إسلام ويب

الإيمان والكفر [29]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الأسئلة

    حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج وعصرية المواجهة

    السؤال: استعمل في الآونة الأخيرة في بعض المصنفات تعبير (سلفية المنحى والمنهج وعصرية المواجهة)، على أساس أن هذا التعبير فيه رد على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فما هو تعليقكم على ذلك؟ الجواب: هذه العبارة تحتاج لنوع من التوضيح؛ لأن فيها إيهاماً، فلا نقول كما تقول هذه العبارة: سلفية المنهج عصرية المواجهة، لكن نقول: سلفية المنهج سلفية المواجهة. ومثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فهل حينما نتلو هذه الآية في هذا الزمان نقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة عصرية، أم أن فيها من العموم ما يقضي استفراغ الوسع في الأخذ بأسباب القوة؟! وهل يفهم من قولنا: سلفية المنهج سلفية المواجهة، أن الجهاد في سبيل الله في هذا الزمان يكون بالسيوف والرماح والنبال والخيول حتى نحترز فنقول: عصرية المواجهة؟! إن هذا الاحتراز لا نحتاج إليه، وإلا فسنحفظ الأمة الإسلامية في متحف من متاحف التاريخ! فسلفية المواجهة هي بطبيعتها لابد من أن تكون عصرية؛ لأن المنهج شامل لكل زمان ولكل مكان. ثم إن مفهوم هذه الثنائية: (سلفية المنهج عصرية المواجهة)، فيه إدخال البعد الزمني في تعريف السلفية، وكأن هذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية الذي يعني الرجوع إلى الوراء، وأنها فهم متجه إلى الوراء، فعندما نقول: سلفية المنهج فإن هذا يعني فهماً متجهاً إلى الخلف، وعصرية المواجهة تعني فهماً متجهاً إلى الأمام. ونحن نقول: المنهج السلفي لا هو متجه إلى الخلف ولا هو متجه إلى الأمام، بل هو متجه إلى أعلى، بمعنى أن السلفية ليست رجوعاً إلى الوراء، بل السلفية عملية ارتقاء وتسامٍ وصعود إلى مستوى السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم. فإدخال العنصر الزمني أو البعد الزمني في تعريف المنهج على أساس أن له بعداً زمنياً يتجه إلى الوراء معناه أنه لا يصلح لمواجهة مشاكل العصر المتجه إلى الأمام، فكأن السلفية هي مجرد تراث ذكري لا يتضمن منهجاً للتعامل مع كل العصور. وباختصار نستطيع أن نعبر عن الحقيقة في هذا الأمر أننا نريد بسلفية المنهج وسلفية المواجهة أن نعيش عصرنا، ونواجه مشكلاته بنفس الطريقة التي نتوقع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا سيسلكونها إذا عاشوا في عصرنا. فالسلفية لا تتجه -كما ذكرنا- إلى الوراء ولا إلى الخلف، وإنما السلفية تتجه إلى أعلى، فهي عملية ارتقاء وارتفاع إلى مستوى السلف الصالح رضي الله عنهم في عقيدتهم ومفاهيمهم وسلوكهم وأخلاقهم والتزامهم وذلك من الثوابت التي لا تتفاوت بتفاوت العصور، وارتقاء إلى مستوى العصر الذي نعيشه، فلابد من أن يكون هناك مواجهة لتحديات هذا العصر، وارتفاع إلى مستوى العصر، أخذاً بالأسباب التي أمرنا الله بها في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. فكل ما يحقق مصالح المسلمين ويوفر لهم عناصر القوة بكل أنواعها ينبغي أن نرتقي إليه، هذا هو جوهر السلفية للتعامل مع العصر، لا كما يحصل من بعض الناس ممن يستسلمون أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار في هذا الزمان، فلا يقوى أحدهم على مواجهة الواقع الذي يتحداه، لكنه يهرب منه بشتى الأحلام، فيرى أننا مسلمون وموحدون، وحينما نحارب الكفار يظن أنه ستنزل علينا معجزة من السماء، وتنزل معنا الملائكة تحارب حتى لو قاتلناهم بالرماح والسهام والسيوف، وسوف نغلبهم لأننا موحدون، كلا، فأنت بهذا الظن بالآية ولا احترمت الأسباب، حيث قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]. وأما دفاع الله عن بيته الحرام بالطير الأبابيل فإنه كان في وقت إسلام، ولم ينزل قرآن، ولم تأت سنة، ولا قامت الأمة بعد. فلا ينبغي أن نتوقع أن ينصر الله دينه بكلمة (كن)، وقد جرت سنة الله بأنه لا بد من الابتلاء، ولابد من الجهاد والبذل في سبيل هذا الدين، أما مجرد النوم والأماني فذلك يعني الهروب من مواجهة الحقيقة. وهناك صورة أخرى من الهروب أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار، وهي أن بعض الناس يقول: الحل والمخرج من البعد العظيم أنه ستحصل حرب نووية تدمر فيها القوة الكافرة كلها، ويقضى على كل العالم، ويبقى المسلمون، وبعد ذلك هم الذين سيقومون من جديد بالرماح والسيوف ويجاهدون ويعيدون الإسلام من جديد. وهذا هروب من مواجهة الحقيقة. والحقيقة هي أن البعد الحضاري من المستطاع ملء الفجوة فيه لولا الخونة الذين أذلوا المسلمين لأعداء الله في الشرق والغرب، والذين أشركوا كل قوى الكفر في تحديد مصير المسلمين، ولم يشركوا المسلمين أنفسهم في تحديد هذا المصير، والآن يحدد مصيرنا اليهود والنصارى، ونحن لا حول لنا ولا قوة. والمقصود أن هذا الأمر داخل في الأسباب المادية بشيء من الصبر والإصرار والهمة، وهناك قابلية لحصول نوع من التقدم بالنسبة للمسلمين يمكنهم بها مواجهة أعداء الله مهما بلغ بطشهم، لكن بالعلوم الحديثة، وبالأخذ بجميع أسباب القوة، وليس بالأماني التي نقول فيها: أماني إن تك حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا فلا بد من مواجهة المشكلة كما تواجه أي مشكلة أخرى، واستفراغ الوسع في الأسباب، ثم بعد ذلك يجيب الله المضطر إذا دعاه، بعد أن نأخذ بالأسباب لا بالأحلام وانتظار حدوث خوارق من السماء؛ لأن هذا لم يقع حتى مع أشرف خلق الله، نعم إن الله قادر على أن يقول للشيء: (كن) فيكون، فيصبح كل من في الأرض عباداً ربانيين ليس فيهم مشرك ولا مبتدع ولا ضال ولا فاسق، لكن ليس لهذا خلقت الخليقة، وهذا ينافي الحكمة التي خلق الله من أجلها الخلق ليبتليهم. فالمنهج السلفي أو منهج أهل السنة والجماعة لا يعني ولا يشير إلى جيل ولا إلى أجيال مضت، ولكن تتسع دائرته لتشمل الحاضر والمستقبل. ثم إنه لا يتعلق بالأزمان والعصور، ولكن يتعلق باتباع طريقة ثابتة واحدة حتى وإن قل أصحابها، فالتعبير بسلفية المنهج وعصرية المواجهة كأن فيه دمغاً للسلفية بأنها دعوة رجعية تنافي التقدم، ولذلك احتيج لهذه الثنائية فقيل سلفية المنهج وعصرية المواجهة، وهذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية، فالسلفية عند الغربيين عقدة من أسلافهم الصالحين، ويطلقون لفظ السلف عندهم على القرون الوسطى المظلمة، وعلى العهود المظلمة في أوروبا؛ لأن هؤلاء لهم حق في أن تصيبهم هذه العقدة من جراء ما عاناه أسلافهم من حرب للتقدم العلمي، والاكتشافات العلمية، وقهر الكنيسة وبطشها، والعقيدة الشركية التي قدمتها لهم، ومحاكم التفتيش، إلى غير ذلك مما حصل في أوروبا، فكان لهذا الفعل رد فعل ظهر في فصل الدين عن الحياة، والكفر بالدين، ورفع شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، فسلفهم السيئ الظالم المشرك الوثني يسمون عصوره العصور المظلمة، فأوروبا والغرب ما رأى أهلها النور أبداً بعد تلك القرون المظلمة، حتى في هذا الزمان ما زالوا يعيشون في بربرية هي أشد من العصور المظلمة التي يعيبونها. فالشاهد أن موقفهم من السلفية هو انعكاس لمفهوم السلفية عندهم، فيقولون: السلفية رجوع إلى الوراء حتى انساق بعض الصحفيين وراء هذا المفهوم، فيعبرون عن الرجعي بكلمة سلفي، حتى إن بعض الصحفيين في إحدى المجلات الإسلامية -مع الأسف- لما تكلم عن السلفية الناصرية، يعني الذين يريدون أن يعودوا إلى فكر عبد الناصر ، فيسمونهم السلفية الناصرية، يعني أن كل شيء يشير إلى الوراء فهو سلفي، كما يفعل زكي نجيب محمود في كثير من مقالاته، حيث يقول: كيف يكون الجيل الحالي أكثر سلفية من الجيل الماضي؟! ترى البنت تمشي مع أمها وهي سلفية وأمها متبرجة في ملابسها. هذا معنى كلامه، فيقول: كيف نجد الثورة في الشباب في كل العالم تتجه إلى الأمام، ونجد بيننا من يدعوهم إلى السلفية. فيرى أن السلفية رجوع إلى الوراء دائماً. وأوروبا لما تخلت عن الدين وعما كان عليه أسلافها تقدمت، أما نحن فلا يوجد مبرر أبداً لأن نتأثر بهذا المفهوم عن السلفية وننساق خلفه؛ لأن أسلافنا هم خير أمة أخرجت للناس. وأعلى أنموذج بشري دب على هذه الأرض كان في صورة هذه الجماعة أو العصابة المؤمنة التي أخرج الله بها العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فبالنسبة لنا الأمر عكسي، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الإسلام بهذا المنهج القويم. ومما يزيد الاشتباه في هذا التعبير المهم -وهو سلفية المنهج وعصرية المواجهة- باقي السؤال، وهو أن هذا التعبير يشيع رداً على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فهذا مما يؤكد أن ما فهمناه في محله، وأن المقصود بهذه الثنائية الإشارة إلى البعد الزمني الذي أشرنا إليه، فما المقصود بالقضايا التاريخية، وإحياء مثل هذه القضايا التاريخية؟! إن كثيراً من الناس يشير بهذا التعبير، وكل من هب ودب يشنع على السلفيين بأنهم يحيون قضايا اندثرت، كما يفعل كثير من المشايخ، وهذا فيه جناية على منهج أهل السنة والجماعة، جناية مغطاة؛ إذ إن عادة أهل السنة وعلماء أهل السنة أنهم لا يبدءون بإثارة أي شيء لم يتكلم فيه السلف الأوائل، لكن كانوا كلما ظهرت بدعة وخرج المبتدعة بصورة من صور الانحراف يتصدون لهم، فيؤلفون الكتب ويناظرون ويناقشون الدلالات من منطلق قوله تبارك وتعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، ومن منطلق قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8]. فمن هذا المنطلق كانوا يضطرون إلى الرد على أهل البدع، وكانوا يدفعون دفعاً إلى التصدي لهؤلاء المبتدعة،

    الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها

    السؤال: ما الفرق بين استحلال المعاصي وبين الإصرار على المعاصي؟

    الجواب: يبدو أن هذا الفرق ما زال غير دقيق، رغم أننا تكلمنا فيه بالتفصيل من قبل، فنحاول أن نزيده وضوحاً.

    فنقول ابتداء: اتفق أهل السنة على تكفير المستحل للمعاصي أو المحرمات، أما الإصرار فلا يكفر صاحبه، بل اتفق أهل السنة على تبديع من قال إن الإصرار يكفر فاعله.

    وقد سبق أن ذكرنا: أن الإيمان حقيقة مركبة من جزأين: قول وعمل، والقول منقسم إلى قسمين:

    قول بالقلب، وقول باللسان، وعمل، عمل بالقلب، وعمل بالأركان، بما فيها اللسان.

    فقول القلب بالنسبة لأصول الدين أو أصول العقيدة، هو التصديق، وقول باللسان هو النطق بكلمة الشهادة، وعمل القلب غير قول القلب، قول القلب هو الإقرار والتصديق، أما عمل القلب فهو شيء آخر أيضاً من أركان الإيمان الذي هو محبة هذا الشيء، والانقياد له، والتوكل على الله وحده.. إلى آخر هذه الأعمال القلبية.

    فالإيمان حقيقة مركبة من جزأين: تصديق الخبر، والانقياد للأمر، حتى من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق، إنما عنوا بذلك التصديق المستلزم للانقياد، فإذا كان الإيمان: التصديق بالخبر، والانقياد للأمر أو الحكم، فمن كذب بالخبر صار كافراً كفر تكذيب، ومن صدق الخبر ولكن رد الأمر، ولم ينقد له، صار كافراً كفراً الرد والإباء والامتناع، مثال ذلك: إبليس لما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود، كان عند إبليس تصديق أم لم يكن عنده تصديق أن هذا الأمر صادر من الله، إبليس كان مصدقاً ومع ذلك كفره الله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، لماذا؟ لأنه وقع في نوع آخر من الكفر، وجد عنده تصديق الخبر، السجود فعلاً أمر من الله، وما قال: أنا أشك في هذا الأمر، ويعلم أن الآمر هو الله، إذاً: وجد تصديق الخبر لكن لم يوجد الانقياد للأمر، لم يوجد قول القلب الذي هو قبول الخبر، وصار إبليس كافراً كفر رد وإباء وامتناع، كشخص يقول: الشريعة الإسلامية شريعة الله، لكن لا أطبقها وأرفضها، يمتنع إباء أو إعراضاً أو استكباراً وكلها غير امتناع الجحود؛ لأن الجحود كفر تكذيب. أما الذي لا ينقاد قلبه، ولا يتقبل الحكم بقلبه، بل يعرض عنه ويرفضه، هذا كافر كفر إباء وامتناع وإعراض.

    ثم لا بد أن نعلم: أن الانقياد الذي يؤثر في أصل الإيمان -المرتبط بأصل الإيمان- ليس هو الامتثال العملي للأحكام، الانقياد نوعين:

    الانقياد العملي، والانقياد القلبي، فالانقياد القلبي كفعل القلب، وذنوب القلب أعظم من ذنوب الجوارح، فامتناع القلب عن الانقياد الذي يؤثر ويقدح في أصل الإيمان ويرتبط به ليس هو الامتثال العملي بالجوارح في الأحكام كما تزعم الخوارج، وإنما هو قبول الأحكام والتزام الشرائع جملة كما هو مذهب أهل السنة، حتى نوضح هذه الحقيقة ونجليها أكثر، نذكر الأحوال الثلاثة:

    الحالة الأولى: حال رجل لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، هذا كافر كفر تكذيب، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، لا يعتقد بتحريم الخمر، يقول: هي حلال، هذا مكذب بحكم الله عز وجل، جاحد لمعلوم من الدين بالضرورة، ولا شك في كفره حقيقة عند الله عز وجل.

    الحالة الثانية: رجل شرب الخمر وداوم على شربها، وعقد قلبه على عدم تركها أبداً؛ معتقداً بقلبه أنها حلال، فهذا كافر أيضاً كفر تكذيب، وفاقد لأحد ركني الإيمان الذي هو تصديق الخبر.

    هذان الشخصان لا سبيل للحكم عليهما بالكفر في الظاهر إلا إذا قام دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي.. الاستحلال يكون بالقلب، فمثل هذين الكافرين يشتركان مع الفاسق في تعاطي الخمر، أو أحدهما يشترك مع الكافر الذي هو يشرب مستحلاً.. يشترك مع الفاسق الذي لا يكفر بشرب الخمر في الظاهر، هذا يشرب وهذا يشرب، لكن إذا قام دليل على أن ما في القلب جحود وتكذيب فهذا يكفر، كأن ينطق بلسانه، ويقول: أنا لا أعتقد تحريم الخمر، فهذا اللسان هو المجرفة التي تجرف وتخرج من القلب، ترجمان القلب هو اللسان، فإذا دل دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي كأن يصرح بلسانه بهذا الاعتقاد فيكفر بهذا.

    الحالة الثالثة: مؤمن بأن حكم الله عز وجل في الخمر هو تحريم شربها، لكنه لا يقبل هذا الحكم اقتداء بقلبه، يقول: هو حكم الملك، أنا ما أقبله ولا ألتزمه، ويرده ويرفضه، بل قد يعترض عليه وينتقده ويعيبه، ويعقد قلبه على عدم ترك شرب الخمر أبداً، فهذا الاستحلال يئول إلى كفر الرد والإباء وعدم القبول، هذا القلب لم ينقد أصلاً للحكم مثل كفر إبليس، هو عارف أن الخمر حرمها الله، لكن لم يحصل الانقياد القلبي، الذي هو: الإيمان قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان.

    أي: أن القلب لم ينقد ولم يقبل هذا الحكم، ومثل هذا الرد حتى مع التصديق بأن هذا حكم الله فإنه يكفر صاحبه، كما هو مصداق ذلك في قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60]، إلى أن قال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، هذا عرف أنه حكم الله لكنه لم يحكم شرع الله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا [النساء:65]، هذا وجد حرجاً، ولم يسلم تسليماً لحكم الله، فهذا نوع أكبر من الكفر إلى كفر التكذيب كفر الرد والإباء والرفض والامتناع عدم الانقياد بحكم الله في قلبه، وتعلمون حديث ابن مظعون لما شرب هو وطائفة الخمر، وتأولوا الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93] إلى آخر الآية، يعني: أفتى الصحابة رضي الله عنهم في ذلك في محضر ابن عمر رضي الله عنه: إن أقروا به جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا، إن أقروا به: شربوه مستحلين، يعني: بسبب تأويل، إن أقروا بأن الخمر حرام يجلدون ويقام عليهم، لكن إن أنكروا جحدوا.

    على أي الأحوال: هذا الشخص الذي يرد ويرفض الانقياد لحكم الله هذا نوع آخر من الكفر غير كفر التكذيب وهو كفر الرد والإعراض والإباء، كفره تماماً مثل هؤلاء اليهود الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشهدوا له بأنه رسول الله، قالوا: نشهد أنك رسول الله، لكن قالوا هذه العبارة على سبيل الإخبار عما في قلوبهم لا على سبيل الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، فلم يصيروا مسلمين بمجرد ذلك، مع أنهم معتقدين أن الرسول حق، بل كما قال الله عز وجل عنهم: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ليس في أحد يغلط في أولاده، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون أنه رسول الله حقاً، لكن لم ينقادوا لحكمه، فكفرهم كفر عناد وإباء ورفض وعدم تحكيم.

    فهذه الصور الثلاثة السابقة: صورة الشخص الذي لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال؛ كفر تكذيب. رجل آخر يشرب الخمر، ويداوم على شربها، ويعقد قلبه على عدم تركها أبداً، معتقداً أيضاً بقلبه أنها حلال. النوع الثالث: رجل يصدق بأن حكم الله في الخمر هو تحريم شربها، لكنه يرفض بقلبه هذا الحكم، ولا ينقاد له قلبياً.

    فهؤلاء الثلاثة يصدق عليهم ضابط الاستحلال، وهؤلاء مستحلون لما حرم الله، فهذا الاستحلال يكفرهم، وله صورتان:

    الأولى: عدم اعتقاد الحكم الشرعي، وهذا يرجع ويئول إلى كفر التكذيب، الثانية: عدم التزام هذا الحكم وقبوله والانقياد له بقلوبهم، فهذا يرجع إلى كفر الرد وعدم القبول.

    الفرق بين الاستحلال المكفر والإصرار غير المكفر

    السؤال: كيف نفرق بين الاستحلال الذي يكفر صاحبه باتفاق أهل السنة، وبين الإصرار الذي لا يكفر صاحبه؟

    الجواب: نفترض رجلاً يشرب الخمر، ويقيم على هذه المعصية، ويترك الإقلاع عنها والتوبة منها؛ بسبب غلبة الشهوة، وضعف الإرادة، مع بقاء اعتقاده القلبي بأن الله حرمها، ومع بقاء مبدأ قبول حكم التحريم والتزامه به، يعني: يعتقد أن الخمر حرام، ويصدق أن هذا حكم الله، ثم هو بقلبه قبل هذا الحكم وما رفضه، لكن غلبته شهوته، وما يستطيع أن يفارق هذه المعصية، مثل هذا المصر لا يكفره السلف؛ لأنهم لا يعدون تكرار الذنب ومجرد الإقامة الظاهرة عليه دليلاً على استحلال القلب، ويقولون: إن هو مات موحداً غير تائب من هذا الذنب فهو تحت المشيئة: إن شاء عفا الله عنه بفضله، وإن شاء عذبه بعدله، لكنه لا يخلد في النار.

    ومثال هذا كثير: منهم الرجل الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب حماراً ، وكان يؤتى به وهو قد شرب الخمر، ففي مرة من المرات قال بعض الصحابة حينما أحضر ليقام عليه الحد: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله)، عليه الصلاة والسلام، مع أن هذا مداوم على شرب الخمر، لكن مع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فهذا مصر لكنه غير مستحل.

    كذلك أبو محجن الثقفي ، ومعروفة قصته، فقد كان مداوماً على شرب الخمر، فهذا المثال للشخص الذي تغلبه شهوته، ثم تاب بعدما أبلى في الجهاد كما هو معلوم.

    فالفرق بين الاستحلال الذي اتفق أهل السنة على تكفير صاحبه، وبين الإصرار على المعصية الذي اتفقوا على تبديع من يكفر به هو: أن الاستحلال إما بتكذيب حكم الله، وعدم الإقرار به، هنا يكون متعلقاً بمبدأ تصديق الخبر، وإما برد هذا الحكم وعدم التزامه، والاعتراض عليه، والاستكبار عنه، وهو هنا يتعلق بمبدأ قبول الأحكام، فتخلف التصديق. كفر تكذيب، وتخلف القبول. كفر رد وإباء، وكلاهما قادح في أصل الإيمان.

    أما الإصرار على المعصية، فيتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، هو بقلبه قبل الحكم؛ لكن عملياً بجوارحه، دخل في هذا العمل، أم لم يدخل فيه؟ يعني: تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه بالجوارح؛ لكن بقلبه هو قابل حكم الله، وملتزم بحكم الله؛ لكن الإصرار يتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، أي: تنفيذ الأحكام أو عدم تنفيذها، وهذا قادح في كمال الإيمان لا في أصله، وينقص إيمانه بهذه المعصية، ولا يطاح به بالكلية، ويضربون مثالاً لذلك بالبدن الذي فيه روح، والبدن الذي لا روