الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
من القضايا المهمة التي نتطرق إليها، والتي هي ثمرة من ثمرات الفكر الخبيث الذي ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58]، والنص يدل على الأصل كما يقولون، فهذه الجماعة الخبيثة التي أعادت فكر الخوارج والمسماة: بجماعة التكفير والهجرة ومن سار على دربها اجترءوا على حدود الله تبارك وتعالى كثيراً، ومن هذه الجرأة: موقفهم من المساجد التي هي بيوت الله عز جل، وقضية الصلاة خلف عموم المسلمين في مساجدهم في بلاد المسلمين.
فنبدأ أولاً بدراسة شرح ما يتعلق بهذه القضية من متن العقيدة الطحاوية، حيث يقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم.
يقول الشارح رحمه الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر..)، الشارح استعمل عبارة الحديث، مع أنه ضعف الحديث، فقال: رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة ، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً، وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر أو فاجر، وإن هو عمل بالكبائر، والجهاد واجب مع كل أمير بر أو فاجر وإن عمل الكبائر)، وفي هذا الحديث أيضاً ضعيف، وفي صحيح البخاري : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي
، وكذا أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، ومعروف فسق الحجاج وجرأته على إراقة دماء المسلمين بل خيار المسلمين رضي الله عنهم.روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده إلى عمير بن هانئ قال: شهدت ابن عمر والحجاج محاصر ابن الزبير ، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء وربما حضر الصلاة مع هؤلاء. وهذا سند صحيح، وأخرجه البيهقي أيضاً بلفظ عن عمير بن هانئ قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج ، فأتيته وقد نصب على البيت أربعين منجنيقاً -ضرب الكعبة بالمنجنيق- فرأيت ابن عمر إذا حضر في الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن ! أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم؟ ! فقال: يا أخا أهل الشام! ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، يعني: أنا لا أثني على ما يفعلونه من الشر، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق.
وروى الشافعي بسنده عن نافع : أن ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج فصلى مع الحجاج ، وروى ابن سعد في الطبقات، عن زيد بن أسلم : أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أميراً إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله. وسنده صحيح.
وأيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ، قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؟ قال: فيقول: لا والله ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة، يعني: صلاة الأئمة في المساجد يعتدون بها حتى ولو كانوا من الظلمة أو الفاسقين ما داموا على أصل الإسلام.
وفي المجموع قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: الصلاة وراء الفاسق صحيحة ليست محرمة، لكنها مكروهة، وكذا تكره وراء المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وتصح، ونص الشافعي في المختصر على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمتبع، فإن فعلها صحت، وقال مالك : لا تصح وراء فاسق بغير تأويل، كشارب الخمر والزاني، وذهب جمهور العلماء إلى صحتها.
يقول شارح الطحاوية: وفي صحيح البخاري : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي ، وكذا أنس بن مالك ، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً.
وفي صحيحه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم..)، يعني: الأئمة في عهود الإسلام الأولى كانوا كما هو في حكم الإسلام: الذي يلي الإمامة والجماعة الجامعة للمسلمين هو الخليفة الحاكم أو الوالي. المحافظ مثلاً أو الحاكم الأكبر الإمام الأعظم. فهكذا شأن الصلاة ينبغي أن يكون أول من يتولاها ويحاسب من يتخلف عنها هو الإمام، فكان ربما الذي ولي إمامة الصلاة حاكماً يكون ظالماً أو فاسقاً.
وفي صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله)، أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
يقول الشارح رحمه الله: اعلم رحمك الله وإيانا: أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة. إذاً: هذا اتفاق بين أئمة الإسلام أنه يجوز لك أن تصلي خلف الشخص الذي لا تعرف عنه بدعة ولا فسقاً، وليس من شرط الإتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول له: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال.
نعيد العبارة: اعلم رحمك الله وإيانا: أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة، وليس من شرط الإتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه، لا يوجد سوى هذا المسجد ولا يوجد إمام إلا هذا الإمام المعين الذي هو الإمام الراتب بالمسجد.
يقول: ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو -يعني: والحال أن هذا- هو الإمام الرافد الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك؛ فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة الجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء.
يعني: لو كان إماماً مبتدع، والبدع التي فيه لا تكفره، ولا مناص من الصلاة خلفه؛ فمن صلى في البيت لأجل بدعة الإمام صار هو المبتدع, أو صار حرياً بأن يوصف بأنه مبتدع.
يقول: ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر.
وفي صحيح مسلم عن طريق حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان وأتي بـالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم. فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال: عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي ! قم فاجلده فقال علي : قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن : ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر ! قم فاجلده، فجلده علي بعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي.
الشاهد: أن هذا رجل فاسق كان يشرب الخمر، ومع ذلك صلى خلفه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وفي الصحيح: أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر أمير البررة وقتيل الفجرة صلى بالناس شخص آخر غير الإمام الذي هو عثمان رضي الله عنه، فسأل سائل عثمان وهو في الدار قد حاصره الثوار الفجرة، فقال: إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم أخرجه البخاري من حديث عبيد الله بن عدي بن خيار : أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا تجنب إساءتهم.
فهذا هو المقياس المنضبط في الحكم على مثل هذه الأمور فهذه العبارة عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، وأن يحفظها كل منا حتى يلقمها كل من يشخط الكلام ويتشدق بهذه البدع الإبليسية، ويقومون بطرد الناس عن بيوت الله تبارك وتعالى وتخريبها، فماذا يبقى إذا خربت هذه القلاع المتبقية التي منها تنطلق الدعوة إلى الإسلام، ويحفظ على الناس دينهم، إذا قوبلت هذه الشعائر فما من شك أن في هذا مضادة لمقاصد الشريعة الإسلامية العليا، فينبغي أن يحفظ الإخوة هذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه: أنه لما حوصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
يقول الشارح: والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة وقاعدة العلماء في مثل هذه القضية: أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، نحن الآن لا نتكلم على الكراهة لكن نتكلم أولاً عن الصحة، فالقاعدة عند العلماء: أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، لكن لو رجل نصراني صلى كصلاة المسلمين هل تصح صلاته هو أولاً مخاطب بالصلاة؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لكن لا تصح منهم فروع الشريعة حتى يشهدوا الشهادتين، ويدخلوا في الإسلام.
فهذا وإن كان مخاطباً بالصلاة لكن لا تصح منه؛ لأنه لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله.
لكن ما دام الرجل مسلماً، على أصل دين الإسلام حتى لو تلبس ببدعة أو بفسق ما لم يخرج عن الملة، فهذا تصح صلاته لنفسه أم لا تصح؟ هو فاسق ملي ناقص الإيمان، فاسق، ولكن ما دام محافظاً على أصل التوحيد والإيمان والانتساب إلى الإسلام فتصح صلاته لنفسه، وبالتالي نطبق القاعدة: من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره.
يقول: والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وبذلك أن من أظهر بدعةً وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فها هنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلف الأفضل أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك.
مادام الإنساني أو المأموم عنده سلطة وجاه وأساليب يستطيع بها أن يغير هذا المنكر، وأن يزيل الإمام الفاسق أو المبتدع.. إن كان ذلك يمكن بدون إحداث فتنة أعظم من فتنة الائتمام به وجب عليه أن يغير هذا المنكر.
لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من طرده عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما؛ فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ إذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء.
سؤال: رجل صلى خلف فاجر بغير عذر. اختلف العلماء واجتهدوا في هذه المسألة، منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد. وموضع ضبط ذلك في كتب الفروع، وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ ولم يعلم المأموم بحاله فلا إعادة على المأموم في الحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة فأعاد الصلاة، ولم يأمر المأمومين بالإعادة، قالوا: أيضاً قضايا أغلبها متعلق بالفروع.
يقول: قد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة: أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، ثم شرح قوله: وعلى من مات منهم، يعني: نرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات من أهل القبلة، سواء كان من الأبرار أو من الفجار، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه، خلافاً لـأبي يوسف لا الشهيد خلافاً لـمالك والشافعي .
على أي الأحوال بالنسبة للصلاة على قاتل نفسه -المنتحر- فهو كسائر العصاة، يغسل ويصلى عليه بل وقاطع الطريق والباغي أيضاً، لكن الشخص الذي يقتدى به أو الإمام أو الأمير المطاع إذا ترك الصلاة على المنتحر أو الباغي أو قاطع الطريق من أجل زجر غيره، وإذا دعا له في سره فهو حسن ويجمع به بين المصلحتين كالإحسان إلى الميت باعتباره من أهل القبلة، ثم زجر أمثاله أو زجر الحاضرين عن مثل فعله عن طريق ترك الصلاة عليه فهذا حسن، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، فقال لأصحابه: صلوا على صحابكم، فإن صاحبكم غَلَّ في سبيل الله، يعني: سرق من الغنيمة، والشهيد معروف أنه لا يصلى عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد.
بالنسبة لموضوع المساجد فإن فرقة التكفير والهجرة كما تسمى كانوا هم يسمون أنفسهم جماعة المسلمين لها نظرة شاذة فيما يتعلق في موضوع المساجد، نتجت من الشذوذ في قضية معرفة المسلم من الكافر، كما أشرنا من قبل إلى قوله تعالى: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58].
تقوم وجهة نظرهم كما يحكيها الأستاذ رجب مذكور في كتاب له يسمى: التكفير والهجرة وجهاً لوجه، يقول في صفحة مائة وثلاثة وتسعين: وتقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت وحتى الآن مساجد ضرار. من عدة قرون يمكن من الدولة الأموية ومن بعد الخلافة الراشدة وهذه حقيقة من جرأة هؤلاء الناس على الله عز وجل وعلى دين الله، وليسوا وحدهم في ذلك بل كثيراً ما نسمع من كثير ناس يتكلمون أن هذه الأمة ما كان فيها خير، وبمجرد ما انقضت القرون الخيرية انتهى كل شيء وانهارت، حتى ظهرت جماعاتهم هذه التي ظهرت قريباً وأعادت الإسلام من جديد، وكأن كل هذا التاريخ مبتور، والأمة كانت تعمى في ضلال، لو انتقينا أسوأ واحد من خلفاء الدولة الأموية نسبياً لوجدناه بالنسبة لحكامنا اليوم كالخلفاء الراشدين؛ لأنهم كانوا يحكمون بما أنزل الله، كانوا يقومون الليل، ويقلقون ويقيمون في الناس شرع الله تبارك وتعالى، قد يكون مثلاً هناك سفك بعض الدماء في أي نوع من الأشياء التي غايتها أن تكون معاصي أو كبائر، لكن لم يمس انحرافهم أصل دين الإسلام.. لم يمس انحراف الحكام في دول الخلافة حتى الدول الملكية بني أمية والعباس وغيرهم.
فهؤلاء بالنسبة لحكامنا اليوم عباداً متبتلين، وأئمة هدى على أصل الإسلام، كانوا يقيمون علم الجهاد، ويفتحون البلاد في سبيل الله إلى عهد الدولة العثمانية حيث تغلغلت في أحشاء سويسرا وأخذت أجزاء من فرنسا، فهؤلاء كانوا يجاهدون في سبيل الله، وكانوا يقيمون حكم الله تبارك وتعالى، فهذه النظرة ليست صائبة، نظرة: إما أن يكون كل شيء موجوداً، وإما أن يهدم كل شيء، وهذه أمة لا خير فيها، وبمجرد أن انتهت الخلافة الراشدة انتهى معها كل شيء، فهذا حقيقة من الضلال المبين.
الأستاذ رجب مذكور : تقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت، وحتى الآن مساجد ضرار باستثناء أربعة مساجد فقط: المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد الأقصى بيت المقدس، ومسجدي قباء والنبوي بالمدينة المنورة، وبناءً على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وما زال يوجد الآن من أهل البدع والضلال في قضية التكفير من يكفرون من يصلي في معابد المشركين التي هي المساجد في زعمهم؛ يكفرونك لأن تصلي في المساجد، وكأنك تذهب إلى سينما أو خمارة أو أماكن الفسق والفجور، ولست ذاهباً إلى بيت من بيوت الله التي يذكر فيها اسم الله عز وجل، وبناء على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وقالوا: إنه لا يجوز من حيث التسمية ابتداءً أن نسمي أي مسجد: مسجداً لله، إلا بعد أن نتحرى فيه شروطاً ثلاثة هي:
أولا: الدعوة التي تعلن فيه، حيث اشترطوا بتسميته مسجداً لله أن تكون الدعوة فيه خالصة لله وحده وبالطبع الذي يدعى في هذه المساجد في معابد الجاهلية هذه في زعمهم، هل المسلمون الذين يصلون في المساجد يعبدون المسيح ابن مريم، أو يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، أو يعبدون بوذا ؟ يعبدون الله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. فإذا وقع في بعض المساجد دعاء غير الله، وعبادة غير الله، كما يحصل في المساجد المبنية على القبور التي تعبد فيها الموتى من دون الله، وتذبح لهم الذبائح، ويطاف بقبورهم، ويتمسح بأعتابهم، فهذا منكر، ونقول كما قال العلماء: إن هذه المساجد مبنية على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فدين الإسلام لا يجتمع فيه مسجد وقبر أبداً، والحكم يكون للسابق؛ فإذا كان الأصل المسجد وبني عليه قبر فينبش القبر، وينقل إلى قبور المسلمين، وإن كان العكس فالعكس، هذا إذا كان مجرد قبر فما بالك إذا كان يتخذ لعبادة غير الله، فهذا شيء حقيقي وواقع، فلا بأس من تطبيق هذا على مثل ذلك، أما أصل المساجد الموجودة في بلاد المسلمين فلله الحمد لا يعبد فيها إلا الله عز وجل، ويرتفع فيها الآذان بشهادة الحق وشهادة التوحيد.
فهذا هو أول شرط: أن تكون الدعوة خالصة لله وحده، ما معنى أن تكون الدعوة خالصة لله وحده؟ معناه بالطبع أنها لن تكون كذلك إلا إذا كانت على دعوتهم، فهي الوحيدة التي تستحق هذا الوصف العظيم.
دليلهم في هذا الشرط: قول الله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، هذا بالنسبة للشرط الأول يناقش هنا هذا الشرط فيقول: الشرط أن المسجد لا يصح أن نسميه مسجداً لله حتى ننظر في الدعوة التي يدعى إليها فيه، هل هي لله خالصة أم لا؟ نقول: إن التسمية قد لحقت بالمسجد قبل أن يدعى المسجد سمي مسجداً رغم أنوفهم أجمعين منذ وقفه صاحب الأرض، وقال: هذه أرض لله موقوفة ليبنى عليها مسجداً صار مسجداً منذ هذه اللحظة، قبل أن يقوم أحد فيه بالدعاء لله عز وجل، فمنذ اللحظة التي أقيم فيها البناء للصلاة، ومن زعم أن تسميته مسجداً لله لا تجوز من هذه اللحظة، وإنما يفرض إرجاء التسمية مدة من الزمن، يعني: أنهم يقولون: إننا لا نحكم على مثل هذا المسجد بأنه مسجد حتى تمر مدة فترة امتحان واختبار، فننظر في خطيب المسجد يوم الجمعة، ثم نقوم وندرس خطبته وفي ضوء نتيجة هذا التقييم تكون التسمية من عدمها.
يقول: أقول: من زعم ذلك فليأتنا ببرهان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإلا فاشتراطه باطل، كما قال عليه الصلاة والسلام: {كل شرط ليس في كتاب الله فهو رد وإن كان مائة شرط}، يقول: هذا وتظل تسميته مسجداً لله مصاحبة له ما بقي مخصصاً لهذا الغرض، ما دام بناؤه شرعياً منذ اللحظة الأولى أعني لم يبن على قبر مثلاً لوجود نهي عن ذلك، فإذا افترضنا أن مسجداً من مساجد الله بناه رجل من المسلمين الصالحين لوجه الله، ثم اعتلى منبره خطيب جاهل أو منافق فكانت خطبته تحتوي على خلط في أحكام الله، أو تملقاً في حاكم أو كبير، فإن وزر هذا الخطيب يقع على نفسه، وعلى من لم ينكر عليه بأي صورة من صور الإنكار المعروفة، ولا يمس البناء شيء تماماً كما لو حدث أن اعتلى المنبر أحد رجال فرقة التكفير ودعا إلى هذه الافتراءات التي يفترونها على دين الله، فإننا حينئذ لن نقول له: إن هذا المسجد قد أصبح مسجد ضرار، وإنما كل الذي يمكن أن يحدث أن المصلين يقومون فيضربونه ويطردونه من المسجد، ولكن المصلين قبل أن يفعلوا ذلك إذا كان الخطيب يتملق لحاكم على حساب دين الله.. إيثاراً منهم للسلامة وخوفاً مما لا يحمد عقباه، ويكتفوا مثلاً بالإنكار القلبي، وقد يكون بعضهم منافقاً مثل الخطيب تماماً فتتلاقى الأرواح، ويفتقد حتى الإنكار القلبي الذي هو أضعف الإيمان مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:52]، إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء:113].
يقول: والذي أريد أن أقوله: أن هذا التغيير باليد أو اللسان أو القلب، أو حتى في حالة النفاق الذي يفتقد الإنكار القلبي أيضاً، فإنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا يتحمل المسجد منه شيئاً، فإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أن ينشد المسلم ضالته في المسجد فيقول: من يدلني على هذا الشيء الذي ضاع مني؟ فلو قام رجل أو رجال ففعلوا ذلك الأمر المنهي عنه؛ فإن وزرهم على أنفسهم، كما أن الخطيب منهي على أن يتملق لمنافق، وهذا لا يؤثر في المسجد بشيء تماماً، كما لا يؤثر لو أن رجلاً قام نشد الضالة أو باع وابتاع في المسجد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهل معنى ذلك أن المسجد صار سوقاً، هل هذا يغير صفة المسجد من حيث كونه مسجداً.
يقول: ولا يصح أن يقال: إن المسجد أصبح ضراراً لوجود هذه المخالفة أو تلك، فلقد كان المشركون يزحمون المسجد الحرام بالأصنام، فما تحول المسجد عن كونه مسجداً لله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه رغم وجود هذه الأصنام المعبودة من دون الله، وكل الذي حدث: أن المسلمين قد كلفوا حين القدرة بإزالة تلك المنكرات من بيوت الله وتحطيمها بعد أن جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
اشترطوا لتسميته مسجداً لله أن يستوفوا من عماره الأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وقوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، وفي قوله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].
فقالوا: إنه لا يجوز لنا أصلاً أن نسمي مسجداً ما مسجداً لله حتى يستوفي من عماله هذه الأوصاف المذكورة في الآيات السابقة، يقول: وعن الشرط الثاني الذي اشترطته فرقة التكفير هو استيفاء أوصاف من يعمرون بيوت الله كما ذكرت في الآيات القرآنية، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ما يجب أن يتصف به عمار بيوته من صفات قلبية وظاهرية لنتحرى هذه الصفات في ذات أنفسنا، وندعو إليها، ونذكر بها، ولكنه سبحانه وتعالى لم يذكر لنا هذه الصفات من أجل أن نتعقبها في الناس، ونؤسس عليها حكماً شرعياً بأن هذا المسجد لله أم لا؟
ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية مثل قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا [النور:37]، كيف تحكم على شخص أنه يخاف يوم القيامة أم لا يخاف؟ هذا عمل قلبي ولا سلطان لك على قلب هذا الإنسان، بل المنافق يصلي مع المسلمين في جماعة، ويحضر معهم الجماعة.
ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية لا يمكن استيفاؤها من أصحابها ولم نكلف بذلك، وأيضاًفإن المسجد قد لحقت به التسمية كما قلنا منذ اللحظة الأولى التي بني فيها بناءً شرعياً وخصص للصلاة، ولم نكلف أبداً أن نؤجل التسمية حتى يعمره الناس، ثم يقوم المسلم بفحص أحوالهم الظاهرة والباطنة، ثم على أساس نتيجة الفحص يطلق التسمية أو يحرمها.
إن هذا التنطع لم يعرفه السلف، ولا أقره النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، ولا الذين آمنوا معه، وما عرفته الأرض كلها إلا بعد أن نسبت بهذه الفرقة الشاذة التي تزين هذا التنطع بزعم الغيرة على دين الله، أو بادعاء أن البشرية كلها لن تهتدي إلا على أيديهم.
خلاصة القول: أن من زعم أن الصفات التي وصف الله بها عمار بيوته هي شروط لابد من وجودها حتى يسمى المسجد مسجداً لله، فليأتنا بهذا الشرط وإلا فهو شرط باطل ومردود على أصحابه، كما قال الله عز وجل في هذه الآيات في سورة التوبة: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، نعم أخذ بعض العلماء من هذا أن الإنسان يتحرى المسجد الذي يصلي فيه أن يكون أهله من أهل الخير والاستقامة والصلاح إرضاء الله عز وجل.
نعم أفضل للإنسان أن يصلي مع قوم هم أتقى لله، وأقرب إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلامنا هنا عن الشروط، هم يعتبرون أن المسجد لا يسمى مسجداً إلا بذلك، فهناك فرق.
حيث اشترطوا أيضاً لتسمية المسجد مسجداً لله استيفاء التقوى ممن أسسه بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].
وشققوا في موضوع التقوى كلاماً طويلاً، وقالوا كنوع من الفلسفة: إن هناك مساجد بنيت على التقوى يقيناً، وثانية بنيت على التقوى راجحاً، وثالثة على التقوى مرجوحاً، ورابعة على غير التقوى يقيناً، إلى آخر هذا الضرب من التفلسف واصطناع الأسلوب العلمي في الكلام.
يقول الأستاذ رجب مذكور في رد هذا الشرط: أما عن الشرط الثالث، وهو: أننا لم نسم المسجد مسجداً لله حتى نعرف أنه قد أسس على التقوى، وإذا كانت التقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: {التقوى هاهنا}، فالتقوى في القلب، ومهما ادعاها أحد الناس فإننا نكل أمره إلى الله، ولا نجزم بوجودها فيه، ولا بانتفائها عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم ذلك، فلست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً؟ أي: أن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون، ولابد أن المؤسس يكون تقياً. هذا هو الشرط؛ فواحد مات من عدة قرون كيف لنا أن نتحقق إن كان أسس على التقوى أو لم يؤسس، فحتى لو كان موجوداً فكيف نعرف التقوى وهي في قلبه. يقول: لست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً؟ إذ أن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون، وفي كثير من الأحيان لا نعلم من الذي أسسها، ولم يكلفني الله إذا رأيت يافطة هو يستعمل هنا تعبير نفس الفرقة، وهو يقصد بها كلمة لافتة على حد تعبير فرقة التكفير والهجرة. لم يكلفني الله إذا رأيت هذه اللافتة مكتوب عليها مسجد الله، لم يكلفني الله أن أسأل من الذي أسس هذا المسجد، وهل أسسه من أول يوم على التقوى أم على غيرها؛ إن ذلك إعنات وحرج لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرفه المتشنجون من أصحاب البدع والأهواء التي تلبس مسوح الدين.
أما قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نهاه عن الصلاة في مسجد بعينه يعلم الله وحده الغرض الذي أسس من أجله، ولولا إخبار الله لرسوله به لصلى فيه صلى الله عليه وسلم.
أما قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فلا تحمل هذه الآية تكليفاً عاماً للمسلمين إذا رأوا مسجداً أن لا يعتبروه مسجداً لله حتى يعرفوا نية مؤسسه، وإنما كل ما فيها توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ورائه إلى أحقية القيام. هذا أحق وأفضل في مسجد وصفه الله تعالى بأنه أسس على التقوى من أول يوم، حيث قد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: ولو شئت لتعقبت تفصيلهم الباطلة فيما يقتصر بهذا الشرط، وبينت خطأهم في مسألة التقوى، والراجح والمرجوح فيها، بل إنه حسب تحليلاتهم العقلية السخيفة، كان ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي في المسجد الحرام قبل تطهيره من الأصنام، لتساوي أدلة الإثبات مع أدلة النفي كما يزعمون، إذ أنهم يقولون: إنه مؤسس على التقوى يقيناً، ودخله الضرار يقيناً بوجود الأصنام المعبودة من دون الله فيه، فحسب مفهومهم للتوقف، يجب أن يتوقف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيه أليس كذلك؟
فانظر هداك الله كيف يمكن أن تذهب التحليلات البشرية بأصحابها حتى تصل بهم إلى الاستدراج على رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.
يقول: ولكن لا يفوتني هنا أن أذكر أن إمام فرقة التكفير ومؤسسها الراحل، قد جعل إشراف الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله على المساجد في مصر هو أحد دليلين بل أول دليلين على كفر الرجل، وهو ما بنا عليه خطته الآثمة في خطف ذلك الشيخ الطاعن في السن وقتله غيلة وغدراً، فقد سئل في غرفة المداولة أثناء محاكمته: وما رأيك في المرحوم الشيخ الذهبي أمسلم هو أم كافر؟
فأجاب: هو عندي كافر.
السؤال: وما دليلك؟ قال: دليلي أنه كان يعمل في هيئة الأوقاف، وكان وزيراً لها، ومديراً للإشراف على مساجد الضرار، جريمته أنه مدير إشراف على مساجد الضرار، وقد أقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله في قسم الوزراء، وهو ما لا يمكن أن يعتبر جهلاً منه بوجوب الحكم بما أنزل الله.
فاعتبر أن قسمه على الدستور في حقه إنكار لوجوب الحكم بما أنزل الله، واعتبره أيضاً قسماً على الحكم بغير ما أنزل الله، أي: كأنه قال: أقسم بالله أن أحكم بغير ما أنزل الله.
يقول: وكلا الاتهامين الخطيرين كفر لا شك فيه، لكن لا يمكن إثباتهما عليه بمثل هذا التساهل والتجرؤ في استصدار الأحكام؛ لأن هناك أوجه تأول كثيرة، وأعذاراً لابد من انتفائها حتى يحكم على الشخص المعين بالكفر ليس هذا مقام تفصيلها.
يقول: وأنا أعرف أن أسلوب التكفير والهجرة هذا في استصدار الأحكام يروق للكثيرين خاصة المتعالمين، وبعض الشباب ذوي الفهم المتسرع، والعلم الضئيل لأصول الأحكام وضوابطها، ولكن أحكام الإسلام العتيدة ليست بأماني أحد، وإنما هي شريعة محكمة بضوابطها، ثابتة في أصولها؛ هيهات أن تتبدل أو تتحول وفقاً لرغبة أحد أو اتجاه طائفة.
أما الإشراف على المساجد وتعميرها؛ فهو إن ابتغي به وجه الله خالصاً فهو عمل صالح وقربة إلى الله، ولكن الموازين المختلة تجعله دليلاً على الكفر يوجب استحلال الدماء والأموال والأعراض، ثم الاستعلاء على عباد الله، والتطاول عليهم بالدعاوى العريضة، والمزاعم الفارغة؛ أين هؤلاء جميعاً ومن يتبعهم في الدعوة إلى تخريب المساجد والعدوان بوصفها بمساجد الضرار، ومعابد الجاهلية، أين هم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من بنا مسجداً يبتغي به وجه الله بنا الله له بيتاً في الجنة}، وفي رواية: {بنا الله له في الجنة مثله}.
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من بنى لله مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة..}.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من بنا مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنا الله له بيتاً في الجنة}.
أما بالنسبة لفريضة الجمعة، فكما ذكرنا أنهم أراحوا أنفسهم، بل أتعبوها بلا شك حق التعب حينما أخذوا موقفاً خطيراً وجريئاً من فريضة الجمعة، فهم يسقطون فريضة الجمعة إلى الأبد؛ لأنهم يوقفون إقامتها أن لا تقام صلاة جمعة إلى أن يمكنهم الله في الأرض، ويقيموا دولتهم.
ولما كان هذا التمكين حلماً وهمياً في رءوسهم فحسب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن في الأرض الصالحين من عباده الذين آمنوا وعلموا الصالحات: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
وقال تعال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55]، نريد من الإخوة دائماً أن يستحضروا خطر البدع بالنسبة للمعصية مثلاً: الوقوع في بدعة العقيدة مثل تأويل صفات الله عز وجل، ومثل هذه البدعة بدع الخوارج أو غيرها أخطر بكثير جداً من الوقوع في معصية من المعاصي؛ فينبغي استحضار هذا؛ لأن هذا من الولاء والبراء أن تعادي من يشذ عن منهج أهل السنة والجماعة من الفرق النارية التي ذمها الله وذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55].
يقول: لما كان هذا التمكين لا وجود له مطلقاً فقد قلت: إنهم يسقطونها إلى الأبد.
ويقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين}، رواه مسلم .
فترك صلاة الجمعة بدون عذر من الذنوب العظيمة، ومن كبائر الذنوب، والعقوبة المترتبة عليها شديدة جداً، يقول عليه الصلاة والسلام: {لينتهين أقوام عن ودعهم -الودع يعني: الترك- الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين}. ويعاقبه الله بأن يسلط الغفلة على قلوبهم نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19].
وعن طارق بن شهاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الجمعة حق على كل مسلم في جماعة، إلا عبداً أو صبياً أو امرأة أو ضريراً}، وهناك خلاف في تصحيح هذا الحديث.
المهم ثبتاً يقين أن الجمعة فرض عين على كل مسلم، فيحرم على أحد من الناس أن يسقط وجوبها والعمل بها، ولو لخير من الزمان إلا بدليل قطعي يقيني.
قالت فرقة الهجرة: إن فريضة الجمعة لها شروط إذا توافرت أقيمت الفريضة، وإلا توقفنا عنها حتى تستوفي شروطها، وشرط في إقامة الجمعة التمكين، فلا جمعة مع هذه الصراعات.
يقول: ويبدوا أن أئمة هذه الفرقة قد شعروا بسخافة هذا الكلام، فحاولوا أن يضيفوا إليها سنداً آخر، فطبقوا عليها قاعدة: تعارض الفرائض، وهذه من الطامات الكبرى التي ابتليت بها هذه الفرقة الضالة، زينوا لأنفسهم وأتباعهم الكثير من المعاصي بسبب هذه القاعدة المشئومة، فاستباحوا بها المحرمات بلا استثناء، بادعاء أن هذا المحرم أو ذاك يتعارض مع ما هو أهم منه، وأقرب بزعمهم، ومقياس الفريضة، والأقرب عندهم هو التكتيك الحركي للجماعة، أو حسب تعديلهم هو: مدى قرب أو بعد هذه الفريضة بالنسبة للغاية التي يسعون إليها، فدخلت أيضاً قضية الحركية والتكتكة ونحو هذه الأشياء.. أنتم تكفرون بالمعاصي، فوصل بهم الأمر إلى أنهم ارتكبوا بعض هذه الكبائر بحجة أن هذا يتعارض مع الفريضة التي نسعى إليها، وهي التمكين، فمن أجل ذلك التمكين استباحوا كثيراً من المحرمات، ولا شك عند الإخوة الحاضرين وغيرهم من إذا جلس يحكي لنا قصص ومآسي عن استحلال أو فعل المحرمات من هؤلاء المبتدعين بسبب هذه القاعدة الإبليسية قاعدة تعارض الفرائض، حيث زين لهم الشيطان ارتكاب الموبقات بحجة أن هذه بحجة قاعدة تعارض الفرائض.
فقالوا: إن الضرورة الأمنية لحركة الجماعة تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة. وما أشأم هذه الضرورات الأمنية التي بها الناس يتنازلون عن دينهم، ويترخصون في ارتكاب كثير من المعاصي بسبب الضرورة الأمنية لحركة الجماعة التي تستدعي التوقف عن العمل لفريضة الجمعة.
والذي يهمنا الآن هو الدليل الشرعي لفرقة التكفير والهجرة على شرط التمكين، فاستدلوا ببعض الأحاديث على أن التمكين هو شرط إقامة الجمعة، وباختصار: الرد على ما استدلوا به من هذه الأدلة: أن الله عز وجل أثبت في كتابه أن اليقين لا يزول بالظن والتخرص وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، فمن أراد من أن يسقط فرضاً ثابتاً بيقين كفرض الجمعة عليه أن يأتينا بدليل يقيني يثبت دعواه، وأما هؤلاء فعمت الأصابع تستدل بها حكايات وغرائب لا تثبت، فهي مردودة عليه.
يقول في نهاية البحث: وعموماً فإن كل ما بني على الباطل فهو باطل، إذ أن عدم حكمهم على غيرهم بالإسلام، وتوقفهم فهيم جعلهم حتى لو أرادوا أن يقيموا هذه الفريضة، فلم يجدوا المسجد الذي يصلون فيه، ولا الإمام الذي يصلون خلفه، فهي إذاً متاهة بدأوها وزينها الشيطان لهم، ولابد أن تحكمهم بالسير في دروبها، ولن يخلصوا منها إلا إذا أراد الله لهم الهداية: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33]، فهذا باختصار ما يتعلق بقضية المساجد، وقضية الصلاة خلف الأئمة برهم وفاجرهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر