مّر سليمان عليه السلام في المنعة والعزة والجند الذي أعطاه الله إياه حتى أتى على وادي النمل فسمع نملة تنادي في أصحابها: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] ، فأعجبه عليه السلام رفقها بقومها، وتأدبها مع سليمان وجنده، فرفع يديه يدعو ربه جل وعلا بثلاث دعوات:
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل:19] ، فدعا في الأولى أن يمنّ الله عليه بأن يكون قادراً على شكر ما أفاء الله عليه من النعم وعلى والديه.
ثم سأل الله جل وعلا في الثانية: أن يعينه على العمل الصالح الرشيد في قوله عليه السلام: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل:19] ، ثم ختم تلك الدعوات الثلاث عليه الصلاة والسلام بسؤاله أن يدخله الله برحمته في عباده الصالحين، مع أنه مقرر شرعاً أن سليمان عليه السلام نبي كريم، ولا يخفى أنه لا يكون نبياً كريماً حتى يكون في المقام الأول عبداً صالحاً.
والعبد الصالح لفظة شرعية مباركة جاءت في القرآن وفي السنة، جاءت في القرآن وقفاً على أعلام، وجاءت في السنة وقفاً على أعلام، وجاءت في القرآن والسنة صفات مطلقة لعباد غير مذكورة أسماؤهم كما سيأتي بيانه.
النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالشرع وأحرص العباد على أن ينتفع الخلق، يذكر بالله ويدعو إليه ويعرف به، ومما كان صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه: أنه صلى الله عليه وسلم مر بهم ذات يوم فسمعهم يقولون في التشهد: السلام على جبريل وميكال السلام على فلان وفلان. فلما فرغ من صلاته التفت إليهم وقال: (لا تقولوا هذا، قولوا: التحيات إلى الله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.. ثم قال صلى الله عليه وسلم: فإنكم إن قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء أو في الأرض) .
فهذا مما قصد صلى الله عليه وسلم أن يعلمه أصحابه، أن يكون من الفوز الذي ينشدونه والغايات التي يطلبونها أن يكون من عباد الله الصالحين، فإن كان الإنسان عبداً صالحاً فإن قول المصلي في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصاحين يدخل هذا المؤمن التقي النقي في زمرة من دعا له ذلك المصلي في صلاته.
هذا الأدب النبوي ينجم عنه أمور لا بد من ذكرها، في المقام الأول الملائكة فإيمانهم لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ [التحريم:6] فينقص الإيمان وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فقد جبلوا على الخير وحرموا من الشر، فلا يزيد إيمانهم ولا ينقص.
وأما الأنبياء والمرسلون عليهم السلام فإن إيمانهم لا ينقص؛ لأنهم لا يعصون الله، وإيمانهم يزداد لأنهم يطيعون الله تبارك وتعالى، وأما غير الأنبياء والمرسلين وغير الملائكة من الجن والإنس فإن إيمانهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بالعمل الصالح وينقص بترك العمل الصالح والجنوح إلى المعاصي، ولا يعني ذلك أن العبد الصالح لا يعصي الله أبداً؛ لكنه أقرب إلى زمرة الفلاح منه إلى زمرة الذين ابتعدوا عن طريق الله المستقيم.
والعبد الصالح ينبغي أن يعلم أن العباد يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في عبادتهم لربهم جل وعلا، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي من يدخل الله بشفاعته أكثر من مضر الجنة) ، ومضر هي القبيلة العربية المعروفة، فيوجد من صالحي الأمة من يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من قبيلة مضر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث - وهو عند أحمد بسند صحيح -: (وإن من أمتي من يعظم في جهنم حتى يصبح زاوية من زواياها) فالناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً.
ونوح عليه السلام هو النبي المعروف أول رسل الله إلى الأرض، أسماه الله في القرآن بالعبد الشكور، قال الله جل وعلا: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3] ، وقد عمر أكثر من ألف عام صلوات الله وسلامه عليه، ولما أدركته الوفاة سئل: (كيف وجدت الدنيا يا نبي الله؟! قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر) .
بذل جهداً عظيماً في الدعوة إلى ربه تبارك وتعالى، فكان يدعو إلى الله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، وقص الله جل وعلا في كثير من سور القرآن كثيراً من أخباره وأيامه ودعوته إلى ربه، وهناك سورة من القرآن تحمل اسمه صلوات الله وسلامه عليه.
أما العبد الثاني فهو لوط عليه الصلاة والسلام، وهو على الأظهر ابن أخ لإبراهيم عليه السلام آمن لإبراهيم كما قال الله في كتابه: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] ، ثم إن لوطاً عليه السلام نبأه الله وبعثه رسولاً إلى قرية سدوم فدعاهم إلى ترك الشرك وإلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة عندهم، فجاءته الملائكة فراوده قومه على ضيفه حتى أخزاهم الله وجعل منقلبهم إلى وبال وأمرهم إلى خسران في قصة شهيرة ذكرها الله في كثير من سور القرآن.
والمقصود من هذا كله: أن هذا الوصف وصف به نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام بالتحديد.
وكان هذا الصحابي الجليل محباً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، واشتهر عنه بالصلاح أمور كثيرة لكن أكثرها عظيم اتباعه لنبينا عليه الصلاة والسلام حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شجرة سمرة فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يأتي إليها ويجلس تحتها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع، ونقل عنه أنه كان يأتي بالماء فيسقي تلك الشجرة حتى لا تيبس فيأتي إليها تخليداً وتأسياً بنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الصحابي الكريم نعته النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجل صالح في حديث صحيح: أنه رأى رؤيا، فرأى أن ملكين أتياه فطافا به إلى النار فرآها مطوية كطي البئر، ورأى فيها أناساً قد عرفهم، فجعل يقول في منامه: أعوذ بالله من النار. أعوذ بالله من النار.. أعوذ بالله من النار.. فجاءه ملك فقال له: لن تراع! وكان شاباً عزباً ينام في المسجد، فلما أصبح أخبر أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقصتها حفصة على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي الكريم عليه السلام: (إن أخاك
فهذه شهادة من نبينا صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عبد صالح.
هذا الصحابي الجليل أصيب في أكحله يوم الخندق، وكان رجلاً جسيماً يركب الدابة وينشد عليها الأشعار التي تدل على شجاعته، لما رأته عائشة رضي الله عنها بهذه الصفة خشيت عليه من الموت، إلا أن هذا الجرح بدأ يتضاعف تدريجياً حتى تفرق الأحزاب عن المدينة، فلما تفرق الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، وحكمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان يومئذ قد اشتد الجرح عليه فأتي به محمولاً على حمار، فلما أقبل به أصحابه إلى الموضع الذي فيه الرسول عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) أي: إلى سعد .
ثم حكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم بعد ذلك اشتد عليه المرض فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد حتى يعوده فيها لعظيم منته على دين الله جل وعلا ولجهاده وصلاحه، فانفجر الجرح ومات رضي الله عنه وأرضاه فنزل سبعون ألف ملك من السماء ليشيعوا جنازته أكثرهم لم ينزل من السماء قط، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ويسرع في مشيته وأصحابه من حوله تكاد تتقطع أشساع نعالهم وتسقط أرديتهم وهو يقول صلوات الله وسلامه عليه: (أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه) ، فلما دخل عليه وهو يغسل وأم سعد تبكي عليه قال صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) رضي الله عنه وأرضاه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سار في جنازته، فلما وضع في قبره تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، ثم سبح ثلاثاً فسبح الصحابة الذين معه حتى ارتج البقيع، ثم كبر صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه حتى ارتج البقيع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا العبد الصالح الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وفتحت له أبواب السماء، ونزل سبعون ألف ملك لتشييعه، لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح) .
أخبر صلى الله عليه وسلم أن سعداً على تقواه وصلاحه وجهاده وأيامه المشهودة مع نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينج من ضمة القبر، قال العلماء كما حكى الذهبي وغيره: ولا يعلمن مؤمن أن هناك راحة دون لقاء الله!
فالمؤمن لا يمكن أن يضع عنه الأوزار وتذهب الآلام حتى يلقى ربه جل وعلا، أما من يوم أن نفخت فينا الروح حتى نلقى الله جل وعلا فلا بد من النصب، ولا بد من كبد وسقم وألم في الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد، حتى يخلف المرء جسر جهنم وراء ظهره ويدخل الجنة ويلقى الله، فهناك يستريح المؤمن الراحة كلها.
قال الذهبي رحمه الله: ومع ما أصاب سعداً من ضمة القبر إلا أننا لنشهد أن سعداً في الجنة، وأنه في أرفع مقامات الشهداء رضي الله عنه وأرضاه ولكن لله تعالى سنن لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، ولذلك قال صلوات الله وسلامة عليه: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح) ، وليست ضمة القبر داخلة في عذاب القبر، وإنما هي ألم يصيب المؤمن كما يصيبه في الدنيا عندما يفقد حبيباً أو يسافر عن أهله أو ما إلى ذلك مما يجده الإنسان من عناء النفس، فليست من عذاب القبر في شيء ولكنها ضمة مكتوبة على كل مقبور، كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون! هؤلاء الثلاثة جاءت السنة بوصفهم أنهم عباد صالحون، وجاء القرآن بذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وما ذكرناه عيناً لا يعني الحصر فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عباد صالحون، والأنبياء والمرسلون أولى أن يكونوا عباداً صالحين، ولكننا تقيدنا باللفظ الذي تمليه المحاضرة.
ولا يجهل أحد منكم أن الإنسان لا يكون عبداً صالحاً حتى يعمل الصالحات، وليس هذا الذي قدمنا لنجيب عليه، لكن الذي قدمنا من أجله أن نضع معايير من عرفها وآمن بها وتعامل مع الله بوفقها كان عبداً صالحاً إن شاء الله.. هذه المعايير مستقاة من الكتاب والسنة، تقرب من الله وتدل إلى الجنة، وإلا فإنه لا يجهل مؤمن أن الصلاة والصيام والزكاة والحج وأشباه ذلك مما شرعه الله يكون به المرء مؤمناً صالحاً ولكن الناس يعلمون هذا ولا يستطيعون فعله؛ لفقد المعايير واليقينيات والمدركات التي من خلالها يتعاملون مع ربهم تبارك وتعالى.
أن يعلم الإنسان أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه خلق خلقه وهداهم النجدين فمنهم قريب ومنهم بعيد، وأنه جل وعلا خلقهم وسخرهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد.
وأن الأمر أمره، والخلق خلقه، والكل عنده عبيد قهر وذلة شاءوا أم أبوا.
إذا أدرك المؤمن هذا يدرك أنه لا عز إلا بالتذلل لعظمته، ولا فوز إلا في طاعته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له مع توحيده وحبه جل وعلا.
هذا ربنا تبارك وتعالى خلقنا وهو غني كل الغنى عنا، فمن تعامل مع الله وهو يعلم أن الله قادر على كل شيء، وأنه إن اهتدى فبفضل من الله ونعمة، وإن ضل فبعدل وبما جنت يداه، وتعامل مع الله على أن الله مطلع عليه، إن قدم الحسنى فسيجازيه عليها، وإن عمل السيئة فسيجازيه عليها إن لم يغفر له؛ كان هذا من أعظم طرائق الوصول إلى الصلاح.
والإنسان إذا كان لا يعلم ربه فلن يحسن التعامل معه، ولذلك عرف الله جل وعلا بذاته العلية في آياته وعلى ألسنة رسله، وبين لرسله كيف يعرفون بربهم ويدلون الخلق على خالقهم حتى يحكموا عبادته تبارك وتعالى، يقول سبحانه بعد أن عرّف بذاته العلية: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] .
فما من شيء إلا وخزائنه بيدي الله، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يقبض ويبسط، يعز ويذل، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وأعظم الناس فرحاً بربهم وصلاحاً في أعمالهم هم أعلم الناس بربهم جل وعلا، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن روح العبودية يتمثل في محبة الله تبارك وتعالى، قال العلماء: إن المحبة كلما عظمت في القلب كان التوقير لله أعظم، وكان الإنسان إلى الطاعة أكثر إقبالاً وكان الأنس والسرور بالله جل وعلا أكمل.
قال ابن القيم رحمه الله : من قرّت عينه بالله قرّت له كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
فالمؤمن لا تقر عينه بأعظم من رضوان الله تبارك وتعالى عليه، وهو يعلم أن الله جعل الدنيا مراحل مطوية يبتلي ويختبر عباده فيها، حتى إذا قام الأشهاد وحشر العباد أدخل الله جل وعلا في رحمته أهل الصلاح الجنة، وأدخل أهل النار النار، كما أن المؤمن يعلم عن ربه جل وعلا أنه خالق الأسباب وخالق مسبباتها، فلا يكون شيء إلا إذا أراداه الله، ثم هذا الشيء - مما أحبه الله ومما كرهه - إذا وقع يكون بإرادته تبارك وتعالى.
لما تعطلت الأسباب عند زكريا طلب من الله الولد، فلما بشره الله بالولد تعجب قائلاً: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40] فجاء الجواب القرآني: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] .
ولما انتفت الأسباب في قصة مريم وأخبرتها الملائكة بأن الله سيرزقها الولد تعجبت قائلة: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47] فكان الجواب الإلهي: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47] .
فهذه يا أخّي! أول الحقائق وأعظم اليقينيات وأجل المدركات أن تعلم هذا العلم عن ربك تبارك وتعالى حتى يتيسر لك بعد ذلك أن تكون عبداً صالحاً.
والجسد إما أن ينبت من طعام حلال ومال مباح، وإما أن ينبت من سحت محرم، فإن بُني على محرم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما جسد نبت على السحت فالنار أولى به) ، وإن بني على المباحات فإن الجنة أولى به، فإذا أنفق تقبل الله منه، وإذا غدا أو راح تقبل الله جل وعلا منه.
فعلمك بربك أنه طيب لا يقبل إلا طيباً يجعلك تحرص - إن كنت تريد أن تكون عبداً صالحاً - على أن يكون مطعمك ومشربك ومأكلك وملبسك من الحلال، وتتوخى الطرائق الشرعية التي ينجم عنها الرزق غير مبال بكسب الناس وعلو درجاتهم في الدنيا، فإن أي جسد بني على السحت فالنار أولى به.
أمر الله النبيين بما أمر به الناس، وأمر الناس بما أمر به النبيين، قال الله تبارك وتعالى في حق المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ، وقال في حق النبيين: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] ، فأمر بالأكل من الطيبات حتى تنبت الأجساد على حلال.
والجسد إذا بني على حلال كانت دعوته مجابة، وأينا لا يفتقر إلى الدعاء؟
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (يا نبي الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة. قال: يا
فالإنسان إذا كان مطعمه حلالاً طيباً كان دعاؤه مقبولاً، يمشي ويغدو في رضوان الرب تبارك وتعالى.
وقال جل وعلا في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قبضته) ، ولا يوجد أحد إلا وفي نفسه شيء من الكبر مخلوق معه، فإن ضبطه بضابط الشرع وأخرجه من نفسه سلم ونجا، وإن أبقاه فإنه لا يزال يتمادى في الناس ويعلو حتى يقوده - والعياذ بالله - إلى التسلط على الخلق كما دعا فرعون أن يقول كبراً وعناداً: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى).
وقد يزين الشيطان للإنسان أن الكبر نوع من قوة الشخصية، فيخلط المرء بين قوة الشخصية وحب العلو والتكبر على الناس والتعالي عليهم، وهذا كله ممقوت، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) .
والجزاء من جنس العمل، قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يطؤهم الناس) .
والتاريخ الإنساني شهد كثيراً ممن طغوا وتجبروا، فهذا أبو طاهر القرمطي أحد أتباع القرامطة كان يزعم أنه على الحق وكان يسكن البحرين.
ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم طأطأ رأسه عند البيت الحرام، وأمر الناس أن يكونوا أعظم ما يكونوا خاشعين وخاضعين ومخبتين لله، لكن ركب ذلك المتجبر المتكبر فرسه ثم أخذ يطوف بالبيت حتى بال فرسه عند باب الكعبة، وصعد على باب الكعبة وخطب في الناس قائلاً:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم قتل ثلاثين ألفاً من الحجاج، وردم بهم بئر زمزم - عياذاً بالله - ثم ما زال طغيانه وجبروته يقوده حتى قلع الحجر الأسود من مكانه وأخذه على فرس له وغدا به إلى البحرين، فبقي الحجر الأسود في بلاد الهجر- البحرين الآن - عشرين عاماً ثم رد إلى بيت الله العتيق.
فالذي دفعه إلى هذا الكبر والتعالي، ولذلك ثبت في السنن بسند صحيح: (أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة جمع بنيه..) ولن تجد أحداً أعلم من الأنبياء ينصح الناس. قال نوح لبنيه: (يا بني! أوصيكم باثنتين وأنهاكم عن اثنتين, أوصيكم بلا إله إلا لله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن كحلقة مفرغة لقصمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق، ثم قال: وأنهاكم عن اثنتين: الشرك والكبر) ؛ لعلمه صلوات الله وسلامه عليه أن الشرك والكبر قرينان، وأن أول ذنب عصي لله جل وعلا به هو الكبر يوم أن امتنع إبليس عن السجود لأبينا آدم.
وهذا يوجد في حياة الناس إلى اليوم، فمن الناس من ترى فيه التعالي على عباد لله إن كان أميراً أو ذا سلطان، أو كان غنياً أو ذا جاه، أو حتى إن كان إماماً أو خطيباً، أو كان مسئولاً إدارياً رفيعاً أو قائداً عسكرياً مسموع الكلمة.. تختلف وظائف الناس، لكن ما في القلوب يحكي هذه الوظائف.
ومن الناس من يكون الكبر داخله لكن لفقره ولعدم الوظيفة لا يجد فرصة لأن يتعالى على الناس، فما أن يجد فرصة إلا ويبدأ يخرج ما في قلبه من الكبر.
فلا يمكن أن يجتمع صلاح عبد مع كبر في القلب، قال عليه الصلاة والسلام: (ومن تواضع لله رفعه الله) ، فالتواضع للرب تبارك وتعالى من أعظم المناقب ومن أعظم أمارات صلاح العبد.
فالفواحش من زناً ولواط وما شاكلهما من المعاصي كل ذلك مما حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجتمع مع الصلاح أبداً، قال عليه الصلاة والسلام: (و لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فنفى النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عن الزناة، ولا يمكن أن يوصف عبد اقترف الزنا أو اقترف الفاحشة الأخرى بأنه عبد صالح.
ونبيكم صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في أيامه خرج يجر رداءه حتى إنه صلى الله عليه وسلم من هول الآية أخطأ في الإزار والرداء فلبس أحدهما مكان الآخر ثم تنبه ولبس، ثم خرج إلى الناس وقد نودي الصلاة جامعة وهو أعرف الناس بآيات ربه، ثم لما صلى بالناس خطبهم بعد ذلك خطبة عظيمة، وكان مما قال فيها عليه الصلاة والسلام: (وإنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته) .
وفي هذا العصر أخذت هذه الفواحش طرائق متعددة كالاتصالات الهاتفية والخلوات المحرمة واللقاءات المذمومة وما أشبه ذلك مما يحصل في الطرق أو الأسواق أو غيرها.
ومن الناس من يخرج بجسده وماله، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين يخرجون لا يرجعون بشيء، ويذكر منفقين ينفقون الليل والنهار حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أفئدة معلقة بالمساجد، ينتظرون متى يفتح المسجد ليدخلوه ولا يخرجون إلا بإلحاح من يقوم عليه، ومع ذلك يأتي قوم يخرجون بأجسادهم وأموالهم إلى حانات الشرق وبارات الغرب من أجل الزنا والشواطئ التي عليها من العراة ما عليها، أو من القنوات المحرمة والأفلام الإباحية يمتع أحدهم بها نفسه ليلاً ونهاراً يظن أنه ينجو من عذاب لله، لا يمكن أن يوصف هذا بأنه عبد صالح ولو صلى وصام وزكى وحج؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] .
والعلماء يقولون: إن الكبائر في المراتب ثلاث:
الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والزنا. قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] فذكرها الله جل وعلا من باب الترتيب في أظهر أقوال العلماء. أعاذنا الله وإياكم من الفواحش كلها.
الظلم للناس إما أن يكون بسفك الدماء، وإما أن يكون بانتهاك الأعراض، وإما أن يكون بأكل الأموال، وكله حرمه النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا) .
ومن أشد الظلم أن يأخذ الإنسان أموال الناس بالقوة إن كان ذا سلطان، أو ذا إمرة، أو ذا منصب، أو يقع في وظيفة تسمح له وظيفته أن يأخذ ما عند الناس من أموال فيقول: لا أفعل حتى تدفعوا، لا أمنع حتى تدفعوا، لا أصنع حتى تعطوني مالاً وما أشبه ذلك مما هو قريب من المكس، وصاحب المكس -والعياذ بالله- من أعظم من يكونون بعيدين عن الرب تبارك وتعالى.
نبيكم صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة غامدية زنت بعد أن زنا ماعز فردها صلى الله عليه وسلم، فلما ردها جاءته في اليوم التالي قائلة: (يا نبي الله! إنك لتردني كما رددت
موضع الشاهد كما قال النووي في شرح صحيح مسلم : أن الله قبل توبتها، ولو أن هذه التوبة تابها صاحب مكس لغفر له، وصاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالقوة، وقريب منه من يأخذها بالخداع ويأخذها بالتحايل، أو يأخذها ديناً فلا يردها ولا يعبأ بأصحابها.
فالله جل وعلا حرم أذية الناس، ولا يجتمع صلاح مع عدم احترام للعباد، وعدم العناية بهم كما سيأتي في الأمر السادس، فأذية المرء لغيره من المؤمنين تتنافى مع صلاحه، إن تكلم في أعراضهم أو أخذ من أموالهم أو وصل إلى مرحلة أكبر فسفك دماءهم فهذه أشد وأشد.
والمقصود: أن الله جل وعلا حرم أذية الناس، قال الله جل وعلا: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] ، وقال الله على لسان شعيب: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الشعراء:183] .
ويخبر صلى الله عليه وسلم: (أن بغياً من بغايا بني إسرائيل رأت كلباً يلهث من العطش فسقته، فلما سقته غفر الله جل وعلا لها) .
وذكر الله في القرآن تأديباً لعباده قصة نبيه موسى عليه السلام فقال عنه: فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] .
والإنسان يتساءل: إلى من نحسن؟ هذا أجاب عنه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك) ، ويجاب عنه بأن الناس تختلف حقوقهم، فأعظم الناس حقاً الوالدان والمعلم والجيران وذوو الأرحام من القرابة، ثم يأتي بقية من له حق خاص أو عام، فهؤلاء الإحسان إليهم أفضل من الإحسان إلى غيرهم، كما أن الإساءة إليهم أعظم من الإساءة إلى غيرهم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟! قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك) ، فجعل صلى الله عليه وسلم الزنا بحليلة الجار من كبائر الذنوب، أي: أن الزنا محرم في ذاته لكنه إذا وقع على جارة لها حق الستر وأن يراعيها الإنسان أكثر من غيرها لقرب الدار كان ذلك أعظم وبالاً وأشد خسراناً.
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإخوانه من النبيين، وأمرنا نحن المسلمين أن نقتدي بنبينا صلى الله عليه وسلم، فقال ربنا جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] .
وإن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم من أعظم أمارات وقرائن ودلائل الصلاح، خرج عبد الله بن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي وكان للمسجد في ذلك الزمان أبواب غير محددة أي: غير مخصوصة للرجال أو للنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب -وأشار إلى باب قريب- للنساء) قالها من باب الرأي ولم يقلها من باب الأمر، قال نافع رحمه الله: فما دخل عبد الله بن عمر من هذا الباب حتى مات.
و ابن عمر عمّر بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابة خمس وخمسين سنة ومع ذلك لم يدخل مع هذا الباب؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تركنا هذا الباب للنساء) .
ومن تأسيه رضي الله عنه بنبيه عليه الصلاة والسلام أنه كان يمسح على الركنين اليمانيين فسأله رجل: لماذا تفعل هذا؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسحهما فما تركته منذ أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
فهذا عبد صالح ظهرت لنا علامة من علامات فوزه بالصلاح والتزكية النبوية أنه كان عظيم التأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم.
وأنت أيها الأخ المبارك السنة أمامك مفتوحة، وكتب الحديث منشورة، وهديه صلى الله عليه وسلم ظاهر بين في كل الكتب جعلها العلماء بياناً للناس، فالتأسي به صلى الله عليه وسلم طريق عظيم للوصول إلى الصلاح؛ لأن الله جل وعلا سد كل طريق موصل إليه إلا طريق نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يذكر بعض سننه عليه الصلاة والسلام: نام نبينا عليه الصلاة والسلام على الأرض، ونام على الحصير، ونام على السرير، ونام على الفراش، وركب البغل، وركب الحصان، وركب الحمار، وركب الفرس مسرجة وغير مسرجة، وأكل صلى الله عليه وسلم القثاء بالرطب، وقال: (نذهب حر هذه ببرد هذه) ، وأكل صلى الله عليه وسلم البطيخ، وأكل صلى الله عليه وسلم العسل، وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله، وإذا مشى يتكفأ كأنما ينحدر من مكان عال، وإذا ناداه أحد من الخلف التفت صلى الله عليه وسلم ببدنه الشريف كله، وإذا أشار إلى شيء أشار بيده كلها، وإذا وضع يده لينام جعل يمناه تحت جبينه الأيمن وقال: (باسمك اللهم أحيا وأموت) ، وإذا قام من الليل قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) ، ومسح النوم عن عينيه وتلا خواتم آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] حتى يختمها، ثم يعمد إلى وضوئه فيتوضأ ويستاك، ثم يقف بين يدي ربه جل وعلا يذكره ويدعوه ويهلل ويقرأ القرآن ويصلي حتى يقرب الفجر ثم يضطجع صلوات الله وسلامه عليه، ثم يصلي راتبة الفجر القبلية في بيته، ثم يضطجع قليلاً قبل أن يذهب إلى المصلى.
هذه بعض السنن التي كان عليها نبيكم صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه) ، كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية.. إلى غير ذلك من سننه صلوات الله وسلامه عليه التي دعا إليها وجعل الاقتداء بها من عظيم المطالب وأجلّ ما يدرك به الإنسان أن يكون عبداً صالحاً.
وقال: (الصلوات الخمس والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الذنوب) .
وأخبر أن تقبيل الحجر الأسود ومسحه يحط الخطايا حطاً، وأخبر الله جل وعلا عن الحمى إذا أصابت الإنسان وبلغت منه مبلغاً وصبر عليها أنها تحط ذنوبه.. إلى غير ذلك مما كتبه الله وشرعه حتى يتلافى به العباد ما يعتريهم من نقص، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
والجواب: أعد الله جل وعلا للعبد الصالح في الآخرة جنات النعيم، قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124] ، أعد الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أعد لهم رؤية وجهه الكريم وهو أعظم الهبات وأجل العطايا، أما في الدنيا فإن من تأمل القرآن والسنة وجد أن الله جل وعلا وعد عباده الصالحين بأمور منها:
أولها: أن الله جل وعلا يتولاهم في الدنيا والآخرة، قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196] ، وإذا تولاك الله فلن يصيبك شيء يضرك في دنياك وآخرتك إلا شيء من ورائه منفعة لك من حيث لا تدري؛ لأن ولاية الله جل وعلا سد منيع وعطايا عظيمة لا يبلغها أحد، والإنسان إذا تولاه الله تبارك وتعالى فأعظم ما يرزق التوفيق، قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، وقدمه التي يمشي عليها، ويده التي يبطش بها) .
والمقصود من هذه الأربع التوفيق الذي يناله العبد من ربه تبارك وتعالى، وأنت ترى حولك من الناس من رزقهم الله جل وعلا الكثير من التوفيق؛ لأن الله تبارك وتعالى تولاهم بولايته.
العطية الثانية من الله: أن الله جل وعلا يجعل العبد الصالح مقبولاً محبوباً في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم يقول جبريل لأهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يكتب الله جل وعلا له القبول فيحبه أهل الأرض) ، وهذا من أعظم العطايا، والمؤمن الحق يألف ويؤلف، ويسمع، ويطيع، ويأخذ ويمنع، ويعيش مع الناس حياتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيشها وهو سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه.
كما أن من عطايا الرب تبارك وتعالى لعباده الصالحين التثبيت؛ فإن الإنسان في طريقه إلى الله لن يسلم من نزغات الشيطان، يأتيك الشيطان فيشكك في الدين الذي أنت فيه، يشكك في الرب الذي تعبده، والرسول الذي أرسل إليك، والعمل الصالح الذي تفعله، والأئمة الذين تقتدي بهم.
ولا يرد ذلك إلا الاستعاذة واللجوء إلى الرب تبارك وتعالى، والله جل وعلا يقول لنبيه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74] ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب المقلوب ثبت قلبي على دينك) ، ولا يخلو إنسان من نزغات تأتيه ووساوس تعتريه ليس لها إلا الاستعاذة بالرب تبارك وتعالى، فإذا أراد لله به خيراً ثبته على الصلاح ووقاه جل وعلا شر النزغات وإثم الوساوس.
نبيكم صلى الله عليه وسلم في منقلبه من الطائف أصابه الهم؛ لأن أهل مكة منعوه وأهل الطائف ردوه فلما رجع وأصابه من الكرب والضيق ما أصابه جاءه جبريل في رسالة من الله يراد بها التثبيت، فلما جلس عليه الصلاة والسلام وقد أصابه الحزن قال له جبريل وأشار إلى شجرة بعيدة: (ادع تلك الشجرة، فناداها صلى الله عليه وسلم فتركت مكانها ووقفت بين يديه، ثم فقال له جبريل: ردها كما كانت فقال عليه الصلاة والسلام للشجرة: اذهبي إلى حيث كنت، فقامت الشجرة تمشي حتى رجعت إلى مكانها) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدرك أنها تثبيت من لله له في رسالته: (حسبي ما قدر رأيت) .
وأنت يا أخي! قد تخرج من هذه المحاضرة فيأتيك الشيطان من قبل أو من بعد يوسوس لك، فالإنسان في مثل هذه الحالات إن كان عبداً صالحاً له عمل صالح ونية صادقة يأتيه التثبيت من الله، فإما أن يفتح المذياع فيسمع آيات يثبته الله جل وعلا بها، وإما أن يلقى أخاً مباركاً يخبره بحديث سمعه، وإما أن يفتح كتاباً فيقرأ فيه ما يثبته ويدله على صراط الله المستقيم، أو يجد أخاً يحمله إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه، ولن يعدم أمراً يثبته الله جل وعلا به إن صدقت نيته وخلصت سريرته وصلح أمره وأذعن لربه تبارك وتعالى.
مما يرزقه العبد الصالح قبل مماته: أن الملائكة تأتيه في أحرج اللحظات التي يكون فيها قريباً من الله، والإنسان تكون أيامه الأخيرة خلاصة لأيامه كلها لا يظهر فيها إلا ما كان الإنسان منكباً عليه منشرح الصدر له يريده بقلبه وجوارحه، فيوفق المؤمن لقول الشهادة أينما كان وحيثما حل.
أما إن كان -والعياذ بالله- ليس من أهل العمل الصالح ولا من أهل الطاعة فهو إلى الخذلان أقرب منه إلى التوفيق، ولا يهلك على الله إلا هالك، قال الرب تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] .
هذا أيها المؤمنون ما تهيأ إيراده، ووفقنا الله جل وعلا إلى قوله، فإن وجدت فيه خيراً فاقبله، وإن وجدت فيه نقصاً فسده.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، أنت ربنا لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا سواك، جمعتنا من غير ميعاد وأنت الرب الرحيم الرحمن في بيت من بيوتك، اللهم فارزقنا عملاً صالحاً زاكياً ترضى به عنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم إنا نسألك السريرة الصادقة، والدمعة الخالصة، والعمل الصالح، والحياة الطيبة.
اللهم إنا نسألك مرداً إليك غير مخز ولا فاضح يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري عنه سواك، اللهم كما سترتها علينا في الدنيا فامحها عنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقرب إلى حبك، اللهم ارزقنا محبة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أحينا في الدنيا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا يوم القيامة في زمرته، اللهم أوردنا حوضه واسقنا من يده يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة، ونستجير بوجهك الأكرم وباسمك الأعظم من النار يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا يا رب العالمين، اللهم اغفر لأمهاتنا وآبائنا ومن له حق علينا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إننا نخطئ ونصيب، اللهم إنا أطعناك في أعظم ما أمرتنا به فلا إله إلا أنت، وانتهيا عن أعظم ما نهيتنا عنه، فنعوذ بك أن نشرك بك غيرك، اللهم اغفر لنا ما بين ذلك يا رب العالمين.
اللهم إننا أطعناك في أعظم ما أمرتنا به فلا إله إلا أنت، واجتنبنا أعظم ما نهيتنا عنه فنشهد أنه لا شريك لك فاغفر اللهم لنا ما بين ذلك من الذنوب.
اللهم اجعلنا أحسن مما يظنه الناس بنا، واغفر لنا ما لا يعلمه الناس عنا، وارزقنا اللهم القبول عندك لا إله إلا أنت.
اللهم اجعلنا ممن قرت أعينهم بك فتعلقت بك ولم تنقطع إلى غيرك يا رب العالمين، اللهم اقطع علائقنا مع كل أحد غيرك يا رب العالمين، اللهم لا تجعل لأحد غيرك من أعمالنا حظاً ولا نصيباً ولا ذكراً يا رب العالمين، واجعلها اللهم برحمتك خالصة لوجهك، اللهم من حضر مجلسنا هذا يريد التوبة والإنابة إليك فبلغه مراده، اللهم من حضر مجلسنا هذا يريد التوبة والانتفاع فبلغه مراده.
اللهم أصلحنا أجمعين واجعلنا من عبادك المخلصين، واغفر لنا لا إله إلا أنت أنت ربنا ومولانا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا سواك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر