إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك حول تفسير كلام ربنا جل وعلا، وقبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أموراً:
أولاً: أن هذه التفسيرات هي أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله، والمقصود الأسمى منها: الناحية العلمية، وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعاً للناحية العلمية؛ فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول، ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح، فليس المقصود بها الوعظ المحض، وإنما المقصود: إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى، ومتى وجد هذا الجيل تبوأ الصدارة في الأمة ونفع الناس؛ لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات، وعظات بالغات، يهذب الله بها خلقه، ويرشد الله جل وعلا بها عباده، ولقد قال الله جل وعلا في كتابه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، قال العلماء: إن من تفسيرها: أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه، بل هو أجل العلوم، وقد بينا هذا كثيراً في دروس سابقة نشرت، وإنما أجدد التذكير بها، على -أننا ونحن نفسر- سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها، وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس، وربما تستغرق السورة درساً واحداً بحسب ما فيها، والله جل وعلا ذكر أن كتابه (مثاني) أي: يفصل ما كان فيه إجمال، ويبين ما كان فيه مبهم، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا، فعلى هذا سنقف عندما نرى أن الوقوف عنده ملزم، وما كان غير مكرر في القرآن فسنقف عنده.
فمثلاً: في (سورة يوسف) لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة، فلا ينبغي تجاوزها بخلاف غيرها كقصة موسى مثلاً، فقد وردت في عدة سور من القرآن الكريم.
هذه مقدمة يظهر أنه من الواجب التذكير بها، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس فهي (سورة الأعراف)، ونبدأ بسورة الأعراف لأننا كنا قد انتهينا إلى سورة الأنعام، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع بتفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى.
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن فإنه يجب عليك أن تبدأ به بنظرة كلية، ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ[الأعراف:163]، فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة، أما السورة إجمالاً فهي سورة مكية.
والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني؛ لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث: إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله، وذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والبعث والنشور وأهوال اليوم الآخر، فهذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال، وتندرج تحتها قضايا أخرى؛ كتذكير الله بنعمه على خلقه، وهذا يندرج في إثبات التوحيد.
أما القرآن المدني، فإن أكثره: تشريع، وأحكام، وفقهيات، كما في البقرة وآل عمران، وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة.
وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدني في تسميتهما هذه خلاف طويل بين العلماء، لكن أرجح الأقوال -إن شاء الله- أن المقصود بالمكي: ما نزل قبل الهجرة. والمقصود بالمدني: ما نزل بعد الهجرة.
وعلى هذا فقد قلنا مراراً: إن قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[النساء:58]، آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة، والرسول آخذ بمصراعي باب الكعبة، فخرج إلى الناس ونادى بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذاً للآية، فالآية نزلت في مكة بل في الكعبة لكنها تسمى: آية مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة.
فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، وهي من أطول سور القرآن المكي، وعدد آيها كما هو معلوم 206 آيات.
هذه السورة بدأها الله جل وعلا بإثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم، وختمها بقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[الأعراف:206]، فختمها بآية سجدة، وبحسب ترتيب المصحف فآية السجدة في الأعراف جاءت آخر آية في السورة، لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن، وهذا يعني: أن مابين فاتحة السورة وما بين خاتمتها جملة من القضايا منها:
خلق آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر، وما ذكر الله جل وعلا فيها من قصته مع إبليس، ثم بعد ذلك خاطب الله جل وعلا بني آدم بصفة أن آدم أبوهم، وناداهم بأربع نداءات: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا[الأعراف:26].. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ[الأعراف:27].. يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعراف:31].. يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي[الأعراف:35].. إلى آخر الآيات.
ثم إنه جل وعلا فصل ما أجمله في الأنعام، لكن هذا التفصيل ليس على ترتيب النزول، فأنا أتكلم على ترتيب المصحف، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام، فقد ذكر الله في سورة الأنعام الرسل جملة فقال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86]، ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف فبدأ يفصل، فإنه لم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما، ثم بدأ يفصل في الأعراف، ففصل فيها قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة لوط، وقصة شعيب، وقصة موسى، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله جل وعلا خبرهم تفصيلاً، ثم ذكر الله جل وعلا في السورة بعضاً من آياته الدالة على عظيم خلقه، وأعاد فيها أن أحداً لا يملك نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تأكيداً للتوحيد.
بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها، وأنا قلت: إن المخاطب الأول من تدريسنا طلبة العلم، على أنه ينبغي أن نعلم أن العلم لا يظهر بجلاء إلا إذا اجتمع بعضه إلى بعض، فإذا جمعت أشتات العلم واكتمل لديك مع الإلحاح والتدوين والحفظ وسؤال الله التوفيق كان العلم لديك، تراه في أول أمره صعباً كالبحر لكنه يسير على من يسره الله جل وعلا عليه، كالبناء عندما يريد أن يبنيه صاحبه يراه متوسع الأطراف بعيداً، فلا يرى إلا حديداً وما أشبه ذلك، حتى إذا اكتمل بعضه إلى بعض قام بنياناً، كذلك العلم يعجب لمن تصدر للتدريس أن يعين من يطلب العلم على يديه في فقه العلم، وأنه يعطيه أشتات العلم حتى يجتمع عنده شيئاً فشيئاً، أعاننا الله وإياكم بتوفيق من الله وفضل، والأمر كله مبدؤه ومنتهاه وأوسطه فضل من الله تبارك وتعالى يهبه جل وعلا لمن يشاء.
قال الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم.
المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:1-2].
هذا أول السورة، وأنا لا أبدأ تفسيراً قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها وقد نتجاوز بعض الآيات، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها؛ لأنها مدخل.
(المص): هذه من الحروف المتقطعة، وقد مرت معنا في دروس سابقة، وأنا أتكلم إجمالاً باعتبار التدريس العام، فقد مر معنا أنها من الذي اختص الله جل وعلا بعلمه، هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر.
ثم قال تعالى: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]، أي: هذا كتاب، فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه، والمعنى: أن هذا الكتاب المقصود به: القرآن، وقد نكرت هنا: (كتاب) لدلالة التعظيم، أي: أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علميته واشتهاره، (أنزل إليك) والمخاطب في المقام الأول هنا: النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فسر الحرج بأحد تفسيرين: التفسير الأول: الشك. فيصبح معنى الآية: هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه، وإذا قلنا بهذا التفسير أصبح لهذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس:94]، لكن اختار جمهور العلماء أن المراد بالحرج هنا: الضيق. فيصبح معنى الآية: فلا يكن في صدرك ضيق منه، ولا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جُبل على ضيق الصدر فهذا محال؛ لأن الله هيأه صلى الله عليه وسلم لئن يختم به النبوات، ويتم به الرسالات، وليس في القرآن أصلاً ما يدعو للضيق في المؤمنين.
إذاً: ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل، ولا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله، فالعرب أفصح البلغاء، وأبلغ الفصحاء، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فينجم الضيق من هذا، وهذا كالطالب تعلمه ولا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة، وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، فالمسألة الواضحة البينة الظاهرة لا تحتاج إلى علم، فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة، ومع ذلك لم يؤمنوا به! فنجم عن هذا ضيق في صدره، فالله يقول له: فليكن صدرك منشرحاً بهذا القرآن؛ لأنه أجل كتاب، وأعظم منزل، به الهداية والرحمة لكل أحد أراد أن ينتفع به، وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك.
ثم ذكر العلة من إنزاله، فاللام هنا لام التعليل (لِتُنذِرَ) ولذلك جاء الفعل بعدها منصوباً (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل الله من المنذَر بالقرآن، بل قال: (لِتُنذِرَ بِهِ) لكن لما ذكر الذكرى قال: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
إذاً: من المنذَر بالقرآن؟ أعظم قواعد العلم أن القرآن يفسر بالقرآن، والله يقول: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97].
إذاً: المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم: وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ، يعني: الكفار، أي لتنذر به الكافرين، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقرون بالتهديد، وعلى هذا تنجم قاعدة: أن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار.
قال: (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) فإن قال قائل: إن الله قال في آية أخرى: إنه ينذر بالقرآن المؤمنين، قال جل وعلا: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]، فيجاب عن هذا: بأن الإنذار على قسمين: إنذار عام، وإنذار انتفاع. فالإنذار العام ينصرف للكفار، أما إنذار الانتفاع فينصرف إلى المؤمنين.
ثم قال الله جل وعلا: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يُسألان يوم القيامة: المرسلون والمرسل إليهم، لكن الله لم يقل هنا: ماذا يسأل هؤلاء، ولا ماذا يسأل أولئك، والجواب: أن الله قال في الأول: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قال موضحاً: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، فيكون السؤال للأمم (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) وهذا ليس من تفسير صالح ولا زيد ولا عمرو، بل هو تفسير القرآن بالقرآن.
قال الله في القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، هذا حل الإشكال الأول: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ).
والإشكال الثاني قال الله: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، فالإشكال متضمن في الإجمال الذي في سورة الأعراف، وقد فصل في موضعين: فصل في القصص، وفصل في المائدة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
ثم قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:8-9]، الله جل وعلا حكم عدل، ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط، وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة، مستشفى، إشارة، علامة، دار، مبنى، محل تجاري، فتذهب إليه، فهذا هو المكان المعلم، وهو سبب التقائكما، لكن يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد، ليس فيها شيء بارز يجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً بهماً ليس معهم شيء، فإذا كنت في الدنيا مالكاً لشيء صوري تملكه بيديك، كثيابك ودابتك، فيوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئاً، يقول الله في القرآن: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]، وقال في سورة أخرى: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ [القمر:7]، ولا يستقيم الجراد مع الفراش؛ لأن الجراد منتظم، والفراش يموج بعضه في بعض، فالجمع بينهما: أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي، قال الله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه:108]، انتظموا خلف إسرافيل، فانتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد، هذا كله يكون يوم القيامة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـابن عباس : (مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع)، ومما يكون في يوم القيامة: الميزان، وأهل السنة يقولون -سلك الله بنا وبكم سبيلهم-: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويقول هنا: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف:8]، والمقصود بكلمة الحق: أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق، فهو ميزان حق، ويكفي أن الله جل وعلا قائم عليه، فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين.
وعلى هذا اختلف العلماء في الذي يوزن، مع اتفاقهم جملة على أنه يوجد ميزان له كفتان، لكن اختلفوا في الذي يوزن على أقوال أشهرها:
القول الأول: أن الذي يوزن: العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، فموضع الشاهد: أنه قال: أن (الحمد لله) تملأ الميزان، وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان أو فرقان من طير صواف تحاج عن أصحابها) فهذا من أدلة من قال: إن الذي يوزن هو العمل.
وقال آخرون: إنما الذي يوزن: صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله جل وعلا له: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، قال صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات، ورجحت البطاقة) وفي زيادة عند الترمذي : (ولا يثقل مع اسم الله شيء).
فهذه أدلة من قال: إن الذي يوزن: صحائف العمل.
القول الثالث: إنه يوزن صاحب العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة -المقصود: الكافر- فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]).
هذه أحد أدلة من قال: إن الذي يوزن: صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقيه، فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد) أي: رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى جمعاً بين الأدلة: ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر -والله تعالى أعلم- أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعاً بين الأحاديث، وجمعاً بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم.
قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8]، والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني: أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة، وأن يسعى فيما يثقل به الميزان، ومن أعظم ما يثقل به الميزان: حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (الدين المعاملة)، ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فظاً ولا غليظاً في خطابه، فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد، وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين، ولكن الدين جملة معاملة، مع إخوانك المؤمنين، مع والديك، مع أبنائك، مع زوجاتك، مع جيرانك، مع عامة المسلمين، تحب لهم ما تحب لنفسك، تؤثرهم على نفسك، تقبل اعتذارهم، وتقيل عثراتهم، وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)، أي: أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان، أو أماكن معينة كالمساجد، وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها -إن شاء الله- عباداً لله إخوانا، كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11]، خلق الله جل وعلا أبانا آدم من قبضة قبضت من الأرض، وورد أن الله بعث ملكاً يقبض هذه القبضة، فلما جاء الملك ليقبضها قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع الملك إلى ربه، فقال له ربه: ما صنعت؟ وهو أعلم، قال يا رب! استجارت بك فأجرتها، فبعث الله ملكاً آخر وهو أعلم، فلما جاء ليقبض قبضة من الأرض قالت الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع إلى ربه فسأله ربه كما سأل الأول فأجاب كما أجاب الأول، فبعث الله ملكاً آخر وهذا الفرق في العلم، فلما جاء ليقبض من الأرض قبضة قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، كما قالت لأخويه، فقال لها الملك: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره؛ لأن الله أمرني أن أقبض قبضة، فقبض قبضة من الأرض مجتمعة مختلطة؛ فلذلك تفاوتت طبائع الناس، فحملها إلى الله تبارك وتعالى، ومن هذه القبضة الترابية خلق أبونا آدم، لكن هذه القبضة الترابية مزجت مع ماء فأصبحت طيناً، ثم تركت مدة فأصبحت كالصلصال الفخار، وكلها ذكرها الله جل وعلا في القرآن قال: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2] وقال: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14]، فذكر الله في القرآن المراحل الثلاثة التي مر بها خلق أبينا آدم، ثم أكرم الله جل وعلا آدم بأن نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، كما هو نص القرآن، وقد بينا هذا مفصلاً في موضعه.
ثم قال الله جل وعلا هنا: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة؟ لكن الله أثبت حسن خلق آدم في التين، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، ولهذا قال بعض الفقهاء: لو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر، فإنها لا تطلق، ولو كانت من أقبح الناس وجهاً؛ لأن الله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثم وقع من أبينا آدم المعصية بالأكل من الشجرة، وأهبط إلى الأرض، فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية لبني آدم، فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات:
- قال في الأولى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان، واللباس: هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة. والريش: هو اللباس الزائد عن الضروري الذي يتجمل به الإنسان.
قال تعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ أي: عوراتكم، وسميت العورة سوءة؛ لأن العاقل يسوؤه أن تظهر عورته للناس، فالله يقول في باب الامتنان على عباده: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا لباساً ضرورياً، ولباساً زائداً تتزينون به، فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال جل وعلا: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ أي: خير من كل شيء، خير من كل لباس، ولباس التقوى: أن يكون الإنسان مكتسياً بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه، يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه، ويجتنب نواهيه ويأتي أوامره، فهذا هو المؤمن حقاً الذي ارتدى خير لباس:
ليس الجمـال بمئزر فاعلم وإن رديت برداً
إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمداً
فاللباس الحسي يبلى ويبيد ولا ينفعك في الآخرة، بل تستر به عورتك في الدنيا فقط، أما لباس التقوى فهو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.
ثم قال الله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، (يَا بَنِي آدَمَ) هذا خطاب، ويسمى: نداء علامة، فمتى يسمى النداء نداء كرامة؟ إذا قال الله في القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هذا نداء كرامة، وإذا قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ أو يَا بَنِي آدَمَ فهذا نداء علامة، لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر، وإنما علموا بنسبتهم إلى أبيهم.
قال: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ وهو العدو الأول، كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ الأبوان هنا: آدم وحواء، وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب، وقد قلنا في دروس عدة مكررة: إن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني فإنها تغلب، لكن معيار التغليب يختلف من مثنى إلى مثنى، فقالوا في الأبوين: الأبوان، فغلبوا الرجل على المرأة؛ لأن الرجل أفضل من المرأة عموماً، وقالوا في المدينة ومكة: المكتان؛ لأن مكة عند الجمهور أفضل من المدينة، وقالوا في الحسن والحسين : الحسنان؛ لأن الحسن أكبر، وقالوا في الشمس والقمر: القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
فلو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال
فهنا قول الله جل وعلا: لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا لما ذاقا من الشجرة بدت السوءتان لآدم وحواء ، فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم.
ومن هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس، فأول طريق للمعاصي هو نزع الحياء من قلب المؤمن، فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته أن لجأ إلى أول قضية وهي أن يريهما عوراتهما، فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر، واستمرأ النظر إليها فإن النفس والعياذ بالله يهين عليها ما ترى، فتستمرئ كل الفواحش وتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم، ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديماً يصنعه شياطين الإنس حديثاً، فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أباً وأماً وأحفاداً وأبناءً على النظر إلى تلك العورات، وأن يصبح أمراً بدهياً مستساغاً لدى الأسرة ككل أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف للعورات، إما عن طريق رقص أو غناء أو تمثيل أو غير ذلك، فتصبح الأسرة -والعياذ بالله- بعد ذلك هينة عليها المعاصي، سهلة على الجميع، ويصبح أمر الله جل وعلا عياذاً بالله هيناً على تلك القلوب، فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه، والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وقد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعونها، والفرق بينك وبينه ليس العلم، فهو يعلم وأنت تعلم، لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك، والحياء في قلبه غير موجود، فلما ذهب الحياء من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين! يبيت أحدهم يستره ربه -أي: على معصية- فإذا أصبح قال: يا فلان! أما علمت أن البارحة فعلت كذا وكذا وكذا!) يقول صلى الله عليه وسلم: (يمسي يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه) نعوذ بالله من فجأة نقمته، وزوال نعمته.
والذي يصل إلى هذه المرحلة طبع على قلبه تماماً، كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور، وبنات الزنا وأشباه ذلك، ثم والعياذ بالله -مع أن الله قد ستر عليه- يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصور ويجمع أقرانه وخلطاءه وأمثاله ليعرض عليهم تلك الصور ويريهم إياها، وهذا قد يصل إلى حد الكفر؛ لأنه في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله، وإن كنا لا نكفر أحداً بعينه لكن نقول: إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب، واستيلاء الشيطان على تلك القلوب، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله عليه)، والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة، لكن المقصود من الآية: أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس: أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله: لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ، فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن، والجن ترى الإنس، وقد قلنا في دروس سابقة: إن العرب تسمي الجن خمسة أسماء أو ستة، وأنا مضطر للكلام العلمي؛ فبعضهم يسمون الجني العادي: جني، فإذا كان ممن يسكن البيوت سموه: عُمَّاراً، وإذا كان ممن يتعرض للصبيان سموه: أرواحاً، فإذا كان فيه شيء من التمرد سموه شيطاناً، فإذا ازداد تمرده سموه: عفريتاً، وقد ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
قال: إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، يستنبط من هذه الآية: أن عقد الولاية ما بين الإنس والجن قائم على عدم الإيمان؛ لأن الله قال: أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فعدم الإيمان بالله عقد ما بين الإنسي والشيطان.
ثم قال تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:35-36].
حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أي: لم يصدقوا الرسل.
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أي: لم ينقادوا لها.
قال: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، الإنسان تخرج روحه من جسده بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد، فإذا خرجت كانت روحاً مؤمنة تفتح لها أبواب السماء، وإن كانت روحاً كافرة أو منافقة أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذاً بالله.
فالله يقول هنا: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ هذا الجزاء الأول قبل البعث.
ثم قال: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يعني: بعد البعث، وهذه الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة.
قال: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ الجمل: الحيوان المعروف، وسم الخياط: الخرم الذي في الإبرة، فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء، والجمل من أعظم المخلوقات جسماً، والمقصود من الآية: تعليق على الاستحالة: فكما أنه محال أن يدخل الجمل بهذه الخلقة العظيمة في سم الخياط، فمحال أن يدخل الكافر الجنة، ولن يلج الجمل في سم الخياط.
قال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان، والأصل في القرآن: أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين.
قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:42]، جعلنا الله وإياكم منهم.
ذكر الله جل وعلا هنا: لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية تقول: لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.
فمثلاً: الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء: غسل اليدين إلى المرفقين، فلو أن أحد الناس قطعت يده فهذا ليس عنده يد، فماذا نصنع بواجب الوضوء؟ يسقط عنه للعجز، فلا توجد يد أصلاً، وقد يكون العجز أقل من ذلك، والإنسان يجب عليه أولاً: أن يتوضأ بالماء، فإذا عجز عن الوصول للماء أو أضره الماء رغم وجوده سقط عنه الواجب، وانتقل إلى مسألة أخرى وهي التيمم، حتى قد يصل أحياناً أنه يصلي بدون وضوء وبدون تيمم إذا كان عاجزاً، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وهذا معنى قول الله: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:42].
الناس يبقون بشراً مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات، والنبي صلى الله عليه وسلم في الذروة من البشر، وهو يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أغضب كما تغضبون)، ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال: (حلقاء عقراء) تغير كلامه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر نقل عنه أنه يغضب، وعمر كذلك، فالإنسان مهما بلغ يبقى بشراً؛ إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم، وغيره من الناس غير معصوم، وعلى هذا أحياناً يبقى في الصدر شيء ولو كان خفيفاً، فالله من إكرامه لأهل الجنة أنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، لينزع هذا الغل الباقي في القلوب قبل أن يدخلوا الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فتقتص بينهم المظالم التي كانت بينهم في الدنيا). وقد حصل بين علي رضي الله عنه أمير المؤمنين وبين الزبير بن العوام شيء من سوء التفاهم، فكادا يقتتلان في المعركة، فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم، فترك الزبير أرض المعركة قناعة منه بقول رسول صلى الله عليه وسلم، فتبعه رجل يقال له: ابن جرموز فقتله، وممن نازع علياً طلحة بن عبيد الله ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوجب طلحة) يعني: وجبت له الجنة، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط بين طلحة والزبير وعلي ، كل منهم يرى أن الصواب معه، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة، قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43]، فالكمال عزيز، والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه، ولا ينبغي لعاقل أن يخوض فيما كان بينهم، فكلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم، نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ، هذا الكلام يقوله أهل الجنة اعترافاً منهم بأن الهداية من الله -جعلني الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة-، وهذا يؤكد على أمر عظيم وهو أنه ينبغي لمن يطلب الهداية أن يطلبها من الله، ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، ولا يشمت الإنسان بأحد خوفاً من أن ينتكس كما انتكس غيره، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد، ويسأل الله غفران الذنوب، وستر العيوب، ورحمته حتى نلقاه.
قال: وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أي: هؤلاء المؤمنون: أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، توجد باء تختص بالعوض، وباء تختص بالسبب، مثلاً: لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر: بكم هذا القلم؟ فقال لك: بريال؛ فأعطيته ريالاً، فأعطاك القلم، فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى: مكافئ له، ولو كان هذا القلم أحسن الأنواع لكان بعشرة مثلاً، فهذه باء عوض، يسألك إنسان: بكم اشتريت هذا القلم؟ فتقول له: بريال هذه الباء باء العوض.
وهناك باء اسمها: باء السبب، مثلاً: تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت؟ فتقول له مثلاً: من جدة، ويكون هو قد سكن جدة قديماً فتسأله: من أي حي؟ يقول: من النزلة مثلاً، ويكون هو ساكن النزلة قديماً، فتطلب ماء؟ فيقول: خذ هذا الماء؛ لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد، فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول على الماء.
مثال آخر: تعفو عن إنسان؛ لأنه صاحب أخيك، يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضباً فعندما ترى من صدمك، تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفو عنه، أنت عفوت عنه لا لأنه أعطاك عوضاً، بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه. يقول الله جل وعلا: أُورِثْتُمُوهَا أي: الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هذه الباء: باء سبب، أعمالكم سبب في دخول الجنة، وإلا فالأعمال لا يمكن أن تكون عوضاً عن الجنة؛ لأن الجنة أكبر من أعمالنا، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمة جميلة في هذا الباب فقال: إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويرثون منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة.
ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات:
النداء الأول:نداء أصحاب الجنة أصحاب النار، والنداء الثاني: نداء أصحاب الأعراف أصحاب الجنة، ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار، ونداء أصحاب النار لأصحاب الجنة، وهذا كله في هذه السورة التي سميت: بسورة الأعراف؛ لأن الله ذكر فيها الأعراف، ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة.
قال الله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44] هذا النداء الأول: ويكون من أصحاب الجنة لأصحاب النار، فأصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقاً، فيسألونهم: هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حقاً؟ فيقولون: نعم، فيستمع الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن ويقول: أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
قال طاوس بن كيسان رحمه الله لـهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان؟ قال: إن الله يقول: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فصعق هشام رحمه الله، فقال طاوس بن كيسان : سبحان الله! هذا ذل الصفة، فكيف بذل المعاينة؟! أي: أنك صعقت وأنا أصف لك هول هذا اليوم وصفت فقط، فكيف لو رأيته بعينيك؟!
ثم قال تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46]، يقول جل وعلا: وَبَيْنَهُمَا أي: بين الجنة والنار.
حِجَابٌ هذا الحجاب جاء مفسراً في سورة الحديد: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
قال الله جل وعلا: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ مكان مرتفع.
رِجَالٌ الله أعلم بهم، قيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا قول حذيفة ، واختاره أكثر المفسرين، وقيل: إنهم أنبياء، وقيل: إنهم ملائكة، ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه
قال: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ يعني: يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار.
بِسِيمَاهُمْ أي: بعلاماتهم، فإن الله قال عن أهل الجنة: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24]، وقال عن أهل الكفر: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، أي: زرق العيون، فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم، ويعرف المؤمنون -جعلني الله وإياكم منهم- بما عليهم من نضرة النعيم، وهؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها يكون معهم نور، هذا النور يجعلهم يطمعون في دخول الجنة، فيقفون حكماً بين الفريقين، قال الله: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ، المنادي: أصحاب الأعراف، والمنادى: أصحاب الجنة
أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ثم ينقطع الكلام: لَمْ يَدْخُلُوهَا والمعنى: أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال.
وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي: ويطمعون في دخولها، وهذا الطمع وهذه الرغبة في دخولها حث عليها أنهم ما زالوا يملكون النور ولم ينقطع.
ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار، قال الله: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47]، إذا رأوا أهل النار وما هم فيه من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به: قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
ثم قال الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف:48] أي: رجالاً كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله.
قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .
أَهَؤُلاءِ أي: الضعفاء الفقراء المساكين.
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة!
قال تعالى: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ .
ثم قال الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50].
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ جعلنا الله وإياكم في هذه الحالة ممن ينادى لا ممن ينادي، فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار اطلاعاً على أهل الجنة، فإذا رأوها كان أحوج ما يكون إليه أهل النار الماء، قال الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ .
فيجيبهم أهل الإيمان: قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا أي: الماء والرزق.
إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ فلا يوجد شيء يحتاجه أهل النار أول أمر أكثر من احتياجهم إلى الماء؛ لأنهم إذا استسقوا في النار سقوا ماء حميماً -كما قال الله: فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، وقد أخذ العلماء من هذه الآية: أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء، وقد قال العلماء: إنه ثبت في الصحيح: (أن الله جل وعلا غفر لرجل؛ لأنه سقى كلباً) فكيف بمن سقى مؤمناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولما قيل لـابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن عم رسول الله! ما أفضل الصدقة؟ قال: أن تسقي الماء، أين أنت من قول الله: أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ
ثم ذكر الله بعضاً من نعوت الكافرين فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، وليس الله جل وعلا ينسى أبداً، قال سبحانه: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، ولكن هذا في لغة العرب يسمى: المشاكلة في الكلام، وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة ومن غير معين حتى يتساقطوا في جهنم.
ثم بين الله جل وعلا عظمة كتابه فقال: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:52-53].
قوله: مِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا.
وقوله: قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فيتمنون أمرين: فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا وهذه قطعها الله بقوله: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ .
وطلبوا أمراً ثانياً: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم، فلن يخرجهم الله من النار أبداً، قال: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ .
فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حال أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية، والقرآن -أيها المؤمن- كله فاضل، لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول، أما كونه فاضلاً فلأن القرآن كله من عند الله، وأما كونه فاضلاً ومفضولاً فلأن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل من وجهتين:
الوجهة الأولى: أنها كلام الله.
والوجهة الثانية: أنها تتحدث عن الله، وليس هناك أحد أعلم بالله من الله، ولذلك من أراد أن يرقق قلبه وتدمع عينه، فليقرأ ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر، وأوائل سورة الحديد، وهذه الآيات التي في الأعراف، وفي الفرقان، أو آية الكرسي، فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
وقال: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدراً؛ لأنها جمعت المجد من طرفيه: كونها من الله، وكونها تتحدث عنه جل جلاله.
هذا مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر