إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
فما زلنا في مناقشة بحث: حد الإسلام وحقيقة الإيمان، وقد انتهينا إلى وجود بعض الموانع التي قد تحول الحكم بالكفر على من دخل في الإسلام، وثبت له عقد الإسلام، وأتى بما يخالف مقتضى هذا العقد؛ لكنه لا يفعل ذلك الشيء عامداً أو مستحلاً، وإنما يفعله إما جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً، فهذه بعض الأعذار التي قد تحول دون الحكم على هذا الإنسان ببطلان عقد الإسلام.
وكاتب البحث حينما يحاول أن يستوفي هذه الشروط أو أركان حد الإسلام وحقيقة الإيمان، فالفرق في المنهج الذي عليه أهل العلم، وبين المنهج الذي ارتضاه في بحثه هو: أن العلماء يستعملون القاعدة المعروفة: أو المتهم بريء حتى تثبت إدانته. عامة من يخوضون في قضية التكفير يعكسون هذه القاعدة المنطقية فيقولون: إن البريء متهم حتى تثبت براءته، فما دام الإنسان دخل في الإسلام بالشهادتين وبإعلان الولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وثبت له عقد الإسلام بنطقه بالشهادتين؛ حينئذ يصبح الأصل في هذا الإنسان أنه مسلم، فهذا هو الأصل.
أما الفريق الآخر ممن ينحون منحى الكاتب، فإنهم يرون أن الإنسان لا يحكم له بأصل الإسلام حتى يستوفى منه هذه الأركان التي حدودها والشروط التي وضعوها.
فإذاً: المنطلق مختلف: نحن نعتقد أن هذا مسلم، وننظر في أفعاله على أن الأصل فيه الإسلام، أما هم فيرون أن الأصل فيه الكفر؛ ولذلك يتحقق في المنهجين قول الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغـرباً شتان بين مشرق ومغرب
ناقشنا من قبل أحد هذه العوارض التي تحول دون الحكم بالكفر على المسلم إذا صدر منه فعل الكفر، فذكرنا عذر الجهل، وعذر التأويل، الجهل تكلمنا عليه بالتفصيل وطبقناه على العبادة والولاية والحاكمية؛ كذلك تكلمنا في قضية التأويل، والآن نتكلم على أحد هذه الاعتبارات وهو عذر الإكراه.
وهذا العارض لا يرد بالنسبة للالتزام المطلق من حيث ثبوت أصل الدين، لا يعرف المكره بهذه الناحية؛ لأن أصل الدين هو: أن يعقد الإنسان قلبه على الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فعقد القلب على الشهادتين، وإعلان ذلك عند القدرة. هذا هو أصل الدين؛ لكن إذا حالت الظروف الظاهرة المحيطة بالإنسان دون إعلان هذه الشهادة، فهو باق على أصل الإسلام، وإذا عجز عن الإعلان عن هذه الشهادة، بقي عقد القلب الذي لا سلطان لأحد عليه.
ولهذا هرقل لم يقبل منه تصديقه برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا التصديق كان مجرداً من الاتباع، أيضاً كان هرقل خائفاً على ملكه من قومه إذا أسلم فكان سيضيع ملكه.
فالالتزام المجمل بالإسلام لا عذر فيه لأحد، ولا يشفع فيه عارض من العوارض، فالإنسان إذا حمله وعيد على ترك الالتزام المجمل بالإسلام، فهو ممن استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وهو من الكافرين؛ لأن هذا النوع لم يأت بالالتزام المجمل بالإسلام عن طريق إعلان الشهادتين؛ لكن التطبيق التفصيلي لقضايا أصل الدين، وبالذات الثلاثة أركان التي وضعها الكاتب وهي: النسك، والولاية، والحكم، فهذا هو محل العذر بالإكراه عند طروء الإكراه في باب النسك، أو الحاكمية أو الولاء؛ لكن الالتزام بأصل دين الإسلام لا يعذر به الإنسان بالإكراه.
فهل هرقل كان معذوراً عند الله؛ لأنه كان مكرهاً أو في معنى المكره من قومه؟ لا. بل خشي أن يضيع ملكه، وهذا ليس إكراهاً؛ فقد استحب الحياة الدنيا على الآخرة، ومع أنه يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم وعدّ هذا من الإكراه كما فهمه هو عذراً له، أو بتعبير أصح: هو قدم الدنيا على الآخرة، مع أنه لم يلتفت إلى ضمان الرسول صلى الله عليه وسلم له بالسلامة في قوله: (أسلم تسلم)، ولو كان عنده تقوى لأقدم على إعلان إسلامه، والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم دونما نظر في هذه العاقبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن له العاقبة، فقال له: (أسلم تسلم)، فهو لم يلتفت إلى هذا الوعد، واستحب الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يعد معذوراً بالإكراه؛ لأنه لم يعلن التزامه المجمل بدين الإسلام في باب النسك، نجد أن طروء عارض الإكراه نادراً ما يقع في جانب النسك؛ لأن النسك في غالب الأحوال هي عبادة فردية وتوجه شخصي لا مصلحة لأحد في منع غيره منه أو حمله عليه؛ فمن ضل في باب النسك ففي الغالب يكون هذا بمحض اختياره، وتقصيره في العبادات يكون بمحض التقصير من نفسه هو لا بإكراه لأحد عليه؛ لكن على أي الأحوال إذا وجد إكراه في باب النسك والعبادة، وإذا قدر وقوع هذا فلا شك أنه يعذر باعتبار هذا العذر بلا نقاش وبلا جدال.
أما الأثر الموقوف، والذي يحكى في كثير من الكتب على أنه حديث صحيح، حديث طارق بن شهاب في قصة الرجل الذي دخل النار في ذبابة، أصل الحديث: (دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة) ، وذكر في هذا الأثر تفصيل ذلك: وهو أن هذين الرجلين مرا على قوم يعبدون وثناً، فقالوا لأحدهما: قرب ولو ذباباً، فأبى فقتلوه، فدخل الجنة بسبب ذبابة؛ لأنه استنكف أن يعبد غير الله أو يتقرب لغير الله حتى ولو بأن يقرب ذبابة، أما الآخر فلما رأى الأول قد قتل فقرب ذبابة لهذا الوثن، فدخل النار بسبب تقديمه ذبابة، فهذا الحديث أولاً لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو أثر موقوف عن سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وعلى أي الأحوال حتى ولو كان هذا الحديث صحيحاً فكما فهم بعض العلماء قالوا: إن العذر بالإكراه هو من خصائص هذه الأمة المحمدية، واستدلوا بهذا الأثر وهو: أن هذا الرجل دخل النار في ذبابة بسبب أنه قربها للوثن، هذا كان يوشك أن يكون له عذر؛ لأن هذا إكراه؛ إما القتل وإما أن يقرب ذبابة، فهو قرب الذبابة، فلو كان العذر بالإكراه عذراً في هذا الدين الذي كان أو في هذه الشريعة التي كان ينتسب إليها لعفي عنه؛ لكنه دخل النار، فالمعنى: أنه كان واجب عليه أن يستمسك ويصبر ويثبت حتى ولو قتل، لكن لا يقرب ذباباً، لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم عذر بالإكراه.
وهذه القصة تذكرنا بأحد الإخوة من بعض البلاد، كان سافر إلى بلدة في شرق آسيا، واشتهر فيها جداً عبادة الأوثان والأصنام، ثم أتى القوم ودخل السوق، وكان معه زوجته وهي مجلببة ومنقبة، فالناس ظنوا أنها الإله تجسد في صورة هذه المرأة المحجبة! فظلوا يسجدون ويركعون!
ثم أراد هذا الأخ أن يستخف بما هم عليه من الشرك والوثنية، فأتى إلى أحد هذه الأصنام وبال عليه! فثاروا ضده وأرادوا قتله غيرة وانتصاراً لإلههم هذا، وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا، ثم قبض عليه، وقالوا: إما يقتل، وإما أن ترضي إلهنا، وصارت أزمة سياسية كبيرة، وتدخلت الدولة في هذا الشخص، إلى أن ضبط عليه فعلاً في النهاية، واضطر أن يقرب شيئاً يسيراً لهذا الوثن.
وليس المقام الآن مقام مناقشة سلوك الأخ وتصرفه، فإن كان الأمر سينتهي به إلى هذا التصرف كان سينكر باللسان عليهم حتى لا يئول به الأمر إلى أن يقع في مثل هذا الشيء الشنيع.
الشاهد: أن هذه الأمة تعذر بالإكراه، وهذه من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا ووضعها عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الأدلة على ذلك: قول أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20]، فالنهي بالتأبيد يدل على انتفاء الفلاح عنهم تماماً، وأنهم لا يعذرون بالإكراه؛ لأنهم ربما أرغموهم على أن يظهروا العودة إلى ملتهم بالإكراه، فما في شك أن هذا في شريعتنا يكون عذراً: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. أما في شريعة أصحاب الكهف فلم يكن لديهم عذر بالإكراه؛ ولذلك نفوا عنهم الفلاح إن عادوا لعبادة ما كانوا عليه، هذا المعنى ذكره العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، في تفسير قوله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ، إما رجم وإما العودة إلى الكفر وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا .
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة؛ لأن قوله عن أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ، ظاهر في إكراههم وعدم طواعيتهم، ولعلهم يكرهون العودة إلى هذه الملة، ولا يطاوعونهم في ذلك، ومع هذا قال عنهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا .
فدل ذلك على أن الإكراه ليس بعذر، ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل؛ لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه، ويشهد له أيضاً دليل الخطاب، يعني: مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فإنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (تجاوز لي عن أمتي)، يدل على أنها من خصائص هذه الأمة، مفهومه: أنه لم يتجاوز عمن عدا أمته من الأمم، فهذا بدليل الخطاب، وبمفهوم المخالفة يفهم منه: أن من عدا هذه الأمة المحمدية المرحومة لم يكونوا يعذرون لا بالخطأ ولا بالنسيان، ولا بما استكرهوا عليه.
يقول: وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة، أما هذه الأمة فقد صرح الله عز وجل بعذرهم بالإكراه في قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106]، فالإنسان لا يكفر ولا يخرج من الملة إلا إذا رضي بالكفر وانشرح به صدره ، لكن المسلم المكره قلبه عامر بالإيمان، قلبه مطمئن بالإيمان، ولكن تحت ضغط الإكراه وقع في شيء مما ينافي هذا الإيمان فقط لعذر الإكراه.
لكن لا عذر بالإكراه في أن يتحول القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، إنما السلطان على البدن، أما القلب فالقلب يظل مطمئناً بالإيمان، راسخاً إيمانه مع مخالفة ذلك للظاهر، فهذا فيما يتعلق بباب النسك، باب العبادات.
فالنسك يندر أن يقع فيه عذر بالإكراه حتى في أغلب دول الكفر في هذا الزمان بما فيها الدول الإسلامية التي انحرفت ووقعت في وهدة ووحل العلمانية الملحدة، حتى هؤلاء في باب النسك والعبادة لا ينازعون الإنسان في أن يعبد ربه كما شاء، ما دام هذا الأمر ديناً وأمراً شخصياً لا ينعكس في علاقته بالآخرين، ولا يحاول أن يصبغ المجتمع بصبغته الدينية، فهناك حرية في أغلب بلاد العالم في هذه الناحية، ناحية النسك والعبادة، وقل من يضطهد لأجل إظهار النسك والعبادة. إذا وقع اضطهاد بسبب إظهار شيء من العبادات، ووقع الإنسان فيما يخالف ذلك مكرهاً واستوفى شروط الإكراه، ففي هذه الحالة يعذر بالإكراه، والدليل هذه الآية في سورة النحل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].
أما في باب الحكم، وهو الركن الثاني من أركان حد الإسلام في نظر المؤلف، فأيضاً لا مناط ولا مهرب من اعتبار واحترام هذا العارض وتقديره في الحكم على الناس، عارض الإكراه في باب الحكم أو الحاكمية، فهذا النجاشي رحمه الله رغم أنه كان ملكاً للحبشة؛ لكنه لم يستطع أن يقيم في قومه كتاب الله، ولم يستطع أن يظهر في نفسه شرائع الإسلام؛ لأن قومه لم يطيعوه في الدخول في الإسلام؛ ولكنه عقد قلبه على الالتزام المجمل بالإسلام، وأقام من حدود الإسلام ما تمكن من إقامته، فعذره الله تبارك وتعالى بذلك، فـالنجاشي لم يقم دولة خلافة إسلامية في الحبشة رغم أنه دخل في دين الإسلام، وعذره الله بهذا الأمر، فما هو الفرق بين النجاشي وبين هرقل ؟
يعني: إن الالتزام المجمل بالإسلام كان موجوداً في قلبه، وهو أعلن ذلك أيضاً أمام الصحابة رضي الله عنهم جعفر بن أبي طالب وغيره، فالالتزام المجمل بالإسلام كان موجوداً، أما هرقل فاستنكف وأبى خوفاً على ملكه، فلم يوجد منه الالتزام المجمل بالإسلام، فالدليل على أن الله عذره:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه يوماً وأخبرهم أن النجاشي مات في هذا اليوم، وأمرهم أن يصلوا على أخيهم، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وهذا هو الراجح في صلاة الغائب: أن يصليها المسلمون على من لم يصل عليه في البلد التي مات فيها؛ وهذا الموضوع يأخذ أحياناً نوعاً من المجاملة لأقارب الميت أو ناحية عاطفية محضة؛ بدون انضباط بالدليل الشرعي، فـالنجاشي مات في دار كفر ولم يصل عليه، كذلك إذا مات مسلم في بلد من بلاد الكفار ولم يصل عليه، نصلي عليه صلاة الغائب؛ لكن من مات مثلاً في مكة المكرمة، وصلى عليه آلاف المسلمين في موسم الحج -مثلاً- هل يصلى عليه أيضاً في بلاده صلاة الغائب؟ لا، فالمسلمون صلوا عليه وقضي الأمر.
الشاهد: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذلك الكفار من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، وأقام من حدود الإسلام ما يستطيع أن يقيمه كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعاً من الهجرة، وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهو معذور، ففي دار الكفر ليس هناك من يعلمه شرائع الإسلام، ولا يستطيع أن يهاجر إلى دار الإسلام لأنه مستضعف، ولم يلتزم جميع شرائع الإسلام؛ لأنه ممنوع من إظهار دينه وإظهار شعائره، ومع ذلك آمن بالرسول وآمن بالله عز وجل واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي ، فهذا مؤمن من أهل الجنة. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، يقول: كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً.
وكما هو معروف عن الحضارات التي يفخرون بها فحضارة الفراعنة حضارة حجارة، أناس كانوا يعبدون الملوك والأصنام والحجارة، هذا أقصى ما يعبر به عن هذه الحضارة الوثنية.
فأهل مصر في زمن يوسف عليه السلام كانوا كفاراً مشركين، وهذا واضح تماماً من محاورته مع صاحبي السجن: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، هذه نفس الآية نكررها لمن يفخمون الآن هؤلاء الأرباب، ويفخرون بانتسابهم إليهم، ويقولون: إن حضارتنا عمرها سبعة آلاف سنة، نعم سبعة آلاف سنة ولكنها في الشرك والكفر والوثنية وعبادة الأحجار والملوك، أما الحضارة والنور فما عرفناها إلا من أربعة عشر قرناً، وقبل ذلك كنا غارقين في هذه الوثنية وهذا الشرك.
فالشاهد: أن يوسف عليه السلام كان مع أهل مصر وهم كفار، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، ولما دعاهم إلى الإيمان والتوحيد لم يجيبوه، والسؤال الآن: أين الدليل على ذلك من القرآن؟
الدليل: قول مؤمن آل فرعون في سورة غافر: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ [غافر:34]، (هلك) هنا معناها: مات وتوفي، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34].
فالشاهد هنا في هذه الآية قوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [غافر:34]، يعني: لم تلتزموا بدعوته إياكم إلى الإسلام والتوحيد.
أيضاً النجاشي وإن كان هو ملك النصارى لكنه لم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه في الإسلام نفر قليل من الحبشة؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه؛ فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات، فقال: (إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات)، هذا الحديث مما يستدل به على جواز النعي إذا لم يقترن بالتفاخر وأفعال الجاهلية؛ لأن هذا نعى الإخبار بموت فلان.
فالحديث: (نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكثير من شرائع الإسلام لم يكن دخل فيها -يعني النجاشي - لعجزه عن ذلك فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا صام شهر رمضان، ولا أدى الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذا جاءه أهل الكتاب ألا لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، كما في الحكم في الزنا بحد الرجم، في الديات بالعدل، بالتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع: النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك.
يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (19/ 217-219) والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك؛ بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
يقول: وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سمّ على ذلك، فـالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها.
فهذا أيضاً دليل على أن الإكراه قد يكون عذراً في بعض الحالات في جانب الحكم.
فالولاية في اللغة ضد العداوة، وأصل الولاية من الولي القرب والدنو، وتطلق على التحالف والنصرة، كما تطلق على المودة والمحبة، يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وأصل الولاية: المحبة والتقرب كما ذكره أهل اللغة.
وأصل العداوة: البغض والبعد، وكما يبدأ العداء بتنافر القلوب، ويمتد إلى أن يصل إلى مقاتلة العدو أو المظاهرة عليه؛ فإن الولاء يبدأ بميل القلب، ويقوى هذا الميل أو الحب ويشتد إلى أن يحمل على الولاء والنصرة.
العداوة بهذا المعنى تقابل وتضاد الولاية، والأدلة على هذه المقابلة قوله تبارك وتعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، ينقلب إلى العكس، فهذا دليل وجود المقابلة بين الطرفين، ويقول عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50].
وفي الصحاح للجوهري : الولْي: هو القرب والدنو، والولّي ضد العدو، والموالاة: ضد المعاداة، والولاء: النصرة، وما ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين؟
المحبة والمناصرة منها ما يكون على الدين، ومنها ما يكون على الأسباب أو العلائق الدنيوية.
مثلاً: عاطفة المحبة: منها ما هو حب طبعي، كحب الرجل لزوجه وولده، وحبه لعشيرته ووطنه وقومه، من الحب ما يكون على الدنيا، يعني: بعض الناس تحدث بينهم مواصلات وارتباطات وصلات دنيوية من اشتراك في تجارة وعمل، أي شيء من الارتباطات الدنيوية توجد بينهم نوعاً من الألفة والمودة والموالاة.
أيضاً: من هذه الموالاة ما يكون على الدين، كحب أي مسلم أسلم بسبب إسلامه، ومع أنه قد لا تربطك بهذا الشخص الذي أسلم أي علاقة أو قرابة ولا مودة ولا مصلحة ولا مشاكلة ولا تآلف في أي أمر من أمور الدنيا. هذا بالنسبة للموالاة.
أما المناصرة: فمنها ما يكون على الدنيا، كما يتناصر الناس فيما بينهم على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، يتناصرون وينصر بعضهم بعضاً على الدنيا، كأغلب الحروب التي تقع في العالم اليوم والمنازعات إنما تكون على مصالح الدنيا ولا تكون على عقيدة أو مبدأ، لكن من النصرة ما يكون على الدين كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام من غير أرحام بينهم ولا تجارة يتعاطونها.
فالذي يرتبط بأصل الدين من الولاء والنصرة هو فقط ما كان قائماً على أساس الدين لا على أساس الأسباب والصلات الدنيوية.
وجه اختصاص ما يتعلق من الولاية بأصل الدين لما كان منها على الدين، يعني: نحن قسمنا الموالاة إلى أقسام دينية ودنيوية وكذلك المناصرة، فلماذا نقول: إن الذي يتعلق ويرتبط بأصل الدين وتحقيق الولاية إنما يتعلق فقط بالدين، وما وجه ذلك؟
وجهه: أن الحب الطبعي تخلف، أو التناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، يعني: مثلاً قد يكره الرجل بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين فريق من المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية: إما تحاسد أو تنافس.. أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية، وقد يصل الأمر إلى حد الاقتتال أو التقابل، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، ولا يصبح بذلك كافراً، وقد أشار القرآن إلى بعض ذلك في مثل قوله تعالى: (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))، ممكن أن الرجل يكره بعض أهله أو قرابته أو زوجه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. فهذا الحب قد يتخلف مع الزوجة، ومع ذلك لا يمس أصل الدين، فهذه قد تكون طبعية أو لأسباب دنيوية، ولا علاقة لها في قضية الولاية التي لها ارتباط وثيق بأصل الدين: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
يقول أيضاً تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، فلم تنقطع بينهم أخوة الإيمان رغم أن هذه العداوة التي وقعت بينهم وصلت إلى التباغض والتدابر بل والاقتتال، ومع ذلك لم يقدح ذلك في أصل الدين، وأثبت لهم صفة الإيمان.
أيضاً: قد يستثقل الإنسان بعض التكاليف الشرعية، ويحصل كره طبعي لا شرعي لبعض هذه التكاليف، لكن لا يقدح ذلك في أصل الدين؛ لأن الذي يقدح في أصل الدين هو الكراهية الشرعية وليست كراهية الطبع والاستثقال، الإنسان يكره أن يقتل -مثلاً- في الجهاد، هل كراهة حصول القتل والسبي والأضرار التي تحصل، هل هذه تقدح في أصل الدين؟
إذا هو كرهه من حيث هو شرع الله فهذا يقدح، أما إذا كرهه طبعاً فهذا لا يقدح، والدليل: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ))، فهنا اعتبر الشرع الكراهة الطبعية، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
مثلاً: حصلت كراهة طبعية للخروج في غزوة بدر لمقابلة النفير، هم أرادوا أن يخرجوا ليلقوا العير ويغنموا هذه الغنيمة الباردة، فيقول الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، فمع وجود الكراهة الطبعية أثبت لهم الإيمان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلا تستطيع أن تدخل الجنة إلا حينما تمر على هذه المكاره وتثبت عليها.
(وحفت النار بالشهوات)؛ لأنها تجذب الناس فتوقعهم في النار، فمقتضى ذلك: أن هذه المكاره التي حفت بها الجنة مثلاً: كونك تتوضأ بالماء البارد جداً في شدة البرد لتصلي الفجر، وإسباغ الوضوء على المكاره، وتعطي الوضوء حقه وتبلغ به حده الشرعي وأنت كاره، فأنت تكره هذه البرودة. هذا نوع من العناء، لكن لا تكرهه شرعاً وإنما طبعاً، أما شرعاً فهو يتلذذ بذلك تقرباً إلى الله تبارك وتعالى، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله، فهذه الكراهة الموجودة في قوله تبارك وتعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، وقوله: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، لا شك أنها ليست كالكره المذكور في قوله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، فالأولى كراهة طبيعية، والأخيرة كراهة شرعية مذمومة من أهلها.
أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، (( كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ))، ولا شك أن هناك فرق كبير جداً بين هذه الكراهة وبين: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وغير ذلك مما ذكرنا من الكراهة الطبعية.
أيضاً: وجود المحبة الطبعية أو التواد أو التناصر الدنيوي لا يعني بالضرورة وجود الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية.
نحن الآن نأتي بالأدلة على أن من الولاية والنصرة إذا كان متعلقاً بأسباب الدنيا فليس له ارتباط بقضية أصل الدين.
مثلاً: أبو طالب دافع وذبّ ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت هذه نصرة أو محبة طبعية، لصلة الرحم، ولكن لم تكن محبة شرعية؛ فلذلك لم تنفعه، ووجود هذه المحبة لم تدخله في الإسلام.
أيضاً: قد يحب الرجل بمقتضى الطبع زوجه أو ولده أو عشيرته، وإن كانوا على غير دينه، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، إلا إذا حمل محبة الزوجة أو الأولاد على فعل هو من الكفر الأكبر، يقول الله تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، هذه كلمة الأزواج تشمل الزوجة الكتابية، اليهودية أو النصرانية، قد يحبها زوجها المسلم حباً طبعياً لا شرعياً، وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب ، وبعض العلماء يفسرها يقول: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته، هذه المحبة طبعية بسبب القرابة، لكن ليست محبة شرعية، وقد ظل أبو طالب ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عمره ويحوطه ويمنعه، ولم يتحقق بهذه النصرة ولاء الإسلام؛ لأنها كانت نصرة على الرحم، ولم تكن نصرة على الدين، بل إن قيام هذا التناصر الدنيوي بين المسلمين لا يحقق به المقصود من الولاية الشرعية؛ لأن المقصود بها ما كان تناصراً على الدين لا على الصلات والمصالح المشتركة، واعتبر في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما يجد به الإنسان حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فجعل العمدة في ذلك المحبة الشرعية لله، هذه إحدى الثلاث التي من فعلها ذاق وطعم طعم الإيمان.
والحب والنصر لا يقدح في أصل الدين إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد وإن تعين عليه الجهاد فإن قعد فهذه كبيرة من كبائر الذنوب أن يقعد عن الجهاد إذا وجب عليه وتعين الخروج للجهاد، فمجرد هذا التخلف لا يعد قادحاً في الإسلام، إلا إذا كان يقصد خذلان الدين.
ولا يخرج المسلم بمجرد قعوده عن الملة، وقد يكون تخلف هذه النصرة لمانع من عهد أو عدم هجرة، كامتناع المسلمين عن نصرة من هاجر إليهم بمقتضى صلح الحديبية، يعني: أبو جندل وأبو بصير لما هاجرا إلى المدينة وهما يرسفان في الأغلال، ولما يكن قد وقع النبي صلى الله عليه وسلم على صلح الحديبية، فأصر المشركون على أن يبدءوا بتطبيق المعاهدة على هذين الاثنين.
فخلاصة الكلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردهما، وكان أيضاً في المعاهدة: أنه من أتى النبي صلى الله عليه وسلم يرده إلى قريش، ومن أتى من المسلمين إلى قريش لا يرده المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في الحقيقة له علة، وليس من الدنية في شيء؛ لأن المؤمن الراسخ الإيمان إذا هاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة في ذلك الوقت، ورده النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً لهذا العهد والتزاماً بهذا الميثاق، فإن كان هو مؤمناً صادق الإيمان فلن يضيره ذلك أبداً، كما وقع بالفعل من أبي جندل وأبي بصير لما أويا إلى ساحل البحر الأحمر بعدما غلبا من كان معهما، وشنا ما يمكن أن نسميه بحرب العصابات على قوافل المشركين، حتى طلب المشركون بأنفسهم أن يلغوا هذا البند.
لنفرض أن بعض أهل المدينة ارتد وذهب إلى قريش فالإسلام غني عنه، ولا نريد أن يعود إلينا، المقصود: أن رد مثل هذا الشخص الذي يأتي مهاجراً في مثل تلك الظروف، فامتناع الصحابة أو المسلمين عن نصرته وإيوائه لا يقدح في أصل الإيمان.
أيضاً امتناع المسلمين عن نصرة من هاجر إليهم على قوم بينهم وببينهم ميثاق بسبب مانع هو العهد والميثاق.
كذلك وجود شيء من المودة أو النصرة لأعداء الله لا يقدح في أصل الدين إلا إذا كان مشايعة لهم على الدين ضد دين الإسلام كانت هذه الموالاة لرحم أو لحاجة فهو ذنب من الذنوب كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما كاتب أهل مكة بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لم يخرج بذلك من الملة، ولم يقدح في أصل إيمانه، وكان وقع أيضاً من سعد بن عبادة عندما انتصر لـعبد الله بن أبي في قصة الإفك، لما صعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: (ما بال قوم بلغ بهم الأذى حتى أنهم يتكلمون في أهلي، والله ما أعلم عليهم إلا خيراً، فوقف
لماذا أثيرت هذه الحمية في هذه الظروف قال سعد بن عبادة : كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ليس هذا مشايعة ضد الدين، وإنما هو نوع من الحمية لرجل من قبيلته، بل قد تكون هذه النصرة واجبة لذمة أو عهد كما ينصر المسلمون أهل ذمتهم، يعني: ناس يعيشون تحت حكم المسلمين وبينهم وبين المسلمين ذمة وعهد، فإن بغى رجل من المسلمين على واحد من أهل الذمة يجب على المسلمين أن ينصروا ذلك الذمي ضد ذلك المسلم؛ لأن هذا له عهد، ولا ينبغي أن نخفر عهد الله ولا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك نصر النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عمن دخل في عهده بعد صلح الحديبية وهم قبيلة خزاعة، وفي بعض الأحاديث: وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أي الأحوال خلاصة هذا الكلام: أن ما يرتبط من الولاية بأصل الدين هو ما انعقد منها على الدين، فالولاية التي تعقد على الدين هي التي لها ارتباط بقضية أصل الدين وأصل التوحيد والعقيدة.
أما المناط المكفر في هذا المقام: فهو معاداة المسلم لإسلامه، هذا هو الذي يقدح في الدين ويؤثر فيه حتى يبطله، فإذا رجل عادى مسلماً بسبب إسلامه وبسبب تدينه، أو موالاة الكافر بسبب كفره، لماذا؟ لأن هذا الفعل الذي هو: معاداة المسلم لإسلامه، أو موالاة الكافر على كفره. هذا يعكس أن في قلب هذا الشخص رضاً بالكفر وسخطاً على الإسلام. رضاً بالكفر؛ لأنه والى الكافر بسبب كفره، وسخطاً على الإسلام؛ لأنه عادى المسلم بسبب إسلامه لا بسبب دنيوي، فهذا هو المناط الذي يكفر من وقع أو تلبس به، أما ما عدا ذلك فكل أمر بحسبه.
فالموالاة على الفسق فسق، الموالاة على المعصية معصية، الموالاة على الأسباب والعلائق الدنيوية فيها تفصيل حسب ما تفضي إليه، إن أدت إلى ظلم الآخرين؛ فنصر المسلم في هذه الحالة أن تأخذ على يده وتكفه عن ظلمه، وهذا فيه تفصيل فيما يحل وفيما يحرم على تفصيل يذكر في أبواب الفروع.
السؤال: ما هو الصحيح في الطلاق البدعي يقع أم لا؟ مع إزالة الشبهة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. لما طلق امرأته وهي حائض، فأمره بمراجعتها حتى تطهر، وكلام ابن القيم وابن تيمية في هذه المسألة أنهم يستدلون بكلامهم؟
الجواب: موضع الطلاق يحتاج لكلام كثير جداً، لكن الذي أعلمه وأدين الله به في هذه المسألة: أن الطلاق البدعي يقع، وطلاق الحائض يقع وفاقاً لجمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة؛ لأن حديث ابن عمر في بعض الراويات في مسلم : أنه أمر ابن عمر أن يعتد بتلك التطليقة التي طلقها فيها وهي حائض، وفي بعض روايات الحديث: أنه اعتد بها واحتسبها طلقة، مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ لأنه طلقها وهي حائض، وفي الكلام تفصيل يرجأ إلى حينه إن شاء الله في باب الفقه والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر