أما بعد:
فهذه (آيات وعظات)، وهي عنوان واحد لمواضيع متنوعات متعددات, نرتوي بها من معين القرآن ونقف على أسراره، وننهل من فيض هذا الكتاب العظيم وأنهاره، آيات وعظات نذكّر بها قلوباً تحنّ إلى مولاها، وترقبه عز وجل في سرها ونجواها.
آيات وعظات نطمع بإذن الله أن نهذب بها أنفساً تطمح للمعالي، وتنظر بعين البصيرة النافذة في قرون مضت وأيام خوالي.
آيات وعظات نقدمها في المقام الأول لطلاب العلم وأهله, وللسائرين والسائرات على طريق الله المستقيم, وللمعلمين والمعلمات والمربين والمربيات، الذين جندهم الله جل وعلا ليكونوا دعاة إلى صراط الله المستقيم.
وإني لأرجو الله جل وعلا أن يرزقنا فيها التوفيق والسداد, كما أسأله جل وعلا أن يجعلها عملاً يراد به وجهه, ويتقى به سخطه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, كما أرجوه جل وعلا أن يجعلها نافعة نافذة قريبة من قول لبيد :
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعِد جودها فرهامها
من كل سارية وغاد مدجن وعشية متتابع إرزامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والعين عاكفة على أطلائها عوذاً تأجل بالفضاء بهامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها
وإننا بعون الله تعالى سنفصح في أول الأمر عن تلك العناوين, ثم نسأله جل وعلا التوفيق في عرضها،
فعناوين العظات، وهن ست:
خطيب الأنبياء.
قهر الرجال.
الصديقة مريم.
أعظم الغبن.
ماء المحيا.
العرش والقلوب.
وهي في المقام الأول كما بينت سلفاً للقائمين بالدعوة إلى الله، إذ يرجى من هذه المحاضرة لقائلها قبل سامعها أن تكون عوناً في بناء النفس إيمانياً وعلمياً ومعرفياً, وما ذاك ليتم إلا بتوفيق الله العزيز العليم:
بعث الله جل وعلا الرسل رحمة بعباده، وكانوا كما أخبر عليه الصلاة والسلام جماً غفيراً، وخلقاً كثيراً، منهم أربعة من العرب فقط، ذكرهم عليه الصلاة والسلام حينما قال لصاحبه أبي ذر رضي الله عنه: (هود وشعيب وصالح ونبيك يا
وشعيب عليه الصلاة والسلام دل ظاهر القرآن، وذهب كثير من العلماء إلى أنه منعوت موصوف بأنه (خطيب الأنبياء) إذ كان يقرع الحجة بالحجة، ويبين لقومه بلسان عربي مبين، ما هم فيه من الضلالة وما يدعوهم إليه من الحق، ومن تأمل مسلكه في كتاب الله جل وعلا وطريق دعوته لقومه تبين له إصابة ما ذهب إليه جماهير العلماء من نعته عليه الصلاة والسلام بأنه خطيب الأنبياء، قال الله جل وعلا: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85].
دعاهم أول الأمر إلى ما دعت إليه الرسل أجمعون، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فلا معروف أعظم من التوحيد، ولا منكر أعظم من الشرك.
ثم لما كان حصيفاً عاقلاً خاطبهم بالمنكر الظاهر فيهم غير الشرك وهو: (التطفيف في الكيل والميزان)، فكانوا قوماً يأخذون الزائد ويعطون الناقص.
والداعية الموفق المسدد إنما يخاطب كل قوم بالمنكر الذي هم فيه, فقد تصلح خطبة جمعة في مكان ولا تصلح في مكان آخر، وتنفع هذا الحي وقد لا تنفع آخرين في حي آخر، وقد يكون في مدرسة أو دائرة حكومية منكر بعينه، يجب توجيه الخطاب إليه، لكنه غير موجود في دائرة أو مدرسة أخرى، وأنبياء الله عليهم السلام كل منهم يدعو إلى التوحيد ثم يحذر قومه من المنكرات الشائعة إبّان بعثته بينهم بأمر الله تبارك وتعالى.
فلما عرض عليهم ما عنده نالوا منه بتهكم وسخرية: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].
كلام يراد به الاستفزاز وإخراج الداعية عن طوره؛ ولكنه صلوات الله وسلامه عليه بقي صلباً ذا سكينة وهدوء، يدرك ما يقول (وما كل من أذَّن لك يجب أن تقيم له) فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه دون أن يتغير خطابه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
كلمات جميلة في مبانيها ومعانيها، ذكرهم بنعمة الله عليه من النبوة والرسالة، وبأنه واضح المنهج، مؤيد بالوحي، وأنه لا يريد التميز عنهم: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88]، أي: فأنا منكم وبكم، حتى لا يشعر قومه أنه يريد أن يتفرد بمنصب أو أن يعلو عليهم لأمر أو لآخر.
