إسلام ويب

الإيمان والكفر [14]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عادة ما تختلف معايير البشر، ولكنها تكون أكثر صحة بحسب أخذها من معين الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة؛ وقد صدر لأحد الكتاب كتاب بعنوان (حد الإسلام)، وهو كأي كتاب فيه صواب وخطأ، وفي هذه المادة مناقشة لبعض ما جاء فيه.

    1.   

    عرض مجمل لكتاب (حد الإسلام)

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    تناولنا من قبل دراسة نقدية لكتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان، ومعلوم ما دار حول هذا الكتاب من مناقشات ومباحثات، فمن أجل ذلك أراد الإخوة استجلاء الحقيقة في هذه القضية ذات الحساسية الخاصة، وذات الآثار البعيدة.

    ذكرنا أنا المؤلف حينما تكلم على حد الإسلام أو ما أسماه هو بأصل الدين كما يفهم من كلامه: أن مقصوده بحد الإسلام أو أصل الدين هو: ما يتوقف على تحققه واستيفائه ثبوت عقد الإسلام ابتداءً، فهذا الحد الذي حدده هو الذي يكون به المسلم مسلماً، وإن لم يتحقق ولم يستوف هذا الحد الذي حده لم يكن مسلماً، وقد يعبر عن هذا الحد بالإيمان، أو بالإسلام، أو التوحيد، أو إفراد الله بالعبادة.

    أيضاً فهم من كلامه: أن استيفاء هذا الحد شرط في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف وغيره لاحق به، وغيره لا يقبل ولا يصح إلا به.

    ذكرنا أيضاً: أنه سلك مسلكين في بيان هذا الحد، مسلك الإجمال ومسلك التفصيل.

    في مسلك الإجمال ذكر: أن هذا الحد ذو شقين، تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب، والانقياد لها، وذكر أنه لا يقبل ركن من هذين الركنين إلا بانضمام الآخر إليه، فلا يقبل التصديق بغير التزام وانقياد، ولا انقياد، ولا التزام بغير تصديق، ثم سلك مسلكاً تفصيلياً في بيان أركان الحد، فذكر أنها ثلاثة: الحكم والولاية والنسك .. أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله بلا شريك، والنسك لله بلا شريك.

    وذكر من خصائص الإسلام: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، فهو لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وأنه لا عذر فيه بالجهل؛ فمن تحقق لديه كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً دون اعتبار لعلم أو جهل، فهذه بعض الخصائص التي ذكرها الكاتب، والتي دار حولها مؤلفه وكتابه.

    أما بالنسبة للمسلك الإجمالي لحد الإسلام الذي هو التصديق بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب.

    ذكرنا أن هناك نظراً في هذه التسمية: حد الإسلام ومدى دقتها في الدلالة على المقصود.

    خطأ المؤلف في وضع حد للإسلام

    بالنسبة لكلمة الحد: الحد في الاصطلاح هو التعريف، والتعريف أو الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه، فهذا غير معهود في باب التعريفات وذكر الحدود، فالكاتب استعمل كلمة حد الإسلام في بيان الحد الأدنى من الدين الذي به يثبت عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف بسببه الدين كله من الأساس، وفي باب التعريفات ينبغي أن يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى فالمفروض أننا عندما نعرف شيئاً نذكر كل حقيقته، حتى يكون التعريف جامعاً مانعاً، جامعاً لكل أطراف الموضوع الذي تريد أن تعرفه، مانعاً من دخول غيره فيه أما أن يعرف الحد بذكر حدوده الدنيا، أو بذكر ركن من أركانه، فهذا لا يذكر في باب التعريفات، لكن قد يجاب على الشيء أحياناً بذكر أحد أركانه لا على سبيل التعريف وبيان الحد لكن على سبيل بيان أهمية هذا الركن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، فهنا لا يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعرف لنا الحد، أو ما هو الحد، وما هي أركانه، وإنما أراد بيان أهمية الوقوف بعرفة، كأنه لا شيء في الحج إلا عرفه، والمقصود: أن وقفة عرفات أوجب وأهم أركان الحج.

    كذلك لم نجد فيما نقل عن أهل العلم فيما مضى استعمال هذا التعريف أو هذا التعبير: حد إسلام. هذا الاصطلاح لم يعهد في كتب علماء أهل السنة والجماعة على تقادم عصورهم، ولا يوجد عنهم ما يشير إلى استعمال مثل هذا التعليق.

    الشهادتان باب الدخول في الإسلام

    أيضاً قال: إنه لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وإن تخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، وأما الفروع فالغالب أنه لا تلازم بينها. هذا فيما يتعلق بكلامه في المسلك الإجمالي. وقد ذكرنا: أنه لا ينازع أحد من أهل السنة في أن أصل دين الإسلام هو: الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر، وكلمة التوحيد كافية في التعبير عن هذا المعنى، فهذا هو الذي ينبغي أن يقال في حد الإسلام أو في ما يثبت به عقد الإسلام لأي إنسان على وجه هذه الأرض؛ إذ يثبت له أمر الإسلام بكلمة التوحيد الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصل الدين: هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً وانقياداً. لذلك جعلت هذه الشريعة كلمة الشهادة أو كلمة التوحيد هي باب الدخول في دين الإسلام، وبإعلان المرء هاتين الشهادتين تحصل له عصمة الدماء والأموال والأعراض، وما ذاك إلا لأن كلمة التوحيد تتضمن معنى الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض روايات مسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). فـ: لا إله إلا الله هي عنوان لوجود هذه المعاني في القلب، فيجب عقد القلب على الالتزام بمقتضياتها وحقوقها، فلا إله إلا الله، تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد والبراء المجمل من الشرك. والشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، تعني: الإقرار المجمل بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، فأصل الدين هو كلمة الشهادتين، وهما أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. فأغلب ما ذكره الكاتب في خصائص حد الإسلام أنه جعل له ركنين: ركن التصديق المجمل بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، وذكر له خصائص: أنه لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأغلب هذه الخصائص كلمة التوحيد أولى بها من هذا الحد الذي وضعه وسماه حد الإسلام. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم هي التي يتوقف على تحقيقها ثبوت عقد الإسلام؛ فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائها. أيضاً: هذه الشهادة سابقة على غيرها من التكاليف، وغيرها لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا بها.

    عدم العذر بالجهل في قول الشهادتين

    أيضاً شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله هي التي لا عذر فيها للجاهل، فمن لم يتحقق لديه هاتان الشهادتان لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، ما دام سمع بأن هناك نبياً، وأن هناك رسولاً أتى بدين الإسلام، وأنزل عليه كتاب هو القرآن وبلغ؛ بذلك صار مسئولاً على هذا الدين، وتجمع كل الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يدن بدين الإسلام يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسيا أو بوذياً أو غير ذلك.

    فكل من لم يشهد لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع.

    وقد وقع خلاف بين العلماء في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام، كأهل الفترة، أو الشخص المجنون، أو المعتوه الذي لم يبلغه الإسلام، أو لم يعقله ولم يفهمه؛ لأنه كان مجنوناً أو مغلوباً على عقله، فخلاف العلماء هو ما يتعلق بأحكامهم في الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة لما ثبت في ذلك من الآثار.

    وهذا الالتزام المجمل الذي تترجم عنه كلمة التوحيد يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من هذه الخصائص لما سماه حد الإسلام، ولم نقل: كل الخصائص، وإنما قلنا: أغلبها؛ لأن هناك منازعة للكاتب فيما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا ينقص.

    تفاوت درجات التصديق

    يقول: إن حد الإسلام لا يحصل فيه تبعيض ولا يزيد ولا ينقص، وذكر أن هذا الحد هو التصديق، والانقياد والالتزام، فهل التصديق لا يزيد ولا ينقص؟

    لا؛ فدرجات التصديق تختلف قوة وضعفاً، فما من شك أن الأنبياء أكمل الناس تصديقاً، يليهم بعد ذلك الحواريون أصحابهم الذين تلقوا الهدى على أيدهم، ورأوا من المعجزات ما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل، فمن المكابرة أن تقول: إن تصديق الأنبياء هو نفس تصديق واحد من عموم المؤمنين، بل الإنسان نفسه قد تختلف درجات التصديق عنده من حالة إلى أخرى.

    مثال ذلك: موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه عبدوا العجل من بعده: فـ رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150]، غضب موسى عليه السلام، وكانت معه الألواح التي كتبها الله له بيده سبحانه وتعالى، لكن لما رأى بعيني رأسه قومه وهم يعبدون العجل اشتد غضبه كثيراً، وظهر ذلك في أنه ألقى الألواح غضباً وحمية لله عز وجل لا امتهاناً ولا استخفافاً بها. معاذ الله! إنما أخذته الحمية والغيرة على دين الله عز وجل وعلى التوحيد، وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، فهل شك موسى في خبر الله عز وجل؟ لا. لكنه تفاوتت درجات التصديق؛ إذ ليس الخبر كالمعانية.

    أيضاً من هذا الذي يجرؤ على أن يقول: إن تصديق رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد عرج به إلى السماوات العلا، ورأى من آيات ربه الكبرى، كيف يقال: إن تصديق رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي عرج به ورأى من آيات الله عز وجل في الملأ الأعلى يكون كتصديق رجل من عوام المسلمين؟ باعتبار هذا هو الحد الأدنى للإسلام، وأن التصديق لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص.

    أيضاً: درجات التصديق تتفاوت قلة وكثرة وقوة وضعفاً بحسب زيادة العلم أو نقصانه .. فكلما كان الإنسان أكثر علماً كلما كان أكثر تصديقاً، ما من شك أن من يتعلم حدود الله أكثر أنه يزداد الإيمان عنده ويقوى بها إيمانه، ويزيد بها تصديقه، وكلما قل علمه قل تصديقه.

    فمن أحاط علماً بعشرات بل مئات الفرائض لابد أن يكون أكثر ممن كان دونه في ذلك، والزيادة هنا من حيث الكم، إذ الزيادة في التصديق تتفاوت من حيث الكم ومن حيث الكيف، أما الكيف فقد ضربنا له مثلاً بموسى عليه الصلاة والسلام، أما الكم فهو من حيث العلم كلما زاد الإنسان علماً بالشرائع وبحدود الله كلما زادت كمية التصديق في قلبه، والعكس صحيح.

    هذا من حيث التصديق، أما من حيث الالتزام فهو التزام أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء وغير ذلك يتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، ولا ينكره إلا جاهل معاند.

    الحد الأدنى من التصديق

    أيضاً إذا قال قائل: الحد الأدنى من التصديق، والحد الأدنى من الالتزام الذي يصح به عقد الإسلام؛ لابد أن يكون متماثلاً في الناس جميعاً، وقد ذكرنا من قبل: أن كونه يظن أ، هذا هو الحد الأدنى، فمن المفروض في باب التعريفات والحدود ذكر كل ما يتعلق بالحد لا ذكر بعض حقائقه، فكلمة الحد لا يذكر فيها الحد الأدنى، بل تذكر كل الحقيقة كما أشرنا، فإذا قال قائلهم: الحد الأدنى من التصديق والالتزام، والذي لا يصح عقد الإسلام إلا به، فلابد حينها أن يتماثل في الناس جميعاً، فهو من هذه الناحية لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، فما الجواب على ذلك.

    الجواب: أن هذا القدر -الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص- لا يمكن ضبطه، ولا يمكن أن نتصور وجوده إلا في الظاهر، حيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تطبيقاً وانقياداً، ويعلنوا براءتهم من كل دين يخالف دين الإسلام، فما هو الشيء الذي يمثل هذا الأمر الظاهر؟ هو النطق بالشهادتين، فهما اللتان تترجمان وجود التصديق المجمل والالتزام المجمل، ونحن لا نملك إلا قبول ظاهر الناس، فمن شهد الشهادتين، فهذه الشهادة تعني: أنه يصدق تصديقاً مجملاً بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويلتزم التزاماً مجملاً أيضاً بشرائعه، ويثبت له بالشهادتين عقد الإسلام.

    فالذي يمكن ضبطه وتصور وجوده هو في المجال الظاهر بإعلان الالتزام المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، والبراءة من كل دين يخالفه، فهذا يتمثل في شهادة التوحيد، والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ففي هذا الحد يتماثل الناس جميعاً. أما على الحقيقة فهم فيها يتفاوتون تفاوتاً عظيماً، وبضميمة أفعال القلوب وأحوال القلوب يحصل التفاوت، لكن الظاهر هذا هو الحد الذي يتساوى فيه جميع الناس من حيث الحكم لهم بالإسلام، أما الحقيقة فهم يتفاوتون، بل قلنا: إنه يتفاوت في الشخص الواحد ما بين حالة وأخرى، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثل عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه، والزيادة والنقص تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان.

    مسلك الإيمان المجمل عند المؤلف

    ولما ذكر الكاتب مسلك الإيمان المجمل وقال: إن له شقان: التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والالتزام بشريعته جملة وعلى الغيب .. ذكرنا أن جميع علماء المسلمين لم يذكر واحداً منهم أبداً أن حد الإسلام أو حكم ثبوت عقد الإسلام لأي إنسان يشمل المعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي التصديق بها، والمعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي الانقياد لها، فاعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل من الدين يتوقف على اكتفائه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام لا يمكن للإنسان أن يدعيه، فلم يقل أحد من السابقين ولا من اللاحقين لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار والتكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، لا يتصور أبداً أن يتوقف حكم الإسلام لأحد حتى نأتي به ونتلو عليه جميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونسرد عليه جميع الأحكام الشرعية التي كلفنا بها، ويقر بالتزامه وتصديقه بها على جهة التفصيل.

    أيضاً لم يقل أحد من أهل القبلة بأن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، بل عدم الدخول فيه من البداية.

    أيضاً لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أرجئ الحكم بإسلامه حتى تعرض عليه كافة شرائع الدين، وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده ليؤخذ إقراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة والعلماء ولا يزالون من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار والالتزام العام، ثم يعلم لهم بعد ذلك شرائع الدين على مكث وعلى مهل، فالكاتب يوافقنا أيضاً في ذلك حينما يقول: إن حد الإسلام هو التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشرعه جملة وعلى الغيب، يقصد الإجمال حقيقة ولا يمكن أن يقصد سوى ذلك.

    فأصل الدين هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو القبول على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف.

    أركان حد الإسلام عند المؤلف

    لم يقتصر الكاتب في بحثه على المسلك الإجمالي الذي أشرنا إليه، لكنه نحا منحى آخر تفصيلياً، قرر فيه أن لهذا الحد أركاناً ثلاثةً هي: الحكم والولاء والنسك، ثم جعل باقي الكتاب في تفصيل هذه الأمور الثلاثة، فقد جعل الباب الثالث في تقرير ركن الحكم، والباب الرابع في تقرير ركن الولاية، وقرر ركن النسك ضمن الباب الأول، فلم يقف عند حدود الاعتقاد المجمل للألوهية، لاسيما وهو يتكلم الآن في شرح تفصيلي لحد الإسلام، وما يسميه هو أصل الدين الذي يتوقف على الاكتفاء به من البداية ثبوت عقد الإسلام، والذي يطرد تماثله وثباته وعدم تفاوته بالزيادة أو النقص عند كافة المؤمنين، فهو تجاوز الإجمال إلى هذا التفصيل الذي تندرج تحته كافة مسائل توحيد العبادة لا يند عنه منها شيء، فيلزم من ذلك أن يسلك أحد مسلكين لا ثالث لهما:

    إما أن يرجئ الحكم على عامة المسلمين الذين يشهدون الشهادتين، وقد يكون فيهم جهل بهذا المسلك التفصيلي في شرح معنى التوحيد والحكم أو الولاية أو النسك، ما موقف هؤلاء الناس الذين نراهم يملئون المساجد .. يصلون العيد .. يخرجون في الجنائز المسلمين الذين نعيش ونحيا بينهم، هؤلاء أتوا بالشهادتين ولم يحصل من الكاتب ومن نحا منحاه عملية استيفاء وجود الأركان التفصيلية: أركان الحكم والولاء والنسك في هؤلاء الناس، فمن جهل بعض هذه الأركان كيف يكون السلوك معه؟

    فإما أن يرجأ الحكم على هؤلاء العامة، فلا نحكم لهم بالإسلام حتى نستوثق من استيفائهم لأركان هذا الحد وبراءتهم من الطواغيت، وتجردهم من التلبس بشيء من العبادة لغير الله عز وجل، وموالاتهم للمؤمنين، وبراءتهم من الكافرين، فلا يشهد لأحد منهم بالإسلام إلا بعد التحقق من استيفاء ذلك كله، حتى وإن كانوا قبل ذلك ممن يعلنون الالتزام المجمل بالإسلام، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة.

    هذه هي هو الحالة الأولى أن هؤلاء الناس لا نحكم عليهم بالإسلام، بل يؤجل الأمر فيهم حتى يتأكد من استيفاء هذه الأركان.

    الحالة الثانية: أن يستصحب أصل الحكم بالإسلام على من أعلن الانتساب إليه، وإما نقول: إن هؤلاء نطقوا الشهادتين، فالأصل فيهم أنهم مسلمون، حتى نكتشف أن هذا الإنسان متلبس بناقض من نواقض هذا الحد، فحينئذٍ نكتشف أنه كان كافراً من قبل، فيكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادة مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، لا دلالة على أنه مسلم.

    بناءً على هذا التفصيل: الحكم والولاء والنسك. كيف نطبقه في الواقع، كيف يكون موقفنا مع عوام المسلمين الذين يصلون ويزكون ويحجون ولم يحصل استيفاء وتحر وتبين مفصل عن موقفهم من قضايا الحكم والولاية مثلاً وتفاصيل النسك وغيرها؟

    نقول له: لن يكون أمامك إلا أحد مسلكين، المسلك الأول: إما أن تقول: هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام أصلاً حتى وإن أتوا بهذه الأشياء، إلا بعد استيفاء كل هذه الأركان منهم، ولا تكفي كلمة التوحيد، ولا الصلاة، ولا الزكاة.

    المسلك الثاني: أن تقول: إنهم كفار أصليون لما يدخلوا أصلاً في الإسلام، ولا نقول: كلمة التوحيد قرينة تومئ إلى أنهم مسلمون، لكن: إذا اكتشفنا بعد ذلك أنه متلبس بشيء يناقض هذا الأصل الذي هو الإسلام، حينئذٍ يكتشف شيء كان خافياً من قبل، وهو: أن هذا الإنسان الذي عاش ستين سنة ينطق بكلمة التوحيد، يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويفعل شرائع الإسلام المعروفة، ولم يحصل استيفاء وتبين لموقفه من قضايا الحكم والولاية والنسك .. يكتشف بعد كل هذه السنوات أنه كان كافراً من قبل، ويكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادتين مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، فإذا ثبت أن هذا الرجل كان يستجيز أمراً من أمور الشرك، فقد دل ذلك على أنه كان كافراً من البداية، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، حينئذٍ يثبت أن هذا كافر أصلي، مثل النصراني أو اليهودي، ولم يدخل في الإسلام أصلاً، فيتوقف الحكم عليه بالإسلام إلى أن يتبين خلاف ذلك، ويبقى الحكم عليه على ما قبل ذلك، وهو أنه كان كافراً.

    أما الذين يتلبسون بشيء من نواقض هذا الحد فهم لديه كفار بلا نزاع، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام وبين دار الحرب، ولا بين الجهلة ولا بين العلماء من العوام، ولا لمن هو متأول ولا من هو معاند، فالكل سواء في هذا الحكم؛ لأن الإسلام -كما ذهب- حد لا توجد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يأت به فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل.

    1.   

    الفرق في منهج المؤلف بين مسلكي الإجمال والتفصيل في الإيمان

    والآن نذكر الفرق بين الاتجاهين اللذين تركهما الكاتب في الإجمال والتفصيل في تحرير قضية الأصل في الدين: المسلك الأول: الإجمال، وهو التصديق بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام جملة وعلى الغيب، والالتزام جملة وعلى الغيب، فالمسلك الأول يعني: ثبوت عقد الإسلام لكل من أعلن الالتزام المجمل بالإسلام، ودليل ذلك النطق بالشهادتين؛ فإن كان صادقاً في ذلك فقد ثبت له عقد الإسلام ظاهراً وعلى الحقيقة، فلو مات في هذه اللحظة لمات على الإسلام، ولو لم يعلم من تفاصيل ما يجب اعتقاده واتباعه من الدين شيئاً؛ لحديث ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ قال: أسلم ثم قاتل) فلم يقل له: تعال أولاً أعرض عليك هذه المعاني المفصلة للحكم والنسك والولاية، ونستوفي منك كل حدود هذا الحد، ثم بعد ذلك تصبح مسلماً ثم تقاتل، بل شهد الشهادتين وبذلك ثبت له عقد الإسلام، وقاتل فقتل شهيداً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمل قليلاً، وأجر كثيراً) ، فلو مات بعد هذه اللحظة لمات على الإسلام، حتى لو لم يعلم تفاصيل هذه الأمور. المسلك الثاني: ذكر الكاتب تفاصيل النسك والحكم والولاية، وأنه لا يثبت عقد الإسلام على الحقيقة إلا لمن استوفى أركان توحيد العبادة، واعتقد الحق في كل مسألة من مسائله على التفصيل، وعلى هذا فإن من أعلن لنا التزامه بالإسلام، وقبوله المجمل بدين الإسلام الذي تترجمه كلمة الشهادتين أثبتنا له صفة الإسلام بناءً على ذلك، هذا هو المسلك الأول للكاتب، ووافقناه في ذلك مع توضيح الفروق بين الاتجاهين، لكن إذا اكتشفنا -بعدما أثبتنا له صفة الإسلام بالطريقة المجملة- جهله ببعض نتائج التوحيد كتوحيد العبادة مثلاً؛ فإنه يكون بذلك لا يزال باقياً على كفره الأول لم يدخل في الإسلام بعد لعدم استيفاء حده. فالفرق بين المسلكين: أن المسلك الأول يثبت عقد الإسلام ظاهراً وباطناً بمجرد الالتزام المجمل به ظاهراً وعلى الحقيقة، وإن جهل كل عقائده وشرائعه، ما دام أنه قد انعقد قلبه على مطلق التصديق والاتباع والالتزام. أما المسلك الثاني: فلا يكفي هذا الالتزام المجمل في الحقيقة، بل يهدر إهداراً كلياً أمام جهله بمسألة من المسائل المتعلقة بتوحيد العباد، بحيث لو أن رجلاً مضى على إعلانه للإسلام، وإقامته لشعائره، وصدقه في اتباعه ظاهراً وباطناً عشرات السنين، ثم اكتشف جهله بمسألة من مسائل توحيد العبادة، كمسألة الاستغاثة بأصحاب القبور، وأنها من الشرك الذي حرمه الله، لدل ذلك على استمرار كفره الأول، وحبوط عمله طيلة هذه السنين، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، فهذا هو الفرق بين المسلكين بالنسبة لقضية حد الإسلام. ونحن تكلمنا في نقد المسلك الإجمالي في أن حد الإسلام لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاوت الالتزام والتصديق، وقلنا: إن كلمة التوحيد أولى بِجُل هذه الخصائص التي أضفاها على تعريفة المجمل لحد الإسلام، فأولى ثم أولى أن تكون هذه الخصائص لكلمة التوحيد التي يثبت بها عقد الإسلام فيما يظهر لنا. أما المسلك التفصيلي فيلاحظ عليه: أنه قام على أساس: أن الإيمان المجمل الذي هو حد الإسلام شيء واحد متماثل في كل المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت، ولا يزيد ولا ينقص، فما من شك أن هذه الشبهة هي نفس الشبهة التي دخلت على كلٍ من الخوارج والمرجئة والمعتزلة، وكانت أساس ضلال هذه الفرق جميعاً في باب الإيمان رغم ما قد يبدو بينهما في الظاهر من تناقض واختلاف، بل الخوارج من معتقدهم: تكفير صاحب الكبيرة، وأنه ليس بمؤمن؛ ذهاباً إلى الأخذ بنصوص الوعيد، وتأسيساً على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض، ووافقهم على ذلك المعتزلة، إلا أنهم أخرجوه من الإيمان، ولم يدخلوه في الكفر اعتباراً بالنصوص التي تفرق بين المرتد وبين أصحاب المعاصي؛ فابتدعوا ما أسموه بالمنزلة بين المنزلتين التي يستعملونها الآن بعبارة عصرية، وهي: التوقف، والتوقف يعني: انعدام الوزن؛ فلا هو مسلم ولا هو كافر، فلا يحكم عليه بالإسلام ولا بالكفر، وهذا اتباع لبدعة المعتزلة المسماه: المنزلة بين المنزلتين، فهؤلاء إن خالفوهم مقالاً إلا أنهم وافقوهم مآلاً؛ لأنهم حكموا عليه بالخلود في نار جهنم في الآخرة، وعلى نفس هذا الأساس -أساس تصور أن حد الإسلام شيء واحد متماثل في كافة المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص- أقام المرجئة معتقدهم في إخراج العمل عن الإيمان بناءً على الأدلة الكثيرة التي تشهد بفساد مذهب الخوارج والمعتزلة، واعتباراً بظواهر نصوص الوعد، وتأسيسها على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض. وعلى نفس هذا الأساس حرر الكاتب مذهبه في أصل الدين؛ فافترض أن له ماهية ثابتة متماثلة لدى الكافة، وأنها لا تقبل التعدد ولا التبعض، يقول: والأصل أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، ويقول في موضع آخر: عندما يكون الإسلام قسيماً للإيمان في الدلالة بمجموعهما على أصل الدين يكونان متلازمين لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وتخلف العمل هنا كفر، فهذا التفاوت له وجوه متعددة، منها العلم والجهل، فكلما علم العبد بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فصدقه، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام وإقرار عام، فمن عرف أسماء الله ومعانيها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه بها أكمل. وأيضاً: شتان بين إيمان أهل السنة الذين تلقوا نصوص الوحي بالقبول وفهموها على وجهها، وبين تلقي أهل البدع لهذه النصوص، وتحريف دلالاتها بتأويلات فاسدة وشبه باردة كما فعلت المعتزلة والجهمية من تعطيل الصفات، وكما فعل الخوارج والمعتزلة والزيدية من إنكارهم الكثير من المغيبات. أيضاً: هناك خلط في هذا المسلك التفصيلي بين ما يجب من أصل الدين لثبوت عقد الإسلام، وما يجب لاستمرار عقد الإسلام وعدم انقطاعه، فثبوت عقد الإسلام بادئ ذي بدء يتوقف على الإقرار المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، ولا يتوقف على الإحاطة بالتفاصيل لا في الفروع ولا في الأصول، فمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو جاء إلى جماعة المسلمين من بعده يعلن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به من عند الله؛ فقد ثبت له عقد الإسلام كائناً ما كان جهله، فهذا القبول المجمل للإسلام كافٍ في ثبوت عقده، ومن قال بإرجاء الحكم بإسلامه حتى يتوقف على شيء من التفاصيل فقد كابر الحقيقة والتاريخ، ولو مات هذا الرجل بعد الإقرار العام فهو ناجٍ عند الله؛ لأن عقد الإسلام قد ثبت له ظاهراً وعلى الحقيقة. فإن قال قائل: لكن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عرباً يعرفون مدلول الكلمات، ويفهمون من كلمة التوحيد ما يجب أن يفهم منها لاستيفاء حد الإسلام، ولهذا كانت هذه الكلمة في زمانهم كافية في ثبوت عقد الإسلام. فالجواب: أن هذه الدعوة عارية عن الحجة، وعاطلة عن البرهان، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى العرب والعجم، وكان يفد إليه صلى الله عليه وآله وسلم أخلاط من الناس متفاوتون في المدارك والمعارف، ولم يسمع قط أنه قبل لا إله إلا الله من قوم وردها من آخرين حتى يفهموا منها ما لابد من تحقيقه لاستيفاء أصل الدين، فكان يأتيه البدوي والعربي الفصيح والشريف والضعيف والعبد والرومي والفارسي والحبشي، ومع تفاوت الناس وكثرة عدد من دخل في الإسلام لا نعلم على الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام العربي؛ لأنه يفهم لغة العرب ويعرف كل معاني التوحيد بسليقته وفطرته، وتوقف في إسلام الأعجمي الذي أتى وشهد الشهادتين حتى يستوفي حد الإسلام، أو توقف في قبول كلمة التوحيد من هذا الرجل الذي قد يكون مظنة الجهل ببعض هذه المفاهيم، ولا يستطيع أحد أن يغامر بادعاء أن العرب قاطبة كانوا يفهمون من كلمة التوحيد كل ما تتضمنه من حقائق وأصول، فهذا في العرب فكيف بالعجم؟ فعن عدي بن حاتم رضي الله تبارك وتعالى عنه، في سبب نزول الآية -إذا صح- التي في سورة التوبة: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه عدي وقد علق صليباً من فضة في عنقه، فقال: (يا عدي ! اطرح عنك هذا الوثن، وتلا هذه الآية: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ))[التوبة:31]، فقال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم؟ قال: نعم، قال: فتلك عبادتهم) ، والقصة مشهورة أخرجها ابن جرير الطبري ، هذه القصة إذا صحت فهي دليل على أنه كان يجهل المعنى الحقيقي الشامل للعبادة، فإنه كان يظن أن العبادة هي الركوع والسجود، فبين له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إطاعة الغير في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله عبادة له؛ لأن هذا من خصائص الألوهية التي لا تنبغي أن تكون إلا لله عز وجل، ومع ذلك كان يجهل هذا المعنى من المعاني الأساسية للتوحيد. كذلك كان من هؤلاء العرب من قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة حنين حينما مروا بشجرة يقال لها: ذات أنواط، يعلق عليها المشركون أسلحتهم تبركاً بها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم -وكانوا حديثي عهد بالإسلام-: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده! كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) ، فالشاهد: أن هذا فيه جهل

    1.   

    سمات الإقرار التفصيلي المرتبط بأصل الدين

    هذا الإقرار التفصيلي المرتبط بأصل الدين يتسم بالسمات الآتية:

    أولاً: النسبية: قد يصح الخبر لدى مكلف ولا يصح لدى آخر، أو يصح عند هذا الثاني، ولكن يكون عنده من الأخبار الأخرى ما يعارضه، فيجب على الأول من الإيمان به والإذعان له ما لا يجب على الثاني، وليس بالضرورة أن يكون هذا الثاني مصيباً، أو أن يكون مأجوراً؛ فقد يكون مخطئاً، وقد يكون آثماً بتقصيره في النظر أو في طلب العلم من مظانه وعلى يد أهله، ولكننا نتحدث فقط عن ثبوت أصل الدين وانخرامه.

    فأصل الدين التصديق والانقياد، ويخرم ذلك التكذيب أو الرد -الرفض- ولكن يشترط لانخرامه: أن يصح الخبر لدى المكلف سالماً من المعارض، أي: أن يرده بغير تأويل، لكن إن رده بغير تأويل هل يكفر بذلك؟ لم يكفر أهل السنة المعتزلة وإن لم يقروا مثلاً بالاعتقاد برؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، والذي ثبت بأحاديث متواترة، لكنهم هم لا يثبتون تواترها، فما من شك ممكن أن التكذيب بمثل هذه الأخبار قد لا ينفك عن الإثم، لكنه يتكلم عن زوال عقد الإسلام وانخرامه وخروج الإنسان من الإسلام بشيء من ذلك.

    فيشترط لانخرام عقد الإسلام أن يصح الخبر لدى المكلف سالماً من المعارض فيرده بغير تأويل.

    الخوارج كذبوا أحاديث الشفاعة وهي متواترة، وكذبوا بالرجم وهو أيضاً متواتر، فهم لا يقرون بتواتره، هم يتأولون في ذلك أو ربما يطعنون في رواتها من الصحابة، أو يكفرونهم والعياذ بالله، فالمقصود أن هذا ليس رداً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون من باب الطعن في الرواة، أو تأويل مثل هذه الأحاديث، فإن كذب المرء بما لم يصح عنده، عندنا شيوخ وعمائم مشهورون ويشار إليهم بالبنان ويكذبون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يحكم عليهم بالكفر؟ لا يحكم عليهم بالكفر؛ لأنه لا يقصد تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل يوجه طعنه إلى رواة الأحاديث، وبغض النظر هل هو آثم في هذا أو معتد؟ هذه قضية أخرى، لكن الكلام أن الشخص إن كذب بما لا يصح عنده لا يعتبر مكذباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو مكذب لمن نقلوا إليه خبره، فلا ينخرم بذلك إيمانه المجمل، وهو باق على أصله، إن رد إنسان دلالة لفظ بتأويل فاسد فهو لم يرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره، وإنما تعلق بما ظنه التأويل الصحيح لأمره صلى الله عليه وآله وسلم اعتماداً على دلالات نصوص أخرى، وعلى هذا الأساس لم يحكم السلف بكفر أصحاب الأهواء رغم ما ورد بشأنهم من الوعيد الغليظ عذراً لهم في التأويل، واعتباراً بما عندهم من الإيمان المجمل، اللهم إلا من كان منهم منافقاً في الباطن. هذا فيما يتعلق بمسألة التصديق المجمل والالتزام المجمل.

    قد يحصل عدم تصديق أو تكذيب وعدم انقياد، ولا يكفر بذلك، لماذا؟ لأن هذا نشأ عن تأويل لا عن تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام أو رد حكمه؛ لأنه لا يثبته أصلاً ولا يعترف أنه حكمه، أو يثبته لكنه يؤوله، فيأثم بذلك، وإن لم يعذر فهو يكون آثماً مقصراً في ذلك لكن لا يكفر بمجرد ذلك.

    و أما بالنسبة للتبعض والزيادة والنقصان فهذا ليس شيئاً واحداً متماثلاً في كافة المؤمنين، وإنما هو يتبعض ويتفاوت ويختلف من شخص إلى آخر بالنقصان والزيادة، وهذا التفاوت يكون إما بالكيف، كما ذكرنا تفاوت الناس في درجات التصديق، أو التفاوت في أعمال القلوب كالحب والخشية والإنابة والتوكل ونحوه، ومنها ما يتعلق بالكم كتفاوت التصديق والمعرفة التي في القلوب بتفاوت مقدار الإحاطة بأخبار الشريعة وأوامرها، فليس تصديق من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم مجملاً مع علمه بقليل من أخباره كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً ومات بعد معرفة النزر اليسير من أوامره صلى الله عليه وسلم كمن عاش حتى علم ذلك مفصلاً وأطاعه فيه.

    أيضاً هذا التصديق والانقياد التفصيلي لا يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام من البداية، وإنما يتوقف عليه استمرار هذا الحكم وعدم انقطاعه.

    فهنا يحصل خلط -كما حصل من الكاتب- بين ما يجب تحققه من أصل الدين لثبوت عقد الإسلام، وبين ما يجب بعد ذلك لاستمرار الحكم بالإسلام وعدم انقطاعه.

    فهناك ثمة فرق بين ثبوت عقد الإسلام وبين استمرار الحكم به وعدم انقطاعه، ففي الأول ثبوت عقد الإسلام نقبل الإجمال، وفي الثاني يحصل التفصيل النسبي وليس المطلق على ما بينا.

    1.   

    نواقض الالتزام بالتوحيد، ومتى يعتبر عارض الجهل

    سبق أن بينا أن الكاتب ذكر أركاناً ثلاثة في حد الإسلام التفصيلي: الحكم والنسك والولاية، فقال: إنه يقصد بركن الحكم: قبول شرع الله ورفض ما سواه، ومقصوده بالنسك: إفراد الله بالعبادة، ومقصوده بالولاء: موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين، فهذه هي أركان توحيد العبادة كما عرضها، وهي عنده حد الإسلام الذي لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، والذي يتوقف على استيفائه من البداية ثبوت عقد الإسلام. فما ذكره الكاتب في هذا الكلام ليس هو حد الإسلام الذي يتوقف على تحققه بادئ ذي بدئ ثبوت عقد الإسلام، فهذا حقيقة الإسلام التي يتوقف عليها بقاء الحكم بالإسلام. فما يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام هو الإقرار المجمل بتوحيد العبادة، والالتزام المجمل بتوحيد الألوهية، وهذا هو الذي تترجمه كلمة التوحيد، فمن أقر بذلك ظاهراً وباطناً فقد ثبت له عقد الإسلام. ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل هذا الإجمال التي يتعلمها الناس تباعاً، ولا يتوقف الحكم بالإسلام على الإحاطة بها من البداية، ولكنها تشترط لبقاء الحكم بالإسلام واستمراره بعد ثبوته بالعقد المجمل، فهذا الإقرار المجمل هو الذي لا عذر فيه بالجهل، بمعنى: أن من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فليس بمسلم كائناً ما كان. هذا ما عليه الأولون والآخرون من المسلمين. أما تفاصيل العبادة ومفرداتها، وتفاصيل الشرك وصوره؛ فذلك هو الذي أتى لبيانه الأنبياء، وكثير منه لا يعرف إلا من جهتهم، فليس هو مما يتوقف على معرفة ثبوت عقد الإسلام الأول، وإنما يجب على المكلف الإذعان لما عرفه منه، وقامت به عليه الحجة وإلا كان ناقضاً للالتزامه المجمل. نضرب مثالاً يوضح هذا الأمر: لو أن رجلاً التزم لملك من الملوك بأن يؤدي إليه حقه، وأن يدخل في طاعته، وقطع على نفسه موثقاً بذلك على جهة الإجمال أنه سيطيعه طاعة مطلقة، وينقاد لحكمه انقياداً مطلقاً، ويؤدي حقه تماماً، فهو بهذا الالتزام المجمل يدخل في عداد أوليائه وأتباعه، ولا يصدق على هذا الرجل أنه نقض موثقه، أو تخلفت عنه صفة ولائه لهذا الملك إلا إذا تعهد أن يؤدي ما علم أنه حق للملك إلى غيره، أو تعمد أن يرد عليه ما علم أنه من أمره، يعني: إذا تعمد ذلك قصداً وتركه إصراراً وتناقض -كما يقولون- بكل نيته، وتعمد أن يرد أمر الملك، أو أن يؤدي حق الملك إلى غيره، فهذا هنا يكون ناقضاً لهذا العهد، لكن إذا اشتبه عليه حق الملك بحق غيره في أمر من الأمور فأداه إلى غيره جهلاً أو خطأً فلا يصدق عليه أنه ناقض لموثقه عند من يعلم جهله وخطأه، كذلك أيضاً لو رد ما لا يعلم أنه من أمره؛ لأن مناط النقد وتخلف الولاء تعمد أداء ما علم أنه من حقه إلى غيره، وتعمد التمرد والرد لما علم أنه من أمره، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هذه مجرد ضرب أمثال، ولا شك أن هناك فرقاً بين هذا الرجل الذي أخذ الميثاق بالانقياد المجمل للملك وأداء حقه وبين غيره، فإذا تعمد مخالفة ذلك فهو ناقض للميثاق، لكن إذا خالف ذلك جهلاً أو خطأً بغير قصد، فلا يحكم عليه بأنه ناقض لهذا الميثاق، فلابد من اعتبار عدة أشياء حينما نتكلم في هذه القضية. فأول هذه الأشياء: اعتبار عارض الجهل: فالناس يتفاوتون في العلم بتصور العبادة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيل الشرائع تفاوتاً عظيماً، ولا ينقض أصل الدين إلا بما علم المكلف أنه ناقض له، ولا يمكن إهدار دلالة الالتزام المجمل بالإسلام ومقتضاها من ثبوت عقد الإسلام وعصمة الدماء والأموال والأعراض بإخلال جزئي تلبس به المكلف جاهلاً بحكمه مع عقد قلبه على الإقرار بالإسلام كله تصديقاً وانقياداً، والالتزام المجمل بعبادة الله وحده، فمثلاً: في باب النسك والعبادة قد يجهل المرء تكييف بعض الأعمال بأنها عبادة، ولا يجوز أن تصرف إلا لله، فيصرفها لغيره لا على أنها صورة من صور العبادة قد صرفها لغير الله، ولكن على أنها صورة من صور الحب للصالحين وتوقيرهم، مع انعقاد قلبه على أن العبادة لا تكون إلا لله، ولا يجوز صرفها لغيره بحال، فهذا بالنسبة للجهلة من العوام، فالشخص الذي لديه الالتزام المجمل بالإسلام، والإقرار المجمل بعبادة الله وحده، ولديه ما يميزه عن عبَّاد الأصنام في مكة الذين عارضوا الالتزام المجمل بالتوحيد فهو مسلم، ففرق بين شخص يعارض الالتزام المجمل بالتوحيد، والإقرار المجمل والانقياد المجمل بالطاعة، وبين شخص دخل وثبت له عقد الإسلام ثم حصل منه إخلال جزئي بحقوق التصديق أو الانقياد. فهؤلاء المشركون في مكة كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، ويأنفون أن يقروا إقراراً مجملاً بالتوحيد وبالانقياد، فهم هم الذين قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فيتعجبون من دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد، ويقرون بأن العبادة تكون شركة بين الله وبين الأصنام، فيقرون بأنهم يعبدون الأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ودينهم هو الشرك بالله تبارك وتعالى، وعقيدتهم تعدد الآلهة وتوزيع العبادة بينها على تفاوت بينها في القدرة على النفع والضر والجدارة باستحقاق العبادة، فمن تلبس بشيء من الشرك جهلاً بأنه شرك، فما ما دينه؟ الجواب: دينه الإسلام، وعقيدته المجملة الالتزام المجمل بعبادة الله تبارك وتعالى وحده، وما وقع فيه من مظاهر الشرك الذي يناقض هذه الحقيقة سببه أنه يلتبس في ذهنه ببعض الصور الأخرى المشروعة كالحب، وكالولاء والتوقير للصالحين ونحو ذلك. فلو سألت الوثني: لـمَ تعبد الأصنام؟ لأقر بعبادتها، وقال: أعبد الأصنام لأنها تقربنا إلى الله زلفى. وأرجو الانتباه إلى أننا لا ندافع عن عبادة غير الله، ولا نقول: إن هذا شيء نرضى به ونقبله، بل هذا من أكبر المنكرات، ومن أعظم أسباب البلايا التي تصيب أمتنا، وفي الصميم من عقيدة التوحيد، وواجبنا هو تعليم هؤلاء الناس؛ لأن العارض الذي حال دون فهم حقيقة الإسلام هو الجهل، فالواجب هو أن نقوم بتعليمهم لا بتكفيرهم، فالواجب أن تزيل هذه الصفة القبيحة .. صفة الجهل التي وصلت ببعضهم إلى أنه جهل معاني أساسية من التوحيد فوقع في شيء من الشرك وهو لا يعلم أنها من الشرك، ولم يبلغه من النصوص ما تقوم عليه به الحجة بطريقة تدفع عنه كل شبهة بحيث يقر بأن هذا شرك، وتقوم عليه الحجة بذلك. وينعكس الأمر إذا سألت واحداً من المشركين: لماذا تعبد الأصنام؟ فإنه يقر أنه يعبد الأصنام؛ ويزعم أنها تقربه إلى الله زلفى، وإن سألت واحداً من عموم المسلمين الذين يتلبسون بشيء من شرك النسك جهلاً بأن هذا شرك: لـمَ تعبد أصحاب القبور؟ أجاب على الفور: معاذ الله أن نعبد غير الله! ونطق على الفور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه طريقة الناس العوام، فإذا قلت لأحدهم: لماذا تعبد الحسين ؟ لماذا تعبد البدوي ؟ لماذا تعبد أبا العباس ؟ فسيقول لك: لا إله إلا الله، نحن لا نعبدهم ولا نقصد ذلك، إنما هذه من محبة الصالحين، ومن كذا وكذا، ويلتمس مثل هذه التبريرات. فهذا الرجل الأخير لديه الالتزام المجمل بالإسلام، والإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المجملة من عبادة غير الله .. لديه من كل هذا ما يفرقه عن الوثني قبل البعثة، فإن ذلك الوثني انعقد قلبه على الرفض المجمل للتوحيد، والالتزام المجمل للشرك، وتوزيع العبادة بين الله والأصنام، فإهدار الالتزام المجمل بكلمتي التوحيد إنما هو لوجود خلل جزئي تلبس به صاحبه ذاهلاً أو جاهلاً عن معارضته لهذا الالتزام المجمل معتقداً اندفاقه منه، يعني: أنه يظن أن هذا من مقتضيات التوحيد، ومحبة الصالحين، وسرعان ما يحتج بقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وهو يعاديك ظناً منه أنك بهذا تعادي أولياء الله، مع أنه لا يحسن تطبيق الآية في موضعها، ويجهل أن هذا ينافي العقيدة، فهو يعتقد أن هذا الفعل الذي يفعله ينبثق وهو من لوازم محبة أولياء الله، وهذه أشياء تتوجب المراجعة والتأمل في موقفه حتى تقف على مكمن الداء، لكن في نفس الوقت نحن لا ننكر أن واقع الحال أن هناك طوائف من هؤلاء وصل بهم الحال إلى أنهم نقضوا حتى الالتزام المجمل بالخروج الصريح من الملة، وقد يكون بينهم من المنافقين والزنادقة خلق كثير، لكن نتكلم الآن عن الظاهرة العامة، والواضح الأغلب في عوام المسلمين كما قرر أهل العلم: عدم تكفير أهل الأهواء في الجملة، وإن كان هذا لا يمنع أن يوجد بينهم من هو منافق في الباطن وكافر على الحقيقة.

    حكم الديمقراطية

    هذا فيما يتعلق بالنسك في باب الحكم، فقد تختلط بعض الطرق الحكمية الكفرية ببعض الطرق أو الصور الشرعية في حس بعض الجهلة والعوام، فيتحمسون لها ويدعون إليها؛ لا على أنها دعوة إلى تحكيم غير شريعة الله بل باعتبار أنها مما جاء بنظيره الإسلام، وقبل أن نتكلم عن موضوع الديمقراطية: هل ينكر أحد أنه يوجد خطباء مشهورون ومرموقون، ويشهد لهم بحب الإسلام، والبذل والتضحية في سبيله، ومع هذا يتكلمون على فضائل الديمقراطية ويطالبون بها؟! هذا واقع؛ فنحن نسمع ونرى خطباء من الناس الصالحين وأهل الخير -ولا يظن بهم إلا الخير- ومع ذلك -وللأسف ولوجود القصور في فهم حقائق التوحيد- يذكرون كلمة الديمقراطية على أنها الأمل العظيم للأمم، ويقولون: أين الديقراطية؟ هذه ليست ديمقراطية، نحن نطالب بالديمقراطية. فهذا يقع من خواص المسلمين نتيجة التباس الحق عليهم، فما بالك بالعوام؟! فصارت هذه الديمقراطية فتنة العصر، وهي مقياس المثالية في الحكم، ويتحمس في المطالبة بها كثير من المخلصين، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون طريقة من طرق الحكم الكفرية لما تقوم عليه من جعل السيادة العليا المطلقة للأمة، وبدل ما كان يعبد إله واحد تعبد الأمة، فالشعب صار هو الإله، والشعب هو الذي يشرع، فليس إلهاً واحداً ولا اثنين، بل ملايين الناس يشرعون وتؤخذ أصواتهم، فإذا اتفقوا على أن الخمر حلال فهي حلال؛ لأن الشعب أراد ذلك، حتى قال أحد الهالكين عليه من الله ما يستحقه: نعم للدستور ولا للشريعة!! قالها بصراحة، فالديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، فالشعب هو المشرع، وهو الذي يحلل وهو الذي يحرم، والشعب له السيادة العليا، والقانون هو التعبير عن إرادة هذه الشعوب الحرة، فالأمة في ظل النظام الديمقراطي هي التي تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء، ففي الحقيقة صارت الأمة بهذا المعنى صنماً عصرياً لا تقل خطورته عن خطورة ما مضى من الأصنام، ولا تقل عبادته شركاً عن عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها، وما يقال عن الديمقراطية يقال عن الاشتراكية وغيرها من الطرق الحكمية الكفرية المعاصرة، فما من شك أننا نفرق في حسنا بين من يدعو إلى الطرق ويتحمس لها ممن ليس بمسلم، أو من لم يعرف عنه التزامه المجمل بتطبيق الشريعة، وبين أن يدعو لها بعض الإسلاميين الذين عرفوا بالتزامهم المجمل بالإسلام. ولو أننا طبقنا معيار كاتب كتاب (حد الإسلام) في استيفاء حقوق النسك والولاية والحكم، ولا نحكم على إنسان بالإسلام إلا بعد استيفاء هذه الحقوق، وطبقناها بغير تحفظ لحكمنا بكفر الجميع على الفور لتلبسهم بقبول غير منهج الله تبارك وتعالى، والدعوة إلى جعل الحكم للأمة بدلاً من الإقرار به لله، وكل ذلك كفر صريح مناقض لما سماه هو حد الإسلام. فإن قال من يأخذ بهذا الكلام: إن هؤلاء لا يعلمون أن الديمقراطية دعوة إلى تحكيم غير شريعة الله؟ فالجواب أن نقول: ومثلهم أيضاً هؤلاء الذين يستغيثون بأصحاب القبور لا يعلمون أن ذلك توجيه للعبادة إلى غير الله، فإن كان الأولون يفهمون أن الديمقراطية هي الشورى، فإن الآخرين تلتبس عليهم، ويقولون: الإسلام دين الديمقراطية، ويأتون بالأدلة على الشورى، فقد اختلطت عليهم المفاهيم الأساسية، فهؤلاء الآخرين من القبوريين ونحوهم يفهمون أن الاستغاثة هي من جنس التعظيم المشروع للصالحين من عباد الله الذين أعطاهم الله ذلك بقوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الزمر:34]، فيسيئ فهم الآية، ويظن أن الصالحين لهم ما يشاءون عند ربهم، وأن منهم هؤلاء المقبورين. فما ذكر عن الديمقراطية والاشتراكية مجرد أمثلة لما يقع أو لما يمكن أن يقع الناس فيه من جهل في باب الحكم، ويقاس عليه في ذلك غيره.

    بيان أحكام العذر بالجهل في الولاية ونحوها

    أما في باب الموالاة: فقد يجهل بعض الناس أن هذه الصورة بعينها من الموالاة مما يخرج صاحبها من الملة؛ لأن مسمى الولاية لأعداء الله يقع على شعب متفاوتة تتفاوت من المعصية إلى الكفر، واختلاط هذه بتلك مما قد يلتبس على كثير من أهل العلم، فما بالك بالعامة وأشباه العامة؟ من ناحية أخرى قد يجهل الناس كفر هذا الذي يتولونه؛ لأن كفره لم يصل إلى حد معلوم بالضرورة من الدين، فيقعون في الموالاة له لا باعتبار أنه كافر، ولكن باعتباره من عصاة أهل القبلة الذين نواليهم لإسلامهم ونبغضهم لعصيانهم، ولقد وجد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يتولى عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق في المدينة جهلاً منهم بحاله، ووجد في تاريخ الإسلام من يتولى ابن عربي النكرة وغيره من أئمة الكفر جهلاً بحالهم، أو إحساناً للظن بهم، وفي هؤلاء من الفقهاء والعلماء عدد كبير من يدافع عن ابن عربي أو يحسن الظن به، أو يتأول له فيما نطق به من الأشياء الفظيعة، فمثلاً: القاسمي إمام من أئمة العلم ورجل له دوره في التجديد في دعوة الإسلام، ومع ذلك فهو ممن اعتذر وتلطف مع ابن عربي ، وهكذا الإمام ابن حجر الهيتمي صاحب الزواجر، والإمام ابن عابدين الحنفي صاحب الحاشية المعروف، وغيرهم كثيرون، فالغالب في أخطاء العلماء أن مردها إلى التأويل، والغالب في أخطاء العامة أن مردها إلى الجهل. فالمقصود من هذا الكلام: أن نمهد السبيل لعذر العامة، فإن عذر الجهلة والعوام أولى من عذر الفقهاء والأعلام.

    حجج القائلين بالعذر بالجهل وحجج مخالفيهم

    أيضاً: لعدم العذر بالجهل عند القائلين به في هذا المقام أحد مأخذين: المأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن للإسلام حداً لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، فمن لم يأت به فهو كافر سواء كان كفره عناداً أم جهلاً. المأخذ الثاني: أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فحيث وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة. فالمأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن حد الإسلام لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه. هذا هو الذي درج عليه الكاتب، ولهذا لا يفرق في أحكام الدنيا بين وجود مظنة العلم أو عدم وجودها، فحد الإسلام عنده معيار موضوعي بحت؛ إن وجد وجد الإسلام، وإن تخلف منه شيء تخلفت صفة الإسلام بصرف النظر عن حال صاحبه من علم أو جهل، وحال مجتمعه من وجود مظنة العلم أو عدم وجودها. فهذا المأخذ كما بينا من قبل مرفوض بلا نزاع عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين؛ لكنه مقبول فيما يتعلق بالإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بعبادة الله وحده لا شريك له. وبهذا الكلام تنكشف مغالطة من يزعم: بأن إقرار العذر بالجهل في قضايا أصل الدين سوف ينتهي بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، فيقولون: أنتم تتمادون في العذر بالجهل، وسوف يصل بكم الأمر في النهاية إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، وأخذ بعضهم في وقت من الأوقات يتفكه ويتندر فيقول: الأخ كارتر والأخ بيجن والأخ كذا ويذكرون أسماء أناس من الطواغيت والكفار، فيقولون: هم على أساس هذا المنهج إخوة لنا وهم أيضاً معذورون، فهذا الكلام لا محل له؛ لأن هؤلاء الذين يذكرهم الأخ لم يثبت من أحد منهم الإقرار المجمل بالإسلام ولا الالتزام المجمل بالإسلام، فكيف نسويه بمن نطق الشهادتين، وأعلن أنه قابل من حيث الإجمال بتوحيد الألوهية، وقابل بتوحيد الطريق إلى الله وهو الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يستويان؟ هل يستوي هذا مع هذا؟ شتان بينهما، فمن أتى بما يخالف توحيد العبادة أو توحيد الطريق الموصل إلى الله جهلاً بأن هذا يخالف، فواجبك نحوه أن تعلمه الحق، وترده إلى مقتضيات الإقرار المجمل والالتزام المجمل. إذاً: الجواب على هذه الشبهة التي هي: أن التمادي في قضية العذر بالجهل سوف يصل بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس والشيوعيين وغيرهم، الجواب: أن الإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بالتوحيد لا عذر فيه بالجهل بالإجماع، فمن لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ولم يبرأ على الجملة من كل دين يخالف دين الإسلام فهذا ليس بمسلم بلا نزاع، سواء كان كافراً جاهلاً أو كافراً معانداً، لكن الذي ثبت له عقد الإسلام يبحث عما إذا كان جاهلاً فلا يحكم عليه بالكفر حتى تقام عليه الحجة. فليس موضع النزاع في الإيمان المجمل، والتصديق المجمل، والإقرار المجمل بدين الإسلام والبراءة مما خالفه، وإنما النزاع في القضايا التفصيلية لأصل الدين كالدعاء، والنذر، والذبح، والتحاكم إلى شريعة الله وحده، فهذه بعد ثبوت عقد الإسلام بالإقرار المجمل به جملة وعلى الغيب يعذر فيها الجاهل ولا يصار إلى تكفيره بهذا التفريق بين الإجمال والتفصيل، فيسقط الاحتجاج بحال المشركين قبل البعثة، وأن كفرهم لم يتوقف على بيان أو إعذار، فقد خوطبوا من البداية بقوله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، لأن هؤلاء قد نقضوا العقد الأول، وانعدم عندهم الالتزام المجمل بالحنيفية ودين إبراهيم عليه السلام. فالمشركون قبل البعثة لم يوجد لديهم الالتزام المجمل بالتوحيد، أو الإقرار المجمل بدين إبراهيم، بل كان دينهم الذي يدينون به هو تعدد الآلهة، وتوزيع العبادة بينها وبين الله عز وجل، وهذا هو دين آزر وليس هو دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، فأين هذا من المسلم الذي أقر إقراراً مجملاً بالإسلام وبالانقياد، وإذا قلت له: لماذا تعبد البدوي ؟ لماذا تعبد الحسين ؟ يقول: لا إله إلا الله أنا لا أعبدهم، الله عز وجل يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، إلى آخر الحجج المحفوظة والواهية، والتي لا تسول له هذا الفعل، وهو منكر عظيم، ونحن لا نقر بهذا المنكر. فما من شك أن هناك فرقاً بين من قال الله عز وجل في شأنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، ويقول عز وجل: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:4-7] وبين من تلبس بشيء من الشرك من أهل القبلة، فهذا لا يجوز إهداره عند تحرير المسائل وتنقيح المناط، فقياس من دينه الإسلام، واعتقاده المجمل هو التوحيد، وإن خالف مقتضاه في بعض المسائل بجهل أو تأويل قياس مثل هذا على من يكفر بالتوحيد ويكذب المرسلين قياس مع الفارق، ولا يعرف من قال بمثله في تاريخ الأمة إلا الخوارج، فهذا فيما يتعلق بالمأخذ الأول للقائلين بعدم العذر بالجهل في هذه القضية. المأخذ الثاني: وهو أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فمتى وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة. هذا الكلام في الجملة لا منازعة فيه، لكن لابد أن نفرق في هذا المأخذ بين قضايا الأصول وقضايا الفروع، ولا نهدر اعتبار اختلاف الأزمنة والأمكنة في تصديقه، فأبرز ما يميز هذا المأخذ: عدم التفريق بين القضايا على أساس الأصول والفروع، فينبغي في مسألة العلم وعدم مظنة العلم أو عدم وجودها أنه لا يحصل التفريق بين قضايا الدين على أساس الأصول والفروع، بل على أساس المعلوم من الدين بالضرورة وغيره، أو علم العامة وعلم الخاصة، فالمعلوم من الدين بالضرورة أو علم العامة لا يتعلق بالأصول فحسب، وإنما يتعلق بالأصول والفروع على حد سواء، فمثلاً: من المعلوم من الدين بالضرورة: وجوب الأركان الخمسة في الإسلام، فلا يتصور أبداً أي مسلم يجهل أن الصلاة ركن من أركان الإسلام. وهكذا تحريم أمهات الفواحش من الزنا وشرب الخمر، هذا من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا من الفروع، أيضاً الإيمان المجمل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من المعلوم من الدين بالضرورة عند المسلمين، كما أن علم الخاصة أو ما سوى المعلوم من الدين بالضرورة لا يتعلق بالفروع فحسب، بل منه ما هو من الفروع، ككثير من أحكام الطلاق والفرائض وغيرها، ومنه ما يتعلق بالأصول ككثير من مسائل الصفات وأحوال الآخرة. أيضاً: يحصل في هذا الأمر اختلاف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فالمعلوم بالضرورة في نطاق العلماء يختلف عما هو كذلك في نطاق العوام وأشباه العوام، فالمعلوم بالضرورة في دائرة العلماء قد يختلف عما هو معلوم بالضرورة عند العوام أو أشباه العوام. المعلوم بالضرورة في زمان تمكين الدين وقيادة الربانيين يختلف حالة عن المعلوم بالضرورة في أزمنة غربة الدين وقيادة المفسدين وفتور الشرائع، والآن العلماء قائمون بتعليم الناس أركان التوحيد وحدود التوحيد وحقوق العبادة... إلى آخر هذه الأشياء، وهناك تفاوت بين بلد وآخر يقوم فيه علماء السوء بتزيين الباطل وخلطه على الناس بلبوس الحق، والدفاع حتى عن مثل هذه الشركيات التي تنافي أصل الدين. فالمعلوم بالضرورة في دار الإسلام وفي مواقع العلم والعلماء يختلف بالضرورة عن المعلوم بالضرورة في دار الحرب أو البوادي المنعزلة، فعندما نقرر: أنه عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين لابد من اعتبار عارض الجهل؛ فإننا لا نقرر ذلك خطة ثابتة مطردة في جميع هذه القضايا، وفي جميع الأشخاص، وفي كافة الأزمنة والأمكنة، وإنما نقرر فقط أن يؤخذ هذا العارض في الاعتبار، فمن كان لاحتمال جهله وجه عذر، ومن لم يكن كذلك لم يعذر، وإنما الذي ينبغي أن نرده بلا تردد هو المأخذ الأول لهذه القضية، وهو الخلط بين الإجمال والتفصيل في قضية أصل الدين، واعتبار كافة المسائل التفصيلية في توحيد العبادة مما لا يثبت عقد الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفائه، ولا يعذر أحد بجهله، وقد فصلنا الكلام في هذا عند مناقشة المأخذ الأول، هذا فيما يتعلق باعتبار الجهل، ويبقى الكلام في اعتبار التأويل والإكراه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765792920