أما بعد:
فإن من الدروس ما يحتاج قائلها إلى انتقاء في الألفاظ، وصياغة في العبارات، وبحث في المعاجم؛ حتى يسد بذلك خللاً في المعاني، وقصوراً في الغايات، وما يصاحب ذلك من المطالب التي تقصدها تلك المحاضرات.
إلا أن الحديث عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حديث تزهو به العبارات، وتجمل به الصياغة، فإذا كان قد ثبت أن النوق -وهن نوق- تسابقن إلى يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم أيهن يبدأ بها لتنحر فإن الكلمات تتسابق أيضاً إلى أفواه قائليها إذا كان الحديث عن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا
وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا
فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا
فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر دون باب الله بابا
أبا الزهراء! قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان إلا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدرا فلما مدحتك اقتدت السحابا
فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.
لا ريب في أن المؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه أولى بمحبته، وأجدر بطاعته، وأحق باتباعه، فما أكرمه من حبيب مصطفى، وعبد مجتبى، ورسول مرتضى.
منَّ الله جل وعلا عليه بأن جعله إلينا من الخلق أحب حبيب، وأكمل قريب، وأرسله الله جل وعلا رحمة للخلائق، فقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وهدى به لأمثل الطرائق، فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
ومحبته صلى الله عليه وسلم حق من حقوقه على أمته، دل عليها العقل والنقل، وجاءت بها الأخبار والآثار، وتلبَّس بها السابقون الأولون من المؤمنين الأخيار، فقاموا بها حق قيام، وأدوها على نحو أتم ووجه أكمل.
ومحبة الناس قد تكون محبة ينتابها الإشفاق، كمحبة الوالد لولده ومحبة ينتابها الإجلال، كمحبة الولد لوالده، ومحبة يعتريها المشاكلة والاستحسان، كمحبة الناس بعضهم لبعض ممن يكمل في العين، ويرتفع قدره أما محبة المؤمنين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فإنها في مجملها محبة شرعية أوجبها الله جل وعلا علينا له صلوات الله وسلامه عليه، وقد دل عليها الكتاب، ودلت عليها أقواله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24]، فبين جل وعلا أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم شيئاً من متاع الدنيا ولا النفس على محبة الله، ثم على محبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تبين لكل أحد بما نص عليه العلماء -كـالقرطبي وغيره- أنه ما من أحد يؤمن بالله تبارك وتعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وفي قلبه محبة راجحة لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولكن هذه المحبة يختلف الناس فيها، ويتفاوتون فيما بينهم في تحقيقها، فمنهم من ينال منها النصيب الأوفر، ومنهم -والعياذ بالله- من يرضى بالحد الأدنى، فكلما طغت الغفلة والشهوات نأى الإنسان بمحبته لرسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وكلما عظم ذكر الله والاتباع والطاعة علت تلك المحبة في النفوس، وسمت في الأفئدة، وارتقت في القلوب، فيقرب العبد بعد ذلك من ربنا غلام الغيوب.
ولا يمكن لأحد أن يستشهد بأحد قبل سيد المسلمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلقد كان لـأبي بكر النصيب الأعلى والحظ الأوفر من كل خير في الأمة؛ لأن إيمانه -كما نص الشرع- عليه يعدل إيمان الأمة كلها، فقد قدم ماله ونفسه وما ملكته يداه وجاهه إجلالاً لله ومحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فتأتي حادثة الهجرة وينال أبو بكر شرف الصحبة، فيمضي مع نبينا عليه الصلاة والسلام في الطريق، فيرى منه النبي عجباً، فتارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يأتي عن اليمين، وأخرى عن الشمال، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا
نحن بنات من بني النجار يا حبذا محمد من جار
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم التفت إليهن وقال: (أتحببنني؟! قلن: نعم يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا كذلك أحبكن).
فـخبيب رضي الله عنه يقدم ليصلب وليقتل، فيقول له قاتلوه من مشركي قريش آنذاك: أيسرك أنك في بيتك معافى وأن محمداً مقامك؟ فيقول رضي الله عنه وأرضاه: لا والله لا يسرني ذلك، ولا أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة.
وهم مع ذلك رضي الله تعالى عنهم يعلمون أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر أكرمه الله بالنبوة، وختم به الرسالة، فكانوا يأخذون عنه الدين، ويأخذون عنه العلم، ويتعلمون منه ما يقربهم إلى الله جل وعلا زلفى.
ثم أعاد العبارة فغلبته عيناه فلم يستطع أن يكمل، ثم أعادها فغلبته عيناه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ما أعطى أحداً شيئاً أعظم من العفو والعافية، فسلوها الله عز وجل) ثم أتم حديثه رضي الله عنه وأرضاه.
فإذا قدر لأحدهم أن تدنو ساعة رحيله قال: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان بلال يقدم بين الحين والآخر من الشام إلى المدينة، فإذا قدر له أن يرفع الأذان ومر على قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) ارتجت المدينة بالبكاء؛ لأن أذان بلال ذكرهم بالحبيب صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إن مالكاً نفسه كان يبكي كلما أكثر من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعجب منه أصحابه، فقال رحمه الله لتلاميذه: لو رأيتم ما رأيت لما تعجبتم، لقد أدركت محمد بن المنكدر -وهو شيخ مالك -ما يحدث بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويبكي إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فنقوم عنه رحمة به وشفقة عليه.
ثم قال: وأدركت عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، إذا حدث وذكر النبي صلى الله عليه وسلم جف لسانه في فمه، وكاد دمه أن ينزف؛ محبة وإجلالاً لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه.
فهذه صور مشرقة وصفحات مضيئة من حياة سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في محبتهم لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فهؤلاء المحبون لنبينا صلى الله عليه وسلم أدركوا أن محبته صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات، وأجل القربات، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، وفي البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فقال
ففي يوم عيده -صلى الله عليه وسلم- ضحي بكبشين أملحين أقرنين، فسمي الله وكبر عند ذبح أحدهما وقال: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) ثم ضحى بالآخر وقال: (اللهم هذا عمن من لم يضح من أمة محمد) صلى الله عليه وسلم.
ولقد استعجل الأنبياء قبله دعواتهم، وادخر دعوته ليوم القيامة من أجل أمته، كما قيل:
وأهلك قومه في الأرض نوح بدعوة لا تذرْ أحداً فأفنى
ويدعو أحمد رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون كما علمنا
فيدخر صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله به عليه من دعوة مستجابة ليوم تقوم فيه الأشهاد، ويحشر فيه العباد؛ إكراماً لأمته وأتباعه صلوات الله وسلامه عليه، ففي ذلك المقام العظيم يناجي ربه ويناديه ويسأله قائلاً: رب! أمتي أمتي. فهذا وأمثاله حري بأن يجعلنا نصرف محبتنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه بعد محبتنا لله عز وجل.
وأعظم أحوال محبي محمد صلى الله عليه وسلم وأجل الدلالات على حبه صلوات الله وسلامه عليه توحيد الله، وإجلال الله، ومحبة الله، وبيان ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما أرسل وما أنزل عليه الكتاب إلا ليدعو الناس إلى توحيد الله جل وعلا، فمكث عمره الطاهر الشريف كله يذكر بالله، ويحبب فيه، ويدعو إليه، ويطلب من العباد أن يوحدوا ربهم ويعظموه ويجلوه، فإذا حاد الإنسان عن طريق التوحيد فقد حاد عن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من دلالة حبه صلوات الله وسلامه عليه.
إن محبة الله جل وعلا هي المنزلة التي يشمر إليها العاملون، ويتنافس فيها المتنافسون، وهي الحياة التي من فقدها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من حرمه فهو في بحار الظلمات، ولا يعدل توحيد الله وإجلاله ومحبته شيء، فالله جل وعلا خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب، والله رازق وما سواه مرزوق، وما محمد إلا عبد لله ورسول من لدنه، عرف بربه ودعا إليه، وقضى حياته كلها موحداً له سبحانه وتعالى.
فأعظم دلائل محبته الأخذ بما جاء به، فإن سلك الإنسان مسالك أهل التوحيد، وعظم الله جل وعلا ووحده فذلك أعظم القرائن، وأصدق أحوال من يحب محمداً صلى الله عليه وسلم.
ومثال ذلك ما صنعه ذو البجادين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد نشأ يتيماً، فكفله عم له في ديار على مقربة من المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انتظر ذو البجادين أن يسلم عمه، فمرت السنون دون أن يتغير حال عمه، فلما أخبر ذو البجادين عمه بالأمر قال له عمه -وكان قد أغدق عليه وجعله ذا يسر بعد أن كان ذا فقر-: إن اتبعت محمداً سلبت منك كل ما أعطيتك إياه، حتى ثوبيك، فقال: لا أعدل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، فسلبه عمه كل ما أعطاه، فقدم على أمه فأعطته بجاداً فشطره شطرين، فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر، وقدم المدينة ليلاً فاضطجع في المسجد، فلما كانت صلاة الصبح وفرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته وتفرس في وجوه الناس رأى ذا البجادين ولم يكن قد عرفه، فقال له: (من أنت؟) فتسمى له وانتسب، فقال له: (أنت
فمكث رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظ القرآن حتى كانت غزوة تبوك، فخرج مجاهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، فأدركه المرض، فمات والمسلمون في معسكرهم في تبوك، فحفر له قبر في الليل، فنزل صلى الله عليه وسلم فيه، قال لـأبي بكر وعمر : (أدليا إلي أخاكما) فوضعه صلى الله عليه وسلم في قبره، فلما فرغ من دفنه قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إنني أمسيت راضياً عنه فارض عنه)، فهذا الحديث عن هذا الصحابي نموذج فذ لاجتماع المحبة والعمل والاتباع والاقتفاء في شخصية واحدة هي شخصية عبد الله ذي البجادين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً.
وقد له -صلوات الله وسلامه عليه-سنتان: سنة يفعلها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله جل وعلا، فهذه لا يسع أحداً من الأمة أن يتركها، وقوامها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) وسنة يفعلها صلى الله عليه وسلم على سبيل الجبلة، وعلى ما فطره الله جل وعلا عليه في ذاته وحاله وشخصيته وبيئته.
فأما الأولى فإن الأمة جميعاً مأمورة بها، وأما الأخرى فهي منازل يتسابق فيها الأخيار، ويتنافس فيها الأبرار، وهي تدل في معظمها على محبته صلوات الله وسلامه عليه.
فالصحابة كانوا قد تجاوزوا مرحلة أن يأتمروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأن ينتهوا عن نهيه، فلا تجد أحداً منهم مقيماً على المعاصي، مصراً على الخطايا، وإن كان الحال أنه لا يخلو أحد من معصية وخطيئة، ولكن أنفسهم سمت إلى الجانب الآخر، فكانوا يرون ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم جبلة فيصنعونه.
فقد قدم رهط مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم قرة المزني رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما قدم وجد النبي عليه الصلاة والسلام مطلق الأزرار، أي أنه لم يزرر قميصه صلى الله عليه وسلم، فتأمله قرة ثم قرب منه، ثم أدخل يده في قميص النبي صلى الله عليه وسلم حتى استطاع أن يلمس خاتم النبوة من الخلف، وتركه صلى الله عليه وسلم للقميص من غير إغلاق أزراره أمر قد لا يعرف فقهه، ولكن الثابت سنداً أن قرة وابنه معاوية رضي الله تعالى عنهما لم يشاهدا في صيف ولا في شتاء قد أغلقا أزرارهما، فأمضيا دهرهما كله إلى أن ماتا وقبرا وهما مطلقا الأزرار تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك، ولم يدع إليه، ولكن النفوس أرادت أن تتربى على المعالي لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال.
فالمقصود من هذا كله أن اتباعه عليه الصلاة والسلام فُرقانٌ في كمال المحبة، على أنه ينبغي أن يعلم أنه قد يكون الرجل مصراً على المعاصي ومحباً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن المعصية لا تنزع المحبة بالكلية، ولكن لا يمكن أن يجتمع كمال المحبة مع عدم اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فالعاقل من يكون قلبه مليئاً بالمحبة لرسول الهدى ونبي الرحمة، وفي حياته اليومية يتأسى به، ويعمل بوصاياه، ويأتي أمره، ويجتنب نهيه صلوات الله وسلامه عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين وهو جالس بعد وتره، ويسلم تسليماً يسمع به أهله، وهذه سنة قد تكون غير معلومة، أو قد تكون معلومة مهجورة، فمن أراد أن يحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فعليه بها، ففيها الأجر العظيم، والثواب الكريم؛ لأنها مندرجة عموماً في قيام ليله صلوات الله وسلامه عليه.
ومنها ما تراه من بعض آحاد الناس المطلعين على حقيقة سنته صلوات الله وسلامه عليه المحبين له، اللذين يريد أحدهم أن يحيا كما كان صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل بيتاً لأحد الناس وقدم له تمر فإنه يتمنى ألا يأتي صاحب البيت بإناء يوضع فيه التمر، وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه أنه قال: (نزل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي، فقربنا إليه طعاماً ووطبة فأكل منها، ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين أصبعيه، ويجمع السبابة والوسطى) صلوات الله وسلامه عليه، فكره عليه الصلاة والسلام أن يرد النوى في موضع التمر، فوضع النوى بين أصبعيه السبابة والوسطى، ونحن نعلم يقيناً أن هذه المسألة مسألة جبلية هي إلى البيئة أقرب، ولا يترتب على تركها إثم، ولكن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ في حبه إلى أن يتأسى بكل أفعاله وأقواله صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك برهان على المحبة، ودليل على صدقها، لأن كمال المحبة يلزم منه كمال الطاعة وكمال الاتباع واقتفاء هديه صلوات الله وسلامه عليه.
وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول: فما قدر لي أن يصنع لي أهلي طعاماً استطعت أن أجعل معه دباء إلا فعلت، وورد عند الترمذي بسند فيه ضعف، ولكنه يجبر في فضائل الأعمال أن أنساً ًكان إذا مر على شجرة اليقطين يمسكها ويقول: يا لك من شجرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبك، فأنا أحبك لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لك.
فمن أحب شيئاً، أحب ما يتعلق به، وهذا ظاهر لكل من قرأ الأحاديث والأخبار الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم.
وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قدم عليها أبوها أبو سفيان قبل أن يسلم، فلما هم بأن يجلس على الفراش طوت الفراش عنه، فقال لها أبوها متعجباً: يا بنية! والله ما أدري: أترغبين بي عنه، أم ترغبين به عني؟! فقالت له رضي الله عنها وأرضاها: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فما أحببت أن تجلس عليه.
وهذا أبو دجانة رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحظى بسيف النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، ويختال به بين الصفوف، فلما حانت المعركة، ودنت ساعة القتال، والتحم الجيشان، وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف رسول الله ميمنة وميسرة هم بأن يضرب به شخصاً، فولول، فعرف أنها امرأة، قال: فرفعت السيف عنها إكراماً لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. فمحبة ما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه- أنه لما سئل عن أيامه مع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن نبي الله قام فينا خطيباً في غدير يقال له: (خم) بين مكة والمدينة، فقال: أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإنني تركت فيكم ثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور، فاستمسكوا به واعتصموا، ثم قال: وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال أصحاب
ولقد فقه سلف الأمة زرافات ووحداناً أن إكرام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إكرام لشخصه صلوات الله وسلامه عليه، فقد ذكر رواة الأدب ومصنفو التاريخ أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه عبد الملك بن مروان ، فلما هم بأن يقبل الحجر وهو يطوف عجز عن أن يصل إليه؛ لازدحام الناس على الحجر، فتنحى جانباً وأتي له بكرسي فجلس عليه، فلما قدم زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ليقبل الحجر عرف الناس زين العابدين ومنزلته وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحوا عن الحجر فاستلمه زين العابدين دون أن يزاحمه الناس عليه، فأراد هشام أن يصرف وجوه الناس عن زين العابدين فقال لمن حوله متهكماً: من هذا؟! وقبل أن يجيبه أهل الشام، قال له الفرزدق وكان حاضراً:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
والقصيدة طويلة، وما قيل منها من شواهد يكفي.
والمقصود أن من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم إكرام أهل بيته، ولا يدفعن أحد حسد ولا حقد ولا غير ذلك إلى بغضهم، فصلى الله على نبيه وصلى الله على آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
ولقد شكى العباس رضي الله تعالى عنه وإلى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً من قريش يجفون بني هاشم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولقرابتي) فالمحبة في الله يشترك فيها جميع المؤمنين، أما المحبة لقرابته صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد ذهب العلامة ابن حزم رحمه الله إلى أن الصحابة جميعاً في الجنة، وقال: هذا ما يقتضيه ظاهر الكتاب وظاهر السنة.
وذهب أكثر العلماء إلى أن الشهادة بالجنة محصورة في مجملها على من شهد بيعة الرضوان، ولمن سمى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه.
وأياً كان الأمر فمحبتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ونشر مناقبهم، وذكر فضائلهم، والتحدث بأيامهم، وغض الطرف عما كان بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم ديدن أهل السنة، ومسلك أهل الجماعة، وهو من محبتنا لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
والمحبون بصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم والمقتفون لأثره على علم وبينة وهدى سيكونون معه بإذن الله في جنات النعيم، ولقد كان هذا الهم قد شغل الصحابة من قبل، رغم أنهم رأوه في الدنيا رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان ثوبان مولى لنبينا صلى الله عليه وسلم، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يوماً صفرة وتغيراً فيه، فقال: (ما بك يا
وقد من الله علينا بأن جعلنا جيراناً له في داره صلوات الله وسلامه عليه، وإنه لفأل حسن ويمن مقدم لأن نكون جيراناً له صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، وأن نرد حوضه قبل ذلك، فإن الناس يخرجون من قبورهم أشد ما يكونون إلى ظل يؤويهم، وإلى ماء يرويهم، ولا ظل يومئذٍ إلا ظل عرش الرحمن، ولا ماء يومئذٍ في ساحات العرض أعذب من ماء حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، مع أن لكل نبي حوضاً، ولكن حوضه صلى الله عليه وسلم أعذب مورد، وأكمل نقاء وصفاء، أوردنا الله وإياكم حوض نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالاشتياق إلى رؤيته عليه الصلاة والسلام أمر قلبي يتذكر به المؤمن ما فاته فيتحسر على أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحظ بالكلام معه، ولم ينصره في معركة، ولم يكن ذات يوم يتلقى العلم عنه، ولم يحف به في مجلس، ولم يزره في بيته، فإذا غلبه الشوق وغلب عليه الحنين لجأ إلى أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فتأسى بها، وملأ قلبه محبة لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يكون يوم غد قريباً من جواره صلوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم.
ومثل هذا طريق قد تزل فيه أقدام، وقد تحتار فيه أفهام، ولكن العاقل البصير يعلم أن الله جل وعلا نهى عن أن يتقدم أحد بين يدي الله ورسوله، فيقف عندما أوقفه الله جل وعلا، ويهتدي بهدي أصحابه صلى الله عليه وسلم في التعبير عن محبتهم لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.
فهذه على وجه الإجمال دلالات المحبين لرسولهم صلى الله عليه وسلم.
إن أعظم ما يجنيه العبد من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله جل وعلا له؛ لأن الله جل وعلا إذا أحب عبداً أحبه جبرائيل لمحبة الله جل وعلا له، فإن نحن أحببنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أحبنا الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي اختاره واصطفاه، وهو الذي قربه وناجاه، وهو الذي شرح له صدره ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وهو الذي بعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً، وهو الذي أرسله رحمة للخلائق وهداية للطرائق، فمحبته صلى الله عليه وسلم يظفر الإنسان من خلالها بمحبة الله جل وعلا، بل إن الأصل أننا نحب نبينا عليه الصلاة والسلام لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إن الإنسان إذا اجتمعت فيه هاتان المحبتان -ولا انفكاك بينهما أبداً- محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يجد في نفسه لذة الإيمان ومن المؤسف أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة في شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه كان التيار الفقهي فيها أعلى من التيار الإيماني، وهذا لا ريب في أنه خلل في المرتقى، وغير سليم في الوصول إلى طاعة الله جل وعلا، لأنه يجب أن يقترن العمل بمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من يؤدي الصلوات، ويؤدي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ولكنه يجد في نفسه جفافاً في المقل، وقسوة في القلب، وعدم لذة في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ...) إلخ وذكر منها: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
فمحبة الله ورسوله تورث في النفوس لذة الإيمان، وتشعر المؤمن بالقرب من الرب جل وعلا، والعمل الصالح إذا اقترن بمحبة الله تبارك وتعالى واستحضار ثوابه والانكسار بين يديه جل وعلا أورث ذلك كله قبولاً عند الله جل وعلا.
وقد كان ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما هم بتقديم الوضوء ذات يوم لرسول الله قال له: (يا
وقصارى الأمر ونهايته أنه بمحبة الله جل وعلا وبمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تطمئن النفوس، وترتوي القلوب، ويستبصر المؤمن الطريق، ويحظى بالتوفيق، ويكون قريباً من الله قريباً من رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما بيناه من منهج ظاهر أخذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حري بالمؤمن أن يعض عليه بالنواجذ، لا لقائله، وإنما لمصدره؛ لأنه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد يعرف الإنسان مواطن الحق وأماكن الرشاد، ولكنه تقصر به الهمة عن تحقيقها، وقد يحققها ولكنه لايحالفه التوفيق بأن يبقى ثابتاً عليها، فقد كان ميمون بن قيس الملقب بـالأعشى شاعراً جاهلياً مرموقاً، حتى كان يعرف بصناجة العرب؛ لأنه كان بشعره يرفع الخامل ويضع النبيل، فلما شاع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب قدم الأعشى من ديار قومه يريد المدينة ليؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحق تبين له أمره، فتعرض له القرشيون في الطريق، فقالوا له: ما وراءك؟ فأخبرهم بغايته، وأنه أعد قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم لبعض: لئن آمن الأعشى ومدح النبي عليه الصلاة والسلام فإن أمر محمد سيشيع، وليدخلن الدين كل بيت، فردُّوه، فأخذوا يغرونه بالمال حتى اتفقوا معه على أن يعود عامه ذاك، وقد أعطوه من النوق ما أعطوه، فرجع -والعياذ بالله- فوقع من فوق ناقته وهو في طريقه، فدق عنقه فمات على كفره وضلاله، أعاذنا الله وإياكم.
وكان قد أعد شعراً، وآمن في قلبه، ولكن حرم التوفيق لقضاء الله جل وعلا وقدره، وكان مما قاله:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
وفيها يقول لناقته:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا
متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
والمقصود من هذه الالتفاتة أن يكون بعضنا رحماء ببعض، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة لائتلاف القلوب، لا أن نتناحر ونتخاصم، ويكفر بعضنا بعضاً، أو يفسق بعضنا بعضاً، أو يرمي بعضنا بعضاً ببدع.
إن هذه الأمة أمة مرحومة، وكلما كان قول الإنسان وكلامه يجمع بين الناس أكثر مما يفرق كان أقرب هدياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضوا عن الزلل، وتغاضوا عن العورات، ولا يكن شغل أحدكم وهمه ووقته في الحديث عن أعراض المؤمنين من حكام أو علماء أو دعاة أو عباد أو زهاد، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فإن أحد الصحابة قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إني أهم بأن أذبح الشاة فأرحمها، فيقول صلى الله عليه وسلم مقراً له: (والشاة إن رحمتها رحمك الله) فلنكن محبين لله، محبين لرسوله صلى الله عليه وسلم، رحماء كما وصف الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أكمل الهدي، وأفضل الطريق وأقومه.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواسع العليم، نسألك اللهم بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبقدرتك التي قدرت بها على الخلق، وبرحمتك التي وسعت كل شيء أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن تبارك على محمد وعلى آل محمد، وأن ترزقنا الحياة على سنته، والوفاة على ملته، وأن تقبضنا -اللهم- على هديه واتباعه واقتفاء أثره.
اللهم أوردنا في عرصات يوم القيامة حوضه، اللهم ارزقنا من شفاعته، واحشرنا تحت زمرته، اللهم ارزقنا جواره في جنات النعيم، إنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم.
اللهم إن من إخواننا من أصابهم من المرض والبلاء ما أنت به عليم، اللهم جنبهم ما يخافون، وأمنهم مما يحذرون، اللهم ارفع عنهم الضر والبأس يا حي يا قيوم.
اللهم اجعلنا مؤمنين بك، مصدقين لرسولك صلى الله عليه وسلم، محبين له، مقيمين لسنته، متبعين لهديه وطاعته وأثره يا رب العالمين.
اللهم أحينا حياة من تحب بقاءه، وتوفنا وفاة من تحب لقاءه، اللهم أكرمنا وأهلينا وأزواجنا وذرياتنا بدخول جنتك، وسكنى ديار رحمتك يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك.
اللهم إنا نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الرشاد، ونعوذ بك -ربنا- من الحور بعد الكور، ونعوذ بك اللهم من كل عمل لا يراد به وجهك، ولا يتقى به سخطك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر