الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإننا نستعين الله جل وعلا في تفسير كلامه جل وعلا، وكنا قد انتهينا في الدرس الماضي إلى سورة الأعراف، وسنشرع في هذا الدرس -إن شاء الله- في تفسير سورة الأنفال.
وقبل أن نشرع فيها نذكر بعض ما كنا قد تأملناه حول سورة الأعراف التي تمت دراستها عبر درسين.
فكنا قد ذكرنا أن الله جل وعلا ذكر ثلة من أنبيائه ورسله في سورة الأعراف بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى عليهم السلام، ووقفنا عند اثنين منهم هما لوط وموسى عليهما الصلاة السلام، وذكرنا عن قوم لوط أن الفطرة انتكست عندهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، ولذلك لم يكن بينهم وبين رسولهم أخذ ولا عطاء؛ فإن الله جل وعلا ذكر أن الأنبياء تحاوروا مع من بعثوا إليهم من الأمم، فقوم ثمود قالوا لصالح: قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا [هود:32]، وقالوا له: قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود:62] .
وقال قوم شعيب لشعيب قريباً من ذلك، وغير ذلك مما ذكره الله من محاورات الرسل لأممهم.
وأما قوم لوط فإنهم لما انتكست الفطرة عندهم لم يبق لهم عقول يحاورون بها، قال الله عنهم: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف:82]، فعاملهم الله جل وعلا بالمثل، فقال الله تبارك وتعالى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82].
ثم ذكرنا بعضاً من خبر نبي الله موسى مع فرعون وملئه.
وذكرنا أن الله جل وعلا قال عنهم: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:132-133].
فهذه خمس آيات من التسع التي بعث الله بها موسى عليه السلام.
وقال جل وعلا:وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130]، فهذه اثنتان، وبقيت اثنتان هما العصا واليد، فهذه تسع آيات قال الله جل وعلا عنها: إنه بعث بها موسى إلى فرعون وملئه، والقرآن ينظر إليه جملة واحدة، ويفسر بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضا، فكله كلام رب العالمين جل جلاله.
كما ذكرنا في قول ربنا جل وعلا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] ، أن كلاً من كلمتي (آيات) و(مفصلات) أعطت معنى، فكلمة (آيَاتٍ) دلت على أمر خارج عن المألوف؛ لأن الجراد والقمل والضفادع يوجد في كل زمان ومكان، ولكن الله جل وعلا جعل وجودها في زمن موسى آية له خارجة عن المألوف.
وقوله تبارك وتعالى: مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] يدل على أنها لم تكن جملة واحدة، وإنما كان يتبع بعضها بعضا.
ثم قلنا: إن الله جل وعلا قال: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، وقلنا: إن القاعدة في ذكر الأيام والليالي أن الأيام تحسب بها المنافع الدنيوية، فالمزارعون -مثلاً- إنما يحصدون بناء على البروج الشمسية، وليس لهم علاقة بالأهلة، وأما الأهلة والليالي فإنما يحسب بها المناسك الدينية، قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] ، وهذه فيها فائدة كبرى، وهي أن يعرف الإنسان أن ما يتعلق بالأيام فيه المنافع الدنيوية، وما يتعلق بالليالي فيه المنافع والمناسك الدينية.
ثم قلنا: إن الرب تبارك وتعالى قال: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:142-143]، فكان هناك ميقاتان: ميقات مكاني وميقات زماني.
فالميقات المكاني: الوادي المقدس، أو جبل الطور، قال الله جل وعلا: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] ، فجبل الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى مرتين:
المرة الأولى: في أول أيام الوحي، والمرة الثانية: في وقت الميقات الذي وعده الله جل وعلا إياه، فهذا هو الميقات المكاني.
وأما الميقات الزماني فإن الله كلم عبده موسى بن عمران بعد أربعين يوماً، فوافق ذلك يوم عشر ذي الحجة، فإن الله وعده ثلاثين يوماً، وعند جماهير العلماء هي شهر ذي القعدة، ثم زاده الله عشراً، قال الله:فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142] ، فاليوم الأربعون هو اليوم العاشر من ذي الحجة المتمم للثلاثين ذي القعدة وعشر ذي الحجة.
ثم قلنا في قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، رغب عليه السلام في مقام الرؤية بعد أن أعطي مقام التكليم, فقال الله جل وعلا له: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، وقلنا: إن رؤية العبد المؤمن للرب جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، ومعنى قولنا: (جائزة عقلاً): أنه يمكن بقدرة الله أن يعطي الله عباده قدرة على أن يروا ربهم في الدنيا؛ لأن الله على كل شيء قدير، فهذا لا ينافي العقل، ولكن الله أخبر في كتابه بأن هذا لن يقع؛ إذ قال لكليمه موسى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، فقلنا: إنها -وإن كانت جائزة عقلاً- ممتنعة شرعاً في الدنيا.
وإذا كانت جائزة عقلاً في الدنيا فمن باب أولى أن تكون جائزة عقلاً في الآخرة؛ لأن الأبصار في الآخرة أقوى منها في الدنيا، قال الله جل وعلا: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] ، وإذا كانت في الدنيا ممتنعة شرعاً، فإنها في الآخرة واقعة شرعاً للمؤمنين في الجنة، وقد نص القرآن والسنة على هذا، قال الله جل وعلا في سورة القيامة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] بالضاد، والمعنى: تعلوها النضرة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، أي: تبصر ربها من غير إحاطة؛ لأن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103] ، فالله جل وعلا لا تدركه أبصار خلقه.
وقلنا: إن من العلماء من قال إنها ممتنعة في الدنيا والآخرة، وهذا قول المعتزلة، نص عليه جار الله الزمخشري في تفسيره المشهور بـ(تفسير الكشاف)، فإنه قال: إن العباد لا يرون ربهم في الدنيا ولا في الآخرة. واحتج بحرف النفي (لن).
والجواب العلمي أن يقال: إن الله جل وعلا أخبر عن اليهود بأنهم لا يتمنون الموت، فقال عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] ، أي: الموت، ومع ذلك قال الله عن أهل النار -واليهود قطعاً من أهل النار-: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] ، فيتمنون الموت، فدل على أن ( لن ) هنا تجري على أحكام الدنيا ولا تجري على أحكام الآخرة.
ثم إن النصوص الصريحة في رؤية المؤمنين لوجه ربهم لا يمكن تأويلها ولا دفعها بحال في رؤية وجه ربهم تبارك وتعالى، منها آية القيامة، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وغيرهما-: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) منَّ الله علينا وعليكم برؤية وجهه الكريم.
ثم قلنا بعد ذلك: إن الله جل وعلا قال لموسى عليه السلام: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144] ، وقلنا: إن هذه الكلمة عَلَى النَّاسِ ليست على إطلاقها، وإن من الآلة العلمية في تفسير كلام الله أن يكون الإنسان مطلعاً على اللغة مطلعاً على الأحاديث مطلعاً على التاريخ، فقول الله جل وعلا لموسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144] لا يمكن أن يكون على إطلاقه لعموم الناس؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى بالاتفاق، فموسى عليه السلام أفضل أهل زمانه، وأما من قبله فإبراهيم أفضل منه، بل إن موسى من ذرية إبراهيم، وجميع الأنبياء الذين من بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم باستثناء لوط على الخلاف في أنه ابن أخيه؛ لأن الله قال: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27] ، فما بعث نبي من الأنبياء، ولا أُنزل كتاب من السماء إلا على رجل من ذرية إبراهيم.
والمقصود أن موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه، ولكنه ليس أفضل ممن كان من قبل، فإبراهيم أفضل منه، ولا هو أفضل ممن بعده؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم.
هذا ما انتهينا إليه حول سورة الأعراف.
ونشرع في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- في تأمل خمس آيات من سورة الأنفال، وقد جرت العادة بأننا نقدم للسورة قبل أن نشرع في تفسيرها.
فسورة الأنفال سورة مدنية، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن قول الله جل وعلا: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30] مكي، والله أعلم.
ولكن السورة في جملتها سورة مدنية، وهي من أوائل السور المدنية التي نزلت، ومن أواخر السور المدنية سورة التوبة، وكلتا السورتين عنيتا بالغزوات، خاصة سورة الأنفال، فسورة الأنفال تكلمت عن بدر، ولذلك يقول بعض العلماء: إنها سورة مدنية بدرية.
أما التوبة فتكلمت عن غزوة تبوك، وجيش العسرة، وهذا كان في السنة التاسعة، والنبي صلى الله عليه وسلم مات في العاشرة، وعلى هذا فالتوبة من آخر ما نزلَ جملة من السور المدنية، والأنفال من أوائل ما نزل من السور المدنية، فهي مدنية بدرية.
وهذه السورة نزلت بعد اختصام المسلمين في غنائم بدر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه إلى بدر، وكان أول أمره يريد عير قريش، وقال لأصحابه: (لعل الله أن ينفلكموها) أي: يهبها لكم، فلما نجا أبو سفيان بالعير، وجاءت قريش تحاد الله ورسوله التقى الجمعان في يوم الفرقان في بدر في الموضع المعروف بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، وهي أول معركة وقعت في الإسلام يمكن أن يطلق عليها أنها غزوة بالمعنى الحقيقي، وكان قبلها بدر الصغرى، ولم يقع فيها قتال فوقعت تلك المعركة، وأعلى الله فيها كلمة الإسلام، ونصر الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ورد الله القرشيين على أدبارهم، فغنم المسلمون غنائم.
ثم إن الجيش في آخر الغزوة انقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم أخذ يحرس النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه من أن يأتيه أحد من المشركين.
وقسم أخذ يجهز على من بقي ويتبع فلول أهل الإشراك.
وقسم أخذ يجمع الغنائم.
فلما انتهى الأمر، ووقع من وقع من القرشيين في الأسر، وقتل منهم من قتل، وفر منهم من فر، ووضعت الحرب أوزارها؛ اختصم المسلمون في الغنائم، فهل الأولى بها من حرس النبي عليه الصلاة والسلام، أم من جمعها، أم من تبع فلول أهل الإشراك؟
فلما اختصموا فيها لجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه، فقال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1].
والنفل هو: الزيادة على الأصل، فالغنيمة زيادة على النصر في المعركة؛ لأن المطلوب الأول في المعركة النصر، فالغنيمة زيادة عليه، وولد الولد زيادة على الولد، ولذلك قال الله عن إبراهيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72] أي: زيادة على إسحاق؛ لأن إسحاق ابن إبراهيم، فوهب الله يعقوب زيادة لإبراهيم على إسحاق الذي هو ولده.
وصلاة التطوع زيادة على الفريضة، ولذلك تسمى الأولى فريضة ويسمى ما يزاد عليها نافلة، قال الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].
والغنيمة: ما يناله المسلمون من عدوهم بسعي وإيجاف خيل وركاب.
وما ناله المسلمون من عدوهم من غير سعي ولا إيجاف خيل ولا ركاب -كخراج الأراضي أو الجزية- فإنه يسمى فيئاً.
وقد أجمع العلماء على أن قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1] يراد به ما غنمه المسلمون يوم بدر.
وكلمة يَسْأَلُونَكَ ، وردت في القرآن مراراً بدون واو وبالواو، قال الله جل وعلا في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] ، وقال جل وعلا في البقرة أيضاً: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217] ، وقال جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، وقال جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ [المائدة:4] ، وقال تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف:187] ، وقال جل ذكره: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، وقال تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85] ، وقال جل وعلا: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الأحزاب:63]، وقال تبارك اسمه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النازعات:42].
فهذه سؤالات وردت من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير واو.
وجاء في القرآن لفظ (يسألونك) مقروناً بالواو، قال الله تعالى: ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215] ، وقال جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، وقال جل ذكره: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] ، وقال جل ذكره: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83] ، وقال تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105].
قال بعض العلماء: إن (يسألونك) إذا لم تكن مقترنة بواو يكون السؤال قد وقع من الصحابة، وأما إذا كان مقترنة بالواو فإن الله يخبر به لعلمه جل وعلا أنه سيقع.
وأقول: إن الأمر لم يثبت لدينا فيه بيان شاف، والله أعلم.
ويلحظ في كلمة: يَسْأَلُونَكَ أن الله يأتي بالجواب بعدها، كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، حيث قال تعالى بعدها: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]، وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105], وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].
ولكن هنا قال الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، ولم يأت جواب، وإنما جاء الجواب بعد أربعين آية، حيث قال الله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41].
وهذا من تربية الله للصحابة؛ لأن الخطأ من الرجل العظيم ليس كالخطأ ممن هو أقل منه.
كما ترى شاباً يلعب بالكرة والمؤذن يؤذن، فهذا الفعل لا يجوز، ولكن لأنه شاب تأتيه بيسر؛ لأنك تعرف عين القدر وعين الشرع، فتأتيه باللين.
ولكن لا يقبل منك اللين حين تأتي إلى إمام مسجد يلعب بالكرة وقت الأذان، فيكون تأنيبك للإمام ليس كتأنيبك للشاب.
وصفوة الأمة هم أهل بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر رضي الله عنه: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
والمهاجرون: هم الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين.
والأنصار: هم الذين قبلوا أن يأتي هؤلاء من مكة ليؤووهم ويحموهم ويقاسموهم، الأموال، والله يقول: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق، وهم صفوة الأمة, وقد قال الرسول في ليلة بدر هو ينظر إليهم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).
فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين.
فهؤلاء الصفوة ما إن انتهت المعركة حتى اختصموا فيما بينهم على الغنائم، وهذا أمر لا يقبل، فرباهم الله جل وعلا، وعاتبهم عتاباً شديداً، فقال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1] ، ولم يقل هي كذا وكذا وكذا، بل قال: قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] أي: ليس لكم فيها اختصاص.
والصحابة يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه، ولكن أراد الله أن يؤدبهم فقال: قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:1].
فإذا علمت أن الله قال في حق أهل بدر: فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، فاعلم أنه لا ينبغي أن يستكبر أحد عن كلمة (اتق الله)، ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد، فكل إنسان عرضة للخطأ، وكل إنسان يخطئ يُنقد، ويقال له: أخطأت، ولو كانت منزلته عالية.
ولكن النقد يختلف، فلا تأتي إلى إمام مسجد أمام عشرات الناس الذين يصلون وراءه وتقف تنقده أمام الناس، فهذا ليس من النصيحة في شيء.
ولا تأتي إلى معلم وتوبخه أو تنهره أمام طلابه، ولا تأتي إلى أمير أو حاكم فتنقده لتذهب هيبته في خطبة جمعه عند الناس، ولا تأتي إلى أب فتنقده أمام أولاده، ولا إلى أم أمام بناتها، ومن أخلص النية في النقد فسيوفق في الطريقة السليمة التي ينقد بها.
ولكن هنا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا هو الله تعالى، فالمسألة تختلف جذرياً، وليست نقد كفؤ لكفؤ، وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر، فقال الله جل وعلا لهم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].
أي: انتصرتم على المشركين، والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فانتصار الإنسان على هوى نفسه، وعلى شهواته، وعلى حبه للمال وحبه لأن يكون أفضل من غيره، وما يدفعه إلى الاستئثار بالشيء، هذا الذي ينبغي أن ينتصر عليه، فإذا انتصر الإنسان على شهواته وحبه للكبر والاستعلاء على غيره حقق الانتصار العظيم.
يقول الله تعالى لنبيه ولأصحابه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] والصلح وصفه الله جل وعلا بأنه خير، ويقع على عدة طرائق:
فيقع بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ودليله قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، وهذا مرده إلى ولي أمر المسلمين.
وهناك صلح يقع بين فئتين من أهل الإسلام تتقاتلان، فيسعى بينهما بالصلح، قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] .
وهناك صلح يقع بين الزوج والزوجة قال الله فيه: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
وهناك صلح يقع بين الرجل والرجل في خصومات ماليه، وهذا لابد فيه من التنازل، وأي صلح لا بد فيه من التنازل، فإن لم يتنازل كلا الطرفين فلا يسمى ذلك صلحاً.
والسعي بين الناس في الصلح من أعظم طرائق الخير، قال الله جل وعلا: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، بل إنه مما يجوز الكذب فيه شرعا.
فقول ربنا جل وعلا: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] أي: كونوا أمة متحابة متآلفة لا تفرق بينكم الدنيا ولا الغنائم، وهذا تربية لصفوة الأمة -وهم أهل بدر- من لدن العليم الخبير جل جلاله.
وقد بين الله جل وعلا قسمة الغنائم فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41].
إن حب المال أمر فطرت عليه النفوس، فالله يقول: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20] ، وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، والخير هنا هو المال؛ إذ الكلام هنا عن الإنسان، ولا يعقل أن كل الناس تحب الخير والمعروف الذي هو ضد الشر.
ولذلك لما علم الرب جلا وعلا أن النفوس جبلت على حب المال، وكان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاث طرق تولى الله جل وعلا بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد، ولا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم:
وتلك الطرق هي الميراث، والغنيمة في الحرب، والصدقات التي هي الزكاة، وأما الجزية والنفل فيدخلان في الغنيمة.
فهذه كلها تولى رب العالمين تقسيمها، فقسم جل وعلا المواريث وأعطى كل ذي حق حقه، وقسم جل وعلا الغنائم فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ [الأنفال:41] إلى آخر الآية، وجاء إلى الزكاة الشرعية فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
فهذه الثلاث هي: المصادر المالية، ولم يكل الله تقسيمها إلى أحد، وتولى جل وعلا تقسيمها بنفسه؛ لعلمه تبارك وتعالى بحب الناس للمال، جعلنا الله وإياكم ممن كان المال في يده وليس في قلبه.
والذي يعنينا أن الله جل جلاله تولى قسمة الغنائم، فجعل الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقد اختلف العلماء في التقسيم، ونختار قول مالك رحمه، وهو أنه يُسنَد أمرها إلى الإمام فيعطي القرابة ما يراه مناسباً لهم، ويقسم الباقي، فيجعل للمجاهدين الذين معه بحسب ما يراه مناسباً، وقال: إن هذا فعل الخلفاء الأربعة من بعده صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بذوي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41] أي: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتم تقسيم خمس الغنائم عليهم على ثلاثة أقوال:
الأول: أنهم قريش كلها، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وهذا أضعف الأقوال.
الثاني: أنهم بنو هاشم فقط، وهذا قول مالك والأوزاعي رحمهما الله ومن تبعهما من العلماء.
وذهب الإمام أحمد والشافعي وكثير من العلماء -وهو الصحيح إن شاء الله- إلى أن المقصود به بنو هاشم وبنو المطلب.
ودليل هذا القول أن النبي عليه الصلاة والسلام اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فـهاشم هو ابن عبد مناف ، وقد ترك عبد مناف أربعة أبناء؛ فترك هاشماً وعبد شمس ونوفلاً والمطلب .
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من هاشم ، فبنو هاشم يستحقون الخمس لأنهم آل النبي صلى الله عليه وسلم آله.
ولما جاءت قريش وحاصرت في شعب أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من بني هاشم في الشعب دخل بنو المطلب مع بني هاشم في الشعب يناصرونهم، فحفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فلما جاء يقسم الغنائم بعد خيبر جاءه من ذرية عبد شمس عثمان بن عفان ، وجاءه من ذرية نوفل جبير بن مطعم وقالا في معنى كلامهما: يا رسول الله! إن كونك تعطي بني هاشم لا نعترض عليه؛ لأن الله أعزهم بك، ولكنك أعطيت إخواننا من بني المطلب، ونحن وبنو المطلب شيء واحد، فلماذا فرقت بيننا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)؛ لأنهم دخلوا معه في الشعب، ثم شبك بين أصابعه وقال: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد).
فأصبح هذا الحديث حجه ظاهره على أنهم يعطون من الخمس كما يعطى بنو هاشم.
وهناك مثل يقول: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل)، فهذا الحديث نص في الموضوع، ويعتذر للعلماء الذين قالوا: إنها محصورة في بني هاشم أو عامة في قريش كلها.
قلنا: إن معركة بدر هي أول معركة بين المسلمين وبين الكفار، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر بعد أن ألقي فيه الجمع منهم وأخذ يسألهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فأني قد وجدت ما وعدني ربي حقا)، فجاءه عمر وقال: يا رسول الله! كيف تكلم أقوام قد جيفوا؟! فقال: (يا
قال حسان :
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب
لكن كتب الله عليهم ما كتب، عياذاً بالله.
فهذه معركة بدر، وهذه سورة الأنفال التي نزلت تبين الموقعة، وتذكر جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك المعركة.
ثم قال الله جل وعلا بعد أن ذكر هذه القضية يربي عباده الصالحين على الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].
فذكر الله جل وعلا هنا أصحاب المنازل العالية من أهل الإيمان الحق الذين اصطفاهم واجتباهم، سواء من النبيين أو من أتباعهم إلى يوم الدين، فلم يذكر الله أعياناًًًًًًًًًًًًً بأسمائها، وإنما ذكر صفات يتحلون بها جعلتهم مؤمنين حقاً.
فقال في أولها: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والوجل هو الخوف، والمعنى: أنهم يصيبهم من الخوف والوجل والطمع والرغبة فيما عند الله ما تقشعر له الأبدان، وترتجف له القلوب، ثم لا تلبث قلوبهم أن تسكن، وجوارحهم أن تهدأ بعد ذكر الرب تبارك وتعالى، وهذا من أعظم دلائل الإيمان، أي: أن يوجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى، فإذا خوف بالله خاف، وإذا ذكر بالله ذكر، وإذا اتعظ بالله اتعظ، وإذا قيل له اتق الله لم تأخذه العزة بالإثم.
ثم قال تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] ، فالإيمان يزيد وينقص، ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات، وإن مما يزيد إيمان المؤمن تلاوة كلام الرب جل وعلا، بل هذا من أعظم ما يزيد الإيمان، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82] .
والمؤمن ينبغي عليه أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه، فيزداد إيماناً كلما تلا هذا الكتاب العظيم وعلم أن هذا القول قول الله جل وعلا.
وهذه مناقب ذكرها الله جلا وعلا في الأنبياء وذكرها الله جل وعلا في الرسل وذكرها الله جل وعلا في العامة، فقال الله في الأنبياء: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58] .
وقال جل وعلا عن أهل العلم: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109] .
وقال الله عن عامة من الناس: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:83-85] .
فالمؤمن يحاول بقدر الإمكان أن يرقى بنفسه إلى مستوى من وصفهم الله ونعتهم من أهل الدرجات العالية ممن وعدهم الله جنانه ومغفرته والرزق الكريم، جعلني الله وإياكم منهم.
ثم قال جل ذكره: (( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))، وهذا متصل بما قبله، فإن من رزق الإيمان ومعرفة الله، وما لله من كمال الرحمة، وكمال القدرة وجليل العطاء، وأن الله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يجيب من دعاه ويؤي من لجأ إليه، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه تبارك وتعالى إلا إليه؛ صدق توكله على الله.
فالله جل وعلا ذكر في هذه الآية ثلاث من صفات القلوب، وهي: الوجل، أي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل، وكلها من أعمال قلوب.
ثم ذكر جل وعلا أعمال الجوارح فقال جل ذكره: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، والصلاة أعظم ما افترضه الله جل وعلا على عباده وخلقه بعد الشهادتين، فبها يتقرب العبد إلى ربه، ولذلك فرضت الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، فلما كان صبيحتها -كما قال سعيد بن جبير وغيره- بعد أن زالت الشمس -أي: عند حلول وقت الظهر- نزل جبريل من السماء فأم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، فكانت أول صلاة صليت من الصلوات الخمس صلاة الظهر، وأم جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم يومين متتالين، فصلى به الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر في أول وقتها، ثم صلى به كرة أخرى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر في آخر وقتها، وقال له بعد ذلك -وهو يعلمه الصلاة-: ما بين هذين الوقتين، أي: ما بين هذين الوقتين وقت الصلوات.
والمؤمنون في الصلاة يختلفون، فمن الناس -والعياذ بالله- من لا يصليها، وهذا من المحال أن يطلق عليه أنه مؤمن ومن الناس -والعياذ بالله- من يصليها في بيته من غير عذر، ومنهم من يأتي إلى الجماعة، ومنهم من هو أرقى درجة وأرفع منزلة، يسابق إلى التكبيرة الأولى، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما عند الترمذي بسند حسنه العلامة الألباني رحمه الله-: (من صلى لله أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى ـ أي: تكبيرة الإحرام ـ كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)، وفقنا الله وإياكم لهذا العمل.
ثم قال جل وعلا يختم أعمالهم قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، فالإنفاق مما آتاك الله حسن ظن بالرب جل وعلا، وأن الله قادر على أن يعوضك، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .
ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم، ونعوتهم -والسرائر أمرها إلى الله- ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم، فقال عنهم: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، ولا يعني ذلك أن من لم يبك من خشية الله ليس بمؤمن؛ لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية، ولا يتكلم عن الإيمان الذي يفرق به بين الإيمان والكفر، فربما اجتمع في رجل بعض هذه الخمس فيه كلها، فلا يقال عنه: إنه ليس بمؤمن، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل فيه أنه مؤمن، وأهل الإيمان يتفاوتون، والأعمال قرينة الإيمان، فلا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح.
ثم قال الله: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنفال:4] أي: لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية، ويأتي عليها يوم وهي كظيظ من الزحام، وفي داخل الجنة درجات متفاوتة، ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى، فقال الله جل وعلا -كما في الحديث القدسي-: (أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، فلم تسمع أذن، ولم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر)، وقال الله في سورة السجدة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] .
ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة، وقال: من يفوز بها سأعطيه جائزة لا يتوقعها؛ لتسابق الناس إليه لعلمهم أن هذا الملك لا يمكن أن يعطي جائزة وضيعة يُعَيَّر بها، وأن هذا الفائز سينال أعظم شيء ما دام الملك قد أخفاه؛ لأن الملك سيعطي على قدر ملكه.
فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وله جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ [الأنفال:4] وهذا دلالة على أن هؤلاء الذين هم المؤمنون حقاً لا يمكن أن يكونوا قد خلوا من الذنوب كلها، فهذا محال؛ إذ لا يمكن أن يخلو أحد من الذنوب كلها، فكلنا ومن قبلنا ومن بعدنا ذوو خطأ، ولن ندخل الجنة بأعمالنا، ولكن المؤمن قد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالفرس المعقود حبله في مكان ثابت، فمهما بعد فإنه يعود إلى مكانه، فالمسلم مهما نأت به المعصية فإنه يفيء إلى ربه، ويرجع إلى مولاه، ويجدد التوبة، ويسأل الله غفران الذنوب، ويأتي بالحسنات علَّ الله أن يكفر بها ما سلف من الخطايا، قال الله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] .
وإن كنت قد ابتليت بنوع من المعاصي فليس الحل أن تبقى على تلك المعاصي، وتداهن أهلها، وتبقى معهم، بل الحل أن تتوب وترجع، ولأن تلقى الله وقد خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً خير لك من أن تلقى الله وليس لك من العمل الصالح شيء، والمؤمن حصيف عاقل يعلم أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوبة، والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاًً فاستغفروني أغفر لكم) .
فالله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء، وباب توبته مفتوح، وهو -جل وعلا- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلا انفكاك من التوبة والأوبة والرجوع إلى الله جل وعلا.
ثم قال سبحانه: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4] ، وهذا الرزق جاء بعضه دلالة في القرآن، قال الله عن أهل الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، فيقطف أحدهم الثمرة، فما أن يقطفها وتقع في يده حتى تحل محلها أخرى مثلها تماما، فإذا أخذوا الثانية ورجعوا إلى الثالثة قالوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] ، كما قال الله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أنت ربنا لا إله إلا أنت، لا رب لنا غيرك، ولا إله سواك، أنت خالقنا ورازقنا وولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا، نسألك -اللهم- أن تصلي على محمد وعلى آله وتسلم عليهم تسليماً كثيرا، وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، سرها وعلانيتها، أولها وآخرها، اللهم تب على من تاب منا يا رب العالمين، اللهم تب علينا جميعاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من قرأ درسنا هذا يريد أن يتقرب إليك ويزدلف إليك فتب عليه، وأعنه على نفسه يا ذا الجلال والإكرام، وأكرم مجيئه يا حي يا قيوم، وارزقه التوبة النصوح الصادقة إليك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك، ولا يعرفه سواك، فاغفر اللهم لنا ذنوبنا أجمعين يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا -اللهم- مباركين أينما كنا، لا إله إلا أنت، اغفر لنا ولوالدينا ولمن له حق علينا، وارزقنا -اللهم- من فضلك وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعلنا -اللهم- من أفقر خلقك إليك، وأغنى عبادك بك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر