إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
قول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:
ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى
أي: لا يكفر من ارتكب المعصية إلا إذا استحلها، وأشرنا إلى عمل القلب في أمر المعاصي، وفي التفريق بين الكفر والإيمان، فهناك عمل القلب وهناك عمل الجوارح، سواء في الطاعات أو المعاصي، فالشخص الذي يسرق ويشرب الخمر ويفعل الفواحش له شقان، شق هو اعتقاد قلبه تجاه هذه الأشياء، وشق يتعلق بالناحية العملية، وإذا ارتكب شخص شيئاً من هذه المحرمات فهنا يعد عاصياً فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة أو ذنباً من الذنوب، ولا يكفي هذا لتكفيره؛ لأنه ما زال في قلبه التصديق بأن هذا الشيء حرام، إنما غلبه هواه، أو زين له شيطانه، أو حرضه رفقاء السوء، أو أي عامل من العوامل للضعف البشري هي التي مهدت له الوقوع في هذه المخالفة، لكنه بقلبه يعتقد أن الخمر حرام، وأن السرقة حرام، فهذا نوع من الجريان مع الهوى والميل مع الشيطان فلا يكفي ذلك لتكفيره، بل هذا ينقص إيمانه.
رجل آخر لا يشرب الخمر ويقول: إنها تضر بالصحة، ويعتقد بقلبه أنها حلال، وينكر أن تكون الخمر، أو السرقة حراماً، وهو يمتنع من شربها حتى لا تضر صحته، ويعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفراً أكبر حتى ولو لم يذق قطرة من الخمر، وخارج من الملة مثل فرعون وهامان وأبي لهب ، لماذا؟ لأن هذا استحل بقلبه وإن لم يفعل بجوارحه هذه المعصية.
إن اعتقاد المسلم هو وجود عمل القلب بالتصديق بحكم الله في هذه المسائل حتى في حالة المعصية، ولذلك يفرق بين المسلم مرتكب المعصية الذي يفسق بفعلها، أو ينقص إيمانه بفعلها، وبين الشخص الذي وإن لم يفعل المعصية لكنه كافر لاستحلاله إياها بقلبه.
وأشرنا من قبل إلى الأدلة التي تثبت أن فاعل المعصية لا يخرج من الملة، وذكرنا بعض هذه الأدلة سواء من القرآن الكريم أو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق هذا من الكبائر، واقتتال طائفتين من المسلمين هو من أكبر الكبائر، ورغم ذلك أثبت لهم القرآن أخوة الإسلام، فقال تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، أثبت لهم صفة الإيمان. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]. هذا قتال بغاة، وفرق كبير في الأحكام الفقهية بين قتال البغاة وقتال الكفار، مثلاً في قتال الكفار الأسير الجريح تجهز عليه؛ لأنك تستحل دمه، وإذا فر تتبعه حتى تقضي عليه، ويسبى نساؤهم، وتغنم أموالهم، أما في قتال البغاة. وهذا لم يقع أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة. يعني المقصود: أنه أول من طبق فقه قتال أهل القبلة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم حتى في الفتنة الكبرى حينما اقتتل جيش علي وجيش معاوية رضي الله عنهما، كانوا إذا أتى وقت الصلاة يوقفون القتال ويصلون، وكان إذا قتل أي واحد من القتلى أي فريق من الاثنين يأخذه ويصلي عليه ويكفنه ويؤدي حق المسلم معه، ولم يسبوا نساءهم، ولم يستحلوا أموالهم، وما كانوا يجهزون على الجريح، ولأن المقصود كما قال الإمام الشافعي : ليس القتال من القتل بسبيل؛ قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، والبغاة عبارة عن طائفة من المسلمين تخرج بتأويل سائغ على الخليفة، تكون لها قوة ومنعة وزعيم ومطالب محددة أو تأويل لبعض النصوص؛ فيخرجون على الخليفة الحق، فهؤلاء تطبق عليهم أحكام قتال البغاة، ولم يحصل هذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن وجود الرسول عليه الصلاة والسلام كان رحمة للأمة من أن يصطرعوا أو يتقاتلوا، لكن وقعت الفتنة كما قدر الله تبارك وتعالى فحصل ما حصل، فلذلك كان أول مجال عملي طبق فيه فقه مقاتلة البغاة هو الحرب بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فلذلك لم يحصل سبي للنساء؛ لأن هذا فرق بين قتال المسلمين وقتال الكافرين، ولذلك الخوارج كفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وخرجوا عليه، لماذا؟ قالوا: لماذا لا تسبي نساءهم؟ فقال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها؟ فلم يحصل أي شيء، المقصود من قتال البغاة هو إضعاف شوكتهم وليس المقصود استحلال دمائهم، فلذلك إذا فر من المعركة وهرب لا يتبعه أحد، وإذا جرح وعجز عن مواصلة القتال لا يجهز عليه، ولا تسبى النساء، ولا تغنم الأموال، لذلك قد يحل قتال الرجل الذي يكون في البغاة المقاتلة لإضعاف شوكته فقط ولا يحل قتله، ولكن الكافر يباح دمه ويقتل ويجهز عليه كما هو معلوم.
الشاهد: أن التطبيق العملي لهذه الآية التي تتحدث عن قتال البغاة تؤكد أن المعاملة كانت بين جيشين متقاتلين معاملة البغاة، وليست معاملة المرتدين أو الكافرين.
أيضاً سمى الله تبارك وتعالى الذي يقتل أخاه لأي هوى دافع من العصبية أو الصراع على دنيا أو أي شيء، قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، والخطاب موجه للمؤمنين، والقصاص لا يحصل إلا بعد أن يكون هناك قاتل ومقتول، ومع ذلك خاطبهم بلفظ الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، إذا عفا ولي الدم عن القاتل؛ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، فأثبت لهم الأخوة مع وجود هذه المقاتلة. ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178].
لوكان هذا القاتل مرتداً لما سماه الله أخاً، وما قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، وأنه لا أخوة البتة بين مؤمن وكافر.
كذلك حاطب بن أبي بلتعة ، مع أنه من البدريين رضي الله عنه فقد ارتكب معصية كبيرة من الكبائر حينما أرسل كتاباً إلى أهل مكة من المشركين يخبرهم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم ويقصد مقاتلتهم وغزوهم، وأنه جهز جيشاً لفتح مكة، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه فتتبعوا المرأة التي كانت تحمل هذه الرسالة، وفعلاً هددوها إما أن تخرج الكتاب، وإما أن يرفعوا الثياب ويكشفوها حتى يفتشوا عن ذلك، فأخرجت المرأة هذا الكتاب وأحضروه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحينئذ نزل قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا ، خاطبه بوصف الإيمان مع ارتكابه لهذه المعصية الكبيرة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
حينئذ اعتذر حاطب رضي الله تعالى عنه بأن كل واحد من الصحابة له عصبة ورجال يحمون ذويهم في قريش من الكفار، فهو أراد أن يبذل بعض الجميل للكفار؛ لأنه ليس له ولا لذويه في قريش هذه المنعة، فأراد أن يصنع لهم يداً بحيث يكفوا شرهم عن أهله في مكة، فمن أجل هذا التأويل تجاوز له الله عن هذا الفعل؛ لأنه لم يقصد خيانة الله ورسوله، فحينما استأذن عمر رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب عنق حاطب ، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فحينئذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وما يدريك يا
كذلك ليس كل من خاض في حديث الإفك من المنافقين، بل فيهم مؤمنون كما هو معلوم، ومع ذلك أنزل الله تبارك وتعالى قوله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، المقصود منها أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان له قريب يدعى: مسطح ، وكان أبو بكر ينفق عليه ويتصدق عليه، فحينما وقع في أم المؤمنين أقسم أبو بكر رضي الله عنه أن يقطع عنه هذا الرزق، فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فحينئذ قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى يا رب والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرد على مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً. وإنما كان ذلك لما أظهر مسطح الندامة.
والإنسان إذا أساء يظهر الندم .. الأب مثلاً يعطي ابنه وينفق عليه ويحسن إليه، ومما يروى أن أباً كان كذلك، فلما قطع عنه هذا الرزق أو هذا العطاء نتيجة ذنب أذنبه هذا الابن أرسل إليه هذا الابن أبياتاً يقول فيها:
لا تقطعن عادة بر ولا تجعل عتاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه
هذا كلام الابن، يقول لأبيه: إذا اعتدت على فعل من أفعال البر لا تقطعه بل داوم عليه.
(فإن أمر الإفك من مسطح ) يذكره بهذه الحادثة، وأن أمر الإفك من مسطح ذنب عظيم جداً يتزلزل له النجم، وينزاح من مكانه من شدة التأثر به، ومع هذا عوتب الصديق في حقه.
فأجابه الأب في بعض أبيات فقال له:
قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه
لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه
القاعدة الشرعية: أن الرخص لا تناط بالمعاصي، فمثلاً رخصة الأكل من الميتة، رخصة القصر في السفر، رخصة الجمع في الصلاة، هذه رخص السفر، لكن لكي يتمتع الإنسان بهذه الرخص يشترط أن يكون سفره مباحاً أو في طاعة، أما في سفر المعصية فلا يجوز له أن يتعاطى هذه الرخصة، فإذا رجل سافر وقطع المسافات لكي يقتل ظلماً مسلماً من المسلمين، هل له في هذا السفر أن يقصر الصلاة، لا، لماذا؟ لأن المعصية تحول دون تمتعه بهذه الرخصة، هذه الرخص إعانة للمستقيمين، أما من سافر في معصية فلا يتمتع بهذه الرخص، إذا حصل له اضطرار وكاد أن يهلك وأمامه ميتة فهل يباح له أكل الميتة وهو في سفر المعصية؟ لا يحل له أن يأكل الميتة، بل يموت ويهلك أو يتوب ويرجع ولا يتمادى في سفر المعصية.
المقصود أنه يقول له هنا:
قد يمنع المضطر من ميتة. متى؟ (إذا عصى في السير في طرقه)، أي: إذا كانت الطرق التي يسير فيها طرق معصية ويسافر سفر معصية؛ لماذا؟
لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
فالتوبة هي التي توصل إلى الرزق.
لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه
هذا استطراد يعني عابر؛ ونعود إلى الموضوع.
يعني: أن الله عز وجل أطلق على مسطح بن أثاثة لفظة وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فهذه الصفة ظلت لازمة لـمسطح ، ولم تزل عنه بهذه المعصية الكبيرة التي ارتكبها، مع خوضه في أمر عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فدل على أنه لو كان كفر بهذه المعصية لحبطت كل أعماله السابقة، لكن لما كانت المعاصي لا تكفر فاعلها وإنما تنقص إيمانه فحسب أثبت له الله صفة: وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
ولذلك هذه الآية عدها بعض العلماء من أرجى الآيات في القرآن.
يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
الشاهد: أنه خاطبهم بلفظ الإيمان حتى ينزجروا عن هذه المعصية؛ لأن الانزجار والانكفاف عنها من مقتضيات هذا الإيمان.
أما من السنة النبوية: فحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف
وفي رواية أخرى لـأبي ذر عن المعرور بن سويد عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق).
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -هجمنا في الصباح على هذه القبيلة من جهينة- فأدركت رجلاً من الكفار، فقال: لا إله إلا الله! -يعني: الرجل اختار أقصر عبارة حتى يعلمه أنه مسلم مثله، فلا يحل له أن يقتله- فيقول: فطعنته! مع أنه قال لا إله إلا الله؛ فوقع في نفسي من ذلك! فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ!) قال: فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين يعني: أسامة رضي الله عنه، قيل: لأنه كان له بطن عظيم، فقال رجل: ألم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
هذا الحديث يجب أن يوضع نصب عيني كل من لا يقتنع بأن يحاسب الناس على ما يظهرون، شأن العبيد مع العبيد فبعض الناس يريد أن يحاسب الناس على ما في قلوبهم! لا يكتفي بما يظهرونه، ويظل يتتبع ويتحرى حتى ظهرت هذه البدعة الضالة: التوقف والتبين! يقول لك: يتبين، ولسان حالهم يقول: أريد أن أعاملك على أساس ما في قلبك لا على أساس ما تظهره؛ ويتعنت ويتعسف في بذل الجهد في إنقاص عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه هي المهمة التي يعيش من أجلها: كيف يخرج الناس من الإسلام؟ كيف يحكم عليهم بالكفر؟
فمعاملة العبد لعبد لا تنبني إلا على ما يظهر هذا الإنسان، أما الرب فهو الذي يعامل الناس على ما في قلوبهم لأنه هو وحده الذي يطلع على ذلك، معلوم قول النبي عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى: (إني لم أؤمر أن أنقب عما في قلوب الناس أو أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي بعض الآثار عن بعض الصحابة، وتروى في الموطأ على أنها عن عيسى بن مريم عليه السلام قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
فالإنسان الذي يعامل الناس على ما في قلوبهم تجد أنه ينازع الله في ربوبيته ولا يقنع إلا بمعاملة الناس على ما في قلوبهم وهذا محال بلا شك!
أما في حالة أسامة هذه فإن الظاهر أن هذا الرجل لما لاذ بالشجرة أو اختبأ، وقال: لا إله إلا الله، ولنفرض جدلاً أنه قال هذه الكلمة لكي تعصم دمه في الحال، فلا ينبغي حينها أبداً أن يلتمس مثل هذه المعاذير.
إن قلة الفقه بهذه القضايا هي التي أوجدت مثل هذه الأمور التي نسمع بها من بعض إخواننا في أفغانستان؛ لعدم وجود الفقه والبصيرة والعلم الشرعي، كان بعض الإخوة إذا لاقوا الجنود من حكومة أفغانستان الشيوعية -حينما تحصل مثل هذه المناسبة التي نتحدث فيها- تجد جرأة على إراقة الدماء، فيقولون: لا إله إلا الله ومع ذلك يقتلونهم، هذا انحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لماذا؟ يقول: هو ما قال ذلك إلا بعد ما قدرت عليه وكدت أن أقتله؛ هذا نفس ما حدث مع أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، ومع ذلك زجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قد يطرأ سؤال: إذاً لماذا لم يؤاخذ النبي عليه الصلاة والسلام أسامة بقتله ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله؟
الجواب: لم يؤاخذه لوجود الشبهة في هذا الأمر، وأنه ظن أنه إنما قالها تعوذاً؛ فلو قال إنسان هذه الكلمة -حتى لو كان الظاهر أنه يتعوذ بها- فإنها تحميه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون في قصة سرية مؤتة حينما عرض خالد هؤلاء القوم على السيف، سألهم: هل أنتم مسلمون؟ قالوا: صبأنا.. صبأنا، فصبأنا من حيث اللغة تعني تغيير الدين، أما هو فقد فهمها بخلاف ذلك؛ لأن فيها نوع من عدم الصراحة في إثبات أنهم مسلمون أو غير مسلمين، وكان ينبغي أن يتحرى خالد رضي الله عنه لكنه عرضهم على السيف وقتلهم؛ فحينما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع
الشاهد: أن الإنسان ينبغي أن يحترز في مثل هذه الأشياء، وألا يجترئ على إراقة الدماء، وللأسف نسمع الكثير من الناس يسمون قتل المسلمين جهاداً في سبيل الله. هذه مصيبة من المصائب، وهي تنم عن الجهل الفاحش والجرأة على اقتحام حرمات الله تبارك وتعالى.
يظن الإنسان أنه إذا خاض في قتال الفتنة أنها ما هي إلا لحظات ثم يقفز ويطرح حيث يشاء، ويظن أن ذلك شهادة، ولا يدري لعله قد يلج دار جهنم بإراقة هذه الدماء أو إذا قتل في مثل هذه الفتن، فينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها: الجهاد هو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله، هذا عند الإطلاق صحيح، وتوجد صور أخرى من الجهاد؛ كجهاد النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من الجهاد.. طلب العلم جهاد.. السعي في الرزق جهاد.. الخروج على الحاكم إذا جاز الخروج عليه هذا نوع من الجهاد، لكن عند الإطلاق ما هو الجهاد؟
لقد شوه الجهاد الآن حتى صار إذا ذكرت كلمة: (جهاد)، تنصرف إلى أحد هذه الأنواع، وإن كان تعريف الجهاد في أي كتاب من كتب الفقه ينصرف عند الإطلاق إلى قتال المشركين لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى.
الشاهد من حديث أسامة رضي الله عنه أنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله! فطعنته! فوقع في نفسي من ذلك! فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها -يعني يعنفه بشدة- حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ!)، يقول: تمنيت أني قبل هذه اللحظة ما كنت مسلماً، وأن هذه بداية إسلامي؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وبالتالي تكون صفحته بيضاء، ثم قال رجل أثناء رواية سعد رضي الله عنه للحديث، وذلك حينما دعي إلى الخوض في فتنة القتال بين المسلمين، قال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين- يعني: أسامة - فقال رجل يعاتب سعداً رضي الله عنه على عدم خوضه في هذا القتال فقال: ألم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]؟ فقال سعد : لقد قاتلنا، يعني: قاتلنا لما كانت الراية واضحة لإعلاء كلمة الله وفي سبيل الله، لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك ممن يدعونني إلى الاشتراك في هذا القتال تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة!
وفي رواية أخرى لـمسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقتلته؟ قال -أي:
من رحمة الله إرسال الرسل حتى يدلونا على هذه الأبواب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه -هربت منه الراحلة -وعليها طعامه وشرابه فأيس منها -بحث عنها حتى فقدها في الصحراء ولا شيء معه- فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته- يعني جلس ينتظر الموت فاضطجع تحت هذه الشجرة- فبينا هو كذلك فإذا بها قائمة عنده فأخذ بخطامها) كم تكون فرحة هذا الرجل؟ ما في شك أنها فرحة عظيمة جداً، فالله عز وجل أشد فرحاً بالعبد إذا تاب من هذا الرجل الذي أشرف على الهلاك، ثم وجد راحلته وعاد له الأمل في الحياة، فانظر كيف تكون رحمته؟ ثم لا تتخيل أن الله يفرح مثل هذا الفرح، تأمل قوله: (أشد فرحاً)؛ فانظر كيف يحبك الله؟ كيف يريد بك الخير؟ كيف يفرح بك إذا أقبلت عليه تبارك وتعالى، ثم لما رأى أول ما رأى هذا الرجل لما استيقظ ومن شدة فرحه أخطأ من شدة الفرح، فقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أخطأ من شدة الفرح)، فانظر إلى شدة فرحه التي أذهبت ضبطه لهذه العبارة حتى نطق بهذه العبارة الشديدة.
أيضاً يحكي النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك!)، أيضاً: (اعمل ما شئت)، ليس المقصود: افعل ما شئت من المعاصي فقد غفرت لك، كلا! هذا من الاغترار بالله وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، لكن المقصود: علم الله من هذا العبد أنه رجاع تواب، كلما أذنب تاب واستغفر ولا يصر على المعاصي، فلذلك غفر الله تبارك وتعالى له لما علم من أنه أواب ورجاع إلى الله عز وجل.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض) تأملوا السؤال: (سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، -متعبد- فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا! فقتله فكمل به مائة؛ ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحول بينه وبين التوبة؛ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، هذه من الأساليب التربوية الناجحة؛ إذ مما يعين الإنسان على الاستقامة أن يبعد عن أهل السوء وصحبتهم، والأماكن التي تذكره بمعاصيه وتعينه على الشر.
لذلك ذكر بعض العلماء في حكمة تشريع التغريب في حد الزاني الغير محصن: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)، وتغريب عام؛ لأنه ربما يكون في هذه البلد التي يعيش فيها صحبة سوء هم الذين يحرضونه على المعاصي ويزينونه له، أو غير ذلك من العوامل التي تعيق التوبة في حقه، فإذا نفي سنة من بلده استطاع أن يستأنف حياة جديدة، ويتوب ويستقيم.
أسلوب تغيير البيئة له أثر عظيم جداً في التوبة! وتجد إخواننا في جماعة التبليغ يستعملون هذا الأسلوب لتغيير صفات من يأوون إليهم، يهتم جداً بنقله من المكان الذي هو فيه إلى مجتمع آخر يغلب عليه الذكر والخير والعبادة، بحيث أنه فعلاً يأتي بثمار طيبة لولا ما عليهم من بعض المؤاخذات.
يقول: (فانطلق حتى إذا نصف الطريق -أتى إلى نصف المسافة بالضبط بين القرية التي كان فيها والقرية التي يقصدها- أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً، فقال: قيسوا ما بين الأرض فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)، قال قتادة والحسن : ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نئى بصدره، لما أتاه الموت لم يستسلم لكن أراد أن يقرب نفسه بقدر الاستطاعة من أهل الخير.
فوا حسرتاه على الذين يتركون بلاد المسلمين بأرجلهم ويذهبون ليعيشوا في عمق الكفار! الذين يضعفون منهم الإيمان والدين.
قالوا: هذا الرجل في اللحظات الأخيرة من شدة حرصه على التوبة وعلى الاقتراب بقدر استطاعته من أرض الخير والعبادة لما عجزت رجلاه ولم تحملاه زحف بصدره حتى يقترب بقدر استطاعته من أرض العبادة وأرض الخير.
وفي بعض الروايات: (فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنئى بصدره، ثم مات فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها شبراً فجعل من أهلها)، وفي بعض الروايات: (أن الله عز وجل أمر الأرض بأن تمتد حتى إذا قاسوا المسافة وجدوه أقرب إلى القرية الصالحة) . أيضاً روى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا هل لما عملنا كفارة؟ فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، ونزل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]).
وقال محمد بن إسحاق : قال نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديثه: (وكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم! قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم في أنفسهم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55]).
وكما قال الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، (من قريب)، يعني: قبل الموت! قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة هذه الآية، وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه، قال: فقال هشام : لما أتتني جعلت أقرأها بإذن سوى -مكان- أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم أفهمنيها! قال: فألقى الله عز وجل في قلبي: أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
ما هي الشروط حتى تصح بها التوبة: هناك فرق بين الشخص الذي أذنب أي ذنب حتى لو كان الشرك ثم تاب. إذا استوفى هذه الشروط فهي مقبولة، لكن نختلف مع الخوارج في أنهم يقولون: إنه بالمعصية كفر وبالتوبة عاد إلى الإسلام، نحن نقول: لا، بالمعصية استحق عقاب الله إذا كان موحداً، وإذا تاب تاب الله عليه في الدنيا؛ لكن المشكلة في من مات قبل أن يتوب، أو مات مصراً عليها ولم يتب منها.
أما كل من تاب من أي ذنب سواء الشرك وما دونه إذا استوفى هذه الشروط؛ فإن التوبة مقبولة، وأي توبة يقال عنها: إنها مقبولة؛ فلابد أن نستحضر دائماً أن المقصود بها التوبة النصوح، وليست أي توبة أخرى، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، والتوبة النصوح هي التي فيها ثلاثة شروط:
الأول: الإقلاع عن الذنب.
الثاني: الندم على فعله.
الثالث: العزم على ألا يعود إليه.
إذا كان يفعل الذنب فينبغي أن يبادر فوراً بالإقلاع عنه، ثم يندم بقلبه على فعله، ويعزم في المستقبل على ألا يعود إليه.
لكن إذا كان في ذلك الذنب حق متعلق بحق من حقوق الآدميين كأن سرق مالاً مثلاً من شخص ويريد أن يتوب فلا بد من هذه الثلاثة: يقلع عن الذنب.. يندم عليه.. يعزم على ألا يعود إليه؛ وفي حق الآدمي يزاد: وأن يعيد الحق إلى صاحبه أو يستحله منه إذا لم يتمكن من إعادته، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلل منها اليوم؛ فإنه ليس ثم دينار ولا درهم)، يوم القيامة العملة المستعملة ليست الدينار والدرهم ولكنها الحسنات والسيئات.
أما زمان التوبة: ففي حق عمر كل إنسان قبل الغرغرة، وهي حشرجة الروح وترددها في الصدر عند الاحتضار، عندما يرى الإنسان الملائكة، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وليس معنى ذلك: أن التوبة فقط للشخص الذي كان يجهل أنها معصية، لا! الجهالة هنا جهالة عملية، إذ كل من عصى الله جاهل.. الشخص الذي يعرف أن الخمر حرام ويشرب الخمر هو يعلم أنها حرام، فشرب الخمر في حد ذاته يسمى جهلاً عملياً، فهناك جهالة السلوك وجهالة العلم، ومن ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان إذا خرج من بيته يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي) جهالة السلوك وسوء الخلق.
ويقول بعض الشعراء:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فهي جهالة عملية، وهي المقصودة هنا.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، هذا لا تقبل توبته حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]، أفلا يفهم من هذه الآية: أن الذي مات ولم يتب ليس بكافر؟ يفهم؛ لأنه فصل بين الذين يموتون وهم كفار وبين الذين يموتون دون أن يتوبوا من المسلمين؛ فدل أن هذا فريق غير هذا الفريق. صحيح أن هذا يستحق وعيد وهذا يستحق وعيد، لكن لم يسمهما كفاراً حتى وإن ماتوا مصرين.
وعن أبي العالية : أنه كان يحدث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يقولون:
كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة.
وعن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيره.
وقال مجاهد : كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من جهالته عمل السوء.
وعنه رضي الله عنه قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، قال: بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.
وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب.
وقال قتادة والسدي : يعني ما دام في صحته.
وقال الحسن البصري : (( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ))، يعني: ما لم يغرغر.
وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب.
يعني: يتوب وهو ما زال حياً في الدنيا.
وفي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فهذا توقيت زمان التوبة في حق كل فرد من العباد، وأما في حق عمر الدنيا فقد تقدم في الآيات والأحاديث أنها تنقطع بطلوع الشمس من مغربها؛ لأنها أول آيات القيامة العظام، وحين الإياس من الدنيا: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، هذه الآيات المقصود بها: طلوع الشمس من المغرب.
كما أن رؤية ملك الموت آية الانتقال من الدنيا وحين الإياس من الحياة، كذلك الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب، يقول تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر:82]* فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83]* فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84]* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85].
فلا تنفع التوبة إذا نزل العذاب، أو إذا حضر ملك الموت، أو إذا غرغر العبد؛ إنما التوبة في وقت الإمكان وفي وقت الإصلاح.
لكن نفرض أن إنساناً تاب قبل أن تأتيه الغرغرة، وقبل أن يرى ملك الموت بثانية واحدة، فهل تقبل توبته أم لا تقبل؟ تقبل لأنه لا يعرف مدى أجله.
هو يتوب وينوي الاستقامة ما دام حياً، فإذا أتاه ملك الموت بعد توبته النصوح بدقيقة واحدة فيعفى له عن كل ما سلف من الذنوب والخطايا في حقه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر