الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
مشاهدي الكرام: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الشهري: القطوف الدانية.
حلقتنا هذه بإذن الله عز وجل ستكون وقفة كريمة مع أولئك الذين هم صفوة البشر وهم القدوة الحسنة لكل البشر، ذكر الله عز وجل منهم جملة كبيرة في سورة الأنعام لما قال عز من قائل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] هذه الآية هي نبراس حلقتنا بأمرها نهتدي، وبهديها نقتفي.
(من هدي الأنبياء) هو موضوع حلقة هذا الشهر من برنامجكم (القطوف الدانية) الذي يكون ضيفه الدائم هو فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي خطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والترحيب موصول لكم أيها الأحبة، أشكركم على طيب تواصلكم مع برنامجكم عبر المنتدى المخصص له على منتديات الصفوة على موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، سعدنا كثيراً بمشاركاتكم القيمة التي بإذن الله عز وجل ترون آثارها في هذه الحلقة نسعد أيضاً بتواصلكم مع هذه الحلقة ومع هذا البث المباشر من خلال أرقام الهواتف التي ستظهر على الشاشة في هذه اللحظة وفي أثناء بث حلقتنا.
أرحب بالجميع وأرحب بتواصلكم مع موضوع حلقتنا: (من هدي الأنبياء).
أستأذنكم في بداية هذه الحلقة وأستأذن ضيفنا الكريم أن تكون هذه الحلقة مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: سيكون بمثابة التأصيل لهذا الموضوع.
ثم ننتقل إلى التعريف وإزالة بعض الإشكالات المتعلقة به.
ثم بعد هذا التأصيل وبعد هذا التعريف ندخل مباشرة إلى بيان أهم مظاهر الهدي النبوي والضوابط التي يمكن من خلالها أن نقتفي آثارهم.
فحياكم الله جميعاً، وأسأل الله عز وجل أن يجعل حلقتنا هذه متميزة، وأن يجعل ليلتنا مباركة بوجودكم وبوجود ضيفنا الكريم.
شيخ صالح ! أكرر ترحيبي بك، وقبل أن نبدأ في محاورنا أستأذنكم في أن نقف وقفة جادة مع موضوع الحلقة: (من هدي الأنبياء)، بعض المشاهدين قد يتبادر إلى ذهنه أن المقصود الاقتداء بشرائع من قبلنا دون التمحيص ودون الوقوف مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم حول هذه الشرائع، فإذا أذنتم أن تكون الانطلاقة من بيان مقصودنا من هذا العنوان.
الشيخ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذا الاستدراك الجميل الذي بدأتم به مقدمة هذا اللقاء المبارك أمر حكيم، ذلك أنه قد يتصور أو يفهم بعض الإخوة الفضلاء أن المقصود الحديث عن هدي الأنبياء في قضية التشريع والغيب، وهذا أمر محسوم، بمعنى أن العلماء رحمهم الله تكلموا عن شرع من قبلنا وفصلوا فيه، فنحن لا نتكلم في هذا اللقاء المبارك عن قضايا فقهية كيف تؤدى؟ ولا عن أحكام فقهية هل هي في جانب الحلال أو جانب الحرام، كالتصوير الذي كان مباحاً في شرع سليمان وحرم في شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.
لكن قضيتنا في المقام الأول: أن الله جل وعلا جعل أنبياءه ورسله صفوة مختارة وأئمة مباركين وعباداً صالحين، وهؤلاء الأخيار أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه ومدحهم أيما مدح، وأثنى عليهم الثناء العظيم، مما جعل القلوب تهفو إلى طرائقهم الكاملة في عبادتهم لربهم إلى غير ذلك مما كانوا متلبسين به جملة مما لم يختلفوا فيه.
هذا هو الطريق الأمثل، وإلا فإننا نعلم يقيناً أن الله جل وعلا ختم لنبينا الرسالات وأتم الله جل وعلا به النبوات، وقال وهو خير القائلين: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] .
وقد جاء في المسند بسند صحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه: أن عمر رضي الله تعالى عنه حصل على نسخة من كتاب أهل الكتاب فقدم على النبي عليه الصلاة والسلام فقرأها عليه، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (أمتهوكون فيها يا
فنحن مؤمنون أنه لا هدي لنا إلا هدي نبينا، ولا طريق إلى القرب من الله إلا به صلوات الله وسلامه عليه، لكن الحلقة مقتبسة من قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
فأمر الله نبيه وخليله وحبيبه صلى الله عليه وسلم أن يقتفي أثر الأنبياء، فنحن سنتكلم عن الهدي الإجمالي، وعن تلكم الصفات العظيمة الجليلة التي قلدها الله أعناق أولئك الأخيار حتى غدوا كالكواكب المضيئة يتأسى بهم من بعدهم ومن كان معاصراً لهم، هذا هو مقصود حلقة هذه الليلة، وهو مطلب عظيم وموئل كريم، يفرح الإنسان أن يدنو منه وأن يقرب؛ لأن الله أمر به نبيه؛ لكن الفارق أن النبي أخذ من الأنبياء أكمل ما فيهم، إضافة إلى ما أعطاه الله مما لم يعطه أنبياءه، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم الفضل من جميع جوانبه، فهو عليه الصلاة والسلام وإن كان آخرهم عصراً إلا أنه أرفعهم قدراً وأجلهم ذكراً صلوات الله وسلامه عليه، وقد قيل:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
صلوات الله وسلامه عليه.
الشيخ: نعم، الحاجة ملحة، من باب أننا جميعاً سائرون إلى الله، والسير إلى الله يحتاج إلى زاد يبلغنا إلى الله، والزاد يحتاج إلى إيضاح ومعرفة، ولا سبيل إلى معرفة هذا الزاد إلا بمعرفة أنبياء الله ورسله.
ذلك أن الطريق إلى الله لا يعرف بالعقل وإنما يعرف بالوحي، وليس بين الناس وبين ربهم وحي، وإنما الوحي بين الله وبين أنبيائه، هؤلاء العباد المكرمون اختارهم الله رسلاً وأنبياء وميزهم أعظم تمييز بالوحي، وقد مر معنا في حلقات عدة أن كثيراً من المفكرين والساسة والزعماء والمصلحين إنما تنجم عطاياهم من خبراتهم وتجاربهم، وهي قابلة للصواب والخطأ.
أما أنبياء الله ورسله فإن ما يملونه على الناس آت عن الوحي كما قال الله جل وعلا في كتابه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
وإن الإنسان ليعجب كيف سيصل الإنسان إلى ربه بزاد عظيم ينجيه وهو لم يقتف أثر الأنبياء؟ هذا محال؛ لأن الله سد الطرائق دون ذلك.
بل قال العلماء: إن الحاجة إلى هدي الأنبياء أعظم من حاجة المرء إلى الماء والغذاء؛ لأن فقد الغذاء إنما يعقبه هلاك أبدان، والأبدان لا بد أن تهلك حتى لو متعت، لكن فقد الوحي الذي أتى به الأنبياء هو هلاك أرواح، ولهذا قال العلماء: أسند الله إلى ميكائيل حياة الناس الجسدية بإنزال القطر، وأسند الله إلى جبريل حياة الناس الروحية وهو الذي ينزل بالوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (هذا هو الناموس الأكبر الذي أتى موسى).
فالحاجة إذاً ملحة جداً لمعرفة هدي أنبياء الله ورسله.
والإنسان قد تعظم عنده الرغبة وقد تصدق عنده النية لكن هذا وحده لا يكفي، ولا بد أن يصاحبه علم، والعلم يؤخذ من خلال الكتاب والسنة، فبهما يعلم الإنسان أي هدي كان عليه أنبياء الله ورسله فيما زكاهم الله فنقتفيه، ومن وقع منهم في خلاف الأولى وحذر الله منه نتجنبه، قال الله جل وعلا لنبيه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم:48-50] ، فلا بد من بيان معرفة هدي أنبياء الله حتى نصل جميعاً إلى ربنا سالمين.
المقدم: بعد بيان هذه الحاجة وأنها حاجة ملحة قد يستشعر المسلم عظمة هذا الأمر وضرورة أن يقتدي بهؤلاء الأنبياء؛ لكن من يريد أن يسير في الطريق الصحيح لا بد أن يرد عليه سؤال أطرحه بين يدي فضيلتكم، وهو ما يتعلق بالضوابط التي ممكن أن تتبع من خلال الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام؟
الشيخ: نعم، لا بد من ضوابط؛ لأنه إن لم تكن هناك ضوابط يختلط الأمر، والضوابط من العلم، والمعرفة، فهناك أمور فقهية مثل أن تهب المرأة نفسها، قال الله جل وعلا: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] ، فقوله جل وعلا: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] بيان أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
أنا ذكرت هذه المسألة الفقهية كنموذج، أي: فلا بد من معرفة فقهية، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم قد أباح الله جل وعلا له النكاح من أكثر من أربع، خلافاً لما شرع لنا من الحد عند أربع، هذا كضابط فقهي، وهو ليس التنبيه له هنا ضرورياً بقدر ما نقول: إن المرء ينظر في حاله، فمن كمال رحمة الله أن جعل الأنبياء ليسوا على صبغة واحدة في الحياة المعيشية، فمثلاً أيوب عليه السلام ابتلي بالمرض ليتأسى به أهل البلاء إذا أصابهم المرض، وداود وسليمان عليهما السلام كانا حاكمين ليتأسى بهما الحكام في هديهما في الوصول إلى الحكم، وعيسى عليه السلام عاش عزباً فيتأسى به العزاب كيف يقضون حياتهم، وإبراهيم ولوط كانوا آباء مع نبوتهم فيتأسى بهم الآباء، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان عبداً جمع الله له الفقر والغنى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:8] فجمع الله له الفقر والغنى في أطوار عديدة من حياته حتى يتأسى به من كانت حياته قريبة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود: أن هذا التنوع في حياة أنبياء الله ورسله في اختيار الله لهم مقصود، ومع ذلك كان هناك أشياء تجمعهم، فلا بد من معرفة عين الحالة قبل أن ينزل الإنسان الاقتداء، ولهذا كنت أفكر جدياً كي أتشاور معكم على إقامة برنامج حلقة تسمى (كيف نقتدي؟) لكن هذا قد نرجئه إلى حين، لكن من المهم جداً أن يفقه الإنسان كيف يقتدي؟
أحياناً المسلم يتصرف على أنه حاكم، وأحياناً يتصرف على أنه قاض، وأحياناً يتصرف على أنه أب، وأحياناً يتصرف على أنه مفت أو زوج أو جد، فينبغي تنزيل الأمور منزلتها حتى نعرف الوضع العام، وهذا من أهم الضوابط، وهو أنه إذا أجاب الإنسان عن سؤال: (كيف نقتدي) عرف الموضوع، فلا بد من معرفة حال الحرب وحال السلم، حال المرض وحال الصحة، متى يترك ومتى ينتهي، وكذلك معرفة ملابسات الأمور كلها، فهذا بإذن الله يسوغ للاهتداء بهدي أنبياء الله، وتعرف أن جوابنا هذا على الإجمال؛ لأن جوابنا هنا إنما هو من جملة فقرات في برنامج يستمر ساعة أو ساعة ونصف الثانية وليس درساً مستقلاً.
المقدم: شيخ صالح بعد هذا البيان دعني أنتقل إلى الجانب الآخر وهو ما يتعلق بالتعريفات لكن -كما قررتم سابقاً أن هذا البرنامج بعيد عن الأكاديمية- لن نقف كثيراً مع اشتقاقات كلمة نبي وتعريفاتها، بل سأقف مع أشخاص الأنبياء يعني: وردت النصوص بنبوة بعضهم وبرسالة بعضهم، وقام الخلاف أيضاً في البعض هل هو نبي أو ليس بنبي؟
دعنا أولاً نقف وقفة سريعة مع أبينا آدم عليه السلام ومع نبوته أيضاً.
الشيخ: آدم عليه السلام أبو البشر، نسبنا الله جل وعلا إليه وخاطبنا بأننا أبناؤه قال: (يا بني آدم) في أكثر من موضع في القرآن.
الذي يعنينا هنا أن آدم عليه السلام نبي بنص الحديث الشريف، قال عليه الصلاة والسلام عن آدم: (إنه نبي مكلم) والمكلم هذه إضافة في الجواب أفادت أنه نبي رزق التكليم؛ لأنه ليس كل نبي رزق التكليم، ولو كان كل نبي رزق التكليم لما كان لها جدوى، هذا أولاً.
ثانياً: قد يأتي الإشكال في قضية نوح، فنوح هو أول الرسل، ففهمنا من هذا أن آدم ليس رسولاً بل نبي، قال الله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] ، لكن آدم كان الناس في زمانه على الفطرة، ولم تكن هناك حاجة للرسل ليبشروا أو ينذروا، قال الله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، لكن لما حصل من تحريف الفطرة بعث الله الرسل، وآدم عليه السلام نبي مكلم متفق على نبوته -وبطريقة أصح قد لا أحفظ إجماعاً- لكن ما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بنبوته في حديث صحيح فهو نبي قطعاً صلوات الله وسلامه عليه.
المقدم: قبل أن نخرج من نبوة أبينا آدم عليه السلام نقف مع آية البقرة، يقول عز من قائل: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]، قد يستشكل البعض أن الله عز وجل لم يذكر توبة حواء في هذه الآية، ثم لو عرجتم على بعض الفوائد من إهباط آدم عليه السلام؟
الشيخ: وقعت من آدم المعصية بقدر الله كما قال آدم في محاجته لموسى: (أنت كليم الله كيف تحاجني في أمر كتبه الله جل وعلا علي قبل أن يخلقني بكذا كذا؟).
أما جواب الإشكال الذي ذكرتموه في آية البقرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] وأنه لم تذكر حواء؛ أجاب العلماء عن هذا بوجوه، ومن أجمل الأجوبة إجابة القرطبي رحمه الله في الجامع قال: إن المرأة حرمة مستورة فلم يناسب ذكرها، لكن قد أشير إلى أن الله قبل توبتها في الأعراف: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ، فالمرأة تبع لزوجها، ولهذا قال الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] مع أن حواء عصت وأكلت من الشجرة، قال الله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121] ولكن المرأة تبع لزوجها، والمرأة كما قلت حرمة مستورة كلما قدرنا على سترها كان أولى إلا في مواطن معروفة.
أما ما ذكرتموه من الفوائد: فآدم عليه السلام أهبط وينقل -وهذا من مليح القول لا متين من العلم- عن سعيد بن جبير أحد أعيان السلف المعروفين الذي قتله الحجاج أنه قال: لما أهبط آدم من السماء إلى الأرض لم يكن على الأرض إلا النسر والحوت، فكان يقول: إن النسر كان يأوي في الليل إلى الحوت كأنه هو الذي يزيل الوحش، فلما أهبط آدم قال النسر للحوت: لقد أهبط اليوم شيء من السماء يستخدم يديه ورجليه، فقال له الحوت: لئن كان حقاً ما تقول فما بقي لك في الأرض مقر ولا لي في البحر مستقر، لأنه سينازعنا الأمر.
وهذا قد وقع كما تعلم فإن الله جل وعلا سخر الحوت والنسر لبني آدم؛ لكن ثمة طرائق أخر.
ينقلون عن ابن عباس وغيره: أن آدم عليه السلام لما نزل كأن إبليس أثار السباع حوله، وكان الكلب يوم ذاك سبعاً كاسراً، فجاء جبريل فأوصى آدم أن يمسح على الكلب، فمسح عليه فمات قلبه، فلما مات قلبه أدركته صفتان، فإذا غلب عليه مسحة آدم أصبح أليفاً فيدنو من بني آدم يحرسهم، وإذا غلب عليه إغواء الشيطان أضر بني آدم وصار سبعاً كاسراً يفترسهم.
ولهذا لما مات قلبه من مسحة آدم أصبح يلهث باستمرار وهذا من العلم؛ لأن الله ضرب مثلاً للعالم الذي لا يعمل بعلمه بالكلب، قال تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] وذلك لأن الكلب ميت القلب بمسحة آدم عليه، فالعالم الذي لديه علم -عياذاً بالله- ولا يعمل بعلمه أشبه بالكلب الميت القلب، ولهذا اختار الله الكلب من بين الحيوانات كلها ليقول: إن هذا مثل لعالم السوء.
فالمقصود من هذا أن التنازع الذي في الكلب الآن ناجم عن مسحة آدم إن صحت الرواية؛ لكن قلت: إن لها شواهد وإنها يستأنس بها، وهي -كما حررت من قبل- من مليح القول لا من متين العلم. هذه بعض الفوائد حول هبوط آدم عليه السلام من السماء.
الشيخ: بالنسبة لمنهج طلب العلم أقول: أول الطرائق أن يعرف الإنسان أين موقعه في طلب العلم؟ كل من أراد سيراً لا بد أن يحدد موقعه، ولهذا فمن الخطأ أن يقع جواب عام لسؤال خاص، بمعنى: أن السائلين يختلفون، فأحدهم مثلاً متخرج من الثانوية أو طالب جامعي أو إنسان ليس لديه تعليم أكاديمي فيختلفون في القدرات، حتى طلاب المرحلة الواحدة يختلفون في قدراتهم، فأنا لا أجيب جواباً عاماً في مثل هذه القضايا.
أما الشتات فالشتات موجود، وأكبر ملحوظاتنا على طلاب وطالبات العلم قضية شتاتهم فأنا أقول للسائلة: ابدئي بداية شاملة، اجعلي القرآن رأساً فاحفظيه قدر الإمكان، اقرئي فيه كثيراً، واجمعي معه كتاباً في التفسير أو كتابين تقرئين فيها، ثم كتاباً في العقيدة حتى يصبح هناك تفتق ذهن، فإذا وجد تفتق ذهن يسهل بعد ذلك أخذ الفقه، فمن كتب التفسير: تفسير ابن كثير مثلاً والجواهر الحسان للثعالبي ، وشرح العقيدة الواسطية لشيخنا العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه، وكتب الشيخ عمر الأشقر حفظه الله في العقيدة فإن له سلسلة متقنة جداً على منهج السلف وحرص فيها على صحة الأحاديث، فتقرأ فيها جيداً لمدة طويلة أقلها سنة، ثم تلتحق فقهياً بأحد المشايخ لتأخذ عنه الفقه.
بعد ذلك إن شاء الله تواصل مسيرتها، وأنا أتكلم في التأسيس.
أما النسيان فله ثلاثة أسباب: سبب فطري طبعي ناجم عن شيء وراثي أو شيء عضوي، فهذا حله بالعلاج وبالدعاء.
وسبب كسبي ناتج عن الانشغالات التي تدعو إلى النسيان، وهذا حله أن يقلل الإنسان من الأشغال.
وسبب ثالث عياذاً بالله وهو: كثرة الذنوب.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
وتوقي المعاصي والسيئات والذنوب يساعد على الحفظ كما قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه.
المقدم: يا شيخ! هذه سائلة تسأل عن من صبر على حر المدينة فهل له أجر؟
الشيخ: السكن في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرغب فيه شرعاً: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإني أشفع لمن مات بها) ، (من صبر على حرها وبردها ولأوائها كنت له شفيعاً يوم القيامة) هذه كلها نصوص صريحة صحيحة في فضل سكناها أسكننا الله جل وعلا إياها، لكن لا يمنع ذلك أن يستفيد الإنسان من تقنية العصر، لكن يصبر ويقول كلمات طيبة في حقها احتراماً لساكنها الأول صلوات الله وسلامه عليه.
الشيخ: الإسرائيليات موجودة بكثرة، فيحتاج المرء إلى الكتب ذات التحقيق، ويكون المحقق ممن له باع وشأن مع سلامة العقيدة.
وهناك أمر ينبغي استصحابه، وهو أن أنبياء الله منزهون عن النقائص والعيوب، فهم صفوة الله وخيار الخلق، فقضية أن يوسف فعل كذا وفعل كذا مما يذكر من الإسرائيليات التي اتهمه بها اليهود، فاليهود شأنهم الكذب والافتراء على أنبياء الله ورسله فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87] ، لكن لا يوجد مسلم يصدق مثل هذه الأمور، كما نسبوا إلى أيوب عليه السلام ما لا يعقل.
والمسلم يتقيد بالنص القرآني أو بالنص النبوي، وهناك كتاب للشيخ مشهور بن حسن سلمان اسمه (قصص لم تثبت)، هذا الكتاب نافع في بابه من أجل التثبت، وهناك بعض الفضلاء مثل صلاح عبد الفتاح الخالدي له كتاب اسمه القصص القرآني تحرى فيه الموضوعية والصدق وصحة الأسانيد والأخبار، فهذا كتاب ينبغي أن يقتنى.
الشيخ: أعظم موقف: أنهم وضعوا سلا الجزور على ظهره الشريف، وهو في السجود لربه عند الكعبة، فاجتمع جلالة المكان وجلالة الوضع وجلالة العابد، فيأتي هؤلاء السفهاء من قريش فيضعون بقايا الفرث على ظهره.
وكان عبد الله بن مسعود حاضراً لا يملك أن يفعل شيئاً، فذهب رجل إلى فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وأخبرها فجاءت فحملت سلا الجزور عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
هذا الموقف موقف مؤثر لكل طالب جنة؛ لأن الموقف موقف عصيب أن يوضع سلا الجزور على ظهر سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لكن النبي عليه الصلاة والسلام صبر على هذا وأمثاله حتى مكن الله جل وعلا له وأظهر الدين على يديه!
المقدم: ذكر العلامة ابن سعدي رحمه في تفسيره عند تفسير قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143] أن الجبل لم انهال مثل الرمل، انزعاجاً من رؤية الله وعدم ثبوته لها وقد استشكل بعض الناس لفظة انزعاجاً فما قولكم في ذلك؟
الشيخ: هذه اللفظة وجدتها في تفسير الكريم الرحمن الشهير بتفسير ابن سعدي ابتداءً نقول: العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه رجل جليل في علمه، ذكر عن عبادته الشيء الكثير، له من التقوى والورع مع سلامة العقيدة ما لا مزيد عليه في أهل زمانه، فهو علامة القصيم ومفخرتهم وله مفاخر كثيرة منها العلامة ابن عثيمين وغيرهم لكن إذا وجد هذا عنه رحمة الله تعالى عليه فإنه يعتذر له في أنه قد أملاها أو كتبها أو قالها على سهو أو أن الكتاب لم يراجع بعده أو أن أمراً مثل هذا قد حدث، فمتشابه القول هنا يرد إلى محكم سيرة الشيخ وإلى علمه رحمة الله تعالى عليه، فنقول: إن اللفظة قد تكون غير مقبولة لكنها مغمورة في بحر فضل الشيخ، وأنا أجزم أن الشيخ لو راجعها لما أقرها، لكنه لا يتعلق بها يعني: معلوم أنه لا يقصد نسبة شيء إلى الله لم ينسب إليه، فالرجل يعرف من مجموع مؤلفاته ومن مجموع سيرته هكذا يحكم على الرجال، فالعلامة ابن سعدي رجل فاضل عالم جليل القدر سليم العقيدة وليس مثلنا من يحكم على رجل في منزلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمة الله تعالى عليه، ونحن لا نتكلم في الشيخ فنحن أقل من ذلك بكثير، لكننا نتكلم في اللفظة أنها إن وجدت إنما أراد بها التعبير فلم يوفق لاختيار تعبير حسن في الأمر.
الشيخ: قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83] وذلك أن الله جل وعلا أخبر أنه أمره أن يفعل كذا ويترك كذا، وهل كان هذا عن طريق وحي أو عن طريق نبي كان معه؟ كل محتمل، فقال بنبوته قوم من العلماء الأفاضل، ولم يقل بنبوته آخرون.
لكن ورد حديث عند الحاكم في المستدرك وأظنه عند البيهقي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أدري أكان
الشيخ: قال الله: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181] ، لكن (صلى الله عليه وسلم) لم ترد بهذا الوضع، لكن ورد: (اللهم صل على محمد) ولا أعلم حديثاً جاء فيه مثلاً: (صلى الله عليه وسلم) لكن هذا مقتبس من ألفاظ دعت إلى الصلاة وأمر الله بها: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] ، فأنت تطبق الآية تقول: صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يمنع من قولها لبقية الأنبياء، لكن المشهور في حق الأنبياء (عليهم السلام) لعموم آية: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181] .
الشيخ: نعم، ورد في النص برسالته، قال الله تعالى على لسان مؤمن من آل فرعون في غافر: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34] ، موضع الشاهد: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34] فالأظهر أن يوسف عليه السلام كان رسولاً إلى قبط مصر -إلى فرعون- مع رسالته إلى بني إسرائيل، لكن الله لحكمة ذكر قصته مع أبيه وإخوته ولم يذكر قصة رسالته، وهناك أنبياء آخرين ذكر قصة رسالتهم ولم يذكر قصتهم مع آبائهم وأمهاتهم حتى يستفيد الجميع من خطاب الله لأنبيائه.
هناك أزمة في طلب العلم، لكن مما يخفف الوطء أن العلم فضل لا يعطاه كل أحد، والعلماء هم سادة الناس ولا يمكن أن يسود جميع الناس، فهذا يخفف الوطء.
أما المنهج في طلب العلم فقد أمر الله نبيه بالاستزادة منه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] فلا يوجد حد أعلى له، لكن يقال: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] ويطلب العلم إلى آخر رمق.
ومن تأمل سير السلف والعلماء السابقين الربانيين ومن تبعهم بإحسان وجد أنهم لم يتركوا طلب العلم وتدارسه حتى في آخر أيام حياتهم، وبعضهم كان يدارسه حتى في ساعات اختضاره، وهذا نقله الذهبي في التراجم عن بعض أهل العلم.
أما هدي الأنبياء في طلب العلم فكان هدي الأنبياء في طلب العلم يختلف؛ لأن الأنبياء لم يأخذوا العلم عن الناس، وإنما كان العلم وحياً ينزل عليهم من الله تبارك وتعالى؛ لكن يقال: كيف أخذ الصحابة العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: أخذوه بالتدرج بالقرآن ثم السنة، هذا الذي أخذه الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الأنبياء فقد كان العلم وحياً ولم يكن بطرائقنا نحن حين نثني الركب، إنما كان جبريل يملي والنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ عنه، أو يكلمه الله جل وعلا؛ هذه كلها وسائل في طرائق العلم.
وأنا أشكر السائل على حرصه على معرفة هدي الأنبياء في طلب العلم وأقول: الهدي الأسمى يكون في البدء بالأمور العظام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه تحقيق العقيدة أولاً، ثم الانتقال إلى ما يعنيهم من المسائل التي تقع، ثم المسائل التي لم تقع تقدم على المسائل التي يبعد وقوعها هكذا التدرج في طلب العلم النبوي الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
والمقصود: أن أعظم هدي تجمل به هؤلاء الصالحون هو وجود شيء يفعلونه تقرباً إلى الله.
نحن لدينا مطالب عظيمة نريد أن تتحقق، ولدينا مخاوف نريد أن تزال وتزاح وتدفع، ولن تتحقق المطالب إلا بالله، ولن تدفع المخاوف إلا بالله، ولا وثيقة بيننا وبين الله إلا التقرب إليه جل وعلا بالعمل الصالح، فالعمل الصالح كان المظهر الأكبر لهدي أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.
القرب من الله جل وعلا هو الذي تثبت به القدمان في الدنيا، ويثبت به اللسان في القبر، ويثبت به الجسد كله يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وهو أعظم ما خص الله جل وعلا به أنبياءه ورسله، فهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يقوم الليل تتفطر قدماه، وكان يسرد الصيام حتى نقول: لا يفطر ثم يفطر حتى نقول: لا يصوم.
المقصود من ذلك كله: أنه كان له هدياً عظيماً في القرب من الله، أنا لا أريد أن أتكلم عن التفصيلات والجزئيات، لكن لا بد أن يستحضر الإنسان أنه لا سبيل إلى القرب من هدي الأنبياء إلا أن يكون له حظ من قراءة القرآن وحظ من الذكر، لئن كان الناس يتفاوتون في قدرتهم على الصيام، ويتفاوتون في قدرتهم على قيام الليل بسبب المشاغل أو قدرة الجسد فلا أقل من ذكر الله جل وعلا.
قال محمد مولود الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في مأدبة الآداب: والذكر أكثر والقرآن خيره إلا بما شرع فيه غيره، والمعنى: أن الإنسان أعظم ما يكون عليه ذكر الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]، فذكر الله تبارك وتعالى قوت للقلوب، وقربة إلى الرب تبارك وتعالى، وعندما دل الرسول أصحابه على ما ينفعهم وما هو خير لهم من الذهب والفضة وخير لهم من لقاء العدو قال: (ذكر الله تبارك وتعالى).
أما قول الشنقيطي رحمة الله عليه: (والذكر أكثر والقرآن خيره) فالقرآن خير الذكر، ولا يتصور أن يسود إنسان ليس له حظ من تلاوة كلام الرب تبارك وتعالى.
ثم قال: (إلا بما شرع فيه غيره) هناك مواطن نص الشرع على أنها ليست موطن لقراءة القرآن كأدبار الصلوات المكتوبة، فإن النبي كان يرشد بعد الصلاة إلى قوله: أستغفر الله، والتسبيح والتهليل وآية الكرسي، وأمثالها مما جاء في الشرع مقيداً بذكر معين لا يقرأ فيه القرآن.
أما ما سوى ذاك فأفضل الذكر قراءة القرآن، والمقصود: أن يتجمل المرء بأعظم القربات ألا وهو العبادات المحضة.
لا يقول الإنسان: أنا منشغل بالعلم، أنا منشغل بالوظيفة، لا بد أن يكون هناك حظ من عبادة يتقرب بها المرء، مثل مواساة الناس المسكين وابن السبيل، هذه كلها عبادات يتقرب بها المرء إلى ربه، وهذا أجمل ما جمل الله جل وعلا به أنبياءه ورسله، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:59-58].
إن العبد إذا علم عظيم ضعفه وجليل افتقاره إلى ربه تبارك وتعالى فقد أوتي حظاً عظيماً من القوة ومن أسباب البلاغ، فأسباب البلاغ والتمكين مردها عند أنبياء الله ورسله إلى شعورهم بضعفهم وعجزهم وأنهم ما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بحول من الله جل وعلا وقوة.
والبراءة من كل حول وقوة من كل أحد إلا من الرب تبارك وتعالى، هو الذي يصل بالمرء إلى مقصوده.
هؤلاء القمم الشامخة والصفوة المباركة أورثهم الله علماً أنه لا حول لهم ولا قوة إلا به، ولذلك قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:55-56].
وقال محمد وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذلك ليعلم كل أحد يريد أن يصل إلى مقصود أن سبب وصوله وقوته وطريقه يكون في علمه بضعفه وعجزه، والبراءة من الحول والطول والقوة أعظم أسباب التمكين.
إن من المؤسف أن يعتقد الإنسان أنه وصل لبلاغته أو لقوة لسانه أو لجمال جسده أو لكثرة ماله أو لعزه بقدرة نفسه، نعم يسخر الله لك؛ لكن التسخير الشرعي القدري مبني في المقام الأول على شعورك بالضعف والعجز في نفسك، وإيمانك ويقينك بأن الرب تبارك وتعالى هو القوي العزيز.
أعظم هدي أورثه الأنبياء لأتباعهم من بعدهم وهو الذي فقهه الصحابة وعلموه وأخذوا به ونالوا به الدرجات العلى رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فتحقق الآن اثنان من هدي الأنبياء متصلان ببعضهما: ألا وهو العبادة المحضة مع الشعور بالضعف والعجز، فبالعبادة تنال رحمة الله، وبالضعف تدفع نقمة الله جل وعلا، بهذين الهديين وصل أولئك الأخيار إلى ما وصلوا إليه، وقد ظهر عزهم في دعائهم وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فيخر ساجداً ويقول كما نقل: اللهم إنني قد سجدت لك في موضع لا أظن أن أحداً من خلقك سجد لك فيه.
هذا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفره على ظهر راحلته صلى إلى أي وجهة كانت الدابة، فالمهم أن يكون هناك عبادة؛ لأن العبادة هديهم الأعظم عليهم الصلاة والسلام.
يصعد إنسان منبراً أو يتصدر لمحاضرة ولا يكون له حظ عظيم من عبادة تصله بربه، فهذا نسأل الله العافية ونعوذ بالله من حال أهل البوار يجعل المرء ينقطع لا محالة، ونحن جميعاً نعترف بعجزنا وتقصيرنا في هذا الباب؛ لكن نسأل الله جل وعلا السلامة والسداد، ونسأل الله جل وعلا لم شعثنا وجبر كسرنا في هذا الموضوع؛ لكن هذه وصية للنفس وللغير أن يحرص الإنسان على أن يكون له حظ من عبادة وحظ من العلم بعجزه وضعفه بين يدي الله جل وعلا.
هذا أعظم هدي أعطاه الله جل وعلا أنبياءه ورسله، يقول الله عن نبيه: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] فحتى في خطابه القرآني الدعوي نهاه الله جل وعلا من التكلف؛ لأنهم عليهم الصلاة والسلام واضحون في منهجهم ظاهرون في حججهم بينون في مقصدهم.
البعد عن التكلف سمة من سمات العقلاء، والأنبياء في الذروة الكبرى من أهل العقل، يقول بعض الناس في قضية اللباس مثلاً: إن العاقل يلبس لبساً لا يزدريه عليه الفضلاء ولا يحسده عليه السفهاء.
يجعل الناس يلتفتون إليه وكأن الغاية منه مظهره، فيتناسون بعلو مظهره ما له في المخبر.
أنبياء الله كانوا لا يتكلفون مفقوداً ولا يردون موجوداً، هذا النبي الخاتم ربط الحجر، وكانت عادة عند أهل الحجاز أنهم يأتون بحجر مستطيل يضعونه حتى يستقيم الظهر من الجوع.
وقسم الثمرة بينه وبين أصحابه، وعند شرب اللبن كان آخرهم شرباً، وفي نفس الوقت لم يمنع أبا الهيثم من أن يذبح له جدياً فأكله ولم يقل: هذا إسراف، إنما ذكر الصحابة فقال: لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة! وذلك بأسلوبه الأدبي الجميل عليه الصلاة والسلام.
المقصود: البعد عن التكلف في البنيان من أعظم هدي أنبياء الله ورسله:
تلاحظ الآن بعض الفضلاء من أهل الثراء يبالغون في البنيان، نعم هناك أمر يقبل مثل بناء الدولة -وفقها الله- للحرمين، لأنهما مظنة أن يزدحم الناس هناك كثيراً، فبديهي أن يقوم بنيانه بشدة حتى يتحمل، لكن بعض البيوت ترى فيها كثيراً من الإسراف حتى ظهر في زماننا قضية التحف التي توضع في المنزل، وهناك تحف تشترى بمئات الألوف وتوضع في زوايا وفي أمكنة والله لا يراها أحد ولو رآها لما عرف ثمنها، والإنسان يقضي وسنين وشهوراً يجمع مالاً من كد عيشه ويقصر بعضهم على أولاده حتى يشتري تحفة لا يستخدمها أحد؛ هذا كله بعيد عن هدي أنبياء الله ورسله.
أحياناً بعض الناس يصرخ وليس أمامه إلا عشرة أشخاص وقد بلغهم صوته فلا حاجة للصراخ، قد يكون الإنسان أحياناً لديه وسائل إيصال صوت قائمة بالواجب فلا حاجة إلى الصراخ، كان النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينذر الجيش، هذا طريقة في الخطاب العام، مع احتياطنا أنه لم يكن آنذاك وسائل إيصال صوت؛ لكن المقصود من ذلك جملة: أن أنبياء الله لم يكونوا يتكلفون في أي شيء لا في استقبال أضيافهم، ولا في دعوتهم إلى الله، يقول ابن مسعود : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة) حتى وهم يعظون، والوعظ أعظم ما كلفوا به، فكانوا يتخولون الناس بعداً عن التكلف.
نحن نرى في الحج في المخيمات مثلاً -مع احترامي للأجلاء القائمين عليها- أنه لا ينتهي شيخ حتى يبدأ شيخ آخر، وكأن الحج إنما شرع للسماع، وليس هذا بصحيح.
قد يقول بعض أهل الفضل لنا وهو يحاضرنا: يا أخي، الناس قل أن يجتمعوا.
فنقول: يا أخي! الناس لن يهتدوا بأعظم من هدي أنبياء الله ورسله، النبي عليه الصلاة والسلام حج معه أعراب قلما يجتمعون به فخطب ثلاث أو أربع خطب في الحج كله، لأن الناس تحتاج إلى راحة في الحج حتى تتقوى على العبادة مثل أن تخرج لرمي الجمرات، بعض النساء والرجال يقدم من طواف الإفاضة والله أعلم كم مكث في الطريق مع الزحام، فيريد أن يستريح، وهو قد دخل المخيم بماله فله حق على صاحب المخيم، فإذا بالشيخ فلان أو الشيخ فلان يتكلم حتى منتصف الليل، فمتى ينام هؤلاء؟!
لكن يأتي بعض الناس يقولون: وَذَكِّرْ [الذاريات:55] فنقول: لكن قد جاء في الحديث قيد فقال: (مخافة السآمة).
ومن الخطأ أن نتكلم بمجرد الكلام، أن نعظ من بمجرد الوعظ، أن نقرأ كتاباً بمجرد أن نقرأ، فلا بد أن يتوخى الإنسان معرفة أحوال الناس في غدوه ورواحه، في بيته، في مسكنه، في حلقته، مع زوجته، هذا هو الفقه الحقيقي لهدي أنبياء الله.
قبل أن نعرف أن أنبياء الله كانوا يعظون ينبغي أن نعرف متى كانوا يعظون، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان خطبته هدياً قصداً كما قال عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أما أن يأتي الإنسان في حمأة الصيف فيطيل في الخطبة حتى يصيب الناس الملل وينفصلوا عنه روحياً وإن بقوا في المسجد جسدياً فيخرجون ولا يذكرون من الخطبة شيئاً، لأن آخرها أنسى أولها، فهذا كله يجب مراعاته من أجل البعد عن التكلف.
ولن تصل إلى قلوب الناس إلا بمنهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه من قبل.
وأيضاً: هل من توجيه أو نصائح للمقبلات على الدعوة إلى الله أو بمعنى آخر: للداعيات إلى الله عز وجل، أثابكم الله!
الشيخ: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فواضح، وقال العلامة ابن باز رحمة الله تعالى عليه في ذلك: من لم يتفقه في الدين بالكلية فما أراد الله به خيراً.
وأما الداعيات إلى الله فنقول: تشهد الصحوة المباركة إقبال كبير من أخوات كثيرات من الله عليهن بالالتزام في طلب العلم والتفقه في الدين، وهن يحمدن على هذا الأمر حمداً كثيراً ويشكرن، ونسأل الله لهن التوفيق، لكن أقول لها: لابد أن توفق ما بين حاجاتها البيتية -وحق الزوج عظيم- وما بين طلبها للعلم أو إلقائها للمحاضرات، فلا بد أن يكون هناك توازن، وهذا مندرج تحت قولنا في السياق الذي قبله: البعد عن التكلف؛ لأن البعد عن التكلف كلمة أرجو الله أن تكون جامعة مانعة، فالمقصود: أن تحرص على العلم وتطلبه، وتحرص على التبيين، فتتفقه على قدر وضعها، والبنات أو الفتيات يختلفن كثيراً لكن لا بد أن تراعى الحقوق الأخرى، كما إذا كان لها والدان كبيران يحتاجان إلى رعاية فتقوم أقدر على رعاية الأم والوالد.
وأيضاً: تنظيم الوقت يساعد كثيراً مع إنني أسأل الله جل وعلا لأخواتنا الطالبات العلم والتوفيق والسداد في الدنيا والآخرة، وأطلب من أزواجهن إن كن متزوجات أن يعينوهن على هذا الأمر العظيم، ولهم الأجر من الله تبارك وتعالى.
من أراد أن يتأسى بالأنبياء من العلماء فلا حلية أعظم من الصدق مع الرب تبارك وتعالى، ويقبح في أهل العلم أن يختار من يوصل لهم خطابهم، وأن يشترط شروطاً كمن يأخذ أجراً على قوله، فهذا كله من عظيم القبح في سير العلماء، ولا ينبغي لعاقل يعرف منهج الأنبياء أن يتحلى بها، الأنبياء صادقون واضحون لا يريدون الأجر إلا من الرب تبارك وتعالى.
ثمة أمور تكون بها الحياة فلا بأس بها لكن الزيادة عليها والاستطالة فيها مخالف لمنهج أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا باب عظيم لكن الوقت لا يسمح لي.
الحفاظة والعقل تنجم عن التصرف، فيوسف عليه الصلاة والسلام اختار الله له الطريقة التي يحفظ فيها بأخيه بنيامين كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76] وهذا لا يضير بمقامه كنبي.
ولما جادل إبراهيم النمرود : قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] ، وقال النمرود : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] . كيف تحيي وتميت؟ قال: آتي باثنين: رجل ليس عليه شيء فأقتله، وآتي برجل حكم عليه بقتل فأطلقه، ومعلوم أن إبراهيم يعلم أن هذا ليس كجنس الحياة والموت التي أرادها إبراهيم، لكنه قبلها حتى يعطيه الأخرى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] قال الله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] .
نبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية لمن كانت البعوث بينه وبين قريش يتعددون بعثت له قريش سيد الأحابيش، وكان يعلم عليه السلام أن سيد الأحابيش من قوم يعظمون الهدي، والهدي كما وصفه الله: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25]، مع طول الطريق بين مكة والمدينة ضمر الهدي وضعف حيث لا مرعى مع شدة النقل.
فلما قدم سيد الأحابيش أطلق النبي صلى الله عليه وسلم الهدي ليراه سيد الأحابيش، فانقلبت الموازين عنده وعاد إلى قريش ينهاهم عن منعهم النبي صلى الله عليه وسلم من أن يدخل مكة.
فانتهز النبي صلى الله عليه وسلم تلك الفرصة وعمل بحفاظة عقله ورجاحة رأيه عليه الصلاة والسلام.
المقصود: ألا يفهم أن أنبياء الله ورسله عباد زهاد فقط، بل هم عباد زهاد لكنهم ذوو حفاظة وعقل، والذي يريد أن يتأسى بهم حقيقة فليتأس تأسياً شاملاً بسيرتهم العطرة وأيامهم النضرة.
الإمام الحق يلقي ما تقوله الدهماء وراء ظهره، لأن ما تطالب به العامة لا يقدم ولا يؤخر، هم لو كانوا أهلاً لما أصبحوا دهماء، قال تعالى: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129] ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128] ، فخطاب الأنبياء عليه الروية والسكينة والنظر فيما بعد، والدهماء قوم لا ينظرون إلى التبعات.
فهدي أنبياء الله الروية السكينة والنظر في العاقبة وعدم الاستعجال لنصر الله، والسير بالأمور خطوة خطوة، ولا بأس كما قلت من الحفاظة والعقل، فإن موسى طلب من بني إسرائيل أن يستعيروا الحلي من القبط، وذلك حتى يفهم القبط أن بني إسرائيل قاعدون ماكثون مخلدون في الديار ليس عندهم نية رحيل، ولهذا لما جاءت قضية العجل قالوا: حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه:87]، يعني: أخذنا معنا من زينة القوم.
والشاهد أنهم خرجوا فجأة وقد أوهموا القبط أنهم ماكثون، وكان السير ليلاً دون أن يعرف القبط.
الشيخ: الأنبياء يخيرون عند الموت، فيجذبهم الشوق إلى ربهم: (ولكني اشتقت إلى لقاء ربي).
ولا تأكل الأرض أجسادهم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم).
ولهم حياة في البرزخ الله أعلم بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره) ولم نعرف كيفية هذه وما شابهها، لكن نوردها كما أوردها النبي عليه الصلاة والسلام.
أما يوم القيامة فقد أخبر النبي أنهم يومئذ يقولون: نفسي نفسي! فإذا كان أنبياء الله من هول ذلك الموقف يقول كل أحد منهم وقد عرفوا بالنصح للناس: (نفسي نفسي) فما عسى أن يقول غيرهم؟ نسأل الله الثبات يوم العرض عليه.
لا صلة بين الله وبين خلقه إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا يثبت القدم يوم ذاك إلا الإيمان والعمل الصالح، ورحمة الله جل وعلا يجب أن يطلبها العبد بكل قواه، ويسألها من ربه في ليله ونهاره ويعمل ما يقربها إليه كما قال سليمان بن عبد الملك لـأبي حازم : أين رحمة الله؟ قال: يا أمير المؤمنين! رحمة الله كما قال الله: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، كالإحسان إلى الخلق، الإحسان مع الرب هذا كله مما يقرب به العبد إلى رحمة الرب تبارك وتعالى. بلغنا الله وإياكم رحمته.
الشيخ: هذا من أعظم المطالب، يقول المفسرون: كان أحد الصحابة يأتي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انقطع مرة نحل جسمه فقال له عليه الصلاة والسلام: (ماذا أصابك؟ قال: يا رسول الله أشتاق إليك في الدنيا فآتيك، فكيف الفعل في الجنة؟) فأنزل الله جل وعلا قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، طاعة الله، وطاعة رسوله، وكثرة الصلوات هن السبب الأعظم إلى جوار أنبياء الله ورسله. بلغنا الله وإياكم جوار أنبياء الله ورسله في جنات النعيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر