أيها الأحبة! نسمع هذه الأيام حداء المحبين، ونرى ابتسامات عريضة على ثغور كثير من المسلمين؛ لأنهم يستقبلون ضيفاً طالما انتظرته القلوب المؤمنة وتشوقت لبلوغه النفوس الزكية، وتأهبت له الهمم العالية.
لقد أقبل شهر الصيام بفضائله، وفوائده، وهباته، ونفحاته، أقبل بأنفاسه العطرة وثغره الباسم ووجهه المشرق، أقبلت يا رمضان يا شهر الصيام والقيام يا شهر النور والبركات يا شهر الخشوع والطاعات، فكم كنت ربيعاً للطائعين وموسماً للتائبين! قد تاقت إليك نفوس المؤمنين، واشتاقت إلى لياليك جموع المتهجدين، فكم فيك من راكع وساجد، وكم فيك من تال للقرآن وذاكر، وكم فيك من مخبت وباك.
شهر رمضان بين الفقه والإيمان، هو موضوع حلقتنا في هذا الشهر من برنامجكم القطوف الدانية.
نقف وقفة مع رمضان كشهر دون أن ندخل إلى خصائصه فيما يتعلق بالفقهيات والإيمانيات والصوم، لا شك أن هذا الشهر له ميزة عن بقية الشهور وقد اختصه الله عز وجل بالعديد من الفضائل.
فعل الانطلاقة تكون ببيان هذه القضايا المختصة به كشهر.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وحده، خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، وقَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:4]، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:5].
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن ما من قلب مؤمن موحد يعرف فضل الله جل وعلا ورحمته إلا وهو يتعرض لنفحات الله ورحماته ويسأل ربه التوفيق فيها، وإن من خصائص الصالحين أنهم إذا أصبحوا سألوا الله جل وعلا التوفيق، وإذا أمسوا استغفروا ربهم خوفاً وفزعاً من التقصير، وعرفاناً بأنهم عاجزون عن عبادة ربهم جل وعلا عبادة كاملة.
من المطلوب بيان فضل رمضان وهذا يعود إلى تأصيل علمي قال الله جل وعلا: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، والله جل وعلا وحده مدبر الأكوان ومصرف الشهور والأيام والأعوام.
وقد جعل الله جل وعلا لرمضان مزية ليست في غيره، ففيه أنزل الله جل وعلا خير كتبه على خير خلقه صلى الله عليه وسلم، والصيام هذه العبادة التي جعلها الله جل وعلا رابع أركان الدين اختص رمضان من بين الشهور بأن تصام وتؤدى هذه العبادة فيه.
ومن خصائص الشهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين، ويغفر لهذه الأمة فيه في آخر ليلة، وقد ورد أنه قيل: (يا رسول الله! أهي ليلة القدر لك؟ قال: لا إنما يوفى الأجير أجره إذا أنهى عمله)، اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجتهد في غيره.
فهذه كلها تبين فضائل هذا الشهر مع اتفاق المسلمين على أن شهر رمضان ليس من الأشهر الحرم لكنهم قالوا: إنه خير منها، ومع ذلك نجد أن الفقهاء رحمهم الله ترد في عبارتهم عبارة (انتهاك حرمة الشهر) وهذا له علاقة بفضيلة الشهر فمثلاً: لو أن إنساناً أفطر في رمضان بالجماع فإن عليه وفق الحديث الصحيح القضاء مع الكفارة وهو آثم لا محاله إذا تعمد ذلك.
لكن لو أن إنساناً أفطر بنفس الطريقة أي: جامع في صيام نذر أو جامع في صيام قضاء ثم أفطر بطريقة الجماع فيقال له: عليك القضاء فقط وليس عليك الكفارة؛ لأن الكفارة مرتبطة بانتهاك حرمة الشهر، فليست أيام العام كشهر رمضان المبارك.
من هذا يفهم عظيم فضل هذا الشهر المبارك بلغنا الله والمسلمين إياه على عفو وعافية منه جل وعلا.
الشيخ: تعبد الله جل وعلا المسلمين بصيام رمضان وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
الصيام عند أهل اللغة: هو الإمساك، فكل من أمسك عن شيء فقد صام عنه:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وفي قصة مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، أي: إمساكاً عن الكلام، لكنه في الشرع أن يمسك الإنسان عن المفطرات المتعلقة برغبتي وشهوتي الفرج والبطن من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال ربنا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، أي: يتبين لكم نور النهار من ظلمة الليل، هذا المعنى الحرفي للآية.
هذا الصيام جزء من أربع عبادات هي فرائض وأركان، وهن: الصلاة، والزكاة، والحج، ورابعها الصيام، فلنبدأ بهذه الثلاث حتى يتحرر المعنى.
ما الصلاة؟ الإنسان إذا كان ابنك جالساً أمامك تقول له: قم فصل فهو يتوضأ ويذهب إلى المسجد لصلاة الجماعة فيصلي، إذاً قام بعملية فعل.
ما الزكاة؟ إنسان عنده أموال تنصحه وتقول له: زك، فيأخذ هذه النقود ويخرج منها (2.5%) ثم يذهب وينفقها إما هو بنفسه أو بغيره، إذاً هذا فعل.
والحج أن يذهب الإنسان إلى الميقات فيحرم فيلبس إزاراً ورداء ويغتسل ثم يذهب إلى مكة فيطوف ويسعى ويقوم بأعمال مجموعة هي أفعال.
لكن الصيام ليس فيه فعل، إنما هو امتناع وترك، والترك عند جمهور الأصوليين يسمى فعلاً كما قال: الناظم:
والترك فعل في صحيح المذهب.
فالصيام عبادة قائمة على ترك ما ترغب النفس في فعله أو ما تحتاج النفس أحياناً إلى فعله، وما تعودت عليه أو ما أباحه الله جل وعلا لها.
لكن في قضية (ما أباحه الله جل وعلا) ليس القيد صحيحاً؛ حتى لا يأتي شخص ويقول: أنا فعلت شيئاً محرماً -مثل شرب الدخان- فيقول: إنه لا يفطر؛ لأن الله منع من المباحات.
نقول: بل منعك من كل ما يدخل إلى جوفك من نافع أو ضار.
فالصيام بهذه الطريقة التحريرية هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم)، وهذا تحرير المعنى، والذي يهمني منه قضية أنه ترك وليس فعلاً، إن كان الترك يسمى فعلاً.
الصوم كما ذكرتم: هو العبادة الرئيسة في رمضان، وهذا الصوم ذكر الله جل وعلا فيه نصوصاً في القرآن وفي السنة.
قوله: (الصوم لي) الإضافة إضافة تشريف؛ لكن العلماء رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا في معنى: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، فقالوا: بأنه عبادة تعتمد على السر وهو أقرب إلى الإخلاص.
وقلنا: إن بعض العلماء يقول: إن هذه العبادات الثلاث غير الصيام ممكن أن يؤديها غير المسلم لغير الله، فمثلاً:
جباية الأموال والتقرب بها إلى الطواغيت وقع في التاريخ.
السجود والركوع تعظيم ذوات وقع في التاريخ.
الطواف حول القبور، حول أضرحة، حول مشاهد، حول أقوام وقع في التاريخ.
لكن لم يقع في التاريخ أن أحداً صام لأحد؛ لأنه هذا سيكلف من صيم لأجله عناء المراقبة حتى وهي عبادة سرية.
لكن المؤمن يصوم لله ويراقب نفسه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
فالعبودية تعني أن يسلم الإنسان قلبه لله، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125].
فسواء جهلنا الحكم والعلل أو فقهناها، هذا لا يغير من أننا عبيد للرب جل وعلا، يقول الله: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، وقال: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
فقانتون الأول معناه خضوع قدري، وهذا يدخل فيه كل الخلائق من مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، وأما القنوت الثاني فهو قنوت طاعة وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، أي: طائعين وهذا وصف لأهل الإيمان فقط، فالصيام المقصود منه ليس اجتهاد البدن كما يقول بعض أهل الفضل في تحليلهم، وإنما المقصود به تهذيب النفس.
ولهذا لو كان المقصود من الصيام إجهاد البدن لكان يجب على المسافر، ويجب على المريض؛ حتى يكون أقرب إلى إجهاد بدنه.
لكن المقصود: السمو بالنفس والرقي بها إلى عالم الكمال؛ لأنه إذا كانت حولك كثير من المباحات تنظر إليها، وتملك أمرها، وليس ثمت رقيب إلا الجبار جل جلاله ثم تعظمه بأن تستسلم لأمره، ثم تعظمه بأن تفزع إلى الإفطار حال الغروب تعظيماً لأمره، فهذه هي العبادة التي أرادها الله جل وعلا من خلقه.
القلب مضغة: إذا أصلحها الإنسان وجعلها رهناً لأمر الله وإشارته وامتثل بها فاز بسعادة الدارين، والذي يخاطب بهذه العبادة هو المسلم؛ لأن الصيام عبادة إسلامية لا تراد من الكفار ولا تقبل منهم ولا تصح منهم.
ويخاطب بها العاقل؛ لأن المجنون اختل فيه مناط التكليف، أما الصغار فيربون عليها كعهد السلف وأبناء الصحابة.
ويخاطب بها المقيم؛ لأن المسافر عذره الله، وإن صام صح صيامه، ويخاطب بها الصحيح؛ لأن المريض عذره الله، فإن صام صح صيامه.
ثم نأتي لعالم النساء: فالحائض والنفساء لا يقبل منهما ولا تخاطبان به ولا يقع منهما، ولو صامتا لم يصح صيامهما ويلزمهما القضاء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة)، أي: وقاية، والله يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
فمن أعظم ما يجلب التقوى ويسمو بالنفس في عالم الكمال الصيام.
وكمال النفس في قربها من ربها وتقواها لخالقها وبارئها، ويحقق ذلك الصوم الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بصيام تطوع، أما في صيام الفريضة فلا خيار إلا بعذر، وقد قال الذهبي رحمه الله كلمة تكتب بماء العينين لا بماء النقدين؛ قال رحمه الله تعالى: وعند المسلمين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر فهو شر من الزاني ومدمن الخمر ويظنون به الزندقة والانحلال.
فهذه العبارة من الإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه تبين ما استقر في أنفس المسلمين من أن الصوم عبادة عظيمة لديهم، وهذا حتى يعرف المؤمن أي خطاب عظيم خاطب الله به لما نادى عباده نداء كرامة لا نداء ملامة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
الشيخ: لا بد أن تكون هناك رغبة ملحة في القدوم على الله جل وعلا بعمل صالح، فإذا انطلق الإنسان من هذا المنطلق وجعل ذلك نصب عينيه فقد وفق بإذن الله تعالى للعمل الصالح في رمضان، والإنسان لا يحمل فوق كاهله أعظم من ذنوبه، نسأل الله لنا ولكم العافية.
فجعل الله جل وعلا رمضان فرصة للتكفير، قال عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، فإذا عمر رمضان بالطاعات وذكر الله جل وعلا ودراسة القرآن وما فيه من سنن سنها المصطفى صلى الله عليه وسلم مع كثرة الاستغفار فاز بالمغفرة، والصوم نفسه من أعظم المكفرات ومن أعظم الشفعاء يوم القيامة، فإذا تم هذا الفضل من الإنسان وفق في الدارين.
فأعظم استعداد أن يسأل العبد التوفيق من الله جل وعلا في أن يوفقه لصيام رمضان وقيامه على الوجه الأمثل والطريقة الأكمل.
أما بعض الأمور التي تساعد على الصيام فالأخذ بها أخذ بالأسباب المحمودة شرعاً نسأل الله التوفيق.
الشيخ: هناك أشياء تبطل الصيام بالكلية، بمعنى: أن من صنعها يعتبر مفطراً في رمضان يجب عليه القضاء، وهناك أمور أخرى منقصة فلا نلزمه بالقضاء، وإنما تقدح في صومه وتقلل من أجره، لكن الصناعة الفقهية تقتضي ألا نقول له: اقض ذلك اليوم. هذا أمر يجب استيعابه في تحليل الأمور.
أما الأول: فالمفطرات على النحو التالي: إما أن تكون جماعاً، فإذا كان جماعاً فهذا الذي فيه القضاء بالإضافة إلى الكفارة، والكفارة عتق رقبة فإن عجز انتقل إلى صيام شهرين متتابعين، ثم ينتقل إن عجز إلى إطعام (60) مسكيناً.
وهذا الترتيب واجب عند أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: بعدم الترتيب.
ونعني بالجماع: الجماع المعروف الكامل، وهو إدخال الحشفة المعروفة في مكانها المعروف.
أما إذا أنزل الرجل من مداعبة لزوجته دون أن يكون هناك إيلاج فهذا فيه الإثم والقضاء وليس فيه الكفارة. هذا ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل وزوجته.
أما غيره من المفطرات فيندرج فيه الأكل والشرب، ونقول من حيث الجملة: وصول شيء إلى الجوف.
فإذا وصل شيء إلى الجوف نافعاً أو ضاراً غذاء أو دواء أو غير ذلك فهذا مفطر إذا فعل ذلك عمداً.
أما ما يفعله الإنسان نسياناً فهذا رفعه الله جل وعلا عن الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أطعمك الله وسقاك)، كذلك ما يدخل بغير اختيار كالغبار فهذا لا يعتبر مفطراً.
أما قضية بلع الريق فالأفضل ألا يفعله؛ لكن لو فعله لم يفطر.
واختلف العلماء في النخامة، والأرجح فيما نعلم -والعلم عند الله- أنها غير مفطرة.
إذا كان الإنسان يفكر تفكيراً فغلبت عليه شهوته فأنزل، فلا يخلو من أحد حالين: إما أن ينزل منياً أو ينزل مذياً، فإن أنزل منياً أفطر، وإن أنزل مذياً فاختلف العلماء فيه هل يلحق بالمني أو يلحق بالبول، والذي يترجح عندنا والعلم عند الله أنه لا يفطر، وعليه أن يغسل فرجه وما حوله.
نأتي للحائض والنفساء، وقد تقدم أنه لا يقع منهما الصوم.
والحديث عن الحائض والنفساء يسوق إلى الحديث عن الحامل والمرضع، إذا أفطرتا، بعض الفقهاء يقول: ينظر في السبب في إفطارهما، هل هو خوف على نفسيهما أو خوف على ولديهما؟ فقالوا: إن خافت على نفسها يلزمها القضاء دون الكفارة -والكفارة هنا ليست كفارة الجماع، وإنما هي إطعام مسكين مداً- ويلزمها الكفارة إن خافت على الولد لا على نفسها، لأنهم اعتبروها أنها صحيحة.
وبعض الفقهاء كـإبراهيم النخعي وإليه مال البخاري في ترجمته للباب أنه لا كفارة عليهما ولو خافتا على الولد؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ولم يشترط الله جل وعلا الكفارة، وإنما اشترط الرب تبارك وتعالى القضاء وحده.
هذا ما يتعلق بجملة المفطرات التي تحول بين المرء وبين أداء رمضان صياماً على الوجه الأكمل.
بقي ما ينقص الصوم أي: ما يقلل من أجره، لكن لا نقول لمن فعله: يلزمك القضاء، ونحن نتكلم عن الصناعة الفقهية ولا نتكلم عن القبول عند الرب تبارك وتعالى، فهذا أمر أخفاه الله جل وعلا على عباده.
مثال هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، النظر إلى المحرمات، الغيبة، النميمة كل معصية تخدش الصيام وتنقص من أجره.
الصيام عبادة تقوم على الحبس، والإنسان إذا قدر على حبس نفسه عما حرم الله تحريماً مؤبداً كالمحرمات، أو تحريماً مؤقتاً كالصيام عن الطعام والشراب، فهو تعظيم لله:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عاقبته أحلى من العسل
الشيخ: من احتلم نائماً فصيامه صحيح؛ لأن الإنسان ليست له سيطرة على نفسه في النوم، والله جل وعلا رفع قلم التكليف عنه، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث علي : (رفع القلم عن ثلاث .. وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ).
الشيخ: نعم، يزيد الإيمان وينقص عند أهل السنة، سلك الله بنا وبكم سبيلهم، فهم يرون أن الإيمان يزيد وينقص وهذا هو الحق، وقد دل عليه نصوص القرآن ونصوص السنة، فيزيد الإيمان بالعمل الصالح وينقص بالمعاصي.
والله قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد:17]، وقال جل وعلا: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة:124]، إلى غيرها من النصوص.
والإنسان إذا عظم الله في قلبه ونشأ عن ذلك ذكر الله فذكر الله حياة الضمائر، وأنس السرائر.
الشيخ: قطرة الأنف اختلف المعاصرون فيها وتركها أولى.
أما البخاخ فهو أقرب إلى عدم التفطير.
الشيخ: التحليل المعروف الذي يقع في المختبرات تكون كمية الدم التي تؤخذ لا تصل إلى حد أنها تبطل الصيام، فالصيام صحيح مع التحليل، ولا يفطر مثل هذا التحليل.
إنما العلماء اختلفوا في الحجامة لأنها كمية دم كثيرة تخرج، فالجمهور على أنها لا تفطر، والمذهب أنها من المفطرات.
وأيضاً: الحال التي قد تحصل للمسلمين والمسلمات قبل أو بعد رمضان؟
الشيخ: تدارس القرآن في رمضان من أعظم السنن، ودل عليه حديث أن جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام مرة، حتى كان العام الذي مات فيه فدارسه القرآن مرتين صلوات الله وسلامه عليه.
ويؤيده قبل ذلك قول الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، ثم قال جل ذكره: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، قال العلماء: لما أراد الله أن يمهد لفضل رمضان، ويبين سبباً من أسباب شرع الصيام فيه ابتدأ بذكر نزول القرآن في رمضان على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا كذلك ما في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للمؤمن يوم القيامة).
وهناك تلازم شرعي بين الصيام والقرآن، ولهذا كان جبريل يتوخى رمضان فيزيد من مدارسة القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فجبريل رواح غداء بالوحي.
يجب أن يستقر في الأذهان، والأفهام، والقلوب من قبل ومن بعد أن القرآن أعظم كلام؛ لأنه كلام رب العزة وأن السبيل إلى رحمة رب العزة تدبر كلامه ودراسة تلك الآيات الجليلات التي أنزلها الله على خير خلقه.
تدارس القرآن تلاوته، تدبره، محاولة حفظه، فقه الآيات التي فيه خاصة تلك الآيات التي تعنى بشئون العقيدة، وتبين أن الرب الله لا رب غيره ولا إله سواه، وأن ما يدعى من دونه باطل، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23]، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، إلى غير ذلك من الآيات التي ترسخ مفهوم العقيدة الصحيحة في النفس، ثم تلك الآيات التي تبين العبادات، وتلك الآيات التي تبين ما يسمو بالأخلاق في الناس، وورد عن مالك رحمه الله أنه كان إذا جاء شهر رمضان عكف على القرآن يتلوه.
لكن ينبغي أن تكون قراءة القرآن قراءة تدبر لا قراءة هذا ليقول الأخ لأخيه أو القرين لقرينه أو لصديقه: لقد ختمت وأنت لم تختم بعد، هذا ليس مقصوداً شرعياً.
وبعضهم يختم مرتين أو ثلاثاً؛ وهذا محمود إذا كان مرتبطاً بالتدبر والفهم للقرآن، فيخصص الإنسان وقتاً للتلاوة، ووقتاً لفهم تلك الآيات، يقرأ في كتب التفسير ويتدارس القرآن حتى يعمل بتلك الآيات، ويحسن بالأئمة في دروسهم العكوف على بعض الآيات وتدارسها وذكرها وتوضيحها للناس.
لا يكون الخطاب الدعوي أو الخطاب العلمي أمراً ونهياً، كيف يترك وكيف يأتي، ينهى وهو أصلاً لم تستقر جذوة الإيمان في قلبه، ولن تعلو جذوة الإيمان في قلب أحد حتى يكون متدبراً للقرآن يقول الله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [الحشر:21].
فالقرآن أعظم كتاب أنزله الله على أعظم نبي، وتدبره من أعظم ما يقرب من الرب تبارك وتعالى في رمضان وفي غيره، لكن يتأكد تدارسه في رمضان.
الشيخ: هذا فهم مغلوط؛ لكنه إن تعذر عليه القراءة إلا في رمضان فيقرأ في رمضان وإلا فالقرآن يدرس في جميع السنة.
الشيخ: نبدأ بعد القرآن بالصدقة؛ لأن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان) ، الإنسان عندما يعطي إنما يقول لنفسه: أنا واثق من عطاء الله.
فأكثر العباد حسن ظن بربهم هم أكثر العباد إنفاقاً؛ لأنهم يعلمون أن ما ينفقونه سيخلفه الله جل وعلا لهم في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الآخرة: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
فظن الإنسان بربه أن الرب قادر على العطاء جواد كريم هو الذي يجعله ينفق، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان إذا لقيه جبريل) ؛ لأن جبريل يزيد فيه بعث الخير.
فالصدقة في غير رمضان محبوبة، وهي في رمضان أوكد لورود الأثر بها، وقد جاء رجل إلى عمر فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنة أقسمت بالله لتفعلنه
قال عمر : وإن لم أفعل يكون ماذا؟
قال: إذاً أبا حفص لأمضينه.
قال: إذا مضيت يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفص لتسألنه يوم تكون الأعطيات جنة
وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما جنة
فأعطاه عمر قميصه وقال: خذه والله الذي لا إله غيره لا أملك غيره!
مقصودنا من هذا كله: أن الصدقة تطفئ غضب الرب كما جاء في الأثر، والنبي عليه الصلاة والسلام حث عليها معاذاً في الحديث المشهور لما ذكر له طرائق الخير وبيان أفعال المعروف، فالصدقة في رمضان محمودة، لكن الناس يقصرونها في زماننا على أمور معينة.
المقدم: الصدقة تجعلنا نتحدث عن انتشار ظاهرة التسول، فهل يبني الإنسان على فضل الله عز وجل فيتصدق ولا يتحرى حال السائل؟
الشيخ: النبي صلى الله عليه وسلم بين للرجلين أوصاف الصدقة ثم قال: (إن شئتما أعطيتكما، وإن شئتما منعتكما)، لكن قال بعض العلماء: إنه لا يلزمه التحري، وقد سمعت هذا من الشيخ العلامة ابن باز غفر الله له ورحمه.
لكن لا يلزم شيء والأفضل شيء آخر.
الشيخ: تعجيل الإفطار سنة، ورد في الأثر: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل الفطر فيفطر قبل أن يصلي المغرب.
وقد جاءت السنة في طريقة الفطر أنه يبدأ بالرطب فإن لم يتيسر فبالتمر، فإن لم يتيسر فبالماء، وقد ذكر الترمذي رحمه الله صيغة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر في الشتاء على الرطب والتمر -يعني: يبدأ بهما-وفي الصيف يبدأ بالماء، لكن كما قلت: ليس هناك نص ثابت.
المقصود: أن تعجيل الفطر فيه إشعار عظيم للنفس أنني عندما أمتنع عن الأكل والشرب فأنا لا أمتنع بقوة بدنية أو لأن الطبيب أمرني بذلك، إنما امتنعت عن الأكل والشرب مع حاجتي إليهما تلبية لأمر ربي، فلما جاء الإذن الإلهي الرباني أن أذهب وأفطر بادرت حتى أشعر نفسي أنني عبد لله يأتمر بأمره وينتهي عند نهيه.
لهذا ورد في الأثر: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)، ما الفطر؟ الطعام الذي نأكله والشراب الذي نشربه هو رحمة وفضل من الرب تبارك وتعالى، فأنا عندما أسارع إلى الشراب والطعام أسارع إلى رحمة الله وفضله، وإلى ما أباحه الله جل وعلا لي، فأنا في حال الصيام عبد وفي حال الإفطار عبد، في كلا الحالتين أمتثل للرب جل جلاله.
أما ما يتعلق بالسحور فقد قال عليه الصلاة والسلام: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تسحروا فإن في السحور بركة).
قوله عليه الصلاة والسلام: (تسحروا)، هذا ندب، ولو لم يتسحر صح صيامه؛ لكن كفى بالمرء شرفاً وفخراً أن يمتثل سنة أحمد صلوات الله وسلامه عليه في أكل طعام يصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بركة وأن في أكله مخالفة لأصحاب الجحيم.
فالإنسان يتمثل بذلك السنة فيجد بذلك البركة، ويخالف أهل الكتاب، وهناك مصالح شرعية عظيمة تتحقق من أكلة السحور.
الشيخ: شهر رمضان جملة عبادة، والعبد لن يصل إلى رحمة ربه إلا برحمة الله، ومن رحمة الله أن يهيئ له طرائق العبادة، ونقول: قيام الليل منقبة عظيمة لأهل الصلاح في سائر أيامهم، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، وصلاة التراويح أول من شرعها لهذه الأمة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام حاثاً أمته ودالاً لها على الخير: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، فأداء صلاة التراويح من أعظم ما يكفر الله جل وعلا به الخطايا، من صلى مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
ثم إن التدرج في العبادة أمر مشروع مسنون، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يجتهد في العشر الأول، ثم يجتهد في الوسطى أكثر مما يجتهد في الأول، ثم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهده فيما سلف، وعلى هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تتحرى ليلة القدر، والله يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، هذه الليلة ليلة مباركة جعل الله العبادة فيها بألف شهر رحمة من الله؛ لكن هذه الليلة ليست مختصة بهذه الأمة كما فهم بعض الأفاضل، وإنما سئل النبي صلى الله عليه وسلم هل رفعت مع الأنبياء من قبل؟ قال: لا. مما يدل على أنها كانت موجودة من قبل.
أما ما ورد من آثار فإن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته، ثم أكرمه الله جل وعلا بهذه الليلة، فهذا خلاف الصحيح على ما نعلم.
نعود فنقول: إن الإنسان بقيامه الليل، ووقوفه بين يدي ربه إنما يتحرى فضلاً ويرجو جنة ويخشى ناراً، والله جل وعلا كريم، حليم، ذو فضل، من وقف بين يديه كان أهلاً لفضله جل وعلا ورحمته، يقول الله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان:25-26]، ثم قال تبارك وتعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27].
أما الاعتكاف فإن الإنسان عندما يترك الخلائق وينصرف ليتلمس ويتحرى رحمة الخالق جل وعلا بعد أن قطع العلائق مع الخلائق؛ هذا عبد من الله عليه بالفضل، وهي سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، تقول عائشة في بيان فضله صلى الله عليه وسلم وبيان عبادته لربه في رمضان: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخلت العشر أيقظ أهله، وأحيا ليله، وشد المئزر)، والمقصود من هذه العبارات الثلاث الانصراف إلى العبادة.
واعتكف صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه من بعده.
فرمضان نهاره صيام وليله قيام، خاصة العشر الأواخر منه، هذه جملة تقرب إلى الرب تبارك وتعالى؛ لكني أقول: ينبغي للأئمة عافانا الله وإياهم أن يعلموا الهدف الأعظم من قيام الليل، فليست القضية هي قضية ختم القرآن عاجلاً، وإنما تدبر القرآن.
والمبلغات في رفع الصوت أو الصياح في الدعاء أو التكلف غير المحمود أو الإطالة في القنوت، هذا كله خلاف الهدي، ويغلب عليه التصنع، والله جل وعلا يقول عن عبده ورسوله ونبيه: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، رحمة الله لا تطلب بالعويل ولا تطلب بالصراخ، ولا تطلب بالسجع، ولا تطلب بلفت أنظار الناس، وإنما تطلب كما طلبها الصالحون: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، تطلب بأمثال هذا؛ لأن الإنسان يحاول أن يسمع غيره خاصة في ظل الأجهزة المعاصرة حتى يستقيم تعاطفهم معه إيمانياً، ثم بعد ذلك من غير إطالة ومن غير تكلف ومن غير تفصيلات لا يحتاج المرء إليها، وإنما يختار جوامع الدعاء، وما قاله الليلة يأتي بغيره غداً حتى يبعد عن الناس الملل والسآمة.
وبعض الناس كلما مر على آية فيها ذكر جهنم أو النار صرخ فيها وعول وأعاد القراءة يحاول أن يبحث عن البكاء وهو لن يأتي بطريقة كهذه، لكن لا بد أن تستقر في القلوب عظمة الله.
فإذا استقرت في القلوب عظمة الله تأتي أشياء كثيرة من هذه، لكنك ترى أحياناً من بعض أهل الفضل -ولا يتهم الناس في نياتهم، ونحن نتكلم من باب الإرشاد ونعلم أن الجميع خير منا وأتقى وأفضل؛ لكن نقول: من العلم الذي أوجب الله على أهل العلم أن يبينوه للناس أن الإنسان يقرأ القرآن قراءة متدبر متأمل، فهذا هو الذي يقود إلى فضل الله تبارك وتعالى ورحمته.
الشيخ: الإنسان لا بد أن يكون فقيهاً قبل أن يكون عابداً، وقد قال بعض الفقهاء: إن جريجاً الذي ورد في الحديث أنه هدمت صومعته لم يكن فقيهاً فلذلك لم يستجب لأمه، فلا يجوز شرعاً أن يقدم الاعتكاف على حق الوالدين؛ لأن الاعتكاف سنة وطاعة الوالدين واجب في غير معصية الله.
فالذين يصنعون مثل هذا أو يتركون وراءهم أسراً تهمل وتضيع لم يوفقوا للصواب في الاختيار، وإنما كان يجب عليهم أن يتقوا الله جل وعلا في ذرياتهم وأن يجمعوا بين العبادة ورعاية الأسرة.
الشيخ: شهر رمضان فأل خير على الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهزم في رمضان يعني: ينبغي أن نقرأ التاريخ قراءة صحيحة، لكن بقدر الله ورحمته كان رمضان فأل خير، وكذلك أخبر عمر ، فغزوة بدر هي الأولى وفتح مكة هي الأخرى مع قريش.
فغزوة بدر كانت في رمضان وفتح مكة كان في رمضان، الذي يعنينا أن شهر رمضان ارتبط بالانتصارات، وأنه نوع من الفأل الحسن والمحمود للأمة.
والأمة ينبغي أن ترفع عن نفسها الذل لكن بالعمل الصالح، والطاعة لربها تبارك وتعالى، والرجوع إلى هديه في الكتاب والسنة، لا بالانفعالات والحماسات والعبارات التي تؤخر أكثر مما تقدم.
الشيخ: الله جل وعلا قال في حق الأخيار: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وقال في حق الأخيار: أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، وقال في حق الأشرار: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41].
كلا الفريقين موجود في الساحة اليوم، فهناك أخيار إذا أقبل رمضان ساقوا الخير إلى الناس وعرفوهم بربهم، وهناك فجار إذا أقبل رمضان سخروا ما تحت أيديهم من فضول أموال أو قدرات أو إعلام أو غير ذلك لصرف الناس عن عبادة ربهم، فيزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فيتنافس بعضهم مع بعض على الخسران المبين.
وهؤلاء والعياذ بالله على خطر عظيم جداً أن يجعلوا من هذا الشهر الذي كان نبيهم صلى الله عليه وسلم يصوم نهاره ويقوم أكثر ليله، ويتعبد الله فيه يرجو رحماته؛ جعلوه طرائق لإضلال الناس، ثم لم يكتفوا بذلك بل وسموه بالشهر فيجعلون الفاصل ما بين فلم وآخر رمضان كريم، وهذا والعياذ بالله عدم معرفة بنقمة الجبار جل جلاله، وإلا والله لو عرفوا عظيم نقمته جل وعلا لما حاربوه بمثل هذا.
هذا يقال للقائمين على الإعلام المذموم، وليس كل إعلام مذموماً.
أما المستهدف للناس فإنه يوم القيامة لا تحمل وازرة وزر أخرى، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، فالمؤمن والعاقل يعلم أن رمضان أيام معدودات والعمر كله زهرة حائلة ونعمة زائلة ولا بد من لقاء الله، يحل عن الميت أربطة الكفن، ثم ينصب عليه اللبن، ثم يحثى عليه التراب، ثم يخلى بينه وبين عمله، فيصور له عمله -إن كان صالحاً- في هيئة طيبة، ويصور له عمله -إن كان سيئاً- في حالة سيئة، فالأول يقول: أنا عملك الصالح، والثاني يقول: أنا عملك السيئ، وما رمضان في حقيقته إلا وعاء زمني يتقرب فيه المتقربون وينأى فيه الضالون، وقد دعا جبريل: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان فلم يدخله الجنة.
والعاقل الذي يعرف فضيلة الشهر وحرمته، فلا يجعل من ذلك الشهر ميداناً للسباق في النظر إلى ما حرمه الرب تبارك وتعالى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الشيخ: فالصيام كما حررناه في الأول يسمو بالنفس ويجعلها ذات قدرة على الانتصار على رغباتها وشهواتها وطموحها المنفعلة، والإنسان عليه في مخاطبته للمؤمنين أن يقول كما قال الله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، فالصيام أعظم ما يأمرنا به الله جل وعلا أن نهذب أنفسنا: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: اللهم إني صائم)، حتى يبين له أنه متمسك بهدي الله لا يستطيع أن يجاريه في طرائق الشيطان.
أما الناحية الوظيفية فأنا أنصح المعلمين وأقول: ما عليكم أدوه قدر الإمكان على الوجه الأكمل، ولا ريب أن الصيام فيه إضعاف للبدن، ولهذا أسقطه الله عن المريض والمسافر، لكن الإنسان مأجور عليه؛ لأن الحبس عن الطعام والشراب فيه إضعاف للقوة، فلا يحسن المبالغة في الواجبات المدرسية، والمبالغة في التكاليف، وما تصنعه بعض المدارس من جبر الطلاب بطرائق لي الذراع وإجراء اختبارات هذا أمر غير مستحسن.
لكن ينبه الطلاب على أن رمضان لا يعني ترك العمل ولا ترك العطاء لكن ليس بطريقة التعسف، فإن أغلب الطلاب في التعليم العام دون سن التكليف، فينبغي أن يساعدوا على الطاعة، خاصة في المرحلة الابتدائية، فلا يأتي مدرس ليكثر من التكاليف والواجبات حتى لا يرهقه، وحتى يعينه على طاعة الله تبارك وتعالى.
هذه قضية أساسية، الطلاب الذين في الجامعات بعضهم ذوو غربة في السكن فهو قد يتعب كثيراً في إيجاد إفطاره أو إعداد سحوره، فعندما يأتي أستاذنا الجامعي يكثر من التكاليف في البحوث في رمضان، أنا أعتقد أنه أمر غير محمول.
نعم. تكون الحصة حصة مدارسة وأخذ وعطاء فهذا لا بأس به، لكن لا يكون هناك تكاليف خارجية؛ لأنه شهر عبادة بمعنى: أنني لا أربط الطالب أياً كانت مرحلته التعليمية خارج الدوام بأمور حتى لا أشغله عن طاعة الله؛ حتى لا نعيش مجتمعاً متناقضاً، فمثلاً: أدخل عند الإمام في خطيب الجمعة وهو يقول: إن رمضان شهر في القيام، ويأتيني بالسنن، وأنا مؤمن بصحة كلامه، ثم يأتيني المعلم يقول: ليس رمضان شهر كسل، فاذهب في الليل لتكتب دروسك وتحل واجباتك وتعد أبحاثك، ثم يأتيني آخر يقول: أنا إنما أصنعه لربي.
فينبغي أن يكون الخطاب خطاب عقل متزن فتكون الدروس في المحاضرات متناسبة داخل الحصة وداخل المحاضرة، لكن لا يكون هناك تكليف قدر الإمكان، هذه رؤيا شخصية قد تحمل الصواب وتحمل الخطأ.
الشيخ: أولاً: أسأل الله جل وعلا أن يشفيه ويعافيه.
ثم إن الله جل وعلا أعذر المرضى، وهؤلاء الذين فيهم أمراض دائمة لهم رخصة أن يفطروا دائماً ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، لكن تحقيق ذلك بأن يذهب إلى الطبيب، فإذا قال له طبيبان مسلمان ناصحان إن الصوم يضره ولا يمكنه أن يصوم، فليفطر وليطعم عن كل يوم مسكيناً.
الشيخ: إن كان يريد لقاء الله فإن أجر الله لآت، والوقوف بين يدي الله أمر حتمي، سواء كان المرء صالحاً أو كان فاجراً، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، استحضار هذا وأمثاله يجعل المؤمن يتخذ من رمضان طريقاً إلى رحمة ربي تبارك وتعالى.
فيبدأ أول ما يبدأ بالتوبة إلى الله جل وعلا، فهي وظيفة العمر خاطب الله بها عباده أجمعين: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31].
والاستغفار أعظم ما يجلب رحمة الله، قال الله تبارك وتعالى: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، ورمضان مطية وأي مطية، وهو شهر مبارك.
أنزل الله جل وعلا فيه كتابه، وصامه وقامه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والصالحون من أمته يتأسون بهديه ويقتفون آثاره عليه الصلاة والسلام، والمرء لا بد له أن يترك الدنيا وراءه وأن يقف بين يدي الله، وأن يخلى بينه وبين عمله، ويساق الناس بين يدي الله جل وعلا فالأخيار إلى الجنة والفجار إلى النار، عندها يتحسر المقصرون.
والله لما ذكر الصالحين من خلقه قال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102]، ثم قال: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].
طوبى لعبد جعل من رمضان مطية إلى رحمة الله جل وعلا وفضله، بر فيه والديه وصام الشهر في المقام الأول، وتعبد الله جل وعلا بهذا الصيام إيماناً واحتساباً، فإذا قدر له أن يؤدي عمرة في رمضان فإنها تعدل حجة، وفي رواية: تعدل حجة معي.
من الله جل وعلا عليه بتلاوة القرآن وتدارسه، فجعل من ليله حظاً ونصيباً، وقف فيه بين يدي ربه يسأله ويدعوه ويعبده ويرجوه لا رب غيره ولا إله سواه، كانت له في السجود دعوات وتسبيحات يرفعها إلى ربه تبارك وتعالى، يتضرع بها إليه ويسأله جل وعلا من رحمته تبارك وتعالى.
هذا وأمثاله مما يجعل العبد قد عرف قدر ربه فيعظمه ويعبده، نسأل الله أن يرزقنا فيه والمسلمين جميعاً العمل الصالح والعلم النافع وما يقربنا إليه، إن ربي لسميع الدعاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر