إسلام ويب

خواطر إيمانيةللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خواطر إيمانية تجلو عن القلب العمى، وتدفعه إلى تحصيل الثواب والتقى، تزيد إيمان المرء وتقوي همته، وتشد عزيمته وتبعد الشيطان عن طريقته، وتعمل كمحطة لتزويد الإنسان بالطاقة الإيمانية، والتي يحتاج إليها دائماً في سبيل نصرة الله تعالى ورسوله بالقول والعمل والاعتقاد، فيها بنا لنشحذ أنفسنا بهذه الطاقة، والله ولي الهداية والتوفيق.

    1.   

    خواطر إيمانية

    الخاطرة الأولى إذعان القلوب لعلام الغيوب

    إن الحمد لله، نحمده حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، له الأمر كله، وله الحمد كله، وله الملك كله، وإليه جل وعلا يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره، ولا إله سواه، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجعله ربه بفضل منه ورحمة خير أهل أرضه وسماواته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار، المبلغين عن الله دينه، والناشرين له كلماته، اللهم وأعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين!

    أما بعد:

    أيها المؤمنون! خواطرنا الإيمانية في هذا المساء المبارك ذات عنوانين رئيسة خمسة: ألا وهي إذعان القلوب لعلام الغيوب، إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، الدعاء الخالد حين تطغى الشهوات، وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هلم إلى التوبة.

    وهذه الخواطر إيمانية وإن تنوعت عناوينها، وتعددت موضوعاتها، وتباين المراد منها، فإنما تنصب جميعاً في نهر الإيمان الكبير، وفي بحر اليقين بالله جل جلاله، وفي الطريق الموصل إلى رضوانه تبارك وتعالى، وذلك مراد المؤمنين، وغاية المتقين بلا ريب.

    معشر الأحبة! لقد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان به قسيماً بين أهل الجنة والنار فقال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:27-29].

    فهلم أيها المؤمنون! بقلوب لا تبتغي إلا وجه الله نستعين ربنا تبارك وتعالى في هذه الخواطر الإيمانية وأول هذه الخواطر: إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله.

    معشر الأحبة! إن الحديث عن الله تبارك وتعالى حديث عن خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، حديث عمن يعلم السر وأخفى، حديث عن من يكشف الضر والبلوى، حديث عن من رد إلى يعقوب بنيه، وأرجع موسى إلى أمه، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، حديث عمن بلغ محمد صلى الله عليه وسلم دعوته، وأكمل له دينه، ونشر له ملته، وأعلن كلمته في الأرض، فما بقيت دار إلا ودخلها دين سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم.

    الحديث عن الله أيها المؤمنون! له تخفق قلوب الموحدين، وله ترتجف قلوب المتقين؛ لأنه حديث عن خالقها ورازقها وبارئها تبارك وتعالى، والحديث عنه جل جلاله ينبغي أن يكون حديثاً محبباً إلى النفوس؛ لأنه تبارك وتعالى أحب إلينا من كل شيء: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].

    أما إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى فإن من دلائل إذعان القلوب لربها تبارك وتعالى أمور ثلاثة:

    أولها: الاستسلام لأمره والانقياد له، وثانيها: التواضع له تبارك وتعالى، وثالثها: خشيته جل وعلا في الغيب والشهادة.

    أما الاستسلام لأمر الله والانقياد له: فإن الله تبارك وتعالى ضرب لهذا الأمر مثلاً في القرآن في أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تبارك وتعالى عنه: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131].

    لم يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة ولم يسأل ربه كيف أسلم؟ وإلى من أتوجه؟ وعند من أدون اسمي؟ وعلام؟ وما الجزاء وعلام أذهب؟ وإلى من أغدو؟ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، وهذا الأثر القرآني الذي حكاه الله عن انقياد إبراهيم واستسلامه أيدته السنة كما روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا أمر إبراهيم أن يختتن)، فبادر إبراهيم عندما أمره الله أن يختتن بادر عليه الصلاة والسلام إلى القدوم ثم اختتن به.

    وقد ورد في بعض الآثار كما ذكر ذلك الكثير من شراح هذا الحديث: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بادر إلى القدوم واختتن به أوجعه أشد الإيجاع، فأوحى الله تعالى إليه: (يا إبراهيم لم عجلت حتى يأتيك وحيي؟! فقال: يا رب! خشيت أن أؤخر أمرك)، فما أن أمره الله جل وعلا بالأمر إلا وأذعن واستسلم له وانقاد إليه دون أن يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة في الإذعان لربه علام الغيوب جل جلاله.

    وهذا من أعظم الدلائل على ما فطر عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الاستسلام لله، بعد هذا لا غرو ولا عجب أن نسمع في القرآن ثناء الله تبارك وتعالى على إبراهيم ونسمع في القرآن أن الله جل وعلا أخبر: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، ونسمع من رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة)، فهذا الثناء العطر الذي أبقاه الله لإبراهيم في الآخرين، وما له عند الله جل وعلا يوم القيامة من منزلة عظيمة إنما نالها هذا العبد الصالح وهذا النبي التقي بإذعانه وانقياده واستسلامه لرب العالمين تبارك وتعالى.

    ومما يؤيد أن القلوب المؤمنة إنما تمتثل لأمر الله دون تردد أنه ورد في الآثار كما هو معلوم: أن الله جل وعلا خلق آدم من تراب قال الله تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20]، ورد في الآثار مما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لما أراد أن يخلق آدم من قبضة من الأرض بعث ملكاً من الملائكة ليقبض له قبضة من الأرض، فلما قدم هذا الملك إلى الأرض قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم! وعاد إلى ربه دون أن يقبض من الأرض شيئاً، فلما سأله ربه وهو أعلم بما صنع قال: يا رب! لقد استعاذت بك فأعذتها.

    فبعث الله ملكاً آخر فلما وصل إلى الأرض وهم أن يقبض منها قبضاً كما أمره الله، قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع إلى ربه، فلما سأله ربه وهو أعلم، قال: يا رب! استعاذت بك فأعذتها، فبعث الله ملكاً ثالثاً: فلما هم بأن يقبض من الأرض قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره، فأخذ قبضة من الأرض وعرج بها إلى السماء. والمقصود منه: الإذعان لأمر رب العالمين تبارك وتعالى.

    والذي ينبغي أن تفطر عليه قلوبنا وأفئدتنا وجوارحنا أن تستسلم لله وأمره، وأن تعظم ربها تبارك وتعالى، يحكي الله جل وعلا في القرآن عن تعظيم ملائكته له فيقول تبارك وتعالى عنهم: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، قال بعض الأئمة في تفسيرها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه السلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، فيمضي جبرائيل بالأمر على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟! فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير).

    والغاية من هذا كله يا أخي! أن تذعن قلوبنا لعلام الغيوب جل جلاله، فنسمع النداء: حي على الصلاة! حي على الفلاح! فنبادر إلى المسجدن كما تقول عائشة لما سئلت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: (ما كان يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا سمع النداء مر كأنه لا يعرفنا)، أي: أنه يبادر ويسارع إلى الصلاة، نسمع أمر الله جل وعلا لنا بأن نذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، فلا نعرج على ألسنتنا بالقيل والقال، ولا بالغيبة في المسلمين، ولا بالنميمة بينهم، ولا نردد قول فلان وفلان! من أهل الفن أو من غيرهم، وإنما نذكر ربنا جل وعلا مبادرة ومسارعة؛ لأنه بذلك أمرنا تبارك وتعالى.

    يسمع أهل الثراء منا أمر الله جل وعلا بالإنفاق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، فيبادرون إلى الإنفاق طمعاً فيما عند الله، وإذعاناً لأمره تبارك وتعالى في المقام الأول.

    وعلى هذا قف يا أخي! بقية الطاعات والمسارعة في الخيرات، ألا وإن من إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله: التواضع لله تبارك وتعالى، وأجمل ما يكون التواضع عند حلول النعمة، وحلول الظفر والنصر، وحلول المقصود والمراد، فهنا يظهر الإذعان لرب العالمين تبارك وتعالى، ولن ينبئ الإنسان عن شكره لله واعترافه بأن ما لديه هو من فضل الله تبارك وتعالى، وأن ما أصابه من نعمة إنما هو من ربه جل وعلا حتى يظهر لله تبارك وتعالى تواضعه.

    فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم طرده قومه من مكة فدخلها بعد عشر سنوات من الهجرة، وبعد عشرين عاماً من بعثته صلى الله عليه وسلم حوصر في شعب أبي طالب ، واختفى في الغار ومشى طريداً وحيداً ومعه صاحبه ودليله، ومكث في المدينة وقد داهمته الأحزاب، وناله ما ناله صلى الله عليه وسلم من البلاء فصبر واحتسب عند الله، وجاهد في الله حق جهاده.

    فلما أظفره الله ودخل مكة صلى الله عليه وسلم عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة صلوات الله وسلامه عليه دخلها صلى الله عليه وسلم متواضعاً لربه مستسلماً له، حتى ذكر أهل السير عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يطأطئ رأسه حتى إن لحيته لتصيب مقدم رحله صلوات الله وسلامه عليه، رغم أن أصحابه كانوا يحفونه تحيطهم الدروع والحديد ولا يظهر منهم إلا الحدق، وجبرائيل عليه السلام يتردد بينه وبين ربه يؤيده بالنصر والآيات والملائكة ومع ذلك دخلها صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة تواضعاً لرب العالمين جل جلاله، وإذعاناً له وانقياداً لربه، وليعلم الثقلان ممن يرونه وممن لا يرونه ممن سيصلهم خبره أنه ما من نعمة إلا وهي من الله تبارك وتعالى.

    وكم يخطئ أحد إذا ظن أنه إذا حصل على مقصود أنه قد حصل عليه بجهده أو بكفاحه أو بسعيه، يقول ربنا تبارك وتعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول تبارك وتعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومن قبله صلى الله عليه وسلم هذا نبي الله سليمان يؤتيه الله جل وعلا، فيعلمه الله منطق الطير وتحشر له جنوده من الجن والإنس، ويأتيه عرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]، فمما يدلل على إذعان القلوب لربها جل جلاله: خشيته تبارك وتعالى.

    يا أخي! إن خشية الله جل وعلا هي العلم الحق فليس العلم محصوراً في حفظ المتون ولا في شرح الكتب ولا في استظهار ما تقرأه في البيت والمدرسة وفي حلقات العلم، إنما العلم الحق خشية إله الخلق جل جلاله، حاور رجل الحسن البصري رحمة الله تعالى عليه فكان الرجل يكثر على أبي سعيد وهو الحسن أن يقول: لقد قال الفقهاء كذا يا أبا سعيد ! ألم تسمع قول العلماء؟ إن قولك هذا يعارض قول الفقيه فلان! فغضب الحسن وقال: يا أخا العرب! ومتى رأيت الفقهاء؟ إنما العلم الخشية، وصدق من قال:

    لو كان في العلم غير التقى شرفاً لكن أشرف خلق الله إبليس

    فالعلم الحق يا أخي! والدليل البين على إذعانك لربك تبارك وتعالى: خشيتك الله في الغيب والشهادة: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:11]، فخشية الرحمن تبارك وتعالى أعظم الدلائل على الإذعان له والاستسلام له وهذا الأمر أين محكه وأين مكمنه؟ وأين بلاؤه واختباره؟ مكمنه ومحكه واختباره إذا خلوت بمحارم الله تبارك وتعالى، إذا حلت عليك الظلمات، إذا ذهب عنك الرقيب، إذا غفل عنك المعلم، وإذا زاغت عنك أعين الوالدين، إذا بقيت وحيداً في غرفتك، إذا أصبحت ساهراً لوحدك في ليلتك، إذا قربت منك المعصية ولم يبق بينك وبينها إلا أن تخاف الله جل وعلا فيها، هنا يظهر بجلاء ووضوح خشيتنا لربنا تبارك وتعالى.

    أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرزقنا وإياكم خشيته في الغيب والشهادة، هنا يا أخي! تظهر حقيقة الإيمان، وتظهر حقيقة الخوف والخشية من ربنا تبارك وتعالى.

    ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: أعز الأشياء ثلاثة: وذكر منها خشية الله تبارك وتعالى في الغيب، والإنفاق من قلة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف، والمقصود من ذلك كله: أن خشية الله تبارك وتعالى هي لب الدين وهي الدلالة البينة الجلية الواضحة على مدى علمنا الله تبارك وتعالى، وعلى مدى إعظامنا وإجلالنا لله جل وعلا، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرن دائماً ما بين العلم والخشية فيقول صلى الله عليه وسلم: (أما وإني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية)، هذه الخاطرة الأولى جعلها الله تبارك وتعالى مما ينفع بها.

    الخاطرة الثانية إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

    الخاطرة الثانية: إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة.

    معشر الأحبة! النبوة ليست أمراً ينال بالجهد ولا يكتسب بالسعي ولكن النبوة فضل من الله وعطاء.

    والله جل جلاله: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]، ولقد جرت سنة الله في خلقه أنه بعث إليهم رسلاً هم الواسطة بين الله وبين عباده أي: أنهم يبلغون عن الله رسالاته وينصحون له في برياته، هذا من نوح حتى ختم الله تلك الرسالات بمبعث ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    فنبينا هذا الذي ننتسب إليه ونتشرف أجمعين بأننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه له عند الله الدرجة الرفيعة، والمنزلة العالية، والمقام الأسمى، وإننا لن نرزق حبه صلوات الله وسلامه عليه حتى نعلم الكثير عنه؛ لأن من يجهل سيرته من باب أولى ألا تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كامنة في قلبه، وإن عدمت المحبة لا بد أن يعدم الاتباع؛ لأن الاتباع أصلاً مبني على المحبة والمحبة مبنية على العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم.

    وهذه الخاطرة سنخصصها لما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى نكون على يقين إلى أي نبي ننتسب؟ وبأي نبي نقتدي؟ وإلى أي ملة ننتمي؟ أكرم الله رسولنا صلى الله عليه وسلم بثلاثة مكارم: أكرمه قبل ولادته، وأكرمه حال حياته، وسيكرمه يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.

    فمن إكرام الله لنبينا قبل ولادته: أن الله ما بعث نبياً إلا وأخذ عليه العهد والميثاق أن يتبع رسولنا صلى الله عليه وسلم إذا بعث، قال تعالى في آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].

    وأكرمه بأن نبي الله إبراهيم لما وضع رحله وذريته في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم استقبل القبلة ودعا الله قائلاً: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين وضعتني رأت أن نوراً ساطعاً يخرج منها أضاءت له قصور الشام)، وأما قوله: وبشارة عيسى فقد ذكرها الله في القرآن نصاً: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

    فهذا بعض مما أكرم الله به رسولنا قبل ولادته يوم مبعثه، أما ما أكرم الله به رسولنا في حال حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك كثير لا يحصى، ولكننا سنجمل بعضه؛ لأنه مما نحن ملزمون به في هذه المحاضرة، فمما أكرم الله به رسوله: أن الماء نبع من بين أصبعيه، وأن الحصى سبح بين يديه، وأن الجذع حن إليه فإنه لما صنع له المنبر صلوات الله وسلامه عليه وارتقى عليه أول الأمر إذا بالصحابة يسمعون لذلك الجذع الذي كان رسولنا يأوي إليه ويخطب عنده بالسابق يسمعون له أنيناً وحنيناً على فراق رسولنا صلى الله عليه وسلم.

    وأكرمه ربه جل وعلا برحلة الإسراء والمعراج فكانت تلك الرحلة الخالدة التي أسرى الله بها بنبينا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فصلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً رغم أنه آخرهم مبعثاً، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، ثم جاوز سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، قال شوقي :

    يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء

    يتساءلون وأنت أطهر هيكـل بالروح أم بالهيكل الإسراء؟

    بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء

    تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء

    أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء

    المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

    صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلاء وجناء

    واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء

    أكرم الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بأن الصلوات الخمس أعظم فرائض دينه بعد الشهادتين فرضت عليه في السموات العلى وهذه إشارة عظيمة إلى أهمية الصلاة في دين الإسلام ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يطعن في المنبر فيتأخر إلى الصف ويقدم عبد الرحمن بن عوف ويقول لمن حوله: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

    ومما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أن الله أقسم في القرآن بحياته قال العلماء: ولا يعرف أن الله أقسم بحياة أحد من خلقه إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى في سورة الحجر: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، وأقسم الله بالأرض التي يطأ عليها، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:1-4].

    بل بالغ ربه في إكرامه حتى أقسم له أي: من أجله صلوات الله وسلامه عليه فقال ربنا: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، فأقسم بالضحى وأقسم بالليل حال تغطيته للكون، ثم بين جواب القسم فقال: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، فالله يقسم له أنه ما وعده وما قلاه وما هجره وما نأى عنه تبارك وتعالى، بل هو له صلى الله عليه وسلم مؤيداً وظهيراً ونصيراً صلوات الله وسلامه عليه.

    وهذا كثير مطرد وسنقف عندما أخبرنا به، أما إكرام الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الآخرة فإنه عليه الصلاة والسلام أول من ينشق عنه القبر، وهو أول من يجيز الصراط هو وأمته، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يطرق باب الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يدخلها، كما أن ربه يعطيه يوم القيامة المقام المحمود الذي يغبطه عليه الخلائق أجمعون، كما أن الله يعطيه الوسيلة كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي).

    فهذا دليل على فضل إجابة المؤذن وعلى فضل سؤال الله الوسيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودليل وبرهان واضح ظاهر لكل أحد على مقدار ما سيكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة.

    وهنا ننيخ المطايا لنقول لكم يا معشر الشباب خاصة: هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم فعلام أحدنا اليوم يتعبد بفعل المنحرفين الذين تتصدر صورهم وعناوين حياتهم أعمدة الصحف، وأغلفة المجلات، وطيات المنشورات لا يأبه الله جل وعلا بهم يوم القيامة، وليس لهم عند الله منزلة ولا مكانة، فعلى ما نعلق أفئدتنا؟ ونحيل أبصارنا إلى أمثال هؤلاء ونعرض عن هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ ونعرض عن هدي هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

    هذا النبي الذي كان يا أخي! رحيماً شفيقاً بي وبك، رحيماً بأبي وأبيك، رحيماً بأمي وأمك، حتى إنه صلى الله عليه وسلم يضحي في يوم العيد بكبشين أملحين أقرنين فيسمي الله ويكبر على الأول ويقول: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد، ويسمي ويكبر على الآخر ويقول: اللهم وهذا عن من لم يضحي من أمة محمد)، ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يرانا، ويقول صلى الله عليه وسلم -ولنا الشرف أنها تكتحل أعيننا برؤيته- يقول لأصحابه كما في صحيح ابن حبان : (وددت لو أني رأيت إخواني، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطكم على الحوض).

    أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا وإياكم جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.

    الخاطرة الثالثة الدعاء الخالد

    الخاطرة الثالثة: الدعاء الخالد.

    كلنا يعلم أن دعاء الله جل وعلا هو حقيقة عبادته، ودعاؤه تبارك وتعالى صنوان للقلوب وللنفوس، وانتظار للفرج، وقد قيل: إن أعظم العبادة انتظار فرج الله تبارك وتعالى، ولقد سطر التاريخ الإسلامي عبر قرونه المديدة أدعية كثيرة أعج بها أصحابها إلى الله جل وعلا فتجاوزت حدود الأرض وعبرت آفاق السماء، واستظلت تحت ظل العرش، وأجاب الرحمن الرحيم دعاءها ونصر أولياءه، وقرب أصفياءه.

    ولكننا سنقف اليوم أمام دعاء دعا به سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأن مناسبته مناسبة عظيمة يستحضرها المؤمن في كل آن وحين، فكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قومه أول ما دعاهم في وحدة من الأمر وخلو من النصير، وغربة عن التوحيد.

    فكان ربه جل وعلا قد أيده بشخصيتين؛ أيده بعمه أبي طالب رغم كفره، وأيده بزوجته خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فكان أبو طالب ظهيراً ونصيراً له في الملأ، وكانت خديجة عوناً له في الخلاء؛ لأنها ربة بيت، ثم شاء الله أن يقبض أبا طالب على كفره، وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها على إيمانها.

    واشتد بعد وفاة أبي طالب أذى قريش لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فأحب عليه الصلاة والسلام أن يغير سبيل الدعوة، وأن يغير الوجوه التي يدعوها، فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه غلامه زيد بن حارثة إلى الطائف فلما خرج إلى الطائف وكله أمل ورجاء أن يستجيب أهلها له عرض دعوته على ثلاثة من زعمائها فسخروا منه أيما سخرية واستهزءوا به وهو عند الله بالمكانة العظمى، حتى قال أحدهم له: أما وجد الله أحداً يبعثه غيرك!؟ وقال آخر منهم: أنا أغير ثياب الكعبة إن كنت أنت نبياً.

    فلما اشتد عليه الكرب طلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يكتموا عنه أمره، لكنهم لخسة في أنفسهم أبو فأغروا به السفهاء والصبيان، فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في طرقات الطائف، قال بعض أهل السير: ما كان عليه السلام يرفع قدمه إلا ويؤذيه الصبيان بالحجارة ولا يضع قدمه الأخرى إلا يؤذيه الصبيان بالحجارة حتى أدميت عقباه وسال دمه الطاهر الزكي الشريف على أرض الطائف.

    فلما اشتد عليه الكرب أعج صلى الله عليه وسلم إلى ربه بدعاء خالد لما ضاق به أهل الأرض لجأ صلى الله عليه وسلم إلى رب الأرض والسماء، لما أعرض أهل الأرض عن نصرته، لجأ صلى الله عليه وسلم إلى العزيز الغالب أن ينصره فقال فيما سطره ابن إسحاق في السير وهو دعاء وإن لم يثبت سنداً على الوجه الأكمل إلا أنه والله الذي لا إله غيره جلال النبوة ظاهر على كل حرف فيه فضلاً عن كل كلمة، قال صلى الله عليه وسلم وهو نازل من الطائف إلى مكة بعد ما لقي من أهلها ما لقي: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين! أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى عدو يتهجمني، أم إلى بعيد ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

    أعج رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء إلى ربه تبارك وتعالى، فلننظر ما صنع الله به بعد هذا الدعاء لقد تتابع مدد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا اخترت أن يكون هذا الدعاء واسطة العقد في هذه الخواطر؛ لأن كثيراً منا قرأ هذا الدعاء في طيات كتب التاريخ وقرأه في دروس السير وربما سمعه ذات مرة في محاضرة أو من المذياع أو من التلفاز، ولكن القليل منا من وقف أمام الحكمة في هذا الدعاء.

    هذا الدعاء أعقبه حدثان عظيمان الأول منهما: أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف استفاق بقرن الثعالب فإذا بسحابة قد أظلته فإذا فيها جبرائيل ومعه ملك من الملائكة فسلم عليه جبرئيل وقال: يا محمد! إن ربك قد رأى صنيع قومك بك، وإن معي ملك الجبال يأتمر بأمرك فقال له ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت الساعة، فقال أرحم الخلق بالخلق، وأنصح الناس للناس، وأعظم من دعا إلى الله صلى الله عليه وسلم: (قال: لا، إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)، والعبرة التي أريد أن أقف فيها مع هذا الدعاء وهذا الأثر: أن الله جل وعلا لما عجز أهل الأرض أن ينصروا نبيه عوضه بنصرة أهل السماء، إن الله جل وعلا لما رأى خذلان أهل الأرض لنبيه صلى الله عليه وسلم عوضه بنصرة أهل السماء قبل ساعات معدودة يرفض أهل الأرض أن ينصروه، وبعد لحظات معدودة ينزل ملك كالمندوب من أهل السماء ليبين نصرة أهل السماء له صلوات الله وسلامه عليه.

    الحدث الثاني: أنه مضى صلى الله عليه وسلم متجاوزاً قرن الثعالب حتى وصل وادي نخلة وهو بين الطائف ومكة قريباً من مكة، فلما وصل وقف صلى الله عليه وسلم في هدأة الليل يتهجد ويقرأ القرآن، فبعث الله جل وعلا إليه نفراً من الجن ليستمعوا إلى قراءته وكانوا على الصحيح سبعة من جن نصيبين وهي قرية بين العراق والشام، فاستمعوا له فلما استمعوا له آمنوا بدعواه، ولم يكتفوا بالإيمان بدعواه صلوات الله وسلامه عليه، بل انطلقوا في معالم الأرض وغرائبها يبلغون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دعوته، قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29-32].

    والعبرة الربانية للخلق هنا: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رفض بنو قومه من الإنس أن يجيبوا دعوته عوضه الله جل وعلا بإجابة الجن لدعوته، في السابق خذله أهل الأرض فعوضه الله بأهل السماء وفي الثانية عوضه الله بعد استجابة بني قومه من الإنس إلا قليلاً منهم عوضه الله باستجابة الجن له صلوات الله وسلامه عليه، وهنا ننيخ المطايا كرة أخرى: إنه ينبغي أن يعلم كل منتسب لهذا الدين أن الله جل وعلا مظهر دينه لا محالة، ومعز جنده لا مفر من ذلك: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

    هذا أمر قدري شرعي لا محالة سيظهر الله دينه إن لم يكن اليوم سيكون غداً وإن لم يكن غداً فبعد غد، وما زالت في كثير من ديار المسلمين خاصة في هذا الشهر معالم الإيمان ظاهرة وواضحة ولله الحمد ...

    فما يراه المؤمن من تكالب قوى الغرب ومن تسلط أهل الشهوات ومما يعيثه أهل الفساد في الأرض كل ذلك يا أخي! إرهاصات بأن الله عز وجل سيتم كلمته ويعلي دينه وينشر لواء محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة، فما بعد العسر إلا اليسر ولا بعد الليل إلا الفجر، وتلك الساعات الحالكات التي قضاها نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن عج إلى ربه بذلك الدعاء الخالد أعقبها النصر بعد النصر، وأعقبها الظفر بعد الظفر حتى أتم الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم دينه ونزل قول الله تعالى بعد سنين عديدة عاشها صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً، أنزل الله قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فلا عذر بعدئذ لأي متخاذل، ولا عذر بعدئذ لأي مقصر.

    إن نصرة دين الله جل وعلا من أوجب الواجبات ومن مقدمة الأولويات وليست نصرة دين الله في الحماس المفرط ولا في الكلمات الجوفاء ولا في إثارة الدهماء، إن نصرة دين الله جل وعلا في وضع الكلمة في موضعها الصحيح وفي وضع القدم اليمنى حين نجد مكاناً للقدم اليسرى وحين نخطو خطوات ثابتة واثقة على بينة من كتاب ربنا وعلى هدي من رسولنا صلى الله عليه وسلم، عندها يعز الله بنا دينه، ويرفع الله جل وعلا بنا دينه، ويعلي بنا بإذنه تبارك وتعالى كلمته.

    الخاطرة الرابعة حين تطغى الشهوات

    الخاطرة الرابعة -أيها المؤمنون- حين تطغى الشهوات:

    الله تبارك وتعالى معشر الأحبة! ذكر طائفة من الناس في كتابه بعث إليهم نبياً من الأنبياء هو لوط عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله تبارك وتعالى عن تلك الفئة وأولئك الملأ: أن سكرتهم غلبت عليهم فأعمت بصائرهم وبصيرتهم، ورانت على قلوبهم فكانوا يأتون في ناديهم المنكر ولا يتورعون من أي عمل يفعلونه، وكان مصابهم الأعظم بعد إشراكهم بالله جل وعلا: أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين.

    وخاطرتنا حين تطغى الشهوات تتحدث عن أولئك الملأ كيف أن الله جل وعلا انتقم منهم أعظم انتقام وأرسل عليهم: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82]، الشهوة يا أخي! إذا طغت على صاحبها أعمته والعياذ بالله عن طريق الله جل وعلا، فأصبح كالبهائم لا يعترف بالعبادات ولا ينظر إلى التقاليد والعادات، البهائم عافانا الله وإياكم لها شهوتي البطن والفرج فإذا أرادت أن تأكل أو أرادت أن تتناكح لا تعرف أن تتوارى ولا أن تتزاوغ، والإنسان والعياذ بالله إذا غلبت عليه شهوته وطغت عليه شقوته أصبح كالبهائم.

    ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: أن الناس في آخر الزمان يتسافدون كتسافد الحمر، حتى إن الرجل -والعياذ بالله- ليفترش المرأة في الشارع، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أعظمهم أمانة يومئذ من يقول له: هلا واريتها خلف الحائط)، والمقصود: أن الشهوات إذا طغت على بني آدم أغوتهم أيما إغواء، وصرفتهم عن طريق الحق، وأبعدتهم عن معالم الهدى.

    والإنسان ينبغي عليه أن يكون في حرز مكين من أن تطغى عليه الشهوة.

    نقول لكل من ابتلي بغلبة الشهوة: عليه أن يعلم ثلاثة أمور:

    الأولى منها: ألا يسمح لنفسه ولا لبصره أن يستمر في النظر إلى الشهوات فتلك الأفلام الخليعة وتلك الأغاني الماجنة وما يعرض على الشاشات من دواعي الفسق والمجون والزنا والفجور لا ينبغي للمؤمن أن يستسلم لها وأن يخلد بصره إليها؛ لأنه قطعاً بلا ريب ولا شك لن يأمن الفتنة على نفسه.

    العاقل الحصيف لا يسلم نفسه إلى الشهوات ثم يسأل الله تبارك وتعالى بعد ذلك العصمة.

    إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها

    الأمر الثاني: أن نعلم أن في طرائق الحق وما منحه الله تبارك وتعالى لعباده وما في هذا الدين من يسر وحنفية سمحة ما يشغلنا عن تلك الشهوات ويجعلنا في منئاً عنها، بعض الشباب يقول: إن لم أنظر إلى تلك القنوات وإن لم أتابع تلك الفضائيات وما يعرض فيها ماذا أصنع؟ نقول له بكل هدوء: ماذا كنت تصنع قبل أن تعرف تلك القنوات وتلك الفضائيات؟ ألم تكن بشراً يمشي على قدميه؟ ألم تكن رجلاً تسعى على بينة وهدى وبصيرة؟ ما الذي غيرك؟ غيرك أنك أسلمت نفسك إلى تلك المحارم غيرك أنك أسلمت لبصرك ولعينك الخلود إلى تلك الشهوات فاستمتعت بها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكما لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب في المال، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب في قضية النظر وإدمان الشهوات.

    الأمر الثالث فيما يحفظك بإذن الله من أن تسلم لنفسك الوقوع في تلك الحبائل:

    أن تعلم أن الله جل وعلا سائلك عن شبابك فيما أفنيته، سائل جوارحك عما صنعت، يقول جل جلاله: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].

    فما منا من أحد إلا وسيسأله ربه عن كل عمل عمله وعن كل أمر قدمه صغيراً كان أم كبيراً عظيماً أم حقيراً، أما أولئك القائمين على تلك القنوات والقائمين على تلك الفضائيات وأخص منهم من يعنى بنشر تلك الأفلام الخليعة والأغاني الماجنة فإننا في المقام الأول نسأل الله جل وعلا لهم التوبة وأن يردهم الله إليه رداً جميلاً.

    أما المقام الثاني: فإن الله جل وعلا لا محالة سيسألهم عن هذه الفئة العظيمة من شباب المسلمين الذين سعوا في إضلالها، وسعوا في إفسادها، ولم يرقبوا الله تبارك وتعالى فيها، فإنهم سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء نعوذ بالله تبارك وتعالى من أن نكون أدعياء للشيطان معرضين عن دعوته تبارك وتعالى وهو يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].

    الخاطرة الخامسة وفاته صلى الله عليه وسلم

    الخاطرة الخامسة أيها المؤمنون! وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم:

    كم مر على أمة الإسلام من مصائب؟ وكم مر على أمة الإسلام من فترات؟ وكم رأى الناس من المدلهمات؟ وكم حل في بني آدم من النكبات؟ وكم فجع الناس بفقد ولد وحبيب؟ وكم خسر الناس من مال ونصب؟ ولكن كل الصيد في جوف الفراء.

    أيها الأحبة! بعث الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لغاية واحدة عظيمة ألا وهي: نشر دين الله تبارك وتعالى وتبليغ رسالة الله ولقد قضى صلى الله عليه وسلم حياته كلها في تحقيق هذه الغاية العظيمة، فلما تحققت الغاية على يديه صلوات الله وسلامه عليه لم يبق لحياته صلى الله عليه وسلم داع؛ لأنه خلق لعظائم الأمور، وقد أنهى ذلك الأمر العظيم على أكمل وجه.

    حج نبيكم صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ثم أشهد الناس ممن حضر خطبته وشهد حجه على أنه بلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل فقال: (اللهم قد بلغت! اللهم فاشهد!)، ثم لما قضى صلى الله عليه وسلم نسكه عاد قاصداً إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه.

    فما أن عاد عليه الصلاة والسلام إلا وأخذت الحمى تدب فيه شيئاً فشيئاً، والصداع ينتابه بين الحين والآخر حتى أخذ المرض يدب في جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه شيئاً فشيئاً، فلما أحس صلوات الله وسلامه عليه بدنو أجله وقرب رحيله أخذ في بعض الليالي غلامه أبا مويهبة ، وتوجه صلوات الله وسلامه عليه إلى البقيع كالمودع لأهله، واستغفر الله لهم وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ثم قال يا أبا مويهبة : إن ربي خيرني بين أن أعطى خزائن الدنيا ثم الجنة ولكنني اخترت لقاء ربي والجنة، فقال له أبو مويهبة : يا رسول الله! بأبي أنت وأمي اختر خزائن الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة ! إنما اخترت لقاء ربي والجنة).

    فعاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم أخذ عليه الصلاة والسلام في الليالي التي سبقت صعود روحه إلى الملأ الأعلى أخذ صلى الله عليه وسلم يعلم الناس كيف يقبلون على ربهم جل وعلا، فحذر أولاً من اتخاذ القبور مساجد وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا، ثم خرج في اليوم التالي يقول للناس ويكشف عن ظهره: (من كانت له عندي جلد ظهر فهذا ظهري فليتقد منه)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوصي بأن يقضى دينه ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يوصي الناس بالأنصار خيراً ويقول لهم: قد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس حتى رقى المنبر آخر ما رقيه صلوات الله وسلامه عليه.

    فصعد المنبر وقال: (أيها الناس! إن عبداً خيره الله ما بين الدنيا ولقاء الله فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان أعلم الصحابة وقال: بأبي أنت وأمي نفديك بأرواحنا وأنفسنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر ، إن من أمن الناس علي في صحبتي أبا بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأخذ المرض يثقل عليه فاستأذن زوجاته في أن يمرض في بيت عائشة .

    فبقي عليه الصلاة والسلام وهو أكرم خلق الله على الله يمرض في بيت عائشة وقرب دنو أجله يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، فكان همه عليه الصلاة والسلام أن يودع الناس وقد عرفوا ربهم جل وعلا حق المعرفة وأقبلوا عليه جل وعلا حق الإقبال، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي حيناً ويتركها حيناً، ثم رأى تثاقل المرض عليه فأوصى أن يصلي أبو بكر بالناس.

    فمكث أبو بكر يصلي بالناس حتى كان اليوم الذي سبق موته صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس يتهادى بين رجلين، فلما رآه أبو بكر تأخر قليلاً وصلى بصلاته، وصلى الناس بصلاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم عاد عليه الصلاة والسلام راجعاً إلى بيته حتى اشتدت حرارته وغلبته الحمى، فصب عليه سبع قرب عليه الصلاة والسلام رجاء أن يفيق فكان يفيق أحياناً ويغيب حيناً آخر.

    ثم كان يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول صلوات الله وسلامه عليه فدخلت عليه ابنته فاطمة في ضحى ذلك اليوم فقربها إليه وأخبرها بخبرين بكت من الأول وضحكت من الثاني، أخبرها بأنه سيلقى ربه بمرضه هذا فبكت رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأخبرها بعد ذلك أنها أول أهله لحوقاً به فسرت رضي الله تعالى عنها وأرضاها وأنها سيدة نساء أهل الجنة، ثم دخل عليه أسامة بن زيد وطلب منه أن يدعو له فلم يقدر صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو له إنما أخذ يشير بالدعاء إشارة ثم اشتد ضحى ذلك اليوم فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة على عائشة وفي يده سواك يتسوك به.

    فأمعن صلى الله عليه وسلم النظر إلى المسواك فعلمت عائشة أنه يريده فقضمته له ثم طيبته له ثم تسوك صلى الله عليه وسلم ثم أشار بأصبعه الشريف إلى السماء وينظر إلى سقف البيت وهو يقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات)، ثم قال: (بل الرفيق الأعلى .. بل الرفيق الأعلى)، ثم كان آخر ما ردد صلوات الله وسلامه عليه وهو مفارق الدنيا: (لا إله إلا الله، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ذلك رفيقاً، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه)، وأفضت روحه إلى ربه في الرفيق الأعلى والمحل الأسمى.

    وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه وفاضت روحه وجسده بين سحر ونحر عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فأرضاها، فما زادت على أن وضعته وأخذت تلطم خدها رضي الله تعالى عنها وأرضاها وكانت يومئذ شابة صغيرة لم تبلغ الثانية عشرة بعد وهي تندب رسولنا صلى الله عليه وسلم، وإذا بـفاطمة تقول: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبرائيل ننعاه.

    فثقل الأمر على الصحابة وسادهم الهرج والمرج حتى أقبل أبو بكر فأزاح الغطاء عن جسد رسولنا صلى الله عليه وسلم الطاهر وقبله وهو يقول: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها في الدنيا، ثم صعد المنبر وقال قولته الشهيرة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

    فلما فرغ أصحابه من أمر الخلافة وكان ذلك في يوم الثلاثاء اليوم التالي لوفاته صلى الله عليه وسلم غسلوه عليه الصلاة والسلام دون أن يكشفوا له عورة، والذين تولوا غسله آل بيته علي بن أبي طالب ، والعباس ، ونفر من غلمانه صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنهم بعد ذلك كفنوه في ثلاثة أثواب عليه الصلاة والسلام، ثم حفروا له في مرقده في بيت عائشة عليه الصلاة والسلام، ثم صلوا عليه قبل أن يدفنوه أرسالاً، أي: أفراداً، يدخلون من باب ويخرجون من باب آخر.

    فصلى عليه أول الأمر قرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه عامة الناس، ثم صلى عليه النساء، ثم الصبيان، ثم العبيد، ثم بعد ذلك واروه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله في التراب ودفنوه ونزل في قبره علي وقثم والفضل بن العباس ومولاه شقران ، وأحد الصحابة من الأنصار يقال له: أوس ، استأذن قرابته بأن ينزل في قبره صلوات الله وسلامه عليه.

    وقد استعظم أصحابه أن يؤمهم أحد على جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك صلوا عليه آحاداً وأفراداً، ثم واروه التراب صلوات الله وسلامه عليه، وهنا يقول حسان :

    بطيبة رسم للنبي ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

    بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد

    معالم لم تطمس على العهد آيها أتاها البلاء فالآي منه تجدد

    عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد

    وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد

    وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد

    صلى الإله ومن يحف بعرشـه والطيبون على المبارك أحمد

    فإنا لله وإنا إليه راجعون ...

    1.   

    واجبنا نحو حبيبنا صلى الله عليه وسلم

    معشر الأحبة! إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث لا يمكن أن تمله القلوب المؤمنة، ولا يمكن أن تسأمه النفوس المسلمة، إنه حديث عن أحب حبيب إلينا من الخلق، وعن أقرب قريب إلينا من الناس، حديث عن صفوة الله من الخلق، حديث عن رسول الحق صلوات الله وسلامه عليه.

    وإنه من يريد أن يعلم أينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلبه فلينظر أين هو من سنته؟ فلينظر أين هو من الذود عن سنته؟ أين هو من الدعوة إلى دينه؟ أين هو من اقتفاء أثره؟ أين هو من التزام قلبه؟ صلوات الله وسلامه عليه.

    كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يتوخى كل أمر يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يلبس النعل التي لا شعر لها، فلما كلم في ذلك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي لا شعر بها ويتوضأ بها ويصلي فيها، فإذا كان قد اتبعه حتى في النعل الذي يلبسه فما بالك إذاً في عظائم الأمور؟ إن محبة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي الدين وهي عين الملة؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه الطريق الأوحد إلى رضوان ربنا جل جلاله.

    فليست محبته فقط دموعاً في المحاجر، بل أمراً في سويداء القلوب، وإن كان ينبغي أن تكون كذلك، ولكن محبته صلى الله عليه وسلم أن نجعل الناس كلهم وراء ظهورنا إلا من أحب واقتفى أثر محمد صلى الله عليه وسلم، فلا ننظر إلى زيد ولا عمر، ولا إلى مشغول ولا مغمور، وأن نحب الناس ونعاديهم على مدى تمسكهم بسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه، حشرنا الله وإياكم في زمرته، وسقانا الله وإياكم من حوضه، وأنال لنا الله وإياكم من شفاعته، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    خاتمة المطاف وخاتمة الخواطر أيها المؤمنون! بعد هذا الذي سمعتموه: هلم إلى التوبة بعد هذا كله ما الذي ينبغي علي وعليك؟ ينبغي علينا أمر واحد: هو أن نسارع بلا تردد وأن نبادر بلا إحجام إلى أن نئوب إلى ربنا جل جلاله، لقد قالت اليهود يا أخي! في سالف الأزمان: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، والله تبارك وتعالى هو الغني حقاً وسائر خلقه فقراء إليه.

    لا تظنن يا أخي! أن الله تبارك وتعالى عندما يدعوك إلى عبادته ويدعوك إلى أن تسجد له وأن توحده وأن تعظم أمره وتحجم عن نهيه إنما هو في حاجة إليك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    بل إن الأمر كما أخبر أنبياؤه: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    الله تبارك وتعالى يا أخي! أغنى الأغنياء عن الشرك جل وعلا، مستو على عرشه، بائن عن خلقه، لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

    فهلم أيها الأخ المؤمن! إلى توبة إلى ربنا جل جلاله خاصة وأننا نتفيأ ظلال هذا الشهر الكريم وهذه الليالي المباركة، إننا لا ندري بما يختم لنا، ولا ندري إلى أي أمر نصير: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53]، فالسعيد كل السعادة من أعرض عن الشيطان، وأقبل على مولاه، وأسلم لله قلبه، وأسلم لله جوارحه، وأسلم لله دمعته، وأسلم لله محاجره، وأقبل على الله جل وعلا بقلب خالص، وتوبة ناصحة، وأوبة لا رجعة فيها، يستغفر ذنبه، ويرجو الله أن يمحو خطيئته، وأن يسبغ الله عليه رحمته، وأن يدفع الله تبارك وتعالى عنه نقمته.

    كفانا ما خلا من أيام عمرت بالذنوب والمعاصي، وليال أظلمت بالذنوب والخطايا، ولنقبل أجمعين إلى ربنا جل وعلا، ولتعلم يا أخي! أن رحمة الله لا تضيق بشيء، يقول جل جلاله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156].

    أسأل الله جل وعلا في خاتمة هذه الخواطر، وفي خاتمة هذه المحاضرة أن يمن علينا أجمعين بالتوبة النصوح والأوبة إليه إنه سميع مجيب، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأعتذر إليكم معشر الأحبة! إن أطلت، وعفواً إن قصرت، فما أردت إلا الإصلاح ما استطعت: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768276720