فبعد أن عرض ما عنده قال: وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89]، ذكرهم بأيام الله الخوالي ووعظهم بأهل القرون الخالية والسنين الغابرة، كيف نكّل الله جل وعلا بهم لما خرجوا عن أمر الله.
وقوله: ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي [هود:89]، إدراك لما في النفس الإنسانية، أن النفوس إذا أحبت أحداً أقبلت عليه ولو سقاها العلقم, وإذا أبغضت أحداً أدبرت عنه ولو أعطاها العسل صافياً! علم أنهم أبغضوه -لأنهم حسدوه على أنه نبي رسول- عرف قطعاً أنهم لن يقبلوا منه فقال: وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ [هود:89].
وقبل أيام -وهذا من جيد القول- أجرت إحدى الصحف لقاء مع السفير الإيطالي في بلادنا، الذي أعلن إسلامه مؤخراً، فقال كلمة تنطبق قريباً من تفسير هذه الآية، قال: ليس الأصم من لا يسمع، ولكن الأصم حقيقة من لا يريد أن يسمع؛ لأن الأصم حقيقة تستطيع أن تصل له بطريقة أخرى، لكن الذي لا يريد أن يسمع يصعب عليك إيصال الخير إليه، وكثير من الناس والعياذ بالله يكتب على نفسه الصمم، وهذا يواجه الدعاة والمربين والمعلمين كثيراً.
فالبعض يكتب على نفسه الصمم، فلا يريد أن يسمع، ولا يريد أن يقبل، بل إن من الناس من يريد ألا يفكر أصلاً، والناس في التفكير ثلاثة:
شخص لا يستطيع أن يفكر، فهذا مجنون.
وشخص لا يريد أن يفكر، فهذا متعصب لما هو عليه.
وشخص لا يجرؤ أن يفكر، وهذا والعياذ بالله عبد من العبيد لا يستطيع أن ينفك عن السير الذي هو عليه.
قال: وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ [هود:89]، ثم أفرد قوم لوط بالذكر قائلاً: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89].
وهنا تظهر احتمالات ثلاثة:
إما أن يكونوا غير بعيدين عنهم مكاناً، أو زماناً، أو صفات, وأراد شعيب الثلاثة كلها:
فقوم شعيب كانوا قريبين أرضاً من قوم لوط فكلهم في أطراف الشام.
وكانوا قريبين زمناً, قال المؤرخون: ليس بين لوط وشعيب كبير زمن.
ثم إنهم قريبون في الصفات، فكلا الفريقين مشركان بالله جل وعلا، شائع فيهما المنكرات في أنديتهم ومجالسهم، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
ثم لجأ إلى الترغيب بعد أن أخذهم بالترهيب, فقال: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90], وذيّل ذلك الاستغفار بأنه رحيم ودود، والله جل وعلا أرأف من ملك، وأجل من ابتغي، وأوسع من أعطى، وأرحم من سئل، ولا ينبغي لمن يتصدر للدعوة أن يقنط الناس من رحمة الله جل وعلا مهما بلغت ذنوبهم ومهما بلغت معاصيهم, قال الله جل وعلا على لسان الخليل إبراهيم: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال الله جل وعلا على لسان يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وهذا من أعظم الأدلة لمن قال من العلماء إن الدعوة لابد لها من سلطان يحميها, فالداعية في مكان مخصوص يحسن به أن يشكل عصبة, وأن يكون الرأي العام معه حتى إذا احتاج إليهم أعانوه في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
وذلك أن لوطاً عليه السلام كان في أرض العراق، وآمن مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان لوط ابن أخ لإبرهيم، ثم هاجر لوط إلى قرية سدوم فبعثه الله جل وعلا إليهم، فلما دعاهم وجاءت الملائكة على صورة شباب حسان إلى لوط عليه الصلاة والسلام، وتآمر قومه عليهم، لم يكن للوط عصبة يحمونه ولا يدفعون الشر عنه؛ ولذلك قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، هذا الأمر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (فما بعث الله نبياً بعده -أي: بعد لوط- إلا وهو منعة من قومه)، فإن قوم الرجل وإن لم يؤمنوا به فينصروه، تأخذهم العصبة والحمية في أنهم لا يقبلون للداعية منهم أن يناله أذى.
وهذا قد حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل بعثه من بني هاشم، وقد كان من أعز بيوت العرب في الجاهلية -كما هو معلوم- فلما قررت قريش حصار بني هاشم في الشعب اجتمع بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب، بل نقل بعض المؤرخين أن أبا طالب وهو على كفره ولم تكتب له الهداية، إلا أنه منعة وعصبية وحمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم كان إذا نام عليه الصلاة والسلام في الشعب وأدركته عيون قريش، يأتي فيحمل النبي عليه الصلاة والسلام ويضعه في مكان آخر، ويأتي بأحد بنيه، فيضعه في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه إذا حصل أذى ينال ابنه ولا ينال النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ينهى الناس أن يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وينأى بنفسه أن يدخل في دين الله جل وعلا!
والمقصود أن من التوفيق والسداد أن يكون للدعوة سلطان يحميها.
فلما قالوا: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91]، لجأ عليه الصلاة والسلام إلى بلاغة الخطاب، فحيناً يؤثر وحيناً يغير: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود:92-93].
وصل معهم إلى النهايات، قدّم الحجج ذكر البراهين، ذكرهم بالله، رغّب حيناً ورهب أحياناً، لكن قد كتبت عليهم الضلالة من قبل, فنزل العذاب فنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الله أهل الكفر والطغيان، قال تعالى: نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:94-95].
لكن في الشعراء قال جل ذكره: كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:176-177]، ولم يقل جل وعلا: (أخوهم شعيب).
فذهب قليل من العلماء والمفسرين منهم قتادة رحمه الله: إلى أن (شعيباً) المذكور في الشعراء غير شعيب المذكور في هود والأعراف, وهذا خلاف الصواب، وإنما كان ينبغي أن يُبحث عن السر الذي من أجله قال الله: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85] ولم يقل في الشعراء: (أخوهم شعيب).
وقد قال ابن كثير : إن الجواب عن هذا من فرائد العلم، والجواب هو: أن الله لما نسبهم إلى القبيلة والأرض وهي (مدين) أرضهم وقبيلتهم قال (أخوهم)؛ لأنه فعلاً أخ لهم، فهو ابن الأرض التي نشئوا بها وابن للقبيلة التي ينتمون إليها.
ولما نسبهم إلى ما يعبدون من دون الله: كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ [الشعراء:176] برأ الله نبيه من أن يكون أخاً لهم، فقال: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:177].
فبرأه الله جل وعلا من أن يصبغ عليه صفة الأخوة بعد أن نسب أولئك الكفرة إلى ما يعبد من دون الله جل وعلا!
هذه -على وجه الإجمال- أولى العظات والوقفات مع خطيب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وأعظم الدروس المستفادة منها: أن سلاح العلم أعظم ما ينبغي على الداعية الموفق أن يتزود به.
والنظر في أحوال القرآن وأنبياء الله ورسله ومواقفهم مع أقوامهم، من خلال تأمله وتدبره والتفكر فيه، يهيئ للداعية أن يكون داعية موفقاً مسدداً، والكمال عزيز، وكلنا ذو خطأ، وقد قال مالك رحمه الله ورحم الأئمة من بعده: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم!
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال).
وأخرج أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً فرأى رجلاً من الأنصار يقال له:
من الحديثين: يظهر أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ وأمر بالتعوذ من قهر الرجال، فما قهر الرجال؟
قهر الرجال في قول كثير من العلماء: ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغم، لغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق، وخصمه على الباطل.
وأردت بهذه العبرة أن أذكر إخواني أن الحياة الدنيا ميدان تنافس، فربما غلبت المطامع الدنيوية على العبد فكان سبباً في قهر إخوانه حتى يصل إلى مبتغاه وأمله، فيجعل الطريق إلى مبتغاه أن يمضي على أكتاف الناس، وهذا خلاف اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدره، وفيه ما فيه من معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن سيبويه -عليه من الله الرحمة والغفران- فارسي الأصل، نشأ في البصرة، وكان أول حياته يطلب الحديث، فجلس إلى شيخ يقال له حماد بن سلمة ، وأخذ يقرأ عليه، فمر على حديث -بصرف النظر عن درجة صحته- فقرأه: (إنه ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس
فأطبق الكتاب، وقال: لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد، فلزم شيوخ البادية وعكف عند الخليل بن أحمد الفراهيدي يطلب منه العلم، وأخذ عن غيره من الأقران كـيونس ، وعيسى بن عمر .. وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك، حتى علا شأنه وهو صغير، وبز أقرانه، وتفوق على كثير من طلاب العلم، حتى أصبح وهو في العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه في إمامة النحو أحد.
وكان في تلك الفترة قد ألف كتابه (الكتاب) ولم يخرجه للناس، وكتابه المسمى والموصوف بـ(الكتاب) في النحو، ألفه في أوائل القرن الثاني تقريباً، ومنذ عصره إلى اليوم لم يؤلف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم من كتاب سيبويه ، مما يبين بجلاء أن للرجل قدم صدق واضحة وعلو كعب في علم النحو، وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك.
ثم سمع ببغداد وكانت يومئذٍ عاصمة الخلافة، وكان أقرانه من الكوفيين كـالكسائي وغيره يذهبون إلى بغداد، فينالون حبوة الأمراء وأعطياتهم وشرف المنازل، فأراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته فانتقل من البصرة وتوجه إلى بغداد ونزل عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وأراد أن يكون مرحلة جديدة من حياته، فلما دخل على يحيى أقام يحيى مناظرة بينه وبين الكسائي زعيم نحاة الكوفة.
وكانت اللعبة السياسية آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجه؛ لأن البصرة كانت في الماضي حليفة لبني أمية، فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب بني العباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة!
وأقيمت المناظرة، وكانت في حال الاسم الواقع بعد (إذا) الفجائية، فكان سيبويه يرى أن حقه الرفع حالة واحدة لا تقبل الوجهين، وكان الكسائي يرى جواز الوجهين: الرفع والنصب.
فقال لهما يحيى بن جعفر : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟
فقال الكسائي : هذه وجوه الأعراب ببابك قادمة من كل صقع فاجعلها تحكم بيننا.
وكانت الأعراب يومئذٍ لم تخالطها العجمة، فيحكمون بين النحاة لأنهم على السليقة، وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد ، فأراد الأعراب أن يمالئوا ويجاملوا الكسائي على سيبويه رغبة في المال والجاه والأعطيات، فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده وهو يعلم يقيناً أنه على الحق، قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم: إن الحق مع الكسائي !
فلما قيلت هذه الكلمة انخفض خاطره وكسر ظهره وما جاء من أجله، فزاده الكسائي نكالاً فقال لـيحيى : أيها الأمير! أصلحك الله، إن الرجل قدم يرجو أعطياتك فهلا جبرته، فأعطى يحيى سيبويه بعضاً من المال يريد أن يجبر به كسره، فخرج رحمه الله من عنده وقد أصابه من الغم والهم وقهر الرجال ما أصابه، يتوارى من الناس من سوء ما لحق به حتى إنه لم يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ، رغم أنه رحمه الله كان إذا خرج لصلاة الفجر سحراً وهو في الثانية والثلاثين من عمره يجد طلاب العلم يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر.
فذهب هذا المجد كله وهو قد جاء ليؤثل مجداً جديداً وعملاً خالداً، فذهب إلى قرية من قرى فارس، ومر في طريقه على تلميذه الأخفش فبثه شكواه، وقال له بنجواه، وأخبره بالقصة ولم يستطع بدنه أن يتحمل ما أصابه من قهر وهم، فدب به المرض ولم يلبث إلا يسيراً حتى توفي، وعندما احتضر وشعر بدنو الأجل ذكر بيتين من الشعر تناسب حاله وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بآخر، فقال رحمه الله:
يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية دون الأجل
وبات يروّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل
ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى بارئها، فرحمه الله!
كما أنه رحمه الله تعالى ذكر للناس طريقة جميلة في التأدب مع المشايخ والعلماء فقد كان شيخه الأول: الخليل بن أحمد ، فكان حتى يميز الخليل ، شيخه الأكبر والأجل والأول عن غيره، يقول رحمه الله في الكتاب: وزعم عيسى بن عمر : وحدثني أبو الخطاب ، وأخبرني يونس ، فيذكر أسماء المشايخ، فإذا قال: (حدثني) وذكر الخبر دون أن يذكر الفاعل، أو قال (سمعته يقول) دون أن يصرح باسمه، فإنما يقصد في المقام الأول شيخه الخليل بن أحمد فكان يرى أن شيخه هذا أجل من أن يذكر وأكبر من أن يسطر اسمه إلا في بعض مواطن من الكتاب لا تخفى لمن اطلع عليها.
ثم إنه ضرب مثلاً في قوة النفوذ العلمي للكتاب، فالكتاب الحق هو الذي إذا خرج إلى الناس تقنع الناس مادته العلمية لا ما فيه من تقريض العلماء، وثناء الفضلاء، فإن الله جل وعلا لما أنزل كتابه قال في أول صفحاته بعد الفاتحة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]، أي: دونكم الكتاب فاقرءوه، والله جل وعلا صادق ولا يقاس به أحد من خلقه، لكن هذا منهج في أن الإنسان إذا أراد أن يؤلف فليعتن بمادة الكتاب ولا يعنى بتقديم غيره له، حتى يكون كتابه أوقع في النفوس، وأملأ لليد، ويحتف به الناس.
فسيبويه لم يجعل لكتابه خطبة ولا مقدمة ولا قافية، وقد يقال: إنه مات قبل أن يخرج كتابه، لكن أياً كان الأمر فإن كتابه فريد عصره.
والشاهد: أن ما حصل له هو دليل من أدلة ما يسمى بقهر الرجال.
على أنه ينبغي أن يعلم كذلك أن ميدان التنافس الدنيوي يدفع الإنسان لتصرفات لا يحب أن يعامل بها، فيريد أن يصل قبل أن يكتب له الوصول.
وأعلم يا أُخيّ! إن كنت طالب علم أو عالماً أو مربياً، أن ما كتبه الله لك لن يمنعك منه أحد، وما لم يكتبه الله جل وعلا لك فلن يصل إليك أبداً ولو اجتمع أهل الأرض على أن يوصلوه إليك، فالحق الذي لا مريه فيه أن تتأدب مع الأئمة الأعلام والأكابر الماضين إذا ألفت كتيباً.
ومن قرأ مقدمة الشيخ الوالد محمد المختار رحمه الله في (شرح سنن النسائي الصغرى) يتعجب، فقد ذكر أنه دفعه إلى التأليف: أن الناس لم يحتفوا بسنن النسائي ، وإلا فهو يرى نفسه أقل من أن يكتب أو يؤلف مؤلفاً، وذكر أبياتاً جميلة في هذا تنسب لأحد المالكية:
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
وإن ترفع الوضعاء يوماً على الوضعاء من إحدى الرزايا
ومن يثن الأصاغر من مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا
ذكر الله جل وعلا في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، منهم ثمانية عشر في سورة واحدة هي سورة الأنعام، وسبعة متفرقون, وذكر الله جل وعلا من الرجال الصالحين غير أنبيائه ورسله بأسمائهم الصريحة: تبعاً وذا القرنين ولقمان وطالوت وزيداً رضي الله تعالى عنه, وهؤلاء ليسو بأنبياء ولا رسل على الصحيح أو الأظهر, ولم يذكر جل وعلا في القرآن اسم امرأة إلا امرأة واحدة هي مريم ابنة عمران , ذكرها في مواضع متفرقة باسمها الصريح: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12]، وذكرها بالنعت الجميل: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، وذكرها بالاصطفاء: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42].
فما الذي نالت به مريم بعد فضل الله هذه المنزلة؟ وهذه العظة قد تكون أنفع للنساء من الرجال.
والجواب: نالت الصديقة مريم هذه المنزلة بسببين, كلاهما مندرج تحت رحمة الله:
السبب الأول: إيمانها وعبادتها.
والسبب الثاني: عفتها وحياؤها.
قال الله جل وعلا: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].
فليس النبتُ ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي السافلات
حنة امرأة عمران نُشَّئت في بيت صالح من سلالة داود عليه السلام، وكانت لا تحمل, فجلست ذات يوم تحت شجرة, فجاء طائر فأطعم صغيره, فحنت للولد، ونذرت إن رزقها الله ولداً أن تجعله خادماً للرب في بيت المقدس.
فحملت بإذن الله, وبقيت على نذرها ونسيت أنه من الاحتمال أن يكون أنثى: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] أي: ما يصلح للذكر قد لا يصلح للأنثى، وما تقوم به الأنثى مختلف عن الأعباء التي حملها الله جل وعلا الرجال، لكنها مع ذلك أسمتها مريم ، أي: عابدة الرب، ومن اللحظة التي ولدت فيها مريم أرادت أن يعتني بها ربها فقالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] وهذا دعاء!
فكان الرد الإلهي: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وكان نبي ذلك العصر.
تكفلها زكريا بعد إجراء القرعة, فنشأت عليها الصلاة والسلام وقد اتخذت موطناً في المسجد يعرف بالمحراب, تعبد ربها وتقنت وتركع وتسجد، وليس لها همٌّ إلا طاعة الواحد الأحد.
فلما تهيأت للعطاء الرباني بما أظهرته لله جل وعلا من تقوى وصلاح, كانت مع تقواها وصلاحها محافظة على عفتها وحيائها, ولا تملك امرأة شيئاً أعز من إيمانها وعفتها وحيائها أبداً.
فخرجت ذات يوم لتطرد عنها الملالة شرقي بيت المقدس، قال الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [مريم:16].
فلما خرجت إلى شرقي بيت المقدس إذا بجبرائيل في صورة شاب تام الهيئة, جميل المنظر، بهي الطلعة, فتذكرت حياءها فذكرته بالله.
والإنسان يخاطب الناس بخلفيته الثقافية, فلأنها تخاف من الله ذكرته بالله، ولأنها تعرف معنى التقوى ذكرته بالتقوى: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، أي: إن كنت تقياً فاتركني في حالي.
فلما نجحت في الابتلاء ولم تتنازل عن حيائها وعفتها, قال لها الملك: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19] فتعجبت! قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم:20].
وقد يقول قائل: كان المفروض عندما بشرها بالولد أن تعرف أنها ستتزوج؛ لأنه لا ولد إلا من زوج؟ لكن الذي دعاها أن تفكر في أنه لن يكون من زوج أن الملائكة قالت لها من قبل: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، فنسبوه إليها ولم ينسبوه إلى أب, فعلمت أنها لن تتزوج.
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، فأخبرها أن إرادة الله لا يمنعها شيء أبداً: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [مريم:21].
ولو أن الناس فقهوا هذه الآية فقط لما يئس أحد وهو يرفع دعاءه إلى الله جل وعلا, فإن الله إذا أراد أن يرحمك فلن يمسك رحمته أحد, وإذا أراد أن يمسك عنك رحمته -عياذاً بالله- فلن يرسل تلك الرحمة أحد: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2].
وغاية الأمر: أن جبرائيل عليه السلام نفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى رحمها، فحملت بعيسى بن مريم عليه السلام.
فكأنه عليه الصلاة والسلام ربط الفتن بالسماء, وعصرنا هذا قد ذاعت فيه القنوات الفضائية وشاعت, وهي في أكثر ما تمليه وغالب ما تعطيه، تصرف شباب الأمة وفتياتها عن طاعة الله جل وعلا, في تحد لا يسع أحداً يدعو إلى الله جل وعلا أن يسكت عنه, وإن مسئولية ما تمليه تلك القنوات يقع على الأمة بأسرها, فيقع على سائر الحكام والسلاطين من غير استثناء، ويقع على العلماء والدعاة, ويقع على أهل الثراء, ويقع على العامة.
أما وقوعه على السلاطين والحكام: فإنه ينبغي أن يكون هناك قرار سياسي على مستوى الأمة يمنع ما تمليه تلك الفضائيات .
وأما على مستوى العلماء: فإنه ينبغي على العلماء أن يبينوا ليلاً ونهاراً خطر ما تبثه تلك القنوات من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
وأما على مستوى أهل الثراء: فإن كثيراً من تلك القنوات إنما تقوم على الزخم المادي الذي يعود إليها من خلال الإعلانات.
وأما ما يقع على العامة: فإن المسئولية يوم القيامة مسئولية فردية, والله جل وعلا سيسأل كل أحد عن تقصيره وفعله وسمعه وبصره وفؤاده.
وقد كتب قبل أيام في إحدى الصحف: أن إحدى القنوات -عياذاً بالله- في يوم الحج الأكبر -يوم العيد- عرضت فلماً يصور مشهد اغتصاب لممثلة قد أفضت إلى ربها، فالقائمون على تلك القنوات، والمنتجون لتلك الأفلام لم تسلم منهم امرأة تائبة ولا امرأة ميتة ولا امرأة معتزلة لكبر سنها.
فما أن ينطق أحد بالعورات ويجهر بالفحشاء إلا ويتلقفونه في تسابق مذموم، يريدون أن يصرفوا همم شباب الأمة وشاباتها عن صراط الله المستقيم، وإيضاح هذا الأمر للناس أمر قرآني بحت، قال الله جل وعلا: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
لكني أكرر ما قلت في الأول: إن الخطاب في محاضرتي هذه لنخبة من المجتمع، وإن علينا أن نعرف كيف ننقذ بناتنا وأبنائنا من شر تلك الفتنة.
إن الغريق يحتاج إلى طرف الحبل, ومن الحماقة أن يرمى للغريق بالحبل كله؛ لأنك إذا رميت للغريق بالحبل كله صار طرفاه بيده فيبقى غريقاً كما هو, لكن ضع طرفاً بيده وطرفاً بيدك!
فيكون التعامل مع الشباب والشابات من غير أن نقطع الطريق معهم, ولا نطلب منهم أن يكونوا حالاً واحدة نقبلها أو حالة أخرى نرفضها، ولكن لا نيأس بل نبقي على خطوط الاتصال الدعوي معهم، ونبعدهم عن الرذيلة شيئاً فشيئاً، ونعنى بالإيمانيات أكثر من الفقهيات, ونضع لهم بدائل حتى ننتشلهم من أوحال الرذيلة.
وتطالب الدولة -وفقها الله- وأهل الثراء من أهل القطاع الخاص بتوفير فرص عمل لهم حتى يكون وقت الفراغ بالنسبة إليهم قليلاً, كل ما يمكن صنيعه لهم أمر نتحمل جميعاً مسئوليته حتى نبقي على عفاف بناتنا وعلى حياء أبنائنا, فإذا بقي لبناتنا حياؤهن وعفافهن ولأبنائنا تمسكهم بدين الله جل وعلا حُفِظَت الأمة في أعز ما تملك، وهم شبابها وشاباتها التي تؤمل منهم الأمة أعظم مما يدخره أولئك الفجرة لهم.
الغبن: لوعة في الصدر وحسرة وحرقة في القلب يجدها الإنسان على فوات مطلوب أو ذهاب مرغوب.
وأهل الدنيا تصيبهم حالات الغبن إذا فقدوا شيئاً دنيوياً، إما تجارة كانوا يؤملونها أو عطاء لم يحضروا تقسيمه أو ما شابه ذلك.
وأهل الآخرة سلك الله بي وبكم سبيلهم: إنما يصيبهم الغبن على أمور ربطها النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله بأحوال:
فمن أعظم الغبن أن يقول الله عز وجل : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83], ويكتب للإنسان أن يقرأ القرآن سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً أزمنة مديدة وأياماً عديدة ولا تفيض عيناه مع أن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].
ومن أعظم الغبن: أن يدرك الفرد منا أبويه أحدهما أو كليهما وهما أحوج الناس إليه, فلا ينال ببرهما الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الزمهما فثم الجنة).
والله جل وعلا يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24].
ومن أعظم الغبن: أن يخرج الإنسان حاجاً إلى بيت الله الحرام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، فيكتب له أن يقف في يوم عرفة ويدعو الله ويغلب على ظنه بعد ذلك أن الله لن يغفر له.
ومن أعظم الغبن: أن يقول الله جل وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133], فيخبر الله أنها جنة عرضها السماوات والأرض ولا يجد أحدنا فيها موضع قدم.
ومن أعظم الغبن: أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمن انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله جل وعلا بصالح أعمالهم, هذا ببره، وهذا بعفته، وهذا بأمانته, فتنزل على أحدنا النوائب وتحل به المصائب وتدلهم عليه الخطوب، ولا يجد في سالف أيامه عملاً صالحاً يتوسل به إلى الله.
وإن من أعظم الغبن: أن يصدر الإنسان بين الناس ولا يكون له سريرة تعدل ما يجهر به، نعوذ بالله من الخذلان.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وكلنا اللهم إلى رحمتك وعفوك.
تقول العرب:
فكن رجلا رجله في الثرى وهمته في هام الثريا
فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا
ماء الوجه يرتبط بحالة الإنسان النفسية، فكلما خلا الإنسان من الهم والغم، ومن غلبة الدين وضيق الهموم كان وجهه صافياً.
وقلة ذات اليد وغلبة الدين والفقر بوجه عام ليس عيباً قادحاً أبداً؛ لأنه مسألة قدرية، فالله -جل وعلا- يقول: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26]، وقال سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:27]، فلا يمكن أن يُقدح في أحد لأنه كان فقيراً أو قليل ذات اليد.
وأقصد بـ(ماء المحيا): أن الكبار من الرجال، والأفذاذ من الأحرار، والأعزاء من العباد يعلمون أن من حولهم من الأهل، والقرابة، والإخوان، والأصحاب، والخلان قد يكونون قليلي ذات اليد، ويمنعهم إباؤهم وشيمهم وعزتهم أن يسألوا الناس، فيحاول ذلك القيّم، ذلك الأخ، ذلك الأب، ذلك المربي أن يبقى محيا أخيه محفوظاً، فيعينه دون أن يخدش حياءه؛ لأنه يعلم أن الاستجداء -وهو الإلحاح في الطلب- أمر غير مقبول.
دخل على عبد الملك بن مروان ليقول له:
أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح
تقول العاذلات علاك شيب أهذا الشيب يمنعني مراحي؟
يكلفني فؤادي من هواه ظعائن يجتزعن على رماح
عرابا لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح
ولا خلاف في جمال المطلع، لكنه ينزل ليقول:
تعزّت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوو امتياح
أعلل وهي ساغبة بنيها بأنفاس من الشبب القراح
أغثني يا فداك أبي وأمي بسيب منك إنك ذو ارتياح
سأشكر إن رددت عليّ ريشي وأنبت القوادم من جناحي
فاتفقا على السعر واشترط جابر أن يركب الجمل حتى يصل إلى المدينة فوافق النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم إلى المدينة أمر صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يعطي جابراً ثمن الجمل ثم رد الجمل إلى جابر ، فكأنه أعطاه المال منحة وهبة لكن جعل البيع مدخلاً نفسيا إلى قلب جابر دون أن يخدش عزته وحياءه.
والمرأة اللبيبة إذا شعرت أن إحدى جاراتها، أو زميلاتها، أو قريباتها قليلة ذات اليد انتهزت فرصة يتهادى النساء فيها في الغالب، كأن تضع المرأة مولوداً، أو تزف ابنة لها، أو تنتقل إلى دار جديدة أو ما شابه ذلك، فتأتي بالهدية على مستوى أعلى حتى تسدد شيئاً من فقر قريبتها أو غيرها من النساء، دون أن تجبر صاحبتها على أن تطلب ذلك الأمر جهاراً.
وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أعطيات الحجاج بن يوسف رغم ما عرف عن الحجاج واشتهر أنه كان ظالماً غشوماً، وربما كانت غالب أمواله ليست من طريق شرعي سليم.
والمقصود أن حفظ الإنسان لإخوانه وخلانه، ومراعاته لشئونهم، وتحمله لهم مادياً ومعنوياً مما يكتب له به الأجر، ومما يدل على السؤدد والمروءة وعلو القدر، وكلنا إن شاء الله طالب تلك الرفعة الدنيوية المشروعة.
ينبغي أن يعلم أن كل ما سلف مرهون بالوقفة السادسة! وهذه الوقفة عنوانها (العرش والقلوب).
عرش الله جل وعلا سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو أعلى الموجودات وأعظمها قدرا وأطهرها ذاتاً، ولذلك صلح أن يستوي الله عز وجل عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، مع يقيننا أن الله مستغن عن العرش وعن غير العرش؛ لكنه قال سبحانه وهو أصدق القائلين: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
وأخبر سبحانه أنه رب هذا العرش العظيم فقال سبحانه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [المؤمنون:86].
وقال جل ذكره: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26].
وقال سبحانه: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:14-15].
وهذا العرش يحمله ثمانية من الملائكة، إما أن يكونوا ثمانية أفراد، وإما أن يكونوا ثمانية صفوف.
قال فريق من العلماء: إن أربعة من أولئك الملائكة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك! وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
وأقرب القلوب من العرش ومن الله جل وعلا أكملها طهارة وأعظمها نقاءً، وأبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
قال العلماء: إنه ما من شيء يعذب به العبد أعظم من أن يجعل الله تبارك وتعالى، قلبه قاسياً.
وقالوا: إنه إذا هبّ نسيم الشوق إلى الله جل وعلا أذهب ما في القلوب من التعلق بالدنيا وزخرفها.
وهذه القلوب جعلها الله آنية، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله آنية من أهل الأرض، وآنية الله من أهل الأرض قلوب عباده الصالحين التي ملأها من محبته وطاعته ومعرفته جل وعلا).
وحتى يكون الأمر أوضح: فإن الفؤاد هو عمق الدائرة النفسية كما يقول علماء النفس، وهذا له شاهد من القرآن، فإنه ينبغي عليك أن تتذكر كل آن وحين أن الله جل وعلا خلق النار ليذيب بها القلوب القاسية، قال سبحانه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:5-7].
يعرفه بطريقين:
الأمر الأول: إجلال العبد لله جل وعلا.
والأمر الثاني: متابعة سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
كان ابن عمر رضي الله عنهما له غلمان، فكان إذا رأى من أحد غلمانه التفافاً على الصلاة وانصرافاً إليها أعتقه حتى لا يحول بينه وبين العبادة، فكان باقي الغلمان يصلون أمامه وقريباً منه أملاً في أن يعتقهم رضي الله عنه وأرضاه فكان يعتقهم، فجاءه بعض خواص أهله وقالوا له: يا ابن عمر ، إنهم يخدعونك وإنهم يصلون لتعتقهم!
فقال رضي الله عنه وأرضاه: من خدعنا بالله انخدعنا له!
فإجلاله لله جل وعلا يجعله يقبل خدعة هؤلاء الغلمان؛ لأن هؤلاء الغلمان جعلوا من تعظيم ابن عمر لله تبارك وتعالى وسيلة لنيل مآربهم، وتلك منزلة عالية، أين نحن منها؟
وأما اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القلوب اللينة التي فطرت على الطاعة لا يمكن أن تكون أعظم رقة وأقوم سبيلاً من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تنال تلك المنزلة إلا باتباعها لسنته صلى الله عليه وسلم وعكوفها حول شريعته عليه الصلاة والسلام.
وقد يرى الإنسان بعض السنن أمراً يسيراً فلا يريد أن يصنعها، ظنا منه أنه يرقى إلى الأعلى. وليس الأعلى ما يوافق هواه، وإنما الأعلى ما وافق هدي محمد صلى الله عليه وسلم، أعني أنه ربما يجد المسافر أحياناً حرجاً أن يقصر الصلاة في السفر طمعاً في الكمال وهو أن يصليها أربعاً، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما أتم الصلاة في سفر قط!
فالسنة والخير والهدى والسهولة واللين في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، فإذا أجلّ العبد ربه تبارك وتعالى واتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وغذّى قلبه بالذكر وتأمله بالفكر وألهمه الله عز وجل اليقين وحسن الطاعة، وجعل قلبه منزلة لمحبة الله ومعرفته فتلك أعظم المنازل وأعلى المراتب بلا شك، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تصلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وأن تبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إنك خلقت جنة عدن بيدك، فأدخلنا اللهم الجنة برحمتك، اللهم إنك خلقت النار بأمرك فأجرنا اللهم من النار بقدرتك، اللهم إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك وحدك وملكك لا ينازعك فيها أحد، فاللهم فك أسر إخواننا المسجونين المأسورين في كوبا يا رب العالمين، اللهم نجهم بقدرتك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل لهم منجى ومخرجاً إنك أنت العزيز الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر