون بذلك أقرب إلى كونه محرماً.
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والمخلب: هو أصابعه المحددة، والطيور بعضها أصابعه محددة يفترس بها، ويأخذ صيده بها، وقد يمسك الشيء الثقيل بمخالبه ويرتفع به، فيصيد بمخلبه، كعقاب وصقر وغراب وباز وباشق، وما أشبهها هذه أيضاً محرمة؛ لأنها لها مخلب تفترس به.
وكذلك كل ما يأكل الجيف: كالكلاب والسنانير -القطط- ومن الطير: النسور والرخم وما أشبهها مما يأكل الجيف؛ لأن الجيف محرمة، وما أكلها فهو محرم، وكذلك كل ما تستخبثه العرب ذوو اليسار، أي: العرب الذي هم أهل يسار وسعة من الرزق، بخلاف الضعفاء والفقراء ونحوهم، فإنهم قد يأكلون الخبائث، وقد تأتي إلى بعضهم فتقول لهم: ماذا تأكلون من الدواب؟ فيقولون: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حبين. وهي دابة كهيئة الخنفساء، يأكلون كل ما دب ودرج، فيأكلون الفئران، والخنافس، والحشرات التي يمكن أن يصيدوها، والزنابير والفراش وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه مستخبثة، وهناك طير يقال له: (الوطواط) أيضاً محرم؛ لأنه مستخبث، والقنفذ وهو الذي عليه شوك، على جلده، والنيص، وهو مثل القنفذ إلا أنه أكبر منه، وشوكه طويل قد اكتسى لجلده، فإذا جاءه أحد فإنه ينفض جلده وتطير الشوكة نحو عشرة أمتار لتصل إلى الذي يريد أن يرميه.
الضفدع تخرج في البر، تخرج على الساحل ولها نقيق، فتكون ليست من حيوانات البحر، فحيوان البحر هو الذي لا يعيش إلا في البحر، والتمساح لا يعيش إلا في البحر، ولكن قيل: إنه سام أو مضر، وحية البحر مثل حية البر وإن لم يكن فيها سم، وبقية حيوان البحر تكون حلالاً.
إذا اضطر ووجد ميتة أو وجد غير مباح كأسد ميت أو ثعلب أو قط أو غراب فله أن يأكل منه ما يسد رمقه، يأكل ما ليس بضار، أما الشيء الضار كالسم فليس له أكله لأنه يقتل.
وقديماً كان المسافرون يأتون على أرجلهم وليس مع أحدهم متاع، فيمر بقرية فينزل عند بعض المنازل أو بعض أهل البيوت، وإذا نزل علق متاعه أو نعليه وصار بذلك ضيفاً، وصاحب المنزل يطعمه غداءً وعشاءً كعادة أهل البلد، يطعمه مما يأكله هو وأهله، هذا هو الإكرام، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، والضيافة في الأصل يوم وليلة، وإذا زاد فإنها ثلاثة أيام، فإن زاد على الثلاثة فله أن يعتذر منه ويقول: قد انتهت مدة الضيافة فانتقل عني، كذلك يقول: لا يحل للضيف أن يأوي عند صاحب البيت حتى يحرجه ويشق عليه، بل يكون خفيفاً ولا يضجر صاحب البيت.
ويلزم المسلم ضيافة المسلم المسافر، وخصه بقوله: [في قرية لا مصر]، فالضيافة تكون في القرى، وذلك لأنه إذا نزل في قرية قد لا يجد مكاناً يأوي إليه، فيحتاج إلى أن ينزل مقابل صاحب بيت ينيخ راحلته، فيعرف صاحب البيت أنه قد وافاه، فعليه أن يضيفه ويكرمه ولا يكن كمن قال فيهم تعالى: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] يعني: يكرموهما، أما في المصر أو في المدن الكبار فلا يلزم ذلك؛ لأنه في الاستطاعة، في إمكانه أن يجد المطاعم والفنادق، فيأكل في الفندق ويكرم نفسه، أو يأكل في المطعم، وسيجد ما يسد حاجته، ولا يحتاج إلى أن يضيف، إلا إذا كان له قريب أو صديق واستضافه فله أن يستضيفه، وأن ينزل عنده، بخلاف القرى فإنها لا توجد فيها المطاعم وما أشبهها، وغالباً يخجل أن ينزل أمام أهل قرية وينصب قدره ويوقد ناره ويخبز والناس ينظرون إليه، يخجل من ذلك، لأجل ذلك يضيف عند أحدهم، فيضيفونه يوماً وليلة قدر كفايته، والسنة ثلاثة أيام.
يقول: [لا يباح حيوان يعيش في البر -غير جراد- إلا بذكاة].
أي: لا يباح بغير ذكاة حيوان يعيش في البر غير جراد ونحوه.
والذكاة: هي الذبح بالسكين ونحوها ، والجراد يباح أكله، كما في حديث ابن عمر : (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالجراد والحوت) يعني: السمك لا يحتاج إلى ذكاة (وأما الدمان: فالكبد والطحال)، فأما غير ذلك من الحيوانات فلا بد من الذكاة، قال الله تعالى: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3] أي: هذه المحرمات من قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة:3] هذه كلها محرمة إلا ما ذكيتم، زالمنخنقة: التي تختنق بحبل، فإن أدركوها قبل أن تموت وذكوها -ذبحوها- فهي حلال، والموقوذة: التي ترمى بحجارة، فإذا ماتت قبل أن يذبحوها فهي حرام، فإن أدركوها حية وذبحوها وتحركت عند الذبح فهي حلال، والمتردية: التي تسقط من رأس جبل، فإذا ماتت قبل أن تصل إلى الأرض حرمت، فإن أدركوها وهي حية وذكوها فهي حلال، والنطيحة: التي تنطحها شاة أو بقرة وتموت من النطح، فإن أدركوها وذكوها فهي حلال، وأكيلة السبع: التي ينهشها السبع -الذئب أو الأسد أو النمر- فيجدونها قد نهشها، فإن أدركوها حية وذبحوها فهي مذكاة.
أما في هذه الأزمنة فالغالب أنهم لا يذبحون ذبحاً شرعياً لأمور:
أولاً: أنهم أو كلهم لا يذكرون اسم الله.
ثانياً: أنهم لا يذبحون، وإنما يسلطون عليها آلات تقطعها من الخلف، يقتلون -مثلاً- البقر أو الغنم، فيصفونها ثم يغمزون هذا المسمار فيأتي عليها من رءوسها فيقطعها من الخلف فتسقط الرءوس، لكن يقول بعضهم: إذا كان مسمى وأتى السكين على الحلق قبل أن تموت فإنها تباح، أما لو قطع -مثلاً- العنق من فوق ولم يقطع الحلقوم ولا المريء ولم يقطع الودجين فإنه لا يسمى ذابحاً، وكثير منهم يقطعون عظم الرقبة ويبقى الرأس متدلياً، ولا يقطعون الحلقوم حتى تموت فيكون ذلك ذبحاً شرعياً.
كذلك الطيور عندما يذبحونها يعلقونها -مثلاً- بأرجلها، ثم تمر على ماء يغلي فتنغمس فيه، وإذا انغمست كشط جلدها، والغالب أنها تموت، فإذا خرجت من هذا الماء الحار مرت على سكينة لتقطع رءوسها، وأحياناً لحركتها لا تقطع إلا المنقار، وأحياناً لا تقطع الرأس بل تضرب المنقار فتتعدى وتسقط وهي حية -أي: ما قطع رأسها- في الكرتون، ثم تمر بعد ذلك على كماشة تأخذ الريش الذي عليها حتى تسلخها، ثم بعد ذلك تمر على آلة تقطع الرجل وتسقط، ولا شك أن مثل هؤلاء ما ذبحوا حتى ولو كانوا مسلمين، فلا يحل ذبحهم والحال هذه، أما إذا تحقق أنهم يذبحون بسكين حادة، وأنهم يصفون الدم فإنه يباح.
والحكمة من الذكاة خروج هذا الدم؛ لأن بقاء الدم في هذا الطير أو في هذا الحيوان يفسد لحمه، ولكن كثيراً من أهل المصانع يتركون الدم فيها لأنه يزيد في الوزن، فيزيد في الوزن -مثلاً- ولو جراماً أو جرامين؛ لأنهم يجهزون -مثلاً- مائة ألف من هذا الحيوان يومياً، وهذه الزيادة التي هي جرام تزيد في الثمن، فيأخذون عليها ثمناً، فلأجل ذلك يحاولون أن لا يقطعوا الرأس إلا بعد أن تموت ويبقى الدم فيها، فنقول: إن ذبحهم -والحال هذه- أقرب إلى أنه محرم، فمن التنزه أن لا تؤكل ذبائحهم، وهذه اللحوم المستوردة قد كتب فيها شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله رسالة مطبوعة بعنوان (اللحوم المستوردة) ورجح فيها أن لحومهم غالباً ليست مذبوحة ذباحاً شرعياً.
قال: [وسن قطع الودجين] بالطعن في جانبي العنق، وهما اللذان يخرج منهما الدم الكثير؛ لأن الحكمة في هذه الذكاة لأجل خروج الدم الذي هو محرم ويفسد اللحم.
قال: [وما عجز عنه كواقع في بئر ومتوحش ومترد يكفي جرحه حيث كان]، وفي حديث رافع يقول: (ند بعير - هرب بعير - فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا)، فإذا هرب -مثلاً- ورموه بسهم فمات بسبب السهم فإنه حلال، سواء من الصيد أو من بهيمة الأنعام؛ لأن هذا السهم جرحه، ولا بد أنه خرج من هذا الجرح دم، فيكون بذلك صار حلالاً، وكذلك لو وقع في بئر، فإذا وقع جمل في بئر ولم يقدروا على إخراجه وعرفوا أنه سيموت، ينزلون عليه ويذبحونه، إن قدروا على أن يذبحوه في أصل الرقبة أو في أصل الرأس، فإذا لم يجدوا طعنوه في جنبه، أو طعنوه في فخذه حتى يموت بسبب سكين، والعادة أنه يخرج منه الدم، فيكون ذلك مبيحاً له مع ذكر اسم الله تعالى، وكذلك المتوحش، لو توحش تيس وهرب فرموه، فإنه إذا رموه وأصابوه بهذا السهم ومات بسببه إذا ذكروا اسم الله عليه حل أكله، والمتردي: الذي يسقط من جبل أو من سطح، إذا لم يجدوا إلا أن يجرحوه في الطريق، فإذا جرحوه في أي مكان يكفي جرحه حيث كان، في ظهره أو في فخذه أو غير ذلك.
فإن أعانه غيره فلا يحل، كما إذا كان رأسه في الماء وعرف أنه مات بسبب الغرق، فهذا البعير إذا انغمس رأسه في الماء ولم يستطع أن يخرجه، ولما وصلوا إليه وجدوه قد مات، ولو جرحوه فعادة لا يخرج منه الدم؛ لأنه قد مات، وإذا مات فإن الدم يتسرب في اللحم فلا يخرج، فلأجل ذلك إذا سقط البعير في البئر وانغمس رأسه في الماء، وجاءوا إليه وقد مات وطعنوه فإنه لا يحل؛ لأن الموت حصل بسبب انغماس رأسه في الماء، وكذلك كل ما كان موته بسبب مباح وغير مباح.
لو نسي التسمية وسها بسبب العجلة ونحوها سقطت التسمية وحلت الذبيحة، وأما إذا كان تركها جهلاً فلا تحل ذبيحته، ويذكر بعض الإخوان أنهم يأتون إلى بعض الذين يعملون في بيع الدواجن في بعض الأماكن، وأن أولئك الذين يذبحون من سرعتهم يذبح أحدهم وهو يتكلم ولا يذكر اسم الله، وغالبهم من المتعاقدين يقول: إنه قال لأحدهم: كيف تذبح ولا تسمي؟! فقال: أنا أسمي في قلبي. يعني: أنه تكفيه التسمية في القلب فأنكر عليه وقال: لا بد من التسمية، فإذاً أنا لا أشتري منك وأنت لا تذكر اسم الله، يأخذ بالدجاجة ويقطع رأسها وهو يتكلم، ويضعها بمكان يصب فيه الدم، ثم يأخذ الثانية ويذبح بسرعة ولا يذكر اسم الله، فالواجب أنه يسمي عند كل واحدة يذبحها من دجاج أو حمام أو نحو ذلك.
كذلك الذين يذبحون الإبل ونحوها يذكر أيضاً أنهم يستأجرون عمالاً من أفارقة أو نحوهم، وهؤلاء أيضاً لا يذبحون الذبح الشرعي، يأخذون خشبة ثم يضربون بها البعير أو الثور في رأسه ضربات إلى أن يسقط، ثم بعد ذلك يشرعون في الذبح، وغالباً أنهم لا يعرفون التسمية، وإنما همهم أن يذبحوها بسرعة وأن يسلخوها ويرسلوها إلى صاحب اللحم الذي يبيعها لحماً، ولا يهمهم إلا أنهم يستأجرون عمالاً لأجل أن يريحوهم من هذا الذبح ومن هذا السلخ وما أشبه ذلك.
فالحاصل أنه لا بد أن يكون الذابح أهلاً، وأن يكونوا ممن يذبح ذبحاً شرعياً، وأن يكون ممن يذكرون اسم الله، وأنه إذا لم يذكر اسم الله تجاهلاً لا يحل، أما إذا ترك التسمية لعجلة أو نحو ذلك تهون، فإن ذلك يبيح ذكاته.
يكره الذبح بالآلة الكالة، وهي السكين التي ليست محددة، كأن تكون مثلمة، فلا يجوز الذبح بها، وذلك لأنه يعذب ذلك الحيوان من شدة حزه، وربما يبقى يقطع عشر دقائق أو ربع ساعة وهو يحز قبل أن يقطع الجلد، ثم يقطع اللحم، ثم يقطع الحلقوم، ثم يقطع المري، فيبقى مدة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، والشفرة: هي السكين، تسمى شفرة وسكيناً ومدية، فينبغي أن تكون حادة حتى تقطع سريعاً، وحتى لا يعذب ذلك الحيوان إذا كانت الآلة التي يذبح بها كالة أي: متثلمة أو غير محددة.
ويكره أن يحدها بحضرة المذكى، فلا يحدها على حجر، أو على سكين، أو على حديدة والحيوان ينظر، بل يحدها بعيداً عنه؛ لأن الحيوان قد يكون له فطنة ومعرفة، فمثلاً: نقل في بعض الكتب يقول رجل: كنت أمسكت شاة أريد أن أذبحها، ولما عزمت على ذبحها جاءني رجل وأراد أن يكلمني، فألقيت السكين وأخذت أكلم الرجل، فقبضت الشاة السكين بفمها وذهبت بها، وحفرت بيدها بأصل الجدار، وألقت السكين ودفنتها في أصل الجدار، فقال: ألا تعجب ألا تعجب! يقول: فحلفت أني لا أذبح ذبيحة بعدها.
فهذه البهائم قد يكون لها شيء من الذكاء، فيكره أن يحدها والحيوان ينظر، ويكره أن يسلخها قبل زهوق الروح، وإذا ذبحها تركها حتى يخرج الدم، فإذا خرج الدم وزهقت الروح وسكنت عن الحركة وعلم موتها ابتدأ في سلخها، وسلخ الجلد: إزالته عن اللحم، ولا يكسر العنق أيضاً قبل زهوق الروح، والعادة أنهم يقطعون الحلقوم، ثم يقطعون المريء، ثم يقطعون الودجين، ثم يتركونه حتى يخرج الدم كله، ولا يكسرون العنق؛ لأن كسر العنق فيه تعذيب، وربما تموت بكسر عنقها ويتوقف الدم الباقي في العروق، فلا يكسر عنقها قبل زهوق الروح، أي: قبل أن تخرج الروح ويخرج الدم كله.
قال: [ونقخ لحم بيع].
أي: يكره نفخ اللحم للبيع، فبعض القصابين إذا أرادوا أن يذبحوا شاة أو نحوها ينفخونها حتى ينتفخ اللحم، وبعضهم يسقونها ملحاً حتى تنتفخ، فإذا جاء المشتري ورأى اللحم كثيراً ظن أنه لحم وإنما هو نفخ، فيكره نفخه إذا كان لأجل البيع.
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم بعلمه، ولم يكن هناك بينات تدل على أن فلاناً منهم وفلاناً، فكره أن يحكم بعلمه وأن يقتلهم بموجب ما يعلم منهم، وأيضاً خشي أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه؛ لأنهم يظهرون الإسلام للناس، وأيضاً لهم عشائر وقبائل يغضبون لأجلهم، فلأجل ذلك كره أن يعاملهم بعلمه.
الجواب: يعلمون وينصحون، وذلك لأنهم يفعلون ذلك عن تساهل، وهذه الكلمات التي تصدر منهم يفعلونها عن تساهل، ولو علموا خطرها لتركوا إن كانوا ذوي علم، فإذا أصروا على ذلك واستمروا عرف بذلك أنهم مرتدون فيعاملون معاملة المرتد.
ملعون يا سيدتي من قال فيك: إنك خرجت من ضلع أعوج. فهل تكفر بذلك؟
الجواب: لا شك أن هذا طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج) نعوذ بالله! وهذا -بغير شك- إذا تحقق فإنها تكون مرتدة، وتعامل معاملة المرتد، فتستتاب فإن تابت وإلا قتلت.
الجواب: قيل إن الآية منسوخة، وإذا لم تكن منسوخة فإنها في أهل الذمة، أي: أهل الكتاب، لا نكرههم على ديننا، بل إذا اختاروا العهد عاهدناهم، وإذا اختاروا الذمة أبقيناهم على ذمتهم، وإذا اختاروا الجزية أبقيناهم ولا نكرههم، وذلك لأن هذا قد يكون سبباً بعد ذلك في دخولهم الإسلام، فأما الكفار والمشركون فإنهم يخيرون بين الإسلام أو القتل.
الجواب: لا شك أنه كافر، وأما كونه مستحلاً أو غير مستحل فهذا شيء خفي، ونحن نعامله بالظاهر، ثبت أن عمر رضي الله عنه قال: (إن الوحي انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه، ومن أظهر لنا شراً كرهناه وأبعدناه)، ونحن نأخذهم بالظاهر، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) .
الجواب: لا شك أن هذا كفر، ومثل هؤلاء ليسوا بمسلمين، الذين يسبون الله أمام المسلمين حتى يثيروا غضب المسلم، فإن كان لك ولاية، أو كان هناك من لهم قوة فإن عليكم أن تنفذوا الحكم فيهم بقتلهم أو بقتالهم، وإلا فالتحذير منهم، وإلا فالرد عليهم.
الجواب: لا يجوز، فلا بد من التسمية عند كل واحدة ولو كانت مائة ألف، فالأصل أنهم يذبحون كل واحدة وحدها بالسكين، والتسمية سهلة ليس فيها مشقة، وكذلك أيضاً إذا كانت تذبح بسكين الآلة التي يعلقون فيها الدجاج حيث إن هناك أشرطة وخطاطيف يعلقون بها الدجاج أو الطير في أرجلها، ثم هذه الخطاطيف تمر على هذا الماء فتنغمس فيه هذه الدجاجة أو هذا الطير وهو حار فيسلخ جلدها، ثم بعد ذلك تمر على سكين فتقطع رأسها، فإن كانت قد ماتت بهذا الماء الحار حرمت، وإن كانت خرجت حية فلا بد من التسمية عند قطع رأسها بتلك السكين وإلا فلا تحل.
الجواب: لا شك أن هناك مذاهب، وأوسعها مذهب المالكية، فإنهم يرون إباحة أكل السباع أو كثير من السباع وكثير من الطير ولو كانت مما نهي عن قتله أو أمر بقتله، أو كان له ناب من السباع أو له مخلب من الطير، والمذاهب تختلف، ولكن إذا ترجح لك أن هذا محرم لثبوت الحديث فيه فلا تعمل بأي مذهب يخالف ذلك.
والنيص فيه خلاف، قالوا: إنه لا يأكل إلا عروق الشجر، ولا يأكل الجيف ونحوها. فلذلك أباحه بعضهم، ولكن العرب تستخبثه.
الجواب: ذكر المصنف أن دواب البحر كلها حلال إلا ما استثني من الضفدع والتمساح والحية، لكن قال بعضهم قولاً آخر، قال: كل ما له شبيه في البر وهو محرم فإنه يحرم من البحر. ومعلوم أن هذا الشبه إنما هو في الخلقة، فلو كان يشبه كلب البر أو -مثلاً- خنزير البر فالأصل أنه لا يعيش إلا في البحر، وأنه يتغذى بدواب البحر كما يتغذى السمك، فيكون حلالاً.
الجواب: لا يجوز؛ لأنه إذا تغذى على الدم فالدم محرم ولو كان الدم مستحيلاً، هذا هو الصحيح، وهناك من يقول: إن النجاسة إذا استحالت طهرت ولكن ليس ذلك ممكناً أو متأتياً في كل شيء، فالأصل أن كل شيء محرم لا تجوز التغذية به.
الجواب: كأنهم يقولون: ما يأكل اللحم فلا يؤكل، وهذه يمكن أنها تكون قاعدة، لكن يستثنى منها الضبع، فالذين أباحوا الضبع يبيحون أكلها مع أنها تتغذى باللحوم، بل تأكل الجيف، وأما البقية فيقولون: كل ما يأكل الجيف فإنه محرم.
الجواب: إذا كانت علاجاً ودواءً لبعض الأمراض أو الأمراض النفسية فلا بأس، ولو حصل بها تخدير ونحو ذلك؛ فإن ذلك مما يستعان به في تخفيف تلك الآلام النفسية، وأما إذا لم يكن فيها فائدة فإنها محرمة.
الجواب: كثيرون ولو كانوا يؤثرون بعض السنة كإعفاء اللحية يظهر منهم شيء كثير من السخرية ببعض تعاليم الدين، وذلك دليل على ضعف الإيمان وعلى شك داخل قلوبهم، فمن عرف أحداً منهم فينصحه ويأتي بمن ينصحه ويبين له خطأه، فإذا أصر واستمر على ذلك فإنه يجب البراءة منه ومن أمثاله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر