إسلام ويب

سلسلة القطوف الدانية - الحكمةللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الحكمة كنز عظيم، من حازه فقد حاز خيراً كثيراً، ومن افتقده فقد خسر كثيراً، وقد كان أنبياء الله ورسله حكماء في دعوتهم للناس ومعاملتهم معهم. وكذلك عبر التاريخ وجد أناس حكماء كان لهم أثر كبير في قول الحكمة ونشرها وتطبيقها. وفي المقابل هناك من كان يقول الحكم الجليلة ومع ذلك لم يتمثل ذلك في حياته، بل كانت حياته خبط عشواء لا تظهر فيها الحكمة.

    1.   

    المراد بالحكمة

    الملقي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    وأهلاً ومرحباً بكم في حلقه جديدة من برنامجكم: القطوف الدانية، والذي يأتيكم ثاني إثنين من كل شهر، وفي مستهل هذا اللقاء أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صيام يوم عاشوراء ..

    أيها الأحبة!

    نتحدث في هذه الحلقة عن صفة لها مكانة عظيمة في دين الله، وفي نفوس العقلاء من البشر، متى اتصفت بها الأقوال والأفعال صار لها قدر وقيمة, هذه الصفة ليست مجرد معلومات يختزنها الإنسان في فكره كأي شيء مما يبني الفكر أو يثيره، وليست أسلوباً مميزاً في الممارسة العملية للأشياء في المجالات الخاصة والعامة, وهي أيضاً لا تعد حالة داخلية تطبع شخصية الإنسان فتجعل منه عنصراً فاعلاً في تدبر الحياة وتنميتها على أساس متين, بل هي مجموعة من كل هذه العناصر اتصف بها الرب، ووصف بها الوحي المنزل منه، وأكرم بها بعض خلقه، محاسنها كثيرة، يبينها مثل قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].

    فالحكمة هي موضوع حوارنا في هذه الحلقة مع ضيفنا فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي خطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    وفي مستهل هذه الحلقة يشرفني باسمكم جميعاً أن أرحب بضيفنا.

    وأرحب بكم مشاهدي الكرام، وأرحب بمشاركاتكم معنا في هذا البرنامج من خلال متابعاتكم لهذه الحلقة، وأيضاً من خلال مشاركاتكم على موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، ونسعد كثيراً بتواصلكم مع المنتدى المخصص لهذا البرنامج، وأيضاً نسعد بأن تصل إلينا مقترحاتكم ومشاركاتكم عن طريق رقم الجوال الذي خصص لهذا البرنامج.

    حديثنا كما ذكرت آنفاً سيكون عن الحكمة، وقبل أن أبدأ في محاوري يسرني أن أرحب بالإخوة والأخوات الذين يتابعونا على موقع الإنترنت، وأخص بذلك موقع البث الإسلامي، وموقع المسك، وأشكر أيضاً الإخوة القائمين على موقع صيد الفوائد والذين قاموا مشكورين بالإعلان عن هذه الحلقة.

    فالحكمة أسأل الله عز وجل أن تكون صفة لنا جميعاً، وأن ييسر لنا عرضها عرضاً مفيداً ومثمراً.

    شيخ صالح قبل أن أبدأ في المحاور التفصيلية لهذا الموضوع لا شك أن هذا الموضوع موضوع مهم، وقبل أن نتكلم فيه كلاماً بشرياً لعلنا نؤصله تأصيلاً شرعياً فالآيات والأحاديث التي نصت على هذه الصفة وبينتها وشرحتها كثيرة، فإذا أذنتم لي أن أستعرض أهم هذه الآيات وأهم الأحاديث، ثم نبين المراد منها.

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته, فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته.

    أما بعد:

    أولاً: نكرر الترحيب بالإخوة المشاهدين، ونسال الله أن يوفقنا فيما نقول في هذا اليوم الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً صالحاً، فقد نجى الله فيه عبداً صالحاً وهو: موسى بن عمران ومن معه من المؤمنين.

    1.   

    تعريف الحكمة

    والحكمة: كل عمل ينجم من ورائه فائدة، وليس عبثاً في ذاته، فهو يدل على حكمة فاعله.

    ومن أظهر الأدلة على هذا أن الله جل وعلا أخبر أنه خلق الثقلين لحكمة عظيمة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال في سورة أخرى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]، فلما نزه الله جل وعلا خلقه وصنيعه عن العبث دل على أنه صنعه لحكمة، ويظهر من هذا أن الحكمة هي: أي عمل أو قول يوضع في وضعه الصحيح، فينجم عنه ثمرة عاجلة أو آجلة، دنيويه أو أخروية، وهذا شيء نسبي فكلما كانت فعال الإنسان أقرب إلى الثمرة في العاجل والآجل دلت على حكمته، وكلما كانت فعال الإنسان لا ثمرة لها عاجلاً أو آجلاً دلت على عبثه وخلوه من الحكمة.

    1.   

    إطلاقات الحكمة

    هذا من حيث المدخل للموضوع، على أن الحكمة تطلق بها ويراد بها غير الذي ذكرناه.

    يقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] والمقصود بالحكمة هنا السنة، أي: ليس لهذا المصطلح علاقة بالمصطلح الذي ذكرناه، وإن كانت معرفة السنة من الحكمة، لكن الله جل وعلا يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، وهذا إخبار من الخالق جل جلاله على أن الإنسان إذا وفقه الله جل وعلا للحكمة في قوله وفعله فقد منَّ الله عليه بالخير الوفير، وما أجمله القران تبينه السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لكن ذلك الإسراء مر بخطوات قبل أن يركب عليه الصلاة والسلام البراق، وقد دل عليها ما ثبت في الأحاديث الصحيحة:

    فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صدره، وأخرج قلبه، وملئ إيماناً وحكمة.

    قال العلماء ممن شرح هذا الحديث من أئمة الدين: دل ذلك على أن الحكمة أفضل ما يعطاه الإنسان بعد الإيمان؛ لأن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ما ملئ في تلك اللحظة التي هيئ فيها لأمر زائد في الرسالة ولرحلة عظيمة للملكوت الأعلى والمحل الأسمى إنما ملئ قلبه إيماناً وحكمة, فقالوا -أي أهل العلم-: إنه لو وجد شيء أعظم من الحكمة لملئ مع الإيمان، لكن لما قرن الله مابين الإيمان والحكمة في قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة الملائكة دل ذلك على أن الحكمة لها منزلتها العظيمة عند الله جل وعلا، وهي من الخير العظيم الذي يؤتيه الله جل وعلا من يشاء من عباده، وهي متلبسة في أفعال الصالحين وأخبار المتقين.

    هذا مجمل ما يمكن أن يقال في منطلق الأمر عن حاجة الناس لمعرفة الحكمة.

    1.   

    النسبية في الحكمة

    الملقي: أشرت قبل قليل في أثناء حديثك إلى مسألة النسبية في الحكمة، فهل هذه النسبية ترجع إلى الأفعال، بمعنى أن هذا الفعل قد يكون حكمة، أو ترجع إلى ذوات الأشخاص؟

    الشيخ: إن العمل نفسه تتخلله نسبية الحكمة، فالشخص يوصف بأنه حكيم إذا كان أكثر فعله موافقاً للصواب، وينجم عنه ثمرة ويتقي به مفسدة، ولذلك مع التجارب -كما سيأتي- تنطلق الحكمة في كلماته، فقد يقول الإنسان قولاً ينتفع به الناس ولا ينتفع به هو، فهو حكيم في قوله غير حكيم في فعله، لكن المهم أن يكون للعمل ثمرة، فهذا الذي يدل على الحكمة إما يتقى بها شر وإما يجلب بها خير. وهناك نقطة أساسية أننا لم نأت لنقول للناس: إن الحكمة واحد + اثنين = ثلاثة، ويشربونها كالماء، فإن هذا محال أن ينقلب الناس حكماء من لقاء تلفازي، لكننا نتكلم عن كيفية بناء العقل البشري ثقافياً مع الأيام ومع ما ذكرناه، ومع طرائق أخر يجمعها الإنسان لنفسه؛ ليصل بعد ذلك قدر الإمكان إلى منزلة الحكماء.

    الملقي: فيما يتعلق بالتأصيل، فإن الآيات كثيرة التي ذكرت الحكمة في كتاب الله عز وجل، ومن معانيها التي فسرها المفسرون على أنها السنة النبوية، فهل يفهم من ذلك أن الارتباط وثيق بين هذين المصدرين من مصادر الإسلام؟

    الشيخ: نعم، الكتاب والسنة مهيمنان على كل شيء، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً) فكتاب الله وسنه النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المصادر، وهناك قضية أساسية فسرت بها الحكمة وهي قضية التوحيد؛ لأن الله جل وعلا قال: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39]، قال المراغي رحمة الله عليه في تفسيره -وهو شيخ الأزهر السابق-: فهذا دليل على أن التوحيد رأس الدين كله، والحكمة رأسها توحيد الله جل وعلا، ولعل في ثنايا الحديث ما يأتي فيه التفصيل.

    1.   

    أركان الحكمة

    الملقي: نعود إلى الاستنباط من هذه الأدلة، وكما قلت: إننا لا يمكن أن نصنع الحكمة في هذا اللقاء؛ لكن هل يمكن لنا أن نضع أركان عامة يمكن من خلالها أن تتحقق هذه الصفة؟

    الشيخ: يقولون إن الحكمة لها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة.

    الركن الأول العلم

    فالعلم ضده الجهل الذي يعني عدم العلم؛ لأن الحلم كذلك ضده الجهل كما سيأتي.

    والعلم بالشيء يساعد على حسن التصرف فيه، فإذا أحسنا التصرف في الأمر دل ذلك على الحكمة، فمثلاً أهل الدعوة يحتاجون للعلم الشرعي حتى يدعون إلى الله بالحكمة، ولهذا قرن الله جل وعلا بينهما فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، وقال في آية أخرى -والقرآن يؤيد بعضه بعضا-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] أهل السياسة مثلاً من لم يكن له منهم باع علمي ومعرفة بالأحوال السياسية فإنه لا يمكن أن يتصرف تصرفاً صحيحاً، فلا بد من العلم حتى يكون الإنسان سياسياً موفقاً، والتاجر حتى يكون تاجراً حكيماً يستطيع أن يجلب الدينار والدرهم لنفسه لابد أن يكون على علم وبصيرة بوضع السوق، فالعلم مفتاح لكل ما نقصده، لكن كلما كان علم الإنسان شمولياً كان أقرب إلى الحكمة في تعامله مع الناس، وفي تجارته، وفي سياسته بحسب الموضع الذي هو فيه, فالحكمة ليست شيئاً أو صفة تحتاجها طائفة واحدة من الناس، فإن الزوج في تعامله مع زوجته يحتاج إلى الحكمة, ورب الأسرة في سياسته لأبنائه يحتاج إلى الحكمة، والداعية والخطيب في منبره ومحرابه، والسياسي في مكتبه، والتاجر في محله, كل أحد يحتاج إلى الحكمة؛ حتى لا يحكم على نفسه بالهلاك، وحتى يجني الثمار التي يريدها، والمؤمن في مسيرته إلى الله يحتاج إلى الحكمة، وأنا لا أحاول أن أستبق؛ لأن من الحكمة ألا ألقي بالأمور في أول اللقاء.

    فكلنا نحتاج إلى الحكمة، فمادام الجميع يحتاج إلى الحكمة فنبدأ بالعلم الخاص في القضية نفسها، والعلم الشمولي العام أوسع من ذلك، ولا شك أنه إذا وجد العلم الشمولي مع العلم بجهة الاختصاص فإننا نصل جميعاً إلى ما نريد، وهذا معنى قولهم: إن العلم أول أركان الحكمة.

    الملقي: كونه يا شيخ أول أركانها، هل يعني ذلك أنه لابد أن يكون العالم حكيماً؟

    الشيخ: نعم لابد أن يكون العالم حكيماً، لكن ليس كل عالم حكيماً، فكم من الناس من حملوا في صدورهم العلم وحفظ المتون ولكنهم لم يرزقوا حكمة، فيشترط حتى يسمى عالماً بالكلمة الشاملة لابد أن يكون فيه حكمة، يقول الله: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

    الركن الثاني الحلم

    أما الحلم -وهو الركن الثاني- فضده الجهل الذي بمعنى الغضب وسرعة الانفعال. يقول عمرو بن كلثوم :

    ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصاياه لبعض أصحابه: (لا تغضب)؛ لأن الانفعال والحماس الزائد نوع من الجهل، وهذا الجهل لا يمكن أن يوصف صاحبه بأنه حكيم؛ لأن الجهل والغضب ينجم عنهما سرعة التصرف، وسرعة التصرف غالباً لا تكون قد حسبت لكل شيء حسابه، ولم يفكر الإنسان في الثمرة عاجلاً أو آجلاً، فينجم عن ذلك التهور في القرار، وهذا ضد ما يسمى بالحكمة.

    الركن الثالث الأناة

    ثالثها: الأناة، وكل واحد له ارتباط مع بقية الثلاثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) والمقصود بالأناة: التريث، والأمور إذا كانت في العبادة التي فرضها الله فلا حاجة للتريث فيها، يقول الله جل وعلا على لسان الكليم موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، لكن في مجمل الأمور وفي عمومها يحتاج الإنسان إلى أناة وتريث؛ حتى يكون قراره صحيحاً قريباً من جادة الصواب.

    فهذه الأمور إذا اجتمعت في رجل فإنه يعلم في أي سياق هو، ولا يستطيع أحد أن يستفزه، فإذا وجدت هذه الثلاثة في شخصية رجل أو امرأة سواءً كان عالماً أو سياسياً أو تاجراً أو طالباً فإنه بهذه الطرائق الثلاثة يصل إلى الحكمة.

    فـمالك مثلاً أدرك نافعاً مولى ابن عمر ، وكان في نافع رحمه الله حدة، وقد أخذ بسبب مجاورته وخدمته لـابن عمر علماً جماً؛ لأن ابن عمر أخذ العلم الجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجة الناس إلى المقاربة من نافع كانت قوية لكن ليس كل أحد أعطي حكمة في قضية استخراج علم نافع المكنون؛ لأن نافعاً كانت به حدة، فـمالك رحمة الله تعالى عليه أعطي حكمة في استخراج علم نافع ، فكان يسوس نافعاً باللين ويتحمله ويستمع لقوله، وإذا أغلظ عليه نافع تقبلها مالك ، حتى استطاع مالك أن يجمع علماً جماً عن نافع ، وتصدر وجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويقول: حدثني نافع عن ابن عمر فنقل بذلك علماً جماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان علم مالك بهذه الطريقة وبهذه السلسلة الذهبية كما يسميها بعض المحدثين، وذلك أن مالكاً عرف بعلمه وحلمه وأناته كيف يصل إلى ذلك المكنون من العلم الذي كان في جعبة نافع رحمة الله تعالى عليه، وهذا من طرائق الحكمة.

    الملقي: قبل أن نخرج من هذه الأركان، نستقبل بعض الاتصالات.

    1.   

    بعض مواقف الرسول التي تتجلى فيها حكمته صلى الله عليه وسلم

    الملقي: طلب المتصل الأول من فضيلتكم ذكر بعض المواقف للنبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على حكمته وإن كانت كل مواقفه تدل على ذلك.

    الشيخ: أشكر المتصل على مداخلته القيمة، وعلى سؤاله الذي أراد به نفعاً لمن يشاهد ويسمع.

    أما ما ذكره من الطلب فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء بلا شك، وقد قلنا: إن الله جل وعلا بواسطة الملك جعل في قلبه الإيمان والحكمة، وكل أحواله صلى الله عليه وسلم كانت تتصف بالحكمة، وهو قصد قضية الثمار الآجلة التي لا تظهر في العمل، وهذه حدثت من أوائل الدعوة، فالله جل وعلا يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، فطلب منه القرشيون أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فجاءه جبريل وقال له: إن شئت جعلت الصفا ذهباً على أنهم إن لم يؤمنوا أهلكهم الله، أو تنتظر حتى يخرج الله من أصلابهم وأرحامهم من يعبد الله، فقبل صلى الله عليه وسلم أن يتهموه بالعجز بأنه ما أخرج لهم الصفا ذهباً على أن يكون من وراء ذلك أمم بعد ذلك تحمل الراية؛ حتى إن أبا سفيان الذي حمل الراية مراراً عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم حملها بعد ذلك رفعة للدين، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم.

    وأما قضية الحديبية فقد كان ظاهرها كما فهم عمر في بادي الرأي أنها وبال أو ذلة على المؤمنين، ثم نجم منها أن دخل الناس في دين الله أفواجاً في أيام الصلح، وهذا كله يدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وذكرنا مراراً أنه في دخوله المدينة عليه الصلاة والسلام لم يقبل دعوة الأوس ولا الخزرج أن يفيء إلى إحدى القبيلتين، وإنما كان يقول: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة) حتى لا يقولن أحد أنه بايع الآخر من أول يوم، هذا كله من دلائل حكمته صلوات الله وسلامه عليه الله وسلامه عليه، والسيرة حافلة بذلك، ولا أريد أن أكرر ما هو ذائع مشتهر.

    1.   

    بيان أن انسياق الشباب وراء الوسائل الهدامة ليس من الحكمة في شيء

    الملقي: ويشير المتصل أيضاً إلى مسألة ليست من الحكمة وهي: انسياق شبابنا وبناتنا وفتياتنا إلى بعض وسائل الإعلام الهدامة.

    الشيخ: هذا أمر يدمي القلب، وما ذكره المتصل من قضية ترجل النساء وتأنث الرجال، هذا واقع، وهذا كله ناجم من الخواء الروحي، ولعدم معرفة الطريق، ولقلة الصلة بالله جل وعلا، ولعدم معرفة الله حق المعرفة، وإلا لو وجدت قلوب تعرف الله لنجم عن ذلك أعمال تجل الله جل وعلا وتعظمه، وتعظم نهيه تبارك وتعالى، نسأل الله أن يهدي ضال المؤمنين.

    1.   

    هل يوصف الكافر بالحكمة

    الملقي: هناك من يسأل هل الحكمة خاصة بالمؤمنين أم ممكن أن يؤتاها الكافر؟

    الشيخ: من حيث العموم فإنه قد يؤتى الكافر الحكمة، لكن لا يؤتاها بمفهومها الكامل، وإنما يؤتى حكمة في بعض أفعاله، فيصيب في بعض أفعاله والواقع أعظم الشهود على ذلك، فليست مقتصرة على الإسلام، والكافر قد يؤتاها لكن لا يقال: إنه حكيم؛ لأن من جهل الله لا يمكن أن يوصف بأنه حكيم، لكن يوصف فعله وتصرفه في ذلك الأمر بأنه حكيم، فهذا لا بأس به.

    1.   

    الاقتداء بالرسول في أخلاقه ومعاملته الحسنة مع الناس

    الملقي: سأل الأخ سلطان عن أخلاق النبي وصفاته في معاملة الناس، فما تعليكم يا شيخ؟

    الشيخ: هذا كلام مهم يوجه للدعاة، نحن نقرأ في السيرة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه فرح ودمعت عيناه في يوم الهجرة لما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم وافق على أن يصحبه معه.

    تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ما كنت أشعر أن أحداً يبكي من الفرح. فهي تتكلم حسب علمها وإلا فكل الناس تبكي من الفرح، لكنها لما قالت ذلك كانت صغيرة لم تعلم موضع الشاهد.

    فنحن الآن أمام الصديق وقبله النبي صلى الله عليه وسلم، فنتأسى بـالصديق في محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدوتنا في محبة الرسول هو أبو بكر ؛ لأن أبا بكر أعظم الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في صفاته التي من أجلها أحبه أبو بكر وأحبه المؤمنون، فـأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا لما وجد فيه خصالاً يستحق أن يحب وأن يفديه عليها، وأول شيء كونه نبي، وما فرض الله عليه من الأمر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا شك أنها كانت فيه صلى الله عليه وسلم صفات كمال وجلال بشري أعطاه الله إياه أمرنا بأن نتأسى به فيها رغم علم الله أننا لن نصل إلى درجة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن من باب التأسي بالصالحين والإقتداء بالمتقين، بل سيدهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيكون إقتداؤنا بـأبي بكر في محبته أو بالنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الصفات من أعظم الصفات، هذا هو موضع الربط بين سؤال الشيخ سلطان وبين القصة.

    ومن أعظم الصفات التي جعلت أبا بكر يحب النبي صلى الله عليه وسلم حب النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وهو ما أكد عليه الشيخ سلطان ، وذلك بسبب البشاشة والمودة والمحبة، فمال الناس بقلوبهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لما رأوا أن هذا النبي يسهر ليناموا، ويعمل ليستريحوا، ويفديهم بروحه وماله، وبين لهم أعظم الطرائق ألا وهو الطريق الموصل إلى الله، فمن اقتدى به فاز، يقول أحد الشعراء الليبيين:

    وإذا أحب الله باطن عبده ظهرت عليه مواهب الفتاح

    وإذا صفت لله نية مصلح مال العباد إليه بالأرواح

    فمن رزق الاقتداء مع صلاح النية أحبه الناس.

    1.   

    هل الإنسان مسير أو مخير

    المقدم: الأخ سلطان سأل عن مسألة ولعلها طويلة وهي مسألة: هل الإنسان مسير أو مخير؟

    الشيخ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعزم عليكم ألا تتكلموا في القدر)، فلا يقع شيء إلا إذا أراده الله جل وعلا، فالله جل وعلا جعل للقدر أركاناً: علمه جل وعلا بحصول الشيء، وكتابته له، وخلقه إياه، وإرادته ومشيئته له. هذه الأربعة هي أركان القدر، والإنسان ثمة أمور لا دخل له فيها كالمصائب، وأما ما يثيب الله جل وعلا عليه ويعاقب فإن الله قال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، ومع ذلك لن يخرج العبد في ذلك عن مشيئة الله، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الدين.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)

    المقدم: سائل من الكويت يسأل عن قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]

    الشيخ: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من خشي الله جل وعلا فهو عالم، فبمقدار ما عصى العبد ربه يسمى جاهلاً، وبمقدار ما اتقى الله جل وعلا يسمى عالماً، قال الحسن رحمه الله: إنما العلم الخشية، وأعظم الأدلة على العلم بالله جل وعلا الخشية منه تبارك وتعالى سبحانه، ولهذا قال جل ذكره: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    وإعراب الآية: إنما: أداه حصر. ويخشى: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها التعذر. ولفظ الجلالة: مفعوله به مقدم للحصر. ومن جارة. وعباد: اسم مجرور وهي مضاف، والهاء مضاف إليه. والعلماء فاعل مؤخر.

    ويصبح المعنى: كل من خشي الله جل وعلا فهو عالم بمقدار خشيته، وينجم عن هذا أن كل من عصا الله جل وعلا فهو جاهل بمقدار تلك المعصية، والعلم في ذاته ليس فيه شرف، وإنما الشرف فيما ينجم عن العلم من تقوى الله جل وعلا وخشيته:

    لو كان في العلم غير التقى شرفاً لكان أشرف خلق الله إبليس

    والله جل وعلا قد ذكر مثلاً لعالم السوء الذي لا يعمل بما يعلم، وهذا بينه الله جل وعلا كما هو معلوم في سورة المائدة وقال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]، فالمقصود أن خشية الله جل وعلا من أجل القرائن والدلائل على العلم بالله تبارك وتعالى.

    1.   

    الأمور التي يحتاج إليها الإنسان حتى يكون حكيماً

    أشرت قبل إلى الأركان التي تقوم عليها الحكمة وهي: العلم والحلم والأناة، لكن ألاحظ يا شيخ بعض العموم في هذه الأركان، دعنا نخصص الحديث نوعاً ما فنتحدث عن المدركات التي يحتاج إليها المرء لكي يتحلى بهذه الصفات.

    معرفة الأشباه والنظائر

    الشيخ: هذا سؤال جزاكم الله خيراً في موضعه، فلعل من أعظم المدركات التي من خلالها يصل الإنسان إلى أن يكون حكيماً ولو قليلاً معرفة الأشباه والنظائر، فالإنسان العاقل لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متناقصين، ولهذا فالشرع لا يوجد فيه جمع مابين منتاقضين ولا تفريق مابين متماثلين، فالأشباه والنظائر يساق بعضها إلى بعض، فعلى الإنسان أن يطلع على أحوال العباد، ويقرأ في تاريخ من سبق، فإذا أدلهم به الأمر، ونزلت به نازلة تحتاج إلى تصرف حكيم جمع الأشباه والنظائر فقاس النظير على النظير.

    وقد يقول إنسان: أين الدليل من السنة على هذا؟ فسنذكر حديثاً قد لا يكون مشهوراً، فقد أخرج الإمام النسائي في السنن أظنه في كتاب الجهاد حديثاً صححه الألباني رحمة الله تعالى عليه: أنه يختصم عند الله جل وعلا طائفتان: الشهداء المقتولون في المعركة يختصمون مع المتوفين من المؤمنين على فرشهم فيمن مات بالطاعون.

    فالقتلى الذين في المعركة يقولون: هؤلاء إخواننا وأجرهم أجرنا؛ لأن جراحهم تشبه جراحنا، فهم لهم جراح، والذين توفوا على فراشهم يقولون: هؤلاء تبع لنا؛ لأنهم مثلنا ماتوا على الفراش ولم يدخلوا المعركة. فيقول الله جل وعلا لملائكته: انظروا إلى جراحهم. فينظرون إلى جراح موتى الطاعون فتجد الملائكة أن جراح من يموت بالطاعون كجراح من يموت في المعركة، فيلحقون بالقتلى.

    فهذا شاهد على أن النظير يأخذ حكم نظيره، فالذين يتوفون على فرشهم نظروا إلى الظاهر وهو الموت على الفراش، والشهداء الذين ماتوا في المعركة نظروا إلى الباطن، فلما حكم الرب جل وعلا -وهو أصدق الحاكمين- بينهم أمر ملائكته أن ينظروا في الجراح وهي غائرة ليست شيئاً ظاهراً، فوجدوها أقرب إلى القتلى، فألحقوا بهؤلاء، فهذا دليلنا على أن الإنسان حتى يكون حكيماً في تصرفه وقوله وفعله وحكمه، وحتى يكون موافقاً للصواب لابد أن يكون هناك أشباه ونظائر.

    ومنها نفهم لماذا الله جل وعلا قص علينا أخبار الأمم السابقة؛ حتى نكون حكماء فنعلم أن النظير يأخذ حكم نظيره، فإذا كانت الأمم التي سلفت قد أهلكت بذنوبها فقطعاً نحن إذا أذنبنا فسنهلك بذنوبنا، وإلا كان لا معنى لوجود ذلك الأصل القرآني، فالله جل وعلا ذكر قصصهم ثم قال: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]وذكر السبب، ولهذا أمر الله جل وعلا بالسير في الأرض والنظر في الديار والتأمل في الآثار؛ حتى نأخذ منها العظة، وقد قلنا قبل قليل: إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليهم الصفا ذهباً، فالله جل وعلا قال لنبيه جل وعلا: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] أي: أن النظير سيأخذ حكم نظيره، فلو جعلنا الصفا ذهباً وكذب بها قومك فالسنة تقضي بأننا سنهلكهم.

    إذاً: فهذا هو معنى أن النظير يأخذ حكم نظيره، والإنسان يتأمل، ولذلك حتى في حياتنا اليومية فأحياناً الإنسان في شيء له يطالب به، وقد يقع عليه مثل ذلك الشيء الذي طلبه فيقع عليه واجباً فلا يعطيه، فما دمت قد طلبته لنفسك فمن حق الناس أن تعطيهم حقهم، فهذه سنة لله جل وعلا في خلقه، وصانعوها ومتأملوها ومتدبروها ومن جمعوا الأشباه والنظائر هم الحكماء حقاً بمقدار قربهم من الرب تبارك وتعالى, هذه أيها المبارك ربما تكون أول المدركات.

    معرفة الاختلاف البشري

    الثاني: معرفة الاختلاف البشري، فنحن ندرك أن الناس لن يكونوا على سجية واحدة، ونحن لا نريد أن ننطلق من نظريات غربية أو أقوال أدباء أو مؤرخين أو غير ذلك، فنحن كما مثلنا في الأول بالسنة فنمثل هنا بالسنة، فنبينا صلى الله عليه وسلم كفانا مؤنة كل شيء بفضل الله.

    والنماذج البشرية تختلف، فقد كان هناك عبد اسمه مغيث متزوجاً جارية اسمها بريرة ، فكان بمقدار ما يحب مغيثاً بريرة بمقدار ما بريرة تكرهه، فكاتبت سيدها فكاتبوها عملاً بالآية، فلما كاتبوها نالت حريتها، والمرأة إذا نالت حريتها حق لها إن كان زوجها رقيقاً عبداً أن تطلب منه الطلاق.

    والمكاتبة أن العبد أو الأمة يدفع مالاً على هيئة أقساط منجماً لسيده، فيتفقان مثلاً على عشرة آلاف ريال، فيدفع كل شهر ألفاً، فيتعب في الفترة هذه ويجمع المال إما من الناس، أو يأخذ من الصدقات، أو يعمل بزيادة، فخلال عشره أشهر مثلاً يبقى عبداً حتى يكمل تلك المكاتبة.

    فـبريرة اتفقت معهم على مبلغ، واستعانت بـعائشة فأعطتها المبلغ؛ حتى يكون الولاء لها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الولاء لمن أعتق)، فنالت حريتها، ولما نالت حريتها حق لها شرعاً الانفصال فاختارت الانفصال، فأخذ مغيث يتبعها، يقول ابن عباس كما في البخاري : كأني أراه يطوف وراءها وهو يبكي ودموعه على لحيته وهي لا تريده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس ، والنبي سيد الحكماء، ويعرف معنى اختلاف النماذج البشرية، فقال: يا عباس : (ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغض بريرة مغيثاً)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تراجعيه؟ قالت: يا رسول الله! هل هذا أمر؟ قال: إنما أنا شافع. قالت: لا حاجة لي به).

    والنموذج أنه يوجد رجال لو أن ابنهم أبغضهم تبرءوا منه، ويوجد أبناء لو أن أباهم أبغضهم تبرءوا من أبيهم، بل يوجد كما يقول أظنه أبو الإصبع العدواني : لو أن يمينه نازعته لقطعها، فهو لا يقبل أن أحداً يبغضه.

    فأنا أقصد أن هناك تفاوتاً بين الناس، فإذا كنت تعرف أن هناك اختلافاً بين البشر تقبلت ما يصنعه البشر، فالحكيم ينظر للناس كما هم عليه لا كما يريد، أو كشخصيته هو.

    والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك ولهذا جعل ذلك عنواناً للعجب، وقال لعمه: ألا تعجب، فهذا أمر يدعو إلى العجب رجل يحب امرأة ويكاد يموت ولهاً بها وهي تبغضه، فسبحان الذي جعل في قلب مغيث تلك المحبة لـبريرة ، وجعل في قلب بريرة ذلك البغض لـمغيث .

    لكنني كرجل ناظر للأحداث من حولي لابد أن أعرف أن الناس يختلفون، ثم إذا وجد هذا في مجتمع الصحابة فما بالك بالمجتمعات الأخرى.

    إذاً ينجم عن هذا كذلك زيادة فضل في العلم بالناس أنه توجد بعض المشاكل على الحكيم أن يفقه أنها ليس لها حل، فالناس عندما تغيب عنهم الحكمة يغرقون في الجزيئات، فأحياناً تأتينا اتصالات تنص عن شيء معين فأخبره بعجزي عن حل القضية، فيقول: لا، لا تقل: ليس لها حل، ويريدنا ليل نهار نمسي ونصبح في قضية جزئية، فثمة قضايا تتكفل بها الأيام ولا نستطيع أن نفعل لها شيئاً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يتشفع فلم تقبل بريرة شفاعته، فما الحل إذاً؟ هل نجبرها على ذلك؟ لا، وإنما انفصال انفصال، وعلى مغيث أن يصبر، وهي بالنسبة له مشكلة فعليه أن يبحث لها عن حل، لكن منتهى الأمر أن يتشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً فثمة أشياء نتركها للأيام وللسنون وللنسيان ولا نغرق فيها إغراقاً يشغلنا عن غيرها.

    ثم أحياناً أنت كحكيم قد تبتلى بأناس فيهم عيوب لا يمكن نزعها، فمن الخطأ جداً أن أشغل نفسي فيها، فقد يوجد بعض الدعاة يشغل نفسه بشاب في الحي ليس عنده قضية إلا أن يهتدي هذا الشاب، فالليل والنهار وهو يحاول معه ويقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً)، الله يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فترى في الحي عشرات الشباب غيره، وفي الأمة قضايا كثيرة غير هذه القضية، فلا تجعل نفسك في قضية واحدة ليل ونهار وكأنها هي قضيتك.

    وأنا الآن سأخرج إلى باب الأدب، فقد ذكروا أن هارون الرشيد كان له عم كان أثير عنده واسمه العباس بن محمد ، وكان يجله هارون ، وهارون على اسمه رشيد ، وكان هارون يغدق العطايا على العباس بن محمد الذي هو خاله، فسبب كونه يغدق عليه العطايا أصبح رجلاً ذا مال، فجاء أحد الشعراء واسمه ربيعة الرقي وهو من الرقة منطقة أظنها في العراق، فالشاهد أنه كتب فيه أبياتاً خالدة في المدح، قال في آخرها:

    كأن المكارم لم تزل معقولة حتى حللت براحتيك عقالها

    فالمقصود أن الأبيات في ذروة المدح، فبعث مع رسول في ذلك الزمن الذي تكثر فيه العطايا بعث بدينارين، فهذه قصيدة من درر القصائد في مدحه يكافئ عليها بدينارين! والآن يستحي الإنسان أن يعطي العامل دينارين، فأعطاه إياها.

    فلما جاء الرسول وهو يحمل دينارين للشاعر جُن، فهو يعرف قيمة الأدب وقيمة الشعر، فكتب عليها في الخلف أبياتاً يذم فيها العباس ، ويتبرأ من ذلك المدح، ويقول: إنها كذب وافتراء، وأنه لا يستحق ذلك المدح، وأعطى الغلام الدينارين فأوصلهما إليه، فلما وصلت الأبيات التي هجا فيها ربيعة عم هارون الرشيد غضب واشتكاه إلى هارون .

    فـهارون أتى بالشاعر وقال له: هذا عم وتعرف أنه أثير عندي ومنزلته عالية فلم تهجوه؟ قال: يا أمير المؤمنين لقد مدحته بأبيات ما مدح أحد بها، فأصر هارون على أن يسمعها فأسمعها هارون ، فلما سمعها هارون تعجب مما فيها من علو كعب في المدح.

    فقال: سله يا أمير المؤمنين! كم كافئني عليها؟ فأخذ العباس يحاول أن يضيع القضية ولا يجيب. فاستحلفه هارون ، فحلف بأنهما ديناران، فكاد هارون أن يجن، ثم قال لعمه: واحد من ثلاثة الذي جعلك تهدي على هذه القصيدة دينارين: إما أتيت من قبل مالك، وإما أتيت من قبل أصلك، وإما أتيت من قبل نفسك، فأما من قبل مالك فليس لك عذر؛ فعندك مال، فلست عاجزاً أن تعطيه، وأما من قبل أصلك فأنت من آل البيت، وأصلك لا يدانيه شيء، فما بقي إلا نفسك، فأنت نفسك وضيعة. فقال له: أما إذا كانت القضية من نفسك فهذه ما فيها حل، فتغير هارون عليه وأصبح لا يقربه، وأعطى الشاعر.

    موضوع الشاهد: أنك قد تبتلى أحياناً بأناس في هذا المجتمع فماذا تفعل بهم؟ لا يكون ذلك همك ليل نهار، فمن الحكمة أن تتجنبهم.

    كثرت التجارب والخبرات

    الملقي: يا شيخ صالح أنت علقت بعض الحلول بمسألة مرور الأيام، فدعني أنظر لهذا الموضوع من زاوية أخرى وهي: كثرة التجارب والخبرات للإنسان، أليس ذلك من شأنه أن يولد عنده شيئاً من الحكمة؟

    الشيخ: بلا شك، وهذه قد نجعلها ثالث المدركات.

    يقول المتنبي :

    من عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم

    فكثرة التجارب تغير من الرأي، فهناك شيء اسمه بادي الرأي، أي: الرأي الأول، لكن التجارب تكون مع طول الأيام، ولذلك يقولون: الأمة تحتاج إلى حماس الشباب، وخبرة الكهول أو تجربة الكهول أو لحكمة الكهول، فكثرة التجارب تغير كثيراً من القناعات، وتبدد كثيراً من النظريات، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذم الخوارج قال: (حدثاء الأسنان) أي: قليلو التجارب، فإذا كانت هناك تجارب في الحياة فإنها تجعل الإنسان أكثر حكمة، وكلما كان الإنسان كثير الأسفار، غني التجارب، يخالط الناس بكثرة، كان أقرب إلى تاج الحكمة.

    الاستعداد للأمر قبل وقوعه

    بقي الاستعداد للأمر قبل وقوعه، وهذه قد تكون هي الحكمة في نفسها، فالاستعداد للأمر قبل وقوعه أمر يدل على أن الإنسان يسير في خطاه سيراً متأملاً سير حكيم، فيعرف الأمر حتى لا يقع في اللوم.

    معرفة الرب تعالى والقيام بأمره ودينه

    وأعظم من ذلك ما يحتاجه الإنسان من حكمة في معرفة الرب تبارك وتعالى، فثمة عبادات شرعها الله جل وعلا لعباده، القائمون بها قبل أن ينتهي زمن التكليف يدل ذلك على علو كعبهم في باب الحكمة، وعدم قيامهم بها يدل على بعدهم عن الحكمة.

    يقول الله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43].

    إذاً فالحكيم هو من إذا أمر بالسجود سجد، ومن إذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح بادر إلى السجود؛ لأنه سيأتي يوم يأمر الناس فيه بالسجود فمن سجد في الدنيا فإنه في هذا الموقف يستطيع أن يسجد إذا خلصت نيته في الآخرة، ومن لم يحسب هذا الموقف لا يستطيع أن يسجد في الآخرة.

    يقول سعيد بن جبير عن أهل القبور: إنهم إذا بعثوا يمسحون الموت عن أعينهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وهم كفرة؛ لأنهم يقولونها يوم لا ينفعهم ذلك.

    فإذا أردنا أن نصف أحداً بأنه حكيم حقاً فلننظر كيف استعد للقاء الله، فمن استعد للقاء الله حقاً بالعمل الصالح التقي النقي دل ذلك على حكمته، ومن أوتي حظاً في حظ الدنيا فهذه حكمة الدنيا، لكن نقول: هذه حكمة نسبية كما أجبنا على إحدى الأخوات في الأول لما قالت: هل يؤتى الكافر الحكمة، والله المستعان.

    1.   

    الآثار الجانبية عندما يفتقد العلماء والدعاة الحكمة

    أحد المتصلين يقول: ما هي الآثار الجانبية التي تؤثر على عامة الناس عندما يفتقد العلماء والدعاة الحكمة؟ ولعلي أجمع بينه وبين سؤال بعض المتصلين كما ذكرت الآية: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    الشيخ: الإنسان بقدر تأثيره في الناس يكون لخطئه أثر فيهم بقدر ذلك، يعني: إذا كان الإنسان قدوة أو أسوة وهو متبع ووقع في خطأ فإن أثر ذلك الخطأ يكون على الناس بقدر اتباعهم له، ولهذا فعلى كل من له صوت مسموع إعلامياً أو وعظياً أو له محراب أو له منبر أن يتقي الله فيمن يسمعه، وألا يعتبر أنه يمشي وحده، وألا يجازف بالناس ويتكلم كلاماً غير مسئول، وأن ينظر في عواقب الأمور؛ فإن الأمة أحوج ما تكون إلى من يرأب صدعها، ويلم شعثها، وأن تعطى الصورة الحسنة المثلى عن الدين، فالدين أعظم أمانة نحملها في أعناقنا، والإنسان لا ينظر إلى مصلحته الشخصية بل يتأسى بالحكمة كما فعل الأنبياء، وليس المهم ما يقوله الغلمان والشبان والولدان والناس عنك بعد خروجهم، بل المهم ما الذي يكتبه الملكان، فالإنسان ينبغي عليه أن يكون حكيماً ينظر إلى مصلحة الدين قبل أن ينظر إلى نفسه.

    والآثار الجانبية التي ذكرها أبو عبير وفقه الله تبقى قاتلة إن كان الخطأ شائعاً ذائعاً استمع الناس له كثيراً، فتأسوا به واقتنعوا به، لعلو صوت أو غيره.

    والأخت أم محمد ذكرت قضية -الظاهر- علو الصوت، وعلو الصوت لا يقدم ولا يؤخر، نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم كأنه منذر جيش، وبعض الوعاظ وفقنا لله وإياهم لكل خير وهدانا الله وإياهم سواء السبيل يصرخون صريخ، وهذا لا يقدم ولا يؤخر، ولهذا جاء في وصايا لقمان: إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] يعني: لو كان لعلو الصوت دور لكان صوت الحمار أكمل، لكن القضية في المعنى، وأما ما جاء في الأحاديث: (كأنه منذر جيش) فهذا يمثل الهيئة، ثم إن بعض الألفاظ قد يحصل معها رفع الصوت، ثم إن ما يسمى بالمايكات الآن قد أغنت كثيراً عن رفع الصوت.

    فالمقصود من هذا أن الإنسان يعرض ما عنده بهدوء وبيقين وبخطى واثقة حتى يصل لمقصوده.

    1.   

    الكلام عن حياة البرزخ

    أشرت يا شيخ أنت في المدركات إلى مسألة الاستعداد للأمر قبل وقوعه، فأحد المتصلين طلب منكم قبل ذلك كلاماً عن حياة البرزخ، لعل أيضاً هذا مما يتصل بالحكمة.

    الشيخ: حياة البرزخ حياة بين دارين، قال الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وقد أخبر الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً عنها، وهي تحمل في طياتها الكثير مما لا نعلمه، فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فالقبور ظاهرها واحد وخفاياها الله أعلم بها، فثمة أناس ينعمون وثمة أناس يعذبون، والعذاب والنعيم يقع على الروح والجسد، ولا نعرف نحن كنهه ولا كيفيته على الوجه الأكمل؛ لأن الله غيبه عنا، لكن الله أطلعنا على أن هناك حياة برزخية ينعم فيها من ينعم؛ حتى يصبح مشتاقاً إلى نعيم الله، فيقول: رب أقم الساعة، ويعذب فيها من يعذب؛ حتى يخاف مما هو قادم، ويقول: رب لا تقم الساعة.

    1.   

    حكم صيام المرأة بغير إذن زوجها

    المقدم: وسألت بعدها عن صيام المرأة بغير إذن زوجها.

    الشيخ: الصيام صحيح لكن كان الأفضل أن تستأذن، فلو أمرها بالإفطار أفطرت، لكن لو صامت دون نهي منه فصيامها صحيح.

    المقدم: هل لها أن تصوم مع غيابه غالب اليوم خارج المنزل؟

    الشيخ: إيه لها أن تصوم، لكن تستأذنه أفضل.

    1.   

    انقطاع الوحي بعد وفاة رسول الله

    الملقي: هل نزل الوحي على أحد؟

    انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم إجماعاً.

    1.   

    تعدد معاني الحكمة في القرآن

    الملقي: بعضهم يسأل عن الحكمة هل تختلف معانيها في القرآن؟

    الشيخ: هذا المصطلح يختلف، فتأتي أحياناً بمعنى ما ذكرناه، وأحياناً بمعنى السنة، وهذا بحسب القائل.

    1.   

    الفرق بين الفراسة والحكمة

    الملقي: إحدى الأخوات تسأل عن الفرق بين الفراسة والحكمة؟

    الشيخ: الفراسة هي أمر ظهرت له دلائل وقرائن فعرفها الرجل، لكن الحكمة أوسع من قضية الفراسة، فالفراسة أن يتفرس الإنسان في شخص لا يعرفه فيقع منه قول فيه، مثل تفرس عزيز مصر في يوسف عليه الصلاة السلام.

    وأما الحكمة فبابها أكمل وأكبر من قضية الفراسة.

    1.   

    ما ورد من أن من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً أوتي الحكمة

    الملقي: ما ورد في أن من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً أوتي الحكمة.

    الشيخ: لا أعلم أن هذا الحديث بهذا اللفظ صحيح، لكن المعنى صحيح أن إنساناً إذا عكسناه يعني تحافظ على تكبيرة الإحرام هذا حكيم؛ لأنه أستعد لآخرته، لكن لا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً رزق الحكمة، لا أعلم حديثاً بهذا اللفظ.

    1.   

    معنى الخير الكثير في قوله تعالى: (فقد أوتي خيراً كثيراً)

    المقدم: إحدى الأخوات تسأل عن الخير الكثير في الآية: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].

    الشيخ: المقصود أن الحكمة من الخير الكثير، يعني: من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً، وتعبير القرآن بأنه خير كثير بمعنى توفيق عظيم للصالحات من الأعمال، وبخيري الدنيا والآخرة.

    1.   

    أساليب اكتساب المرأة للحكمة

    المقدم: ما هي أساليب اكتساب المرأة للحكمة؟

    الشيخ: المرأة في هذا مثل الرجل، وهذا بيناه في الأول.

    1.   

    كيفية التعامل مع المصائب

    المقدم: ثم سألت عن استقبال المصائب وكأنها هدية من الله.

    الشيخ: يتعامل الإنسان مع المصائب تعامل من يفتقر إلى الله، فلا يوجد أحد يفرح بالمصيبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أصيب بمقتل حمزة فحزن، وأصيب بموت إبراهيم فحزن، ودمعت عينه، وحزن قلبه، لكنه أسلم نفسه لله، وأما إنسان يضحك إن جاءته مصيبة فهذا لا يعقل، ولا يسمى هذا من الحكمة، وكونه هدية من الله قد يقولها قائل لأحد يسلي عنه، لكن الإنسان يتعامل مع ما يأتيه من المصائب باحتساب، وإذا كانت المصائب لا تحزن ولا تؤثر في القلب فعلى ماذا يؤجر؟! لكن لما كان لها أثر في القلب كان الثواب والأجر مع الصبر والاحتساب.

    ثم إن الإنسان رغم ذلك الحزن الذي يصيبه يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله جل وعلا وقدره، والرضا منزلة عظيمة هنا، وبعد ذلك يؤجر عليها، وأما أن الإنسان يأخذها كنوع من العبث فهذا ليس من الحكمة ولا من العقل في شيء.

    1.   

    أهم الكتب التي ذكرت الحكمة

    المقدم: أخت تسأل عن أهم الكتب التي ذكرت فيها مشاهير أقوال الحكماء؟

    الشيخ: القرآن والسنة ذكرت فيهما الحكمة، وأما من الكتب الأدبية فلو رجعت إلى الكامل للمبرد فإنك تجد فيه كثيراً من أقوال الحكماء.

    1.   

    العمر الذي تكتمل فيه الحكمة

    المقدم: يقول بعض الإخوة: إن الحكمة لا تأتي إلا بعد الأربعين.

    الشيخ: هي تكتمل في ذلك السن، ومن الصعب أن يكون الإنسان حكيماً وهو صغير، فقد يكون فيه شيء من الحكمة، لكن التجارب كما قلنا لها دور، والتجارب لابد لها من طول زمان، فإذا وجدت تجارب وخبرات، وكبرت سن المرء، وكان ذا وعي وإدراك رزق الحكمة بكمالها وتمامها، وقد قال الله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15].

    1.   

    ذكر بعض الحكماء

    الملقي: إن المتتبع للتاريخ يجد أسماء كبيرة جداً فيما يتعلق بالحكمة، ووصفت بهذه الحكمة، والنماذج كثيرة، ولعل الوقت يسمح بعرض أهمها.

    الشيخ: نبدأ بلقمان عليه السلام، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12]، وقد اختلف في نبوته، والأشهر أنه عبد صالح وليس من الأنبياء على الأظهر والأصح، والعلم عند الله.

    ولقمان ذكر لله جل علا نتفاً من وصاياه؛ حتى يبين لنا كيف حكم على لقمان بأنه حكيم، فترتيب الأولويات من دلائل الحكمة، وكيف يوصي الإنسان ابنه من دلائل الحكمة.

    فالله جل وعلا يقول: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فبدأ بأعظم الوصايا وهي النهي عن الشرك، فلا يوجد مفسدة أعظم من الشرك، فنهى لقمان ابنه عن أعظم المفاسد وحذره منها وهي الشرك بالله، والله جل وعلا لما ذكر الحكمة في كتابه العظيم قرنها بالبعد عن الشرك، وقد قلنا: إن المراغي رحمه لله قال: إن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة.

    فالله جل وعلا أيها المبارك! في سورة الإسراء تمهيداً لهجرة نبيه حذرهم من الشرك، فقال في آيتين بينهما بعض الآيات، قال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22].

    فالقعود في لغة القرآن وصف للعجز، فالله يقول: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]، عجز جمع عجوز إن صح الجمع، ويقول: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95] لماذا قاعدون؟ لأن فيهم عجز عن الجهاد، فالله يقول لنبيه تحذيراً دنيوياً: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، ثم قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وأتى بعدة وصايا، ثم قال: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39] أي: تلك الآداب التي علمناك إياها.

    ثم قال: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:39]، فالآن ذكر العقاب الأخروي، نذكر في الأول العقاب الدنيوي: (مذموماً مخذولاً) وفي الآخر ذكر العقاب الأخروي: (ملوماً مدحوراً)، وهذه الأربع كلها ناجمة عن الشرك بالله الذي جعله لقمان في مقدمة وصاياه يوم قال لابنه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    ثم تدرج لقمان في وصاياه: فذكر الصلاة، وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر كوارث الدنيا فقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، ودعاه إلى التودد للناس والتحبب إليهم وعدم التعالي عليهم: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18]، فبين له كل هذه الطرائق، وتلاحظ عدم الإغراق في الجزئيات، وإنما بدأ بما يتعلق بالله، ثم انتهى إلى الأمور التي هي أقل شأناً وهي الحديث مع الناس وألا يكون فيه رفع صوت.

    فترتيب تلك الوصايا يدل على ما أوتيه لقمان عليه السلام من الحكمة.

    وقد ذكرنا عدد من الصفات: مذموماً، مخذولا، ملوماً، مدحوراً، وقد ذكرها الله في سورة الإسراء، فالتفريق بين هذه الصفات كالآتي:

    يقول الله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22] فالمذموم هو من يقال له: ما فعلته قبيح، أي: يخبر بعد فعله أن ما فعلته قبيح، والمخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، وإذا تخلى الله عن أحد فهو مخذول, وأما الملوم: فهو الذي يقال له: لم فعلت كذا؟ وأما المدحور: فهو المطرود المبعد.

    1.   

    الحكماء في الأدب والشعر والسياسة

    الملقي: ننتقل يا شيخ إلى ما يتعلق بالشعر والأدب، فالتاريخ مليء بكثير من الحكماء منهم، حتى إن بعض الأبيات أصبحت حكماً مشهورة بين الناس، ومن هؤلاء المعري والمتنبي وأسماء أخرى لعلك ستذكرها.

    الشيخ: كما ذكرتم المعري والمتنبي قامتان أدبيتان رفيعتان أدبياً، وليسا قدوة، فالتجارب حنكتهما، فـالمعري سمي نفسه رهين المحبسين، ويقصد حبسه نفسه في بيته مع العمى، فقد أصيب بالجدري على ما يذكرون فعمي، ثم رحل إلى مواطن العلم آنذاك حتى وصل إليها، فجمع علماً ثم عاد إلى مقره في المعرة وإليها ينسب، وهناك أخذ يدرس ويملي، وله كتب شهيرة منها: سقط الزند، ومنها: معجز أحمد، هو شرح لديوان المتنبي .

    والمتنبي قبله زمناً، وقد كان طالب سياسة وطالب كرسي بتعبير أصح، ولم ينله، وقد خاض تجارب عدة صقلت حياته، لكنه رغم ما أعطاه الناس من أبيات حملت معنى الحكمة إلا أنه لو كان حكيماً موفقاً لنال مقصوده، لكنني أقول بوضوح: المتنبي على كثرة حب الناس له لم يعط الحكمة في نفسه وإن كان قد قالها، فنعم قد قال أبياتاً جرت مجرى المثل بين الناس، كقوله:

    أنا الغريق فما خوفي من البلل

    وله أبيات عديدة لا تحصى في قضية الحكمة، وكذلك المعري يقول:

    خفف الوطء ما أظن الـ أرض من هذه الأحساد

    سر إن اسطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد

    في قصيدة مشهورة أولها:

    غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي

    والعجز فيما يظهر لي في المشترك بينهما هو الذي أعطاهما الحكمة.

    فـالمتنبي لا يعقل إن أحداً يطلب ملكاً وأمارة وجاهاً وهو رافع الرأس؛ لأن الرأس إذا رفع قلم، فهو أراد أن ينافس سيف الدولة ولا ينشد عنده إلا وهو قاعد ولا يقوم كما يقوم الشعراء، ويقول بين يدي سيف الدولة :

    الخيل والليل والبيداء تعرفنـي والسيف والرمح والقرطاس والقلم

    وهو نفسه يقول لـسيف الدولة ينصحه:

    ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا

    يعني: لا يوجد عاقل يستعمل رجلاً قوياً أقوى منه؛ لأنه سينقلب عليه، فالله عليك تسدي إليه نصيحة كهذه وتريد منه أن يعطيك أمارة! فهذا لا يعقل.

    ثم لما ذهب إلى كافور مدح كافوراً وأثنى عليه وأخذ يبجله، وكافور كان موفقاً يقولون: كان فيه كثير من الصلاح، فقال: هذا وهو شاعر فكيف لو أخذ إمارة!! فلم يكن المتنبي يعرف الطريقة المثلى ليحقق مقصودة.

    وأما المقصود الأخروي فما ذكروا عنه ديناً، وإنما ذكروا عنه ولعه بالدنيا، وها هو لم يستطع أن يحصل منه شيئاً، رغم أن الناس حصلوا من تجربة المتنبي التي ضمنها شعره على فوائد كثيرة.

    والمعري أضر به كونه كفيفاً، فانقلب حاله إلى نظرة تشاؤمية، وأبى أن يتزوج، وهذا ضعف، ويقولون: إنه أوصى أن يكتب على قبره:

    هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد

    ويقولون: إنه تجنب أن يأكل اللحوم وما أشبه ذلك، وهذا سبب نظراته التشاؤمية رغم أنه له أبيات شهيرة في الحكمة، وعلى العموم فالتاريخ أدبياً وسياسياً عرف أناساً حكماء.

    وقد قرأت مرة في سيرة السادات الرئيس المصري رحمة الله عليه، وهذا من دلائل الحكمة فمن ترجموا له وعاصروه يقولون: إنه كان إذا جاءه الريح أو الإعصار يطرق لها رأسه، وهذا من العقل؛ لأن الإنسان إذا واجه الإعصار كسر، وهلله الإعصار وانتهى، لكن إذا أطرق رأسه مر الإعصار، ثم يقوم الإنسان من جديد فيستمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن تهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم) رغم أن الكعبة بيت الله؛ لأن الكعبة لو هدمت فإنها تبنى، لكن المسلم إذا قتل فلا سبيل إلى إعادة جسده، فعندما يكون الإعصار أو الشدائد قوية فلا بأس أن ننحني مادام أنه ليس انحناء عقدياً، حتى نقوم بعد ذلك ونكمل المسير، وهذا من الحكمة.

    الملقي: هذا الانحناء يا شيخ ليس على إطلاقه، وإنما يكون في بعض المواقف.

    الشيخ: هو أصلاً لا يسمى انحناء بالمعنى الحرفي، لكن الإنسان الحماسي يسميه انحناء ويقول: هذا خوف وهذا جبن، لا هذا ليس خوفاً ولا جبناً، وإنما هذا من الحكمة، ولذلك فالأمر كما قال المتنبي :

    الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني

    وسيد الخلق المعصوم من أذى الناس بنى خندقاً؛ حتى يتقي به شر الكفرة، فلا يأتينا أحد يجازف بالأمة في المهالك، ولبس درعين صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

    1.   

    الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها

    الملقي: يا شيخ الحكمة ضالة المؤمن، فأنى وجدها فهو أحق بها، فبماذا تعلق على هذا؟

    الشيخ: هذا الأثر من دلائل حكمة التشريع، فعلى الإنسان أن يربي في أتباعه الوصول إلى الكمال، ومن تربية الناس على الوصول إلى الكمال ألا يأنفوا أن يأخذوا الفائدة من أي أحد ما دام لا ينجم عن ذلك ضرر في عقيدته، ولهذا شرع الله لنا أن نقرأ وننظر في أخبار الغابرين وأوائل الناس رغم أنهم كفرة، وأن نستقي كل خبر طيب، والله جل وعلا أثبت هذا في كتابه، قال الله جل وعلا على لسان بلقيس : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] فصدقها الله بقوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، وقال الله جل وعلا عن كفار قريش وهم عبده أصنام ويعكفون على الأوثان قال عنهم: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فرد الله عليهم بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28]، فقبل الله منهم قولهم: وجدوا عليها آباءنا؛ لأنهم في قولهم ذلك كانوا صادقين، فقبل الله جل وعلا قولهم.

    والمقصود أن العاقل لا يجعل بينه وبين المعرفة حجاباً، ويبحث عنها أينما وجدها فهو أحق بها؛ لأنه أفضل وأقرب من الدنو إلى الكمال.

    1.   

    تفسير حديث: (الإيمان يمان والحكمة يمانية)

    أحد الإخوة أرسل قبل الحلقة ويتساءل عن تفسير حديث: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية).

    الشيخ: إيه النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أهل اليمن وقال (الإيمان يمان والحكمة يمانية، أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً)، (والحكمة يمانية) يقصد عليه الصلاة والسلام أن الحكمة فيهم ظاهرة، وأن ثمة أناساً منهم عرفوا بالحكمة وحسن التصرف، وهذه شهادة نبوية لا نستطيع أن ندفعها، بل ينبغي أن نقرها فهي من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بالغ بعض العلماء في هذا مثل الشوكاني لكنه استدرك.

    فالذي يعنينا أن هذه البلاد بارك الله فيها، وسمي الركنان اليمانيان بهذا الاسم لتوجهما إلى اليمن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له أصحاب من اليمن أرق أفئدة، وألين قلوباً كـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    الحكمة التي تمثلها الشيخ المغامسي في حياته

    الملقي: لعلي أختم يا شيخ بسؤال ورد إلى فريق العمل تقول السائلة: ما هي الحكمة التي تمثلها الشيخ صالح في حياته؟

    الشيخ: كل خير لا يطلب إلا من الله، وكل نقمة لا تدفع إلا بالله، أسأل الله أن يحييني على هذا ويميتني عليه.

    لا يسعني في نهاية المطاف إلا أن أشكر الله عز وجل أن هيأ لنا هذا اللقاء، كما أسأله تعالى أن يرزقنا جميعاً الحكمة، ثم أشكر فضيلة الشيخ على مشاركته، وعلى تكبده عناء السفر فجزاكم الله خيراً شيخ صالح .

    والشكر موصول لكم أيها الأحبة: أولاً الإخوة الذين تابعونا على موقع البث الإسلامي، وموقع المسك.

    فأشكركم على طيب متابعتكم، وتحية طيبة من فريق العمل.

    وأيضاً أشكر الإخوة الذين أعلنوا في موقع صيد الفوائد عن هذه الحلقة.

    والشكر لجميع المشاهدين والمشاهدات الذين أكرمونا بهذه المتابعة الغالية من وقتهم، وأسأل الله عز وجل أن يحقق لنا جميعاً الفائدة والمتعة من هذا اللقاء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768279337