الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فقد سبق كلام يسير في قضية الولاية، وذكرنا معنى الولاية في اللغة، وذكرنا نقطة مهمة وهي: ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين، فالمحبة والنصرة التي هي من معاني الولاية منها ما يكون على الدين ومنها ما يكون على أسباب دنيوية، فالحب من الولاية، ومنه مزايا طبيعية ومنه مزايا شرعية، فحب الرجل زوجته وحبه لعشيرته ووطنه هو حب طبعي يرجع إلى الطبع.
أيضاً منه ما يكون على الدنيا، بسبب ارتباط الناس فيها بينهم بمصالح ووشائج وصلات دنيوية يتحابون فيها، ومنه ما يكون على الدين كحب من أسلم بسبب إسلامه، مع أنه قد لا تربطك به قرابة ولا مصلحة ولا منفعة ولا ألفة دنيوية، كذلك النصرة من معاني الولاية، ومنها ما يكون على الدنيا، ومنها ما يكون على الدين، كما يتناصر الناس على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، ومنها -أي: النصرة- ما يكون على الدين، كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام وإن لم تكن بينهم أرحام ولا زيارة يتعاطونها، فالذي يرتبط بأصل الدين هو ما كان على الدين، مثل الحب والنصرة بسبب الدين، أما ما عدا ذلك فلو حصل فيه شيء من الإخلال فإنه لا يمس العقيدة، ولا يرتبط بقضية أصل الدين.
ووجه اختصاص ما يتعلق بالولاية بأصل الدين، أولاً: أن التواد والتناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، مثلاً: الإنسان قد يكره بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين بعض المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية كتنافس وتحاسد ونحو ذلك، بل ربما يصل الأمر إلى حد الشجار أو القتال، وهذا لا يقدح في أصل الدين، بمعنى أنه لا يبطل إيمان هذا المؤمن، وإن كان يقدح في كمال إيمانه أن يتقاتل مع أخيه المسلم، وأن يتحاسد معه.
يقول الله تبارك وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فهنا العلاقة علاقة الحب الطبعي للزوجة، هذا الحب لأنه يكون طبعياً لا شرعياً قد يقع تخلفه كما هو هنا: (( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))، فهل هذه الكراهية التي تقع أحياناً من زوج لزوجته هل هذه تقدح في عقيدته؟ هي لا تمس الدين؛ لأن هذا حب طبعي.
مثلاً: قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، إلى أن قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، فوصفهم بالإيمان ولم يقدح تقاتلهم في أصل الدين؛ لأن التقاتل لم يكن بسبب الدين، وإنما على شيء من أمور الدنيا.
أيضاً قد يكره الإنسان طبعاً بعض التكاليف الشرعية مثلاً الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، فالطبع يستثقل هذا، لكنه يحبه شرعاً؛ لأن الله عز وجل يحبه، فهذا لا يقدح في إيمانه.
أيضاً: قد يكره القتال، يقول تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، أنتم تكرهونه طبعاً، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فهنا كراهة المؤمنين بالقتال كراهة طبعية لا شرعية، فهم لا يكرهونه لأنه حكم الله أو أمر الله، لكن النفوس جبلت على ذلك كراهة طبيعية، يقول عز وجل أيضاً في نفس الموضوع: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، كارهون للخروج لقتال المشركين في غزوة بدر، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، فهذه أيضاً كراهية طبعية وليست كراهية شرعية، كذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره - يعني: التي تكرهها النفس- وحفت النار بالشهوات)، والكره الموجود في هذه النصوص التي ذكرناها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] .. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [النساء:19]، (وحفت الجنة بالمكاره)، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، كل هذا لا علاقة له بأصل الدين، هذه الكراهية قد تكون طبيعية، وليست هي نفس الكراهية المذكورة في مثل قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، هذه كراهية في الدين، ولذلك فهي تبطل وتحبط الإيمان، هي كراهية الحق، والتوحيد، والأنبياء لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، هذه الكراهية الطبيعة لا يمكن أن تكون مثل الكراهية التي في قوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، فهذه الكراهية في الدين، ولذلك فهي تمس أصل الدين والعقيدة وتحبط الإيمان.
هذا فيما يتعلق بالدين، أما إذا ما تخلف الحب الطبعي ووجد كره طبعي، قد يقدح في كمال الإيمان لكنه لا يقدح في أصله، كذلك إذا وجد الحب الطبعي والتواد والتناصر الدنيوي؛ فإن هذا لا يعني بالضرورة وجوب الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية؛ لأن الرجل بطبعه قد يحب زوجته أو ولده أو عشيرته وإن كانوا على غير دينه، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في أصل دينه إلا إذا حمله على فعل هو في ذاته كفر أكبر، يقول عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، فالأزواج هنا تشمل فيما تشمل الكتابيات اليهودية أو النصرانية إذا تزوجها المسلم بشرطه، ومع ذلك هذا لا يقدح في أصل الإيمان لأنها محبة طبيعية وليست تنافي العقيدة.
وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، يعني: لقرابته منك، وقيل: إنها نزلت في قصة أبي طالب (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )) أي: هدايته، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))، فـأبو طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة عمره، ويحرسه ويمنعه ممن آذاه، لكن هل صار بذلك مسلماً؟ لا؛ لأن مناصرة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بفعل القرابة، وبسبب الحب الطبعي لا الشرعي، لذلك لم تكن نصرة في الدين، ومن أجل ذلك لم يكن بذلك مسلماً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلامات التي إذا فعلها الإنسان يجد حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فكأن هذه المحبة المعتبرة المعتد بها.
أيضاً تخلف النصرة الواجبة على العبد المؤمن لا يعني لأنه التخلف أو القدح في أصل الدين، إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد الواجب فهو كبيرة؛ يجب عليه أن ينصر إخوانه المؤمنين، سواء كان النفير عاماً، أو داهم العدو بلداً من البلاد المسلمين أو حضر الصف في هذه الحالات التي يجب فيها النفير العام، ففي هذه الحالة يجب أن يخرج، فإذا ما خرج وقد تعين عليه الجهاد، فهذا لا يعد قدحاً في أصل إيمانه، وإن كان يقدح في كمال إيمانه وينقص إيمانه؛ لأنه مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لكن لا يخرج بذلك عن الملة، وهنا تخلف عنصر من عناصر المناصرة على الدين.
أيضاً قد يتخلف الإنسان عن مثل هذه المناصرة لسبب مثل عهد بينه هو وقبيلته وبين القوم الذين سيقاتلهم المؤمنون، أو لأنه لم يهاجر، أو كامتناع للمسلمين من مناصرة من أتاهم بعد صلح الحديبية كـأبي جندل وأبي بصير فهما حينما انتهى الأمر ردهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعهم أيضاً عن مناصرة من هاجر إليهم على قوم بينهم وبينهم ميثاق.
أيضاً وجود مودة أو مناصرة لأعداء الله عز وجل مما يقدح في أصل الدين إلا إذا كان مساومة لهم على دينهم الباطل، فإن حصل مثل هذه المناصرة لصلة رحم أو نحوه فهذا ذنب ومعصية من المعاصي كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في مكاتبة أهل مكة بخبر خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً كما وقع من سعد بن عبادة عندما انتصر لـ عبد الله بن أبي في قصة الإفك، وقال لـ سعد بن معاذ : كذبت! والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، بل قد تكون هذه النصرة واجبة أحياناً، فيجب على الأمة أو على المسلمين مناصرة قوم إذا كان بينهم وبينهم عهد على أنهم يدخلون في جوار الأمة الإسلامية، وأنهم يدافعون عنهم إذا داهمهم عدو آخر، كحلف من الأحلاف، فإذا وقع ذلك يجب على المسلمين إذا اعتدي على هؤلاء الذين لهم ذمة وعهد أن ينصروهم، بل الذمي الذي يعيش في وسط المسلمين وله ذمة لا تخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ فإن من تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما ألا يخفر الله عز وجل في ذمته؛ فإن له ذمة وعهداً مع إمام المسلمين، فلا ينبغي أن ينقض هذا العهد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام تهدد من يفعل ذلك أنه يكون خصيمه يوم القيامة.
خلاصة الكلام: أن ما يرتبط من الولاية بأصل الدين هو ما انعقد منها على الدين لا على الدنيا أو الطبع، لكن الأمر الذي يقدح في الولاء والبراء هو معاداة المسلم لإسلامه، أن يعادي رجلاً مسلماً بسبب أنه مسلم لإسلامه، أو موالاة الكافر على كفره؛ لأن كلا الأمرين يتضمن الرضا بالكفر أو السخط بالإسلام، فإذا كان ساخطاً على الإسلام فإنه يكره ويحارب المسلم بسبب تدينه وإما أنه راضٍ بالكفر، ولذلك يوالي الكفر الكافر بسبب كفره، أما ما عدا ذلك فلكل مقام مقال، فإذا كانت الموالاة والمناصرة أو المحبة على كفر فهي كفر، وإن كانت على معصية فهي معصية، أما الموالاة على الأسباب والعلائق الدنيوية ففيه تفصيل بحسب ما تفضي إليه هذه الموالاة، فمنها ما يحل ومنها ما يحرم.
ننتقل إلى المسألة الأخرى وهي ما عبر عنه الكاتب. بنفي الولاية عن غير الله عز وجل حيث تتلخص خطبته في هذا الباب باعتباره الولاية ركناً من أركان توحيد العبادة أو ركناً من أركان ما أسماه هو حد الإسلام، فهذا الأمر قرره في مواضع كثيرة من كتابه، وأفرد لدراسته باباً مستقلاً له، فيقول ما نصه: ثم نأتي بعد ذلك إلى الجزء الثاني من الكلام عن توحيد العبادة لتقرير أركان هذا التوحيد وهي:
أ. نفي النسك عن غير الله عز وجل.
ب. قبول شر ع الله ونفي ما سواه.
ج. إفراد الله بالولاية.
أيضاً ذكر أن معنى الولاية: أن تتولى الله سبحانه وتعالى وتوالي فيه عز وجل، أيضاً حدد المناط المحذور المكفر في باب الولاية، الشيء الذي يكفر ويمس أصل الدين في كلامه هو أحد أمرين: تولي الكافرين، أو تولي المرء غيره بغير ولاية الإسلام، فاعتبر كلاً منهما كفراً صريحاً؛ تولي الكافرين أو تولي المرء غيره بغير ولاية الإسلام.
يقول: والمحذور على المسلمين بالنسبة لأمر الجماعة فيهم أن يتولوا الكافرين، فولاية الكافرين كفر صريح بواح، وأن يتولى المرء غيره بغير ولاية الإسلام، وأن من يتولى غيره بغير ولاية الإسلام يكون قد اتخذ غير الله ولياً. إلى أن قال: ومن اتخذ غير الله ولياً فهو مشرك، أيضاً حدد لموالاة الكافرين صورة واحدة وهي: المظاهرة والمناصرة، والدل على عورات المسلمين. هذا هو معنى ولاية الكافرين التي تعد مكفرة عنده، فهذه ليس لها تكييف عنده إلا أنها كفر أكبر.
يقول: على أن التبرؤ من موالاة الكافرين ليس على درجة واحدة بين المؤمنين، ولذلك ذكر الله عز وجل اتخاذ البطانة ولم يصفه بالكفر: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، وذكر الموالاة ولم يصفها ولو مرة واحدة بغير الكفر، وحدد الموالاة بأنها المظاهرة والمناصرة، والدل على عورات المسلمين.
أيضاً: أكد أن موالاة الكافرين في ذاتها كفر صريح، بصرف النظر عن الاعتقاد الباطن، أو الباعث إلى هذه المولاة عقب مقارنة بين قصة حاطب بن أبي بلتعة وبين قصة أصحاب مسجد الضرار، انتهى منها إلى أن فعل حاطب رضي الله عنه يخرج عن وصف موالاة الكافرين إلى التجسس أو خيانة السر فقط، ولا يتعلق بقضية الموالاة، وإنما هو خيانة للسر، أو عملية تجسس على المسلمين، والرد على هذا صريح جداً، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ[الممتحنة:1]، الآية صريحة ولا يعد هذا متعلقاً باتخاذ أولياء من غير الله، أو لا يمس قضية الولاء والبراء في شيء، والآية صريحة في أن هذا من الموالاة.
أيضاً: انتهى إلى أن الخلاف بين فعل حاطب وفعل أصحاب المسجد الضرار لا يرجع إلى الاعتقاد الباطن، ولكن إلى اختلاف عمل الظاهر الذي يتكون من الفعل المحسوس زائد القصد، وبه وحده يتعلق الحكم الشرعي، فجعل الفرق بين قصة حاطب وقصة أصحاب مسجد الضرار: أن حاطب لم يقصد الإضرار بالمسلمين، وإنما قصد جلب منفعة معينة لذويه الذين هم مستضعفون في مكة مع بقاء الولاء، أما في حالة مسجد الضرار فقد كان هناك قصد الإضرار، بل إلى المحق واستئصال شأفة الدعوة الإسلامية، وذكر أن هذا الفرق بين الأمرين لم يعلم بالأخبار الغيبية وحدها بل بدلالة الأفعال والأقول: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ[التوبة:107]، فقال: هناك فرق بين القصد من الإضرار وبين القصد إلى عدم هذا القصد في الحالتين، أما فعل حاطب فلا علاقة له بقضية الولاء، فقال: إنه عبارة عن سقطة في لحظة ضعف افتقد فيها التوكل، فوقع في سوء التأويل، ولكن لم يذهب القصد إلى المظاهرة ولم ينو بذلك المظاهرة والمعاونة والتأليب على المسلمين أو دلهم على عورات المسلمين ومقاتلتهم التي لا نجاة للمسلمين منهم بعدها، وقد تبين للرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، وقال: إنه قد صدق، فهو لم يتركه مع وقوع فعل الموالاة منه وإنما تبين له صدقه فخرج فعله عن وصف موالاة الكافرين إلى مجرد التجسس أو خيانة سر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
آخر كلام للكاتب في هذه القضية، قال: إن ركن الموالاة شأنه شأن بقية أركان حدَّ الإسلام، لا عذر فيه بالجهل، بناءً على ما قرره الكاتب مراراً من أنه لا عذر بالجهل في حد الإسلام؛ لأن للإسلام حداً لا تثبت لأحد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يستوفه كان كافراً، لا فرق في ذلك بين الجاهل والمعاند.
أيضاً أغفل الكاتب الإشارة في هذه القضية إلى العذر بالتأويل، فلم يذكره إلا عرضاً بكلمة عابرة عند كلامه في موقف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: أنه سقطة في لحظة ضعف افتقد فيها التوكل، ووقع: في سوء التأويل.
ونعرض لمناقشة هذا الكلام الذي ذكره الكاتب فيما يتعلق بقضية الولاء ابتداءً: لا ينكر أحداً أبداً خطورة وأهمية قضية الولاء والبراء، وأنها من أجل القضايا التي ينبغي على كل مسلم أن يصحح فهمه فيها، وأن يخلصها مما غشيها من الخلل بسبب حقد كثير من المعاصرين من أبناء هذه الأمة، أيضاً في زحمة هذه المدارسة ينبغي أن لا ننسى أن بقاء الوجود الإسلامي لهذه الأمة رهن بوضوح هذه القضية، يعني: إذا قضية الولاء والبراء لم تتخذ الموضع اللائق بها في حس وعقيدة المسلمين، وفي واقعهم ومواقفهم فهذا قد يهدد وجود الأمة الإسلامية تماماً، فلابد أن هذه القضية تبقى حية متأججة في النفوس؛ فإن انقطع هذا الأمر فهذا رهن بقتلها وتقديم البدائل الرخيصة الهزيلة.
لا يغيب عنا أيضاً أن انقطاع الولاء الإسلامي، واجتماع الأمة على المصالح والعصبيات والقوميات كان هو المسئول الأول عن تغييرها، وإذهاب وعيها، وإذابة قيمها، ومحو شخصيتها، والإلقاء بها في مهاوي الفتنة والدمار، ولا يخفى أيضاً ما تحاوله قوى الكفر ومن شايعها من فصل هذا الدين عن أمته وتاريخه، وقتل الانتماء إلى الإسلام والاعتزاز به في داخله حتى يصبح المطايا الذلول يعبثون به وبمصائره كما يشاءون، فإذا فقدنا مصدر قوتنا وعزتنا وهو الانتماء لهذا الدين والاعتزاز بهذا الدين وبأبطال هذا الدين، فهذه أحد أهداف أعداء الإسلام، وهذا أمر لو أفضنا في مظاهره لطال بنا الحديث جداً، يكفي أن الأطفال في المدارس الابتدائية يحفظون الافتخار بالفراعنة الوثنيين المشركين، ففي بعض الامتحانات التي يمتحن بها الأطفال الضحايا المساكين يأتيهم في التدريبات أو الامتحانات: لماذا يسخر بمينا ؟ لماذا تنظر بإعجاب إلى رمسيس الثالث ؟ فيبرزون هؤلاء الوثنيين المشركين عبدة الملوك في صورة الأبطال المحبوبين، يعني: يجعلون المثل الأعلى للمسلمين هو الكفار، يقول: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ[الزمر:45]، فهذا هو موقفهم مع الإسلام: قطع العلائق والروابط لما يكسبنا الاعتزاز بهذا الدين.
هذه القضية إن كانت قضية دعوى أو توضيح للمفاهيم فمقام الدعوة غير مقام التأصيل والتقعيد، فعندما يكون إنسان في معرض دعوة الناس الترغيب والترهيب، قد يتسامح في أشياء لا يسامح فيها إذا كان موضع تقعيد وتأصيل.
أقرب مثال إلى أذهاننا حينما نذكر هذا الفرق بين المفكر الذي يفكر وبين الشخص الأصولي المنضبط في عبارته، والذي يضع الأصول والضوابط والتقنينات، أقرب مثال هو: ما حصل من الأستاذ السيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال وفي المعالم وهو يعبر عن معاني ثانية من معاني هذا الدين ومن معاني التوحيد ومعاني الإيمان، لكن هذه القضية بالذات كان لها عند الأستاذ السيد قطب رحمه الله موقف خاص ولا نريد أن نندفع وراء العواطف، والإعجاب بجهاد الرجل في سبيل الله وبذله نفسه في سبيل الله هذا شيء، ومحاكمة الكلام بالقواعد العلمية شيء آخر، فالفرق حقيقة بين هذا المنهج الذي سلكه في الظلال والمعالم وبين المنهج الذي نراه عند طرحه للكتاب حد الإقدام: أن كتاب حد الإسلام يحاول أن يأخذ منطق وضع القوالب الأصولية تأصيل الكلام وتقعيده في قواعد وحدود ورسوم، بحيث يتخذ دستوراً وضابطاً لمثل هذه القضايا الحساسة، فهو دخل في إطارات أصولية، وقعد هذه الأشياء فحصل مثل هذه المآخذ التي نذكرها.
أيضاً: حينما يكون المقام مقام التقعيد والتأصيل، ووضع الضوابط لا يعني ذلك أننا ندافع عمن عندهم خلل في قضية الولاء والبراء حينما تدفع عنهم وصمة الكفر، لا يعني ذلك أنك تواليهم، أو أنك تقرهم على ما هم عليه من الخلل والباطل، هم آثمون ومقصرون، لكن ربما في كثير من هذه الأحوال لا يصل الأمر إلى حد الكفر، أيضاً هناك فرق كلام عن عامة الناس حينما يكون مقام دعوة وإرشاد قد يتسامح في أشياء غير مقام التأصيل والتقعيد.
مثال: حينما يتكلم العلماء في قضية حكم قاتل المؤمن متعمداً تجد كلاماً شديداً جداً في هذه القضية، وذكر الأحاديث التي تصف مثل هذا الفعل بأنه كفر: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ذكر بعض العلماء أننا نترك الأحاديث على ظاهرها ولا نفسرها أمام عوام الناس، هذا المقصود منه التخويف والترغيب من قتل المؤمن بغير حق، فلا تقل له: أنت ما تخرج من الكفر، وأنك تبقى في الإسلام، هكذا مثل هذا في مقام الدعوة والتبليغ لا ينبغي؛ لأن المقصود التبليغ؛ لذلك لما دخل الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أحد المساجد وجد قاصاً، لكن الرجل كان يخوض في التحذير من معصية معينة بطريقة فيها شيء من المبالغة كما هو معروف عن القصاصين، فالإمام أحمد لو كان يظن أنه علم لأخذ يناظره ويبطل حجته لكن هو رآه رجلاً من القصاصين الوعاظ القصاصين وفي نفس الوقت له تأثير جيد على الناس بحيث أنه ينفرهم من بعض هذه المحرمات، أو ينكر على بعض البدع، فقال الإمام: ما أنفعهم للعامة، الإمام أحمد رجل من علماء الحديث وجهابذته يغار على السنة وعلماء الحديث لهم حساسية خاصة أمام القصاصين، يعني: نجوم القصص والتأليف ولا يبالون بالحديث، فهذا القاص أتى بهذه الأشياء التي هي غير ثابتة من حيث الأثر لكن في مجملها تنفر من بدع معينة فقال: ما أنفعهم للعامة وتركه وانصرف.
كذلك عندما تتكلم على ترك الصلاة لا تقل لقاطع الصلاة: من ترك الصلاة فقد كفر وهذا الكفر كفر كذا وأنت مسلم لكنك عاصٍ وكذا مثل هذا الكلام، لكن أنت إذا سئلت لا تكتم العلم الذي تعلمته، لكن في باب التنفير تطلق ذكر عموم النصوص.
فتأتي المرأة النامصة وتقول: لعن الله النامصة والمتنمصة، ولا تقل لها: اطمئني أنت موحدة، أنت مسلمة، أنت تقولين: لا إله إلا الله، وربما يكون لك أعمال صالحة أخرى تكفر عنك هذه المعصية وربما كذا وربما كذا، كلا، فلا تفرط ولا تفرط، وفي نفس الوقت لا تقول لها: أنت ملعونة، أنت قد وقعت عليك لعنة الله، لأنك بالفعل لا تدري هل تقع عليها اللعنة أم لا، لكن تقول لها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله النامصة والمتنمصة فمقام الدعوة ومقام الإرشاد قد يتسامح فيه غير مقام التقعيد والجلوس، أمام مجالس أهل العلم، أو المدارسة بين طلبة العلم، هذه تحتاج لضبط ودقة واحتياط، فهذا نقوله بين يدي الكلام في هذه القضية لسنا في مقام الدفاع عن الخلل الموجود في كثير من المسلمين في قضية الولاء والبراء؛ لأن مرض البعد عن الإسلام والتقصير في جنب الله الشائع في مجتمعاتنا.
أيضاً نحتاج لنبرز ما يعذر به العامة؛ لأن مقامنا هنا ليس مقام الكلام مع العامة، فلا تأتي للعامي الذي يفعل أفعال الشرك وتقول له: اطمئن هذا شرك أصغر وأنت كذا وتسوغ باطله وتعتذر عنه، لكن هذا هو البحث العلمي المجرد الذي يقضي بيان الحق في مقامه، ووضع الأمر في نصابه.
أما ما ذكره الكاتب في باب الولاية فهو أولاً قصد حقيقة ولاية الكافرين على النصرة، والتجسس، والدل على العورات، هذه هي ولاية الكافرين: المناصرة والمظاهرة والدل على العورات، فإذا حصلت الولاية في هذا المعنى؛ وأخرج سائر الصور من نطاق هذه الولاية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر