وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أصاب الناس من مصيبة أعظم من فقده، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، وعلى من اقتفى آثارهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أما بعد:
فهذا درس نذكر فيه بعض آيات كتاب ربنا جل جلاله، والحديث سيكون عن قول ربنا وخالقنا جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وسنتكلم عن هذه الآية كلاماً مجملاً، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الأدبية، أو من الناحية التربوية ودلالة الآيات وزيادة المعارف حول حقيقة الموت، مع التعريج على الجانب الوعظي.
وقبل الحديث المفصل يحسن أن نقول: إن كثيراً من الأئمة الأخيار والعلماء الأبرار، والدعاة المجتهدين على مر العصور وكر الدهور منذ أن حملوا راية الدعوة والبلاغ عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يذكرون الناس بالموت وما بعده، ولا ريب في أنهم قد أصابوا فيما قالوه؛ لأن ذلك منطوق ومفهوم كتاب ربنا جل جلاله، ومنطوق ومفهوم سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، إلا أننا قد لا نعرج على الوعظ المحض، وربما عرجنا على مسائل علمية، ودقائق فقهية، وأمور تربوية، وغير ذلك مما نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا به أولاً وأخيراً، وأن يجعله تبارك وتعالى عملاً تبيض به الصحائف يوم نلقاه في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وسيكون الحديث حديثاً مجملاً متشعباً ذا شجون، وقد لا نلتزم فيه بالترتيب، ولا نلتزم فيه بتتابع الأفكار؛ لأن المقصود الإثراء العلمي في المقام الأول.
والموت يقع على الأحياء، على من ركب من جسد وروح، فقد خلق تبارك وتعالى الجسد وجعل فيه الروح، فيكون الموت انفصالاً تاماً لهذه الروح وانفكاكاً عن ذلك الجسد، وتلك هي حقيقة الموت، والحديث في هذا يتضمن ما يلي:
أولاً: ما هي الروح التي يعتريها الموت بانفكاكها عن ذلك الجسد؟
إن الروح أمر غيبي، وقد جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن نبينا صلى الله عليه وسلم (مر على حائط لرجل أنصاري، فقابله جماعة من يهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم عزموا على الأمر وسألوه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه يوحى إليه، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]).
إذاً: فالروح أمر غيبي، وهذا الأمر لكونه غيبياً تجرأ عليه بعض الناس، وقولنا: (بعض الناس) إجمال يدخل فيه أهل العلم من جميع الطوائف، فبعض أولئك تكلموا فيه، وأبعدوا فيه النجعة، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الروح شيء نوراني خفيف متحرك في جسد مخلوق يسري فيه كما يسري الماء في الورد، وكما تسري النار في الفحم والهشيم، فهذا مجمل تعريف الأئمة الأعلام من أهل السنة للروح.
فمن العلماء من رأى أن الروح بعد انفكاكها عن الجسد تصير إلى عدم محض، وحجة هؤلاء قول الله تبارك وتعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، ووجه الدلالة عندهم أن الله جل وعلا أخبر عن موتتين، فالموتة الأولى انفكاك الروح عن الجسد، والموتة الثانية موتها هي كرة أخرى.
والأظهر -والله تعالى أعلم- أن الله جل جلاله عنى بالموتة الأولى موتة العدم قبل الوجود، وعنى بالموتة الثانية الموتة المعلومة التي تكون بفراق الروح لذلك الجسد، قال الله تبارك وتعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56]، فأخبر جل وعلا أنها موتة واحدة، وهي انفكاك الروح عن الجسد.
إن علاقة الروح بالجسد ذات أربعة أحوال: فعلاقة تكون بينهما عندما كان المخلوق جنيناً في بطن أمه في الظلمات الثلاث، ثم تكون علاقة أخرى في الحياة الدنيا التي أنسها الإنسان وسكن إليها، ثم تكون علاقة أخرى في حياة البرزخ، وهي إما نعيم -بلغنا الله وإياكم إياه- وإما عذاب -عصمنا الله وإياكم منه-، ثم تكون بينهما علاقة كبرى وذلك بعد البعث والنشور يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين جل جلاله.
وورد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه كانت بجواره ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها، فلما رأت ما بأبيها من ثقل قالت مرددة ذلك البيت المشهور:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: ليس هذا يا بنتاه، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، فسكرات الموت هي كرباته وغمراته التي تحيط بالمخلوق حين يعاني من نزع الروح وانفكاكها بالكلية وانفصالها عن جسده.
وفي ساعة الاحتضار تتنزل الملائكة تطميناً للمؤمنين، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] وذلك يكون في ساعة الاحتضار أَلَّا تَخَافُوا [فصلت:30] من مستقبل أيامكم وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] على ما فاتكم من الدنيا، ثم تبشرهم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31] أي: كما كنا نؤيدكم على اتباع الحق في الدنيا فإنا نؤيدكم في هذه الساعة العصيبة، ثم نؤيدكم يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين، قال الله جل وعلا: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
وساعة الاحتضار هذه يفتن فيها العبد، ويقرب فيها الشيطان، ويحاول قدر الإمكان بوساوسه ونزعاته، ألا يفلت منه بنو آدم؛ لأنه -عليه من الله اللعنة- أخذ على نفسه العهد والميثاق أن يضل بني آدم، فإذا قارب العبد الموت خاف أن يفوته، فهناك يبذل الشيطان كل ما في وسعه من وساوس ونزغات وشبهات، محاولاً أن يصرف العبد عن طاعة الله، وأن يغويه؛ لأنه ليس هناك فسحة للتوبة أو الرجوع أو الإنابة بعد ذلك؛ لأن الإنسان مقبل على الآخرة مدبر عن الدنيا، فنسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة في كل آن وحين.
وبعد النزع تخرج الروح، فإن كان مؤمناً تنزع نزعاً خفيفاً، ويكون منظر الملائكة يراه العبد المؤمن منظراً مطمئناً مبشراً، أما إذا كان العبد كافراً أو منافقاً أو مبالغاً في فجوره وفسقه فإنه يرى منظر الملائكة منظراً مخيفاً، وتستل روحه كما تستل الشوكة من العجين، وبعد ذلك تصعد الروح، فإن كانت مؤمنة نوديت بأحسن الأسماء، وفتحت لها أبواب السماء، وإن كانت خلاف ذلك أغلقت دونها أبواب السماء ونوديت بأخبث الأسماء، ثم تعود كرة أخرى إلى جسد صاحبها مصداقاً لقول ربنا جل جلاله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].
أن أرواح المؤمنين تكون في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى والمقام العظيم عند ربهم جل وعلا، ولذلك لما كان الأنبياء يخيرون عند الموت كان صلى الله عليه وسلم يقول -كما في حديث النزع المشهور-: (اللهم في الرفيق الأعلى)، أي: الرفيق الأعلى الذين عناهم الله بقوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فالأنبياء والمرسلون في الرفيق الأعلى والمقام العظيم في أعلى عليين.
ومنها أن أرواح الشهداء تكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، كما ثبت ذلك الخبر في صحيح مسلم وغيره عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وأما أرواح المؤمنين فإنها تكون نسمة في حواصل طير، إلا أنه لم يرد خبر بأنها تسرح في الجنة.
وأما أرواح الفجار والكفار وأهل الفسق والعصيان والخارجين عن طاعة ربهم جل جلاله فلا تسل عنهم، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:7-9] فهم في أسفل سافلين في العذاب المقيم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.
وقد ورد حديث آخر حسنه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا في حق صبي، قال: (إن هذا الصبي لن ينجو من ضمة القبر) فأول ما يفجأ الميت في قبره هذه الضمة، وهذه الضغطة التي لا بد منها، ثم يفرج عنه على قدر دينه وإيمانه وورعه كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأسئلة اختلف أهل العلم رحمهم الله فيها، هل يسأل بها كل مكلف؟ وهل يسأل بها الكفار والمؤمنون؟ وهل سئل بها الذين من قبلنا أو لم يسألوا؟ وأظهر أقوال أهل العلم -والله تعالى أعلم- أن الجميع يسأل، وإن خالف في هذه المسألة بعض أهل العلم من أهل السنة، والله تعالى أعلم.
فهذا خبر صحيح، ويؤيده ما جاء في حديث عائشة أن امرأتين من اليهود قدمتا عليها، فأخبرتاها بأن أصحاب القبور يعذبون في قبورهم، فلم تصدقهما أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، فلما قدم نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرته الخبر، فقال: (نعم، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. قالت
وهذا العذاب أو النعيم يشمل الروح والجسد، ويشمل الروح حيناً، لأن الروح تنفك عن الجسد حيناً وتنفصل عنه، وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فهو الذي يعلم كنهه ولبه ومنتهى إدراكه، فالله تبارك وتعالى علام الغيوب.
أولها: ما ثبت في الصحيحين من طرق متعددة ووجوه مختلفة من أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتلى بدر ألقاهم في قليب، أي: في بئر مهجورة، ثم وقف عليهم بعد ثلاثة أيام فقال: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) فأذهل هذا الأمر عمر ، فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: (يا
ولا يعارض هذا قول ربنا جل جلاله في سورة فاطر: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، فإن قول ربنا جل جلاله: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] المقصود منه والمراد منه سمع الامتثال والقبول، لا سمع الأصوات، فهم يسمعون، ولكنهم لا يسمعون سماع من يمتثل ويقبل ما تقول، ويستطيع أن يمتثل لأمرك.
ومما يدل عليه أيضاً ما ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال من يشيعه إذا انصرفوا عنه.
ومما يدل عليه أيضاً أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما ندبنا ورغبنا في زيارة القبور علمنا ماذا نقول، فمن ضمن ما نقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولا ريب في أن استعمال كاف الخطاب يلزم منه -كما هو مفهوم من لغة العرب- أن يدرك من تبلغه السلام سلامك ذلك، وإلا لكان هذا السلام كالسلام على العدم المحض، وهذا أمر لا يعقل، ولا يخاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فمن ذلك يفهم أن الموتى يأنسون بمن يزورهم، ويسمعون نداء ودعاء من يأتيهم، إلا أنهم لا يملكون إجابة، ولا يستطيعون رداً على ما يقوله لهم من يسلم عليهم.
الذي يكاد ينقل الإجماع فيه أن الموتى ينتفعون بالدعاء والاستغفار لهم، إذ قال الله جل جلاله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] فقول الله جل وعلا حكاية عن الصالحين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) مفهومه أنهم ينتفعون بذلك الاستغفار -أي: الموتى- وينتفعون بذلك الدعاء، وإلا فلو كانوا لا ينتفعون بذلك الاستغفار، ولا ينتفعون بذلك الدعاء؛ فأي منقبة وأي مدح في دعاء واستغفار أولئك القوم الصالحين.
وقد أخبر جل جلاله أن حملة العرش يستغفرون للذين آمنوا، ولم يحصر جل وعلا ذلك الاستغفار على الأحياء دون الأموات، فالآية جاءت عامة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي أهل بقيع الغرقد فيدعو لهم ويستغفر الله جل وعلا لهم، كما ثبت ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه في السنة الصحيحة.
ومما نقل أن الموتى ينتفعون بالصدقة عنهم، كما في حديث ابن عباس في صحيح مسلم وغيره أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وأنا غائب عنها، أينفعها إن أنا تصدقت عنها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: يا رسول الله! إني أشهدك أن حائطي -أي: بستاني في مكان كذا وكذا- صدقة عن أمي).
وكذلك نقل أن الموتى ينتفعون بالحج والعمرة عنهم، واختلف في غير ذلك، كالصيام وما شابهه ذلك من قراءة القرآن وغير ذلك من سائر الأعمال الصالحة، ويظهر -والله تعالى أعلم- أنا لا نجد مانعاً من أنهم ينتفعون بذلك كله، فإن قال قائل: ما تقولون في قول ربنا جل جلاله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] في سورة النجم؟
فنقول: إن الله جل وعلا في الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] قصر ما يحاسبون عليه في سعيهم، وأما ما يكون لهم فإنه ليس في الآية ما يدل عليه، فلو فرضنا أن رجلاً استدان من بقال ثلاثة آلاف ريال، فكتبها عليه ديناً، فجاء رجل آخر فدفع ثلاثة آلاف للبقال، وقال له: اقض بهذا المال دين فلان، فلا يقول عاقل: إن هذه الثلاثة الآلاف للرجل المتصدق، وفي نفس الوقت نفعت ذلك المديون فأدت دينه عنه، فنفع المؤمن الحي لأخيه الميت كائن بهذا المثال، فإنك إذا استغفرت لأخيك أو دعوت له أو تصدقت عنه، أو اعتمرت عنه، أو حججت عنه، فإن كل ذلك -بإذن الله- ينفعك، ولا يمنع ولا يعارض قول ربنا تبارك وتعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39].
فمن ذلك كله يفهم أن الموت أمر محتوم، وأمر لازم، ولكن الله جل وعلا أخفى عن كل أحد ساعة موته، قال ربنا تبارك وتعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] وفسر صلى الله عليه وسلم مفاتح حالغيب، فقال -كما في المسند من حديث ابن عمر -: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ...) ثم تلا خواتيم سورة لقمان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، فلا تعلم نفس بأي أرض تموت، ومن جهل المكان أولى وأحرى به أن يجهل الزمان، فكل إنسان يعلم أنه ميت، وهنا نقول: إن حقيقة الموت - أي علم الإنسان بأنه يموت- لا أعلم أحداً حتى الساعة خالف فيها، فأهل الكفر وأهل الملل المتفرقة، وأهل النفاق، وأهل الفسق، والدهريون، والبعثيون، والشيوعيون، والماركسيون، وغيرهم من أهل الملل والنحل من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة لا يظهر لنا أنهم خالفوا في حقيقة الموت، فلم يأت أحد من الناس ليقول: إنه لا يموت، ولكن الخلاف بيننا وبينهم فيما بعد الموت من بعث ونشور، فحقيقة الموت قد سلم بها الجميع، ولذلك ترى الله جل وعلا يحكي عن كفار قريش قولهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] فأثبتوا لأنفسهم أنهم يموتون، وإن نسبوا ذلك إلى الدهر، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وذلك الرجل البالغ في الإثم من القرشيين لما أخذ عظاماً قد بليت، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما أرمت؟! ونفخها بفيه حتى تناثرت، فأنزل الله جل وعلا قوله: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:77-78]، فذلك القرشي لم ينكر أن الناس سيموتون، لكنه أنكر أن يكون هناك بعث بعد ذلك الموت.
فحقيقة الموت قد سلم بها كل أحد، وأيقن كل أحد، بأنه ميت لا محالة، ومقدار إيمانك ويقينك بأنك ستبعث بعد الموت هو الدافع للعمل الصالح.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
فالموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس : (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت والجن والأنس يموتون)، وظاهر الكتاب والسنة أن الموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، فالموت أمر حتمي لازم لا يفر منه أحد.
وهنا نقول: إنه لا ينجي من الموت حذر، ولا ينجي من الموت سبب، ولا يعصم من الموت ملجأ ولا نفق ولا سرداب، ولا سلم في السماء، ولا غير ذلك مما يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك، فالموت أمر حتمي لازم، ولذلك ورد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لما مكث في مسجده يحدث الناس ويفسر لهم كتاب ربنا جل جلاله وصل إلى قول الله جل وعلا: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20] فقال رضي الله تعالى عنه يخبر من حوله: إن الهدهد كان يعمل لسليمان أنه يرى له تخوم الأرض، فينظر إلى مواقع الماء ومواقع القطر. فتعجب نافع بن الأزرق -وهو رجل من الخوارج كان حاضراً- من مقولة ابن عباس، وقال: غلبت اليوم يا ابن عباس ، قال: وما ذاك؟ قال: تزعم أن الهدهد يعلم ما تحت تخوم الأرض من مواقع الماء؟ قال: نعم، قال: يا ابن عم رسول الله! كيف والطفل الصغير يأتي بالفخ فيضع عليه شيئاً من التراب فيقع فيه الهدهد دون أن يدري ما تحت ذلك التراب؟ فقال له ابن عباس ذلك الحبر العظيم: يا ابن أخي! خفت أن تخرج من حلقتي وتقول: غلب ابن عباس ، وإلا لما أجبتك، ثم أجابه فقال: يا ابن أخي! إنه إذا نزل القدر عمي البصر وبطل الحذر؛ لأنه لابد من أن يقع أمر الله، فلا يمنع وقوع أمر الله شيء، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].
ولذلك قد ترى الحادث المروري فتقول عند رؤيتك له: لن ينجو منه أحد، فترى القوم جميعاً سالمين، وترى الحادث المروري فتقول: هذا حادث يسير لا يصاب فيه أحد، فإذا بالقوم أمواتاً، وما ذلك إلا لأن الأمر أولاً وأخيراً منوط بما قدر له الله أن يكون، فما قدر الله له أن يكون لابد من أن يكون حتماً ولزاماً، قال الله جل جلاله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
فلما عزم على ذلك الأمر، شفعت تلك الأم عند الرشيد فيهم، فقدمت عليه بعد أن سد دونها الأبواب، وتنصل منها وتهرب، فجاءت إلى حاجبه وكان يقال له: عبد الملك ، فلما رآها عرفها، وكانت قد حسرت عن لثامها، وهي امرأة عجوز، فقالت له: يا عبد الملك ! استأذن لي عند أمير المؤمنين، فدخل عبد الملك حاجب الخليفة وقد بلغه من الشفقة عليها ما بلغه، فقال بصوت حزين: ضئر أمير المؤمنين بالباب، فقال الرشيد : ويحك يا عبد الملك !أوَسَاعِية؟! -أي: أجاءتنا على قدميها؟- قال: نعم يا أمير المؤمنين، وحافية. يريد أن يستجر عطفه، فلما دخلت عليه قال عبد الملك : والله ما شككت لحظة في أنه سيرد جوابها أو لا يقبل شفاعتها، فلما دخلت عليه أخذت تكلمه وتذكره بماضيه وتسأله، أن يوقف ما قرره عليهم، فهي ذات المكانة عنده.
كان -رحمة الله تعالى- كلما طرقت باباً أوصده، وكلما سلكت طريقاً فر منه، وكلما رامت جواباً أجاب بأفصح منه، حتى صد عليها الأبواب، فلما رأت أنه سد عليها الأبواب أخرجت حقاً كان معها له قفل من ذهب، فقال: ما هذا يا أم الرشيد ؟! فإذا بها تخرج ذؤابة شعره عندما كان صغيراً، وثنايا أسنانه عندما سقطت وهو صغير، وأخرجت مع ذلك ما كان يلبسه من رداء في أيام طفولته؛ لأنها كانت مرضعته والمشفقة عليه؛ لأن أم الرشيد ماتت وهو صغير، فقالت: يا أمير المؤمنين! هذه ثناياك، وهذه ذؤابتك، وهذا رداؤك، ثم قالت: إني أتشفع ببعض جوارك إليك. وهي منتهى الشفاعة، فاستعبر الرشيد وبكى بكاء شديداً حتى أبكى من حوله من قواده ووزرائه، ثم قال: يا أم الرشيد ! لا أجد مناصاً مما عزمت عليه، فخرجت وقد يئست منه، حتى قالوا: إنه لما بلغها مقتل أبنائها وزوجها لم تذرف لها عبرة، ولم يسمع له أنة؛ لأنها قد فعلت ما بوسعها أن تفعل.
والمقصود من الدلالة أنه ما كان الرشيد ليرد شفاعتها حتى يقضي الله أمره، ويمضي في الخلق ما أراده الله جل وعلا لهم، فالموت حتم لازم لا يُنجي منه شيء، فلا ينجي منه خوف الجبناء ولا يعجل به إقدام الشجعان، فساعتك التي أرادها الله لك أن تكون ستحين، فلا مفر ولا محالة، ولا أظن أن عاقلاً اليوم يخالف في هذا.
وممن استثناه الله جل وعلا عزير ذلك العبد الصالح من بني إسرائيل، فقد أخبروا أنه خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما قفل راجعاً اشتد عليه حر الشمس، فآوى إلى قرية خربة على حمار له ومعه سلتان في إحداهما تين وفي الأخرى عنب، فمكث يأكل منهما حتى استلقى على قفاه، فرأى أسقف تلك القرية قد خربت، ورأى عظاماً حوله قد هرمت، فقال من باب التعجب لا من باب الإنكار: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] فبعث الله إليه ملكاً فقبض روحه، فمكث مائة عام ميتاً، وكذلك حماره، ثم بعد مائة عام جاءه الملك فنفخ فيه الروح بأمر الله، فإذا به قائم، فسأله الملك: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، فلما رأى الشمس لم تغب ظن بعث أنه في نفس اليوم الذي مات فيه، فقال: أو بعض يوم، فأراه الملك حماره وما صار إليه، ثم دعا ذلك الحمار عصباً وجلداً ولحماً ودماً حتى اجتمع ونفخت فيه الروح، قال الله جل وعلا يبين ذلك في صريح كتابه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، وكذلك قدرته جل وعلا، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
فهؤلاء ممن استثناهم الله جل وعلا فماتوا ثم أحيوا، ولكنهم مع ذلك يموتون كرة أخرى، ويؤبون إلى ربهم جل جلاله، فلا يستثنى من الموت والأجل المحتوم أحد.
ثم قدموه إلى الموت، فصلى ركعتين، وأخبر أنه لولا أن يظن به أنه أطال مظنة الخوف لأطال في صلاته تلك، ثم دعا عليهم: اللهم أحصهم عدداً، وأفنهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم قتلوه وصلبوه، فذلك هو الموت صبراً.
وممن مات به من الفجار النضر بن الحارث ، كان من أعظم أعداء نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة، وشهد بدراً مع قريش، ووقع في أسر المقداد بن عمرو رضي الله تعالى عنه، وكان يسمى في الجاهلية المقداد بن الأسود ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من المدينة أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، وقتل عليه الصلاة والسلام النضر بن الحارث صبراً، حيث أمر علياً رضي الله تعالى عنه بأن يجره إلى الموت فيقتله، فذكروا أن أخت النضر لما بلغها الكيفية التي قتل بها أخوها ذكرت في ذلك شعراً، منه:
أخذت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تقطع
وذكرت فيه أبياتاً تستعطف بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقل ابن هشام في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن شعرها هذا بلغني قبل أن أقتله لما قتلته) والله تعالى أعلم بصحة الرواية، فهذا ما يسمى بالقتل صبراً.
وبعض الناس يُظهر في هذه المواقف شدة وبأساً تكاد تتفطر لها الأكباد وتذهل لها العقول، فمن ذلك ما نقلوا أن رجلاً قتل رجلاً في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، فلما قدم به على معاوية قال له أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: يا فلان! قال: يا فلان! إن هؤلاء يزعمون أنك قتلت أباهم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتريد الجواب شعراً أم نثراً؟ فقال: بل شعراً، فأجابه بأبيات يعترف فيها بخطئه، فأمر معاوية بأن يقتل، فقدم به إلى المدينة؛ لأنه كان من سكانها، وقد جرت العادة آنذاك بأن أولياء المقتول يتولون قتل واترهم، أي: من قتل مقتولهم، فلما قدم به في ساحات المدينة واجتمع الناس، وحضر الأمير بحجابه وأبوابه وجنده وحاشيته، قال ذلك الرجل الذي يقاد إلى الموت لأحد أولياء المقتول: قال: يا فلان! إنني قتلت أباك ولم أرحمه، فاقتلني بشدة وقوة، فلما وضعوه في القيد تعجب منهم، قال: وأي حاجة للقيد، فأمر بأن يفك قيده، ثم رفع بصره إلى السماء وقال:
أذا العرش! إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير
وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صريرُ
لأعلم أن الأمر أمرك إن تَدِن فرب وإن ترحم فأنت غفورُ
ثم ضرب بالسيف، فقال من شهده كما نقل عنهم: والله ما رفست قدماه، ولا تحرك منه شعرة واحدة. وهذا أمر يؤتيه الله جل وعلا بعض عباده، ويقبضه الله تبارك وتعالى عن آخرين، وإنما أردت أن أستدل به على ما يسمى بالقتل صبراً.
كما أنه قد تكون هناك قصة منفردة، أو أمر غريب يضع في النفوس أمراً أغرب، ويجعل الأثر أبعد، ويجعل له مناطاً أقوى، فمن ذلك أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلاً عن أعجب ما رأى، فقال: يا أمير المؤمنين! لقد دخلت ذات يوم بلدة لا أعرف فيها أحداً، فأنا غريب فيها، فصليت في أحد مساجدها، فلما صليت وفرغنا من الصلاة إذا بجنازة قدمت، فصليت عليها مع من صلى، ثم رغبت أن أذهب معهم إلى القبر، فذهبت معهم، فلما وقفنا على القبر استعبرت، وتذكرت أبياتاً كنت أحفظها لرجل آخر، ومنها:
يا قلب إنك من أسماء مغرور فاذكر هل ينفع عنك اليوم تذكير
فبينما المرء في الأحياء مغتبطاً إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي عليه الغريب وليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور
قال: فلما قلت إذا بالناس يحلقون حولي، قالوا: يا رجل! أتعرف الميت؟ قلت: لا والله، فأنا غريب عن هذه البلدة، قالوا: والله إن الأبيات التي قلتها قائلها هو هذا المقبور الذي لا تعرفه، فالرجل قال الأبيات ومضت بين الناس واشتهرت، وأخبر فيها أنه ربما يقف غريب على قبره فينعاه، ويتخلى عنه ذو قرابته، ثم يقع هذا الأمر حقيقة، فيأتي رجل غريب لا يعرفه فيقف على القبر ويستعبر ويبكي ويندبه وهو لا يدري عنه، ويكون له من القرابة والرحم من يتخلون عنه في يوم موته، فمثل هذه الحوادث تجعل في النفس رقة.
ومن ذلك ما ذكر ابن القيم في الجواب الكافي أن شاباً جاءته امرأة تائهة تبحث عن حمام تغتسل فيه على عادة الناس في ذلك الزمان، فقالت لذلك الشاب: يا أخا العرب! أين حمام منجاب؟ فكان باب داره مفتوحاً، ورأى من أمارات الغفلة على المرأة، فأشار إلى باب الدار وقال: هاهنا، فدخلت المرأة، فدخل وراءها وأغلق الباب، وأراد أن يراودها عن نفسها، فكأن الله ألهمها؛ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فألهمها أن تظهر له موافقتها على ما يريد، فقالت: أنا بين يديك، ولكن ليس من المعقول أن لا نلهو بشراب وطعام قبل أن نعزم على ما تريد، فتعجب فرحاً وخرج يبحث عن طعام وشراب، فلما خرج خرجت هي بعده وانصرفت إلى دارها، فلما أتى الدار أغمي عليه مما وقع فيه، ومن أسفه على أن فرت من بين يديه، فأخذ الهم يغتاله شيئاً فشيئاً حتى غرغرت روحه، فلما اجتمع عليه أهله وذووه، وقالوا: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، كان يردد:
ولرب سائلة يوماً وقد ذهلت أين الطريق إلى حمام منجاب
فمثل هذا وغيره يجعل في النفس رقة، ويجعل الإنسان في خوف ووجل من تلك الساعة، فإننا -يا أخي- لا ندري أنثبت على ما نحن عليه من الهدى أو لا نثبت، أسأل الله لي ولكم الثبات.
ولذلك حكى الله عن الصالحين دعاءهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
ثم إننا لا ندري على أي حال يختم لنا، فالسعيد كل السعادة من ختم الله له بخير، ومن جعل الله جل وعلا مآله إلى خير، ومن قدمه ربه تبارك وتعالى إلى خير.
ومن العباد من قبض الله الدنيا عنه لحكمة أرادها، فهو لا يملك قوت يومه، ولا طعام أبنائه، ولا يجد ما يسد به رمقه، ولكن هذا وهذا مصيرهما إلى الموت.
ثم انظر بعد ذلك إلى إجابة هذا وهذا، فلا ريب في أن الفقير إذا استعصم كان أقدر على الإجابة من الغني، والإنسان لا يحتقر الدنيا، ولا يراها من منظار صحيح إلا إذا وقف يوماً وقفة منصف على شفير قبر، فتأمل وأنت واقف على شفير القبر تدفن قريباً أو حبيباً أو صديقاً لك، فالو عنقك في تلك الساعة وانظر نظرة فهم وإدراك للدنيا كلها، فوالله -إن كنت لبيباً وأوتيت علماً وإنصافاً- لتحتقرن الدنيا كلها، وهذا حق، فإن الدنيا لو بلغت عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء.
تأمل في هذا المقبور أليس له خلان فارقهم ومضى؟! أليس له أموال تركها ومضى؟! أليس له مواعيد لا يستطيع إنجازها؟! أليست له أسرار لم يبح بها بعد؟! أليست له أسرار تركها في صدر فلان وفلان؟! له ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ولكن في تلك اللحظة التي فارقت روحه جسده انقطع كل شيء، فأتاه ما يشغله عن أهل الدنيا، وأتاه ما يشغله عما كان فيه وما كان يهتم له ويغتم له، فأصبح في هم أعظم، ومصاب أكبر.
وهذه النظرة إن أوتيها العبد رزق التقوى، فأنصف نفسه في هذه الحياة، ولم يحرص الحرص التام على أن يخلد فيها، أما أن تعصم الناس أموالهم، أو تعصم الناس حجابهم فليس ذاك بكائن، ونقلوا عن أحد خلفاء بني عثمان -والله أعلم بصحة الرواية- أنه من فرط حبه للدنيا أمر المصورين وأصحاب التماثيل أن يجعلوا صوراً وتماثيل بأحوال متعددة من هيئته، فإذا دخلت قصره وجدت صورته وتمثاله وهو نائم، وصورته وهو جالس، وصورته وهو مضطجع، وصورته وهو يمشي، صورته وهو قائم، وصورته وهو يشرب، وصورته وهو يأكل، كأنه يريد أن يغالب الموت، حتى قالوا: إن من فرط قدرة أولئك الذين قاموا بإتقان التماثيل والصور لم يبق من فارق بينه وبين تلك الصور إلا أن تخاطب تلك الصور.
ثم بين عشية وضحاها يسلب ملكه، ويخرج من المدينة التي كان فيها، فلم تعصمه حجابه ولا سلاطينه ولا من كان معه، قال حافظ :
وأخرجه من يلدز رب يلدز وجرده من سيف عثمان واهبه
فالذي أخرجه مما كان فيه هو رب العالمين جل جلاله.
تماثيل إيهام أنيمت وأقعدت تراءى بها أعطافه ومناكبه
لكن كل ذلك لم ينفعه، حتى قال:
ولم يغن عن عبد الحميد دهاؤه ولا عصمت عبد الحميد تجاربه
حيل وصور وتماثيل وحجاب وحرس وسلاطين، ولا يدخل هذا إلا بإذن، ولا يخرج هذا إلا بإذن، لكن إذا نزل القدر بطل الحذر وعمي البصر.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، أنت الله لا إله إلا أنت تحيي وتميت، تبدئ وتعيد، لا تموت، والأنس والجن يموتون.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حياة طيبة، وخاتمة حسنة، وأن ترزقنا مرداً غير مخز ولا فاضح، اللهم إن لنا من الذنوب والمعاصي ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري به سواك، اللهم كما رحمتنا وسترتها في الدنيا من علينا -يا أرحم الراحمين- بغفرانها يوم نلقاك.
اللهم إن لنا أملاً عظيماً في رحمتك يا رب العالمين، فلا تحرمنا ذلك الأمل يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نسألك حياة الأبرار، ورفقة الأخيار، وصحبة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم المعاد.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا، ومن له حق علينا يا رب العالمين.
اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، فارحمنا -اللهم ربنا- رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.
اللهم اجعل ما قدمنا وما أخرنا من عمل نريد به وجهك، ونتقي به سخطك، ونؤمل به يوم نلقاك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر