إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع نهجه، وسلك مسلكه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو الدرس الرابع من وقفاتنا القرآنية مع كتاب ربنا جل جلاله، وهي وقفات مع سورة الصافات، والمنهج في هذه الوقفات هو كما سلكناه في وقفاتنا مع السور التي مضت ومرت من سورة ص ومريم، وغيرها.
الوقفة الأولى من سورة الصافات مع فواتح السورة، ومع قول ربنا جل جلاله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات:1-9].
استهل ربنا جل جلاله هذه السورة الكريمة بواو القسم، وأقسم جل جلاله بملائكته الكرام حال صفوفها ووقوفها بين يديه، وحال زجرها للسحاب، وحال تلاوتها لآياته جل وعلا، فأقسم بها وهي صافة، وأقسم بها وهي زاجرة، وأقسم بها وهي تالية.. وجواب القسم ذلك النبأ العظيم، والخطب الذي تعبد الله به الخلائق أجمعين إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:4].
والحديث في فواتح هذه السورة يتضمن أموراً ثلاثة: الحديث عن الملائكة، والحديث عن السماء، والحديث عن الجن.
أما مساكنهم فإن مساكنهم في السماء، قال الله جل وعلا: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت:38] أي الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38].
وأما عددهم فلا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31] وحسبك أن تعلم شيئاً من عددهم إذا علمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام أو يجر كل زمام سبعون ألف ملك) ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن لهم البيت المعمور -مواز للكعبة التي هي للمؤمنين في الأرض- يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يأتون عليه كرة أخرى إلى يوم القيامة، أمور يقطر دونها الخيال فضلاً عن العقل، فسبحان من هذا خلقه، وسبحان من هذه عظمته، وسبحان من يسبح كل شيء بحمده.
أما عبادتهم فإن الملائكة مجبولون على الخير، لا يعصون الله ما أمرهم، لا يختصم في أنفسهم: الخير والشر كبني آدم والجن، لكنهم مجبولون مفطورون على عبادة الله تبارك وتعالى لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وهؤلاء الملائكة لعظيم علمهم بالله جل وعلا فهم لذلك من أعظم الخلق عبادة لله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبرائيل كالحلس البالي من خشية الله جل وعلا) فهذا جبرائيل على عظيم خلقته رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء كالحلس البالي، والحديث رواه بعض الأئمة بإسناد حسن، من حديث جابر ، وهذا يدل على عظيم خشية هذا الملك الكريم، وغيره من الملائكة في هذا الأمر سواء، بل إنه صح عنه صلى الله عليه وسلم كما روى ابن جرير وغيره من الأئمة من حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة شديدة، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام، فإذا سمع لذلك أهل السماوات صعقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، ثم بعد ذلك يمر جبريل على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير) فصنيعهم هذا لعلمهم بعظمة ربهم تبارك وتعالى، والملائكة جل عبادتهم التسبيح وذكر الله جل وعلا، وجل ذكرهم تسبيح الله تبارك وتعالى، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما أفضل الذكر يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الذكر ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده) فأكثروا أيها المؤمنون من قول: سبحان الله وبحمده، فإنه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الذكر، وهو جل ذكر الملائكة لربها تبارك وتعالى.
فأما جبريل فموكل بحياة القلوب، فلذلك ينزل بالوحي على من يشاء الله من رسل الله تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].
وميكال موكل بحياة بني آدم مما فيه معاشهم فينزل بالقطر من السماء.
وإسرافيل موكل بنهاية حياة الكون كله، فلذلك هو الذي ينفخ في الصور، قال الله جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] .
وملك الموت وردت بعض الآثار أن اسمه عزرائيل، لكن هذا ليس موجوداً في صريح الكتاب ولا في صحيح السنة، ولكن أكثر أهل العلم على أن اسمه عزرائيل والله تعالى أعلم، وهذا ملك الموت موكل بحياة كل إنسان بذاته؛ فهو الذي يقبض أرواح بني آدم، قال الله جل وعلا: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11] .
ونبينا صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في السنة أنه كان إذا قام من الليل يجمع بين رؤساء الملائكة فيقول ضمن حديث طويل: (اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكال.. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) ، وهؤلاء الملائكة أيها المؤمنون أعطاهم الله جل وعلا القدرة على التشكل، فيتشكلون بأمر الله حيث يريدون، أو حيث ينفع ذلك التشكل، ومنه تشكلت الملائكة وجاءت لـإبراهيم -كما بينا في وقفاتنا مع سورة هود- في صورة أضياف، قال الله جل وعلا: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر:51] وإلى الصديقة مريم جاء جبرائيل في صورة بشر تام الخلقة، قال الله جل وعلا: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم جاء جبرائيل في صورة دحية الكلبي أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكما في حديث عمر في الصحيح وغيره: جاء رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ولا يرى عليه أثر السفر، ولما انقضى الأمر وانتهت المهمة قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) فالمقصود أن هؤلاء الملائكة لديهم القدرة على التشكل، وهؤلاء الملائكة تختلف وظائفهم، أسند الله جل وعلا -لحكمة أرادها وهو الغني عنهم وعن غيرهم- إليهم مهمات، فمنهم حملة العرش، وهم فيما يظهر أعظم الملائكة خلقاً، قال الله جل وعلا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] ، وقال الله جل وعلا في الحاقة: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] وكما قلنا فيما يظهر أن هؤلاء حملة العرش هم أعظم الملائكة خلقاً لأنهم يحملون أعظم المخلوقات وهو العرش؛ ثم منهم الموكلون بحفظ بني آدم، قال الله جل وعلا: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] ، ومنهم الموكل بكتابة أعمال بني آدم، قال الله جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فالذي على اليمين يكتب الحسنات، والذي على اليسار يكتب السيئات، ومنهم من وكله الله جل وعلا بسؤال العبد في قبره، وهم المعروفان بمنكر ونكير، ومنهم موكل بغير ذلك، كالملك الذي جاء في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما: أنه عندما تبلغ النطفة في الرحم أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- يبعث إليه ملك، فيؤمر بكتابة أربع كلمات: بكتابة عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد؛ المقصود أن الموكل بهذا ملك من ملائكة الله جل وعلا.
فهؤلاء الملائكة تختلف مهماتهم ووظائفهم إلا أن جل أمورهم في كل حال هو ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله تعالى) ينبئ عليه الصلاة والسلام عن عظم ذكر وعبادة وتسبيح هؤلاء الملائكة المقربين لربنا جل جلاله.
كذلك من الأمور التي يوكلها الله جل وعلا إلى الملائكة وتندرج ضمن علاقة الملائكة ببني آدم، أن الملائكة تستغفر للمؤمنين، وقد مضت الآية في استغفار حملة العرش للمؤمنين، ومنه أن الملائكة تبشر المؤمنين أنبياء كانوا أم غير أنبياء، فأما الدليل على أنهم يبشرون الأنبياء ما ورد أنهم بشروا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالولد، وبشروا زكريا فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:39] ، وبشروا النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (جائني جبريل فقال: يا رسول الله هذه
وهذا استنباط من عمر رضي الله تعالى عنه إن صحت الرواية إليه، لكن الحديث في بني إسرائيل: في الأقرع والأعمى والأبرص يعضد هذا الاستنباط الذي ذهب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
ومن وظائف الملائكة وعلاقتها بالمؤمنين: الذود والدفاع عنهم، ولذلك أنزل الله الملائكة مسومين يوم بدر يدافعون عن دين الله جل وعلا، ويعضدون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه في يوم بدر، وهذا وارد في صريح القرآن، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما توعده أبو جهل أن يفعل به ويفعل إذا هو سجد لله كرة أخرى عند الكعبة، فجاء ذات يوم ونبينا عليه الصلاة والسلام ساجد بين يدي الله عند الكعبة فاستنفرت قريش أبا جهل فقالوا له: يا أبا الحكم اذهب واصنع ما وعدت به فعاد أبو جهل يرجع القهقرى ويضع يديه، فلما سألوه، قال: والله لقد رأيت بيني وبينه هولاً وخندقاً وناراً وأجنحة، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو دنى مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) فهذا من دفاع ملائكة الله المقربين لرسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا ننبه أن بعض إخواننا غفر الله لنا ولهم قد يأتي متأخراً إلى الصلاة، ومع ذلك يريد أن يكسب تلك الفضيلة بدون وجه حق، فتراه يقطع الصفوف، أو يتخطى الرقاب، أو يزاحم المؤمنين بحثاً عن مكان في الصف الأول، ولو كان الأمر متى ما دخل الإنسان المسجد ووجد محلاً في الصف الأول لما كان لأهل الصف الأول مزية، ولكن المزية تكمن في أن أهل الصف الأول في الغالب إن كان المسجد مزحوماً يأتون مبكرين لينالوا هذه الفضيلة؛ أما أن يأتي العبد وقت الإقامة ثم يتخطى رقاب المؤمنين، ويزاحم زيداً وعمراً، وربما وقف بين رجلين كبيرين طاعنين في السن، أو أحدهما مريض..، أو غير ذلك ممن يبتلي الله به عباده في الظاهر والباطن فهذا مما لا ينبغي لطالب العلم ولا ممن التزم على شرع الله أن يفعله، فإنه إما أن يغدو مبكراً وإما أن يرضى بالمكان الذي انتهى الصف إليه.
كذلك من الأعمال التي تثني الملائكة على أصحابها: الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة، تقول الملائكة: اللهم اغفر له.. الله ارحمه ما دام في مصلاه، ولا ريب أن في هذا مزية عظمى وفضيلة خاصة وعظيمة لمن ينتظرون الصلاة بعد الصلاة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل بأنه الرباط قال: (فذالكم الرباط .. فذالكم الرباط .. فذالكم الرباط) هذه بعض الأعمال التي تصلي الملائكة على أصحابها.
وممن تلعنهم الملائكة: من أشار إلى أخيه بحديدة، قال صلى الله عليه وسلم: (تلعنه الملائكة حتى يضعها، وإن كان أخوه لأبيه وأمه) وهذا قطع لدابر الشيطان ولنزغاته، وكم من أخ أراد أن يداعب أخاه، أو يمازحه، أو يلعب معه بشيء من قطع السلاح بالحديد أو بالبندقية أو بغيرها فيكون وراء ذلك الشر المستطير، ولما كان صلى الله عليه وسلم أنصح الناس للناس، وأرحم الخلق بالخلق قطع على الشيطان دابره، وقطع الأمور التي توصل إلى العداوة والشحناء والبغضاء بين المؤمنين، فأخبر أن الملائكة تلعن من أشار إلى أخيه بحديدة، وإن كان ذلك الأخ قريباً منه، أي ولو كان شقيقاً له من أبيه أو من أمه.
كما أن من الأمور التي تلعن الملائكة صاحبها ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام من عير إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).
إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتاز عن غيرها من المدن، شاء الناس أم أبوا، أدرك الناس حقيقة ذلك أم لم يدركوه؛ فإن الله جل وعلا اختارها أن تكون مهاجراً لنبيه، ولما فتح الله مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم وهي داره الأولى ما مكث صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بالمقدار الذي تم فيه الفتح، ثم عاد راجعاً صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة، واختار الله تربتها، وطينتها أن تكون قبراً لجسده الشريف عليه الصلاة والسلام، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال -يذكر رغبة الناس عنها-: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) فهذه المدينة بهذه المزية التي خصها الله بها، كما خص مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ودعا بالبركة لأهلها في كيلهم، ودعا بغير ذلك لأهلها عليه الصلاة والسلام، فكون الإنسان يحدث فيها حدثاً أو يأوي فيها محدثاً، هذا مستوجب لغضب الله ولعنته، ومستوجب للعنة الملائكة، ومستوجب لعنة الناس أجمعين، فليتق العبد المؤمن مسئولاً أو عامياً أو عالماً أو داعية أو أياً كان رجلاً أو امرأة وهو يقطن ويسكن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدث فيها نهي عنه، وإن كان الحرام حرام في المدينة وحرام في غيرها، لكنه تتأكد حرمته في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق ذكره.
وهنا نعرض بعض الأعمال التي فيها شر محض، ولا يقبل التأويل، ولا الأخذ ولا العطاء، ولا يقبل مسألة النسبة في كونه حرام في المدينة أو غيرها؛ إلا أنه في المدينة أشد حرمة: أشرطة الفيديو ذات الأفلام الخليعة، فإن بيعها والاتجار بها في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر فيه من عظيم الحرمة ما فيه، فبيعها في أي مكان حرام المساعدة ونشرها على ذلك بين البيوت التي هي جوار لمحمد صلى الله عليه وسلم أمر حرمه الله، وحرمه رسوله، وفيه من الإثم ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا وكذلك المحلات التي تبيع ما يسمى عند العامة وعند الناس بالجراك أو بالشيشة فإن بيعها حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم وفق ما فهمه العلماء من صحيح الكتاب وصريح السنة، ولا ريب أن الاتجار بها في مدينة كان فيها الوحي والتنزيل وجرى في طرقاتها جبرائيل وميكائيل أمر فيه من الشناعة ما لا يخفى على كل ذي عقل حصيف.
وأنا أتكلم عن الأمور ذات الشر المحض الذي لا يقبل الرد ولا التأويل، وإلا فهناك أمور أخر لكن تدخل فيها مسألة النسبة، يعني إذا استخدم في الحرام حرام، وإذا استخدم في الحلال حلال.
بعض ما يلبسه النساء من ألبسة وفساتين لا يقبل أن تلبسها المرأة المؤمنة أبداً، وقد يقول قائل ربما تلبسها المرأة لزوجها والزوج يجوز له أن يرى كل شيء من زوجته بلباس أو بدون لباس، نقول إن هناك مما يعلمه جميع الناس يباع لا يقبل أبداً أن تلبسه المرأة في بيت زوجها، أي أن موديله إن صح التعبير أو تصميمه أو ما يباع من أجله لا يعقل أن تلبسه المرأة أما زوجها، إنما تلبسه في الأفراح، والمناسبات، وفيه من الخلاعة والمجون والدعوة إلى الفواحش ما حرمه الله ورسوله مما لا يماري فيه اثنان من العقلاء، فلا ريب أن تسويقه ونشره والتجارة وبيعه في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إثم عظيم، ولذلك فإنني أقول للأخوات نصحاً لله: إن هذه الأمور إنما يدعو فيها أقوام لا خلاق لهم يريدون أن يحيدوا بكن عن طريق الله جل وعلا، وإنها يا أختاه نفس واحدة إما جنة وإما نار، وإنني أربأ بعقلك وعقل كل مؤمنة أن تتخذ طريقاً موصلاً إلى غضب الله فلا خير في لذة من بعدها سقر، وسيأتي بيان هذا في حديثنا عن وقفة أخرى عند منازعة الإنسان لرغبته وما أمر الله جل وعلا به في هذه الدرس.
فهذا مندرج ضمن الأعمال التي تلعن الملائكة أصحابها أو القائمين بها، ونحن نبين هذا حتى يكون المؤمن على بينة من أمره، فيعلم طريق الله فيتبعه، ويعلم أي الطريق الذي يحيد بالعبد عن طريق الله جل وعلا ويجتنبه.
إن ولي نبينا صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الملائكة جبرائيل عليه الصلاة والسلام؛ فإن اليهود جاءوا إليه عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا أبا القاسم إنا سائلوك عن أمور لا يعلمهن إلا نبي فإن أجبتنا عليها اتبعناك وإن لم تجب عليها كان الفصل بيننا وبينك، فأخذ عليه الصلاة والسلام عليهم العهود والمواثيق ما أخذه يعقوب على بنيه أن يبروه ويأخذوا بقوله إن هو أجابهم، فقالوا: له ما علامة النبي؟ قال: (تنام عينه ولا ينام قلبه) قالوا: كيف ينزع الرجل إلى أمه وأبيه؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أما علمتم أن ماء الرجل ثخين أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهم غلب نزع الولد إليه) فقالوا له: ما الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ قال: (أما علمتم أن يعقوب -أي إسرائيل- اشتكى عرق النساء فنذر لله إن عافاه الله وشافاه أن لا يأكل من لحوم الإبل ولا يشرب من ألبانها) فقالوا له: ما الرعد؟ قال: (ملك من الملائكة بيده مخراق من نار يسوق السحاب بيديه) فقالوا: يا أبا القاسم بقيت واحدة، فإن أجبتنا إليها اتبعناك قال: (قولوا) قالوا: من وليك من الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (وليي من الملائكة جبريل، وما بعث الله نبياً إلا وهو وليه من الملائكة) فقالوا: إذاً نفارقك، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، لو قلت أن وليك ميكال الذي ينزل بالقطر والرحمة لاتبعناك، يريدون أن يفرقون بين ملائكة الله، فأنزل الله جل وعلا قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98].
وتتلخص الوقفة مع الملائكة في الإيمان بهم، وتصديق ما أخبر الله ورسوله عنهم، والدعوة إلى أن يتمثل الإنسان الأعمال التي فيها مرضات لله، ويجتنب الأعمال التي فيها معصية لله والتي توجب سخط الله وغضبه.
ثم نقف مع قول الله جل وعلا: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ [الصافات:7-8] وهذا يدخلنا في الحديث عن الجن.
الجن أيها المؤمنون خلق من خلق الله، ولكونهم عالم غيبي فإن الحديث عنهم تكتنفه دائماً الأساطير، والأمور ذات الرعب والخوف، ولذلك جرت العادة عند العامة أن يختبروا شجاعة الرجل بأن يحدثونه عن الجن، فإن صبر قالوا: هذا رجل شجاع، وإن بقي يرتعش أو أصابه الخوف، قالوا: هذا رجل فيه خوف؛ لأنه يخاف من الجن، والصواب أن يقال: إن الجن بالنسبة لنا عالم غيبي لم نره؛ ولذلك سموا بالجن لأنهم مستترون، ولذلك يسمى الجنين في بطن أمه جنيناً لأنا لا نراه، وسميت الجنة جنة لأننا لم نرها، والله جل وعلا قال في القرآن: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] أي أظلم واستتر وغطى ما فيه، فهذا سبب تسميتهم بالجن، والظاهر أن أباهم إبليس عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وإبليس كما هو معلوم خلق من نار، ولذلك فيهم الطيش؛ وهؤلاء الجن مكلفون بالأوامر والنواهي كبني آدم قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] وهؤلاء الجن لديهم كما لدى الملائكة القدرة على التشكل، لكن قال العلماء: إن الفرق في قدرة الملائكة وقدرة الجن على التشكل أن الملائكة لا تحكمهم الصورة بخلاف الجن فإنه تحكمهم الصورة، وبيان هذا لو أن عبداً من عباد الله قابل جنياً في صورة أي مخلوق.. في صورة قط، أو في صورة كلب، أو في صورة حية..، أو في أي صورة كانت فقتل ذلك العبد ذلك الجني في صورته وأصابه في مقتل فإن الجني يموت لأن الصورة تحكمه، ولذلك روى مالك في الموطأ أن أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان حديث عهد بعرس فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أن يذهب إلى عرسه أي إلى زوجته، فلما ذهب ذلك الصحابي وجد امرأته خارج باب الدار فأخذته الغيرة فسل سيفه يريد أن يعاقبها، فأشارت إليه أن ادخل الدار، فلما دخل الدار فإذا بحية قد طوقت سريره أو فراشه، فضربها بالسيف فلا يدرى أيهما أسبق موتاً.. ماتت الحية ومات ذلك الصحابي، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في المدينة إخواناً لكم من الجن عوامر) أي يعمرون البيوت (فحرجوا أو استأذنوا عليهم ثلاثاً) والمقصود أن الصورة التي يتلبس بها الجني تحكمه في قضية حياته أو في قضية موته والله تعالى أعلم، هذا بعض ما علمناه، أو ما اطلعنا عليه من أقوال أهل العلم رحمهم الله أحياء وأمواتاً، والجن لديهم قدرة قوية على القيام بمشاق الأمور، ولذلك سخرهم الله لنبيه وعبده سليمان عليه الصلاة والسلام، قال تبارك وتعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:36-37] ومعلوم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أراد ممن حوله أن يأتوا بعرش بلقيس، قال: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38] فحكى الله في القرآن قول عفريت من الجن: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39] فهذا دلالة على ما أوتي هؤلاء الجن من قوة وسلطان، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الجن لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً.
ولما كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها، فإن الجن كانت في السابق لها مقاعد في السماء يسمعون ما تتذاكره الملائكة من وحي الله جل وعلا، فينزلون بتلك الكلمة إلى الناس ويعطونها إلى الكهنة الذين يتعاملون معهم فتزيد عليها الكهنة بعضاً من الكذب فينتشر هذا الأمر بين الناس ويصدقونه، فلما أراد الله أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ملأت السماء حرساً وشهباً حتى لا يستمع الملائكة شيء فيدخلون على القرآن ما ليس فيه، وهذا من حفظ الله لدينه، ومن حفظ الله لكتابه، ومن إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.. وإن أردت الدليل على ذلك فاقرأ قول الله جل وعلا في سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا [الجن:8-9] أي في السابق نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ [الجن:9] أي بعد البعثة يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9] فهذه الشهب تقذف أولئك الجن حتى لا يسترقون السمع وحتى لا يسمعون شيئاً من وحي الله إلى ملائكته، ولا مما تتذاكره الملائكة مما يخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا فيه إكرام لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
ولما رأت الجن هذا استغربت، وقيل: إنهم ذهبوا إلى أبيهم إبليس فأخبروه، فقال: انصرفوا في الديار وتفرقوا في الأمصار فإن هذا لا يحدث إلا لنبأ عظيم، فجاءوا فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه القرآن، فقالوا: هذا الذي منعنا من أجله، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإن منهم مؤمنين ومنهم كافرين، قال تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [الجن:11]، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] ففيهم مؤمنون وهم قلة، وفيهم كفار وهم كثرة، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإنه على الصحيح من أقوال أهل العلم أنهم يثابون ويعاقبون، قال الله جل وعلا: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119] وأما هل يدخلون الجنة أو لا يدخلون فالمسألة خلافية عند العلماء، لكن الصواب والله تعالى أعلم أنهم يثابون على ما ندين الله جل وعلا به، قال الله تبارك وتعالى: فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن:14] والجن الذين صرفهم الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما صرح الله بذلك في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] آمنوا برسولنا صلى الله عليه وسلم، وانطلقوا -وهم جن- دعاة إلى الله، يدعون إخوانهم من الجن إلى دين الله تبارك وتعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1-2] ثم هؤلاء الجن المؤمنون قيل إنهم تأدبوا مع الله في موضعين صريحين ذكرهما الله في كتابه: الأول تصريحاً، والثاني تلميحاً، فأما التصريح فإن الله جل وعلا أخبر عنهم أنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فانظر إلى أدبهم مع الله، الشر نسبوه إلى غير فاعل. أما الخير والرشد والصلاح فنسبوه إلى رب البريات تبارك وتعالى فقالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، وأما الموقف الثاني فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على إخواننا من الجن سورة الرحمن، ومعلوم أن سورة الرحمن تكرر فيها قول الله جل وعلا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] والخطاب للجن والإنس، فورد أن الجن لما قرأ عليهم رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الآية كانوا يقولون: لا نكذب بأي من آلاء ربنا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإخواننا من الصحابة: (ألا تقولون كما قالت إخوانكم من الجن: لا نكذب بأي من آلاء ربنا) .
أما قضية دخول الجني في الإنسي فلا نريد أن نفصل فيهما لكن نقول: إن هذه المسألة خلافية بين العلماء، ولعل الأرجح والأظهر والله تعالى أعلم أن الآثار وردت أنه بالإمكان أن يدخل الجني في الإنسي، لكن الذي لا يُصدّق ولا يمكن أن يُصدّق ما ظهر في هذا الزمان من أن الناس نسبت كل بلاء إلى الجن، حتى لو أن رجلاً لا يفقه في دين الله شيء وفتح باب داره وأحضر بعضاً من الماء وقليل من الزيت لتقاتل الناس عند بابه كلهم يزعم أنه يخرج الجني من الإنسي، وحتى أصبح كثير من الناس بمواقف رأيناها بأعيننا، وبلقاء من عمل بهذا العلم واشتغل بهذه المهمة إذا أراد أن يهرب من أمر وقع فيه زعم أنه للجن، تجد المرأة لا تريد زوجها فتفزعه في الليل وتتقلب وتقول: جني أزرق أو جني أحمر، فالمسكين يصدق أن هناك جني فيذهب بها إلى أقوام قد لا يجدون فقه هذه المسألة فيقول: فيها جني، فيمكث الجني أعواماً وشهوراً وسنين وهو يغدوا بها من مكان إلى مكان، والمسألة تتلخص في أمر بسيط وهو أنها لا تستطيع أن تقاوم أهلها ولا تستطيع أن تقول له لا، فتلجأ إلى هذه المشكلة أو تلجأ إلى هذه الطريقة، حتى لجأ بعض الناس إلى مسألة أخرى، وهي إلى التكسب المادي بهذه الطريقة، حتى أن امرأة في إحدى المدن كانت توهم الناس أن بنتها تأتيها الجن وتخاطبها حتى انتشر هذا فيمن حولها من البيوت، ثم بعد ذلك إذا بتلك المرأة تخرج تصرخ في الشارع تقول: ابنتي خطفها الجن، فجاء الناس يبحثون عنها حتى وصل الأمر إلى الشرطة، وبطبيعة الحال يحرر البلاغ ويقال لهم: تتهمون من؟ قالوا: نتهم الجن، وهذا أمر لا يصدق، فوصل الأمر إلى أحد المسئولين وكان حصيفاً عاقلاً، فكتب خطاباً إلى أحد العلماء الفضلاء فيما نعلمهم، وهذا الشيخ أخبرني بنفسه، فالشيخ كتب لهم أنه يستحيل ولا يعقل أن يحدث هذا، ولكن قال لهم: انظروا إذا كانت الأم تقول إنها رأت هذا بعينها، فذهب المحققون من الشرطة وأخذوا يضيقون الخناق على الأم، فإذا بالمرأة قد أخفت ابنتها عند خالتها حتى تردها بعد شهور، وتقول للناس: إن ابنتي من خلال خطف الجن لها تعلمت الكثير من الأمور التي تتعلق بالجن فتتكسب من وراء ذلك أمراً ماديناً عظيماً، وسبحان الله إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]. إن الجن لا يملكون ضراً ولا نفعاً والمؤمن يعلم أن الحصن من شياطين الإنس والجن ذكره الله جل وعلا فقال: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98] فعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضع يديه على رأس الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ولو أن كل أم، وكل أب علم بنيه صغاراً سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وسورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] وسورة الإخلاص، وبعض الأمور التي فيها الاستعاذة بالله من شرار خلقه، فإذا نام الطفل نام ساكناً مستقراً، فآية الكرسي مثلاً ينبغي أن تعلم للصبيان وأن يقرأها الإنسان قبل نومه، حتى ولو كان الصبي لم يدخل المدرسة بعد، فإن المسألة مسألة حفظ، ولو أكثرت تردادها عليه لأتقنها ولحفظها، وهذا أمر مجرب، وربما جربه الكثير من الناس، وهو أمر واقع مشهود.
والجن كذلك لا يعلمون الغيب، كما يزعم بعض الناس، وهذا باطل بنص الكتاب: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] ومعلوم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يخفي موته عن الجن أمر الجن أن تبني له قصراً من زجاج، فأخذ يعبد الله فيه، فقبضت روحه وهو متكئ على عصا، فأخذت الجن تأتمر بأوامره وتنتهي عن نواهيه وهي لا تدري أنه ميت، ومكث على هذا الحال سنة بأكملها، ثم لما كانت الأرضة تأكل من أسفل العصا اختل توازن العصا، فسقط سليمان عليه الصلاة والسلام، فعلمت الجن عند ذلك أنه مات، قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14] فسبحان من وسع علمه كل شيء، وسبحان من لا يعلم الغيب إلا هو تبارك وتعالى.
هذا الأمر فيه من الموعظة العظيمة البليغة من ربنا تبارك وتعالى إلى عباده الخُلّص، وهذا السؤال إنما يكون في اليوم الموعود والحدث المشهود، والعرض الأكبر بين يدي الله جل وعلا، ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه خل خليلاً، ولا صديق صديقاً، ولا والد ولداً، ولا أم ابناً، ولا زوج زوجاً، وإنما ينفع الإنسان رحمة الله وعمله الصالح؛ وهذا اليوم من أجله ظمئ المؤمنون في الهواجر، ومن أجله قام المؤمنون الخُلّص الليل خوفاً من ذلك اليوم وذلك الفزع، ومن أجل هذا اليوم كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ويطعم الجائع، ويصوم، ويفعل ما يفعل من سائر العبادات.. ومن أجل ذلك اليوم صبر نوح، وابتلي إبراهيم، ومن أجل ذلك اليوم كان وما زال المؤمنون الخُلّص يستغفرون ربهم ويجأرون بالدعاء إليه خوفاً من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، وخوفاً أن يعجز العبد عن أن يجد جواباً يوم يقف بين يدي الله جل وعلا، قال الصادق المصدوق: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ ويسأل عن علمه ماذا عمل به؟) ولذلك قال بعض الصالحين:
وإذا الصبي بأمه متعلق يخشى العقاب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
لو قارنت بين ذلك الامتحان وبين الامتحان الدراسي الذي تذهب به على سيارتك، أو بسيارة أبيك، أو مع قرينك، فذلك اليوم واحد من أمرين يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85] جعلنا الله منهم، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86] وفي الامتحان الفصلي تقف بين يدي المعلم ربما لو خدعته لانخدع، لكن يوم القيامة تقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية، في الامتحان الفصلي تسأل عن قاعدة نحوية، أو مسألة رياضية..، أو غير ذلك مما درسته؛ لكنك يوم القيامة تسأل عن كل صغيرة وكبيرة: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] في الامتحان الفصلي المسألة إن كان هناك وإلا وانتظر الدور الثاني أو اترك إلى عمل آخر، لكن في ذلك اليوم واحد من أمرين فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
يقول الله جل وعلا عن أهل الجنة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24] ويقول جل ذكره عن أهل النار، يخبر عن مسائلة الملائكة لهم: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].
الهدية في هذه الدنيا ربما كانت شيكاً مفتوحاً من والدك هذا إن قلنا: إن والدك غني مترف ذو مال واسع.. وهذا المال تأخذه اليوم إما أن تتركه، أو أن المال سيتركك، فلا بد أن تفارقه رضيت أم أبيت، ولكن الجائزة يوم القيامة لذة النظر إلى صاحب الوجه الأكرم .. إلى وجه ربنا تبارك وتعالى، وهذه لذة لا تعدلها لذة، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
الرسوب بين يدي أقوام وأخلاط لا يتجاوز عددهم أصابع اليد تعتذر إليهم عنه بأي أمر، ولكن الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وعلى رؤوس الخلائق يُنادى فلان ابن فلان ثم يوصف بما فيه والعياذ بالله، النبيون وهم النبيون دعاؤهم يوم القيامة: اللهم سلم سلم؛ مما يرون من الأهوال والشدائد، ومما يرون من عظائم الأمور.
خليل الله إبراهيم سبق الحديث عنه في وقفاتنا مع سورة هود، وهو كما هو معلوم أحد أنبياء الله العظام ورسله الكرام، ومما ابتلاه الله به هذه الآية العظيمة وهي أمره له بأن يذبح ابنه إسماعيل.
لما نجى الله إبراهيم من النار وترك قومه وهجرهم قال لهم بملء فيه: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] ولما كان شيخاً قد بلغ من السن ما بلغ دعا الله أن يرزقه ولداً، فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]، فاستجاب الله جل وعلا له، قال الله تبارك وتعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101]، فلما رزق ذلك الولد وهو -على الصحيح والله أعلم- إسماعيل مكث إسماعيل في كنف والده حتى تبينت فيه علامات الرشد، وعلامات الفطنة، وعلامات العلم، وأمارات الحصافة والعقل السديد؛ فلما أصبح قادراً على أن يذهب مع أبيه ويغدو ويروح وتعلق أبوه به، وأصبح له المكانة السامية في قلب أبيه أراد الله أن يخلص قلب إبراهيم له وحده؛ لأنه خليل الله، فابتلاه بالأمر بأن يذبح هذا الابن الذي تعلق به قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].
لم يتردد إبراهيم برهة واحدة في الاستجابة لأمر الله جل وعلا، فأخذ ابنه يشاوره لا من باب التنفيذ وعدم التنفيذ، ولكن حتى يشترك الاثنان في الأجر؛ وإلا لو امتنع إسماعيل لنفذ إبراهيم أمر ربه، ولكنه أراد أن يكون ذلك على غير غرة، وأن يكون من باب التسليم لأمر الله، فتنازعت في إبراهيم وفي إسماعيل هوى النفس وأمر الله جل وعلا؛ وهذا يحدث يومياً في نفس كل عبد مع اختلاف الأمر.. كل أمر أمر الله به تجد في نفسك ما يمنعك عنه، وتجد في نفسك ما يدفعك إلى تركه، يتنازع عندك الشر والخير، ولكن إبراهيم لما كان إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم أسلم أمره إلى الله: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فكان رد ذلك الابن الذي جاء من صلب العبد الصالح ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] وانظر إلى قوله إِنْ شَاءَ اللَّهُ وإلى قوله: مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قال: إن شاء الله، ليثبت أن الأمر بيد الله ولم يقل ستجدني صابراً بل قال: من الصابرين، وفي هذا إظهار شيء من التواضع بمعنى: أنني من جملة من صبر لله تبارك وتعالى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
فلما كانت اللحظة الرهيبة وساعة الابتلاء العظيمة، وأخذ إبراهيم ابنه إسماعيل فوضعه على جبينه حتى لا يرى عينيه فتغلب عليه عاطفة الأبوة، وأراد أن يمر السكين على ذلك العنق الذي لا يجد في الدنيا أحداً أحب إليه منه، وهو عنق ولده الذي رزق به بعد مرحلة من الانقطاع، وبعد مرحلة من الشيخوخة والكبر، وكان الابن فيه من الأمارات والعلامات ما يجعل الأب متعلقاً به، ومع ذلك أراد أن يمر السكين فلما لم يبق إلا قضية الذبح -والله غني عن إبراهيم وإسماعيل لكن المقصود تحقق الابتلاء، ونجح إبراهيم فيه- إذا بربه جل وعلا يناديه وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:104-106] (وَفَدَيْنَاهُ) أي: إسماعيل بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] قال العلماء: بذبح عظيم؛ لأنه فدي به إسماعيل، وعظيم لأنه أضحى بعد ذلك سنة، وعظيم لأنه قيل: إن ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفاً، ففدى به الله ذلك العبد الصالح عليه الصلاة والسلام، ولذلك أثنى الله على الاثنين: على إبراهيم وعلى إسماعيل، قال عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم:54] أي: وعد أن يصبر فصدق في وعده، وأثنى الله على إبراهيم فكثيراً ما يقترن اسمه باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تبارك وتعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:108] أي: فيمن يأتي بعده سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:109-111].
وقد سبق أن الإنسان قد يجتمع عنده أحياناً رغبة العمل الذي يريده ورغبة العمل الذي يريده الله جل وعلا، وهذه اجتمعت في خليل الله إبراهيم، وهنا أقول لنفسي ولكل أخ مؤمن ولكل أخت مؤمنة: إن إيثار هوى الله على هوى النفس أعظم السبل الموصلة إلى جنات النعيم، إن الجنة كنز غال ثمين لا ينال بالتشهي، ولا ينال بالرغبة، ولكنه يدرك بعظائم الأمور، ويدرك بأن يؤثر الإنسان هوى الله وهوى رسوله صلى الله عليه وسلم على هوى نفسه، قال الله جل وعلا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ، وقال جل ذكره: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ثم أخذ الله جل وعلا يذكر صفة هاتين الجنتين؛ المقصود أنه سيجتمع عندك في كل أمر هوى النفس وهوى الله جل وعلا، فلا تؤثرن لذة عادية زائلة ونعمة حائلة على مرضات الله جل وعلا، واصبر على ما أصابك، وأصبر على كبح جماح هواك، واعلم أن ما عند الله جل وعلا خير وأبقى، واعلم أن هذا الدين سمي إسلاماً لأن فيه الاستسلام والخضوع والذل لله تبارك وتعالى، قال الله عنهما: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] أي خضعا وانقادا وأسلما أمرهما إلى رب البريات سبحانه وتعالى.
يونس بن متى نبي من أنبياء الله، نص الله على رسالته في القرآن، وقد ثبت أو ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لما أكثر عليه أهل الطائف من الأذى حن عليه اثنان من أهل الطائف يقال لهما: ابنا ربيعة ، فأخذا غلاماً لهما يقال له: عداس فأعطاه عنقوداً من عنب، وقالا: امض به إلى ذلك الرجل .. كنوع من العاطفة الإنسانية، فلما وضع عداس عنقود العنب بين يدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهم عليه الصلاة والسلام أن يأكل قال: (بسم الله) فقال عداس وقد عجب من هذه الكلمة قال: والله هذه كلمة لا يقولها أهل هذه البلاد، فقال عليه الصلاة والسلام لـعداس : (ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟) قال: أنا نصراني من بلاد نينوى فقال عليه الصلاة والسلام: (من بلاد يونس بن متى) فقال العداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، فهو نبي وأنا نبي) فهذا ما ورد في السنة إن صح الخبر، ذكره أهل السير عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فيونس عليه السلام بعثه الله جل وعلا إلى قومه، فأخذ يدعوهم ويحذرهم العذاب، فلم يستجيبوا له، فلما لم يستجيبوا له خرج غاضباً عليه الصلاة والسلام دون أن يستأذن ربه فيما يظهر لنا والله أعلم، فلما خرج ركب في سفينة، فمضت تلك السفينة بمن فيها، فلما غلبتهم الأمواج وكادت السفينة أن تغرق، أرادوا أن يستهموا بالقرعة ليلقوا أحدهم حتى ترسو السفينة، فاشترك معهم يونس في القرعة، قال الله جل وعلا: فَسَاهَمَ [الصافات:141] أي شارك في القرعة، فلما ساهم وقعت القرعة عليه، قيل: إنهم قالوا: أما أنت فلا، فأعادوا القرعة مرة أخرى فوقعت عليه، وهكذا مرة ثالثة، فألقوه في البحر، فلما ألقوه في البحر ابتلعه حوت، أمره الله أن يبتلع يونس، فلما ابتلع الحوت يونس أوحى الله إلى الحوت ألا يكسر له عظماً، ولا يأكل له لحماً، وأن يكون له قبراً مؤقتاً، فمضى يونس في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وبدأ يحرك يديه ورجليه فاستجابتا له، وعلم أنه حي في تلك الظلمات، وسمع -على ما قاله أهل العلم- تسبيح الحيتان، وتسبيح من هم في قعر البحار للواحد الأحد الفرد الصمد نادى ذلك العبد ربه في تلك الظلمات، قال الله جل وعلا: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144] وقول الله: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] يفسره قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
وإنها -أيها المؤمن- دعوة وتسبيح وذكر لمن وسعت رحمته كل شيء، قال العلماء: سبح يونس في ظلمات البحر لعالم السر والنجوى، ولجأ إلى من يكشف الضر والبلوى، وإلى من يسمع الدعوات وإن خفيت وإلى من يجيب الدعوات وإن عظمت، وإلى من يعلم الخفيات وإن دقت.. فكان إكرام الله له فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [الأنبياء:88] هذه ليونس وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] هذه لغير يونس من المؤمنين .. لمن يلجأ إلى الله جل وعلا، فالجئوا إلى الله في السراء والضراء بهذا الدعاء العظيم، وعلموا أنفسكم وأزواجكم، وبناتكم، وأبنائكم أن يلجئوا إلى الله بهذه الدعوة النبوية، والتي أقرها الله في كتابه، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي قول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فقد جمعت أمرين عظيمين: الأول: توحيد الله، وبه تعبد الله الخلائق، والثاني: الإقرار بالذنب وإظهار الذلة والمسكنة، وهي من أعظم الوسائل لإجابة دعوة الله تبارك وتعالى؛ فلما كان هذا منه واستجاب الله له، أمر الله الحوت أن يلقيه ويقذفه خارج البحر، فلما ألقاه الحوت وقذفه خارج البحر خرج ضعيفاً مسكيناً كأنه لتوه مولود في رقة لحمه وعظمه، فأنبت الله له رحمة به -شجرة اليقطين، وهي فيما نعلم- شجرة الدباء في اتساع ورقها، فأخذت تظلله، قال الله جل وعلا: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:146] ثم رده الله إلى قومه ليدعوهم من جديد.
عاد ذلك النبي إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:146-148]. قوم يونس لما خرج منهم نبي الله يونس مغاضباً -كما قد علمنا- ندموا على ما كان منهم، وكان العذاب قد أضلهم ورأوه عياناً، فلما رأوه عياناً جأروا إلى الله جل وعلا، فخرجوا إلى ظاهر القرية وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم وبناتهم وأبناءهم صغاراً وكباراً تضرعاً إلى الله، وأخذوا يجأرون بالدعاء الصغير منهم والكبير، حتى إنهم أخرجوا معهم مواشيهم وإبلهم وبقرهم وضأنهم وأغنامهم، حتى قال العلماء: إنهم فصلوا بين الغنم وحملانها، وفصلوا بين البقر وأولادها، وفصلوا بين الإبل وأولادها كذلك حتى يكون أدعى في أن تلك الأغنام وتلك الأبقار وتلك الإبل تجأر إلى الله جل وعلا بالصياح والنحيب، ولقد كانت ساعة عظيمة لم يرى مثلها، والله جل وعلا مضت سنته في الخلق أن الإيمان نوعان: إيمان اضطراري، وإيمان اختياري.. فالإيمان الاختياري: هو أن الإنسان يؤمن في لحظات اختيار .. لحظات لا يرى فيها العذاب عياناً، فهذا يقبله الله جل وعلا، والساعة الأخرى لحظات الإيمان الاضطراري: حين تغرغر الروح، وحين يرى القوم العذاب؛ فهذا لا يقبل الله في وقته، ذلك الإيمان على ما مضت به السنن، إلا قوم يونس فإن الله جل وعلا استثناهم -برحمة وفضل منه- من هذه السنة، والدليل: قول الله جل وعلا في سورة يونس: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] فالأصل الذي جرت به سنن الله في الكون أن الله لا يقبل الإيمان الاضطراري، ففرعون لما رأى العذاب قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] مع ذلك ما قبل الله منه، قال الله جل وعلا: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] أما قوم يونس فلأمر ولحكمة أرادها الله، ولرحمة أرادها الله أن تنزل على أولئك الأقوام، فقد شملتهم رحمة الله واستثنوا من تلك السنة الماضية فقبل الله إيمانهم، قال الله جل وعلا: فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:148] وبناءاً على هذا اختلف العلماء رحمهم الله.. هل إيمان قوم يونس كما كشف الله به عنهم العذاب الدنيوي هل يكشف به عنهم العذاب الأخروي؟ على قولين لأهل العلم، ولعل الأرجح والصواب -والله تعالى أعلم- أنه ينفعهم أخروياً كما ينفعهم دنيوياً؛ لأن رحمة الله جل وعلا تغلب غضبه.
وهنا في هذه القصة العظيمة لنبي الله يونس دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يفزع إلى الله جل وعلا بالشدائد، وأن يلجأ إليه عند حلول النقم، وأن يلجأ إليه عند نزول الفتن، وأن يستغيث به تبارك وتعالى وحده، وأن يعلم أن الله يكشف الضر والبلوى كما أنه تبارك وتعالى يعلم السر والنجوى.
الجواب: نحن نقول إن الرشوة أمر حرمه الله، وأوجب النبي صلى الله عليه وسلم في حقه اللعنة، واللعنة شملت الراشي وشملت المرتشي.. شملت معطيها وشملت آخذها، لكن والله تعالى أعلم رخّص بعض أهل العلم في دفع الرشوة إذا كان الإنسان يريد أن يستخرج حقاً له، وهو يعلم أنه حق شرعي له لا يستطيع أن يستخرجه إلا بهذا الأمر، فهي رخصة في حق من دفع، وإثم على من أخذ، ولكننا والله تعالى أعلم نقول: إن الأحوط الترك براءة للذمة، ولعل الله يعوضك خيراً مما فقدت، والله تعالى أعلم.
السؤال: هذا أخ كريم يقول: نريد منكم أن تكون هناك محاضرة عن حرمة هذه المدينة وعن فضائلها، لأن كثيراً من الناس يجهلون هذا الأمر..
الجواب: لا ريب أنه من الواجب على العلماء والدعاة والأئمة والخطباء ومن آتاهم الله الصدارة للناس أن يحرصوا على أن يبينوا معالم الدين لهم، ولا ريب أن من معالم الدين أن يعلم الإنسان ما لهذه المدينة النبوية من حقوق معلومة.
الجواب: الحق يقال، وأنا أقول قاعدة، ولا دخل لأحد فيها كائناً من كان، لا ذماً ولا مدحاً، وإني لأرجو الله أن ألقاه وليس لأحد له عندي مظلمة: الحق خذه من أي شخص كائناً من كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة في قضية الجني: (صدقك وهو كذوب) والباطل رده على أي شخص كائناً من كان، فمن أتاك بقول تعلم يقيناً أنه باطل رده عليه، ولا يجوز لك أن تتبع قوله وأنت تعلم أنه باطل لأنه فلان بن فلان، قال العلامة محمد صدّيق حسن خان رحمة الله تعالى عليه في الروضة الندية: وإن المنصف من لم يزحزحه عن الحق أقوال الرجال، ولكن يزحزحه عن الحق الدليل من الكتاب أو من السنة.
وذكر ابن رجب قاعدة ذهبية حيث قال: يأبى الله العصمة إلا لكتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، والشيخ متولي الشعراوي أو غيره علماء من علماء هذا العصر، والله جل وعلا منحهم فضلاً وشهرة وعلماً، وكلهم بلا استثناء يخطئون ويصيبون، لكن منهم من يكثر خطؤه ومنهم من يقل خطؤه، ومنهم من يكثر صوابه ومنهم من يقل صوابه، وأنت عليك أن تتبع الحق دون النظر إلى الأشخاص، ولا تشغل نفسك لا بزيد ولا بعمرو، واتبع الحق في مظانه وخذ منه، والله تعالى أعلم.
الجواب: لي وصية مجموعة في قول الله تبارك وتعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] وأنت يا أخي قارن بين المؤمنين الذين تراهم وعليهم من الإيمان الحلل، وترى عليهم من الله النور، وترى وجوههم المضيئة، وترى ما عليهم من علامات وآثار السجود، وما عليهم من غدو ورواح إلى بيوت الله قارن بينهم وبين من أضله الله ممن يسعون ويغدون إلى البارات، وممن يسعون ويغدون إلى الحانات، وممن يسعون ويغدون إلى ما حرم الله من الفواحش والمنكرات.. فسوف ترى ملامح الهدى والنور على الأولين وترى الضلالة والظلمة على الآخرين.. أسأل الله جل وعلا أن يرينا بصيرتنا. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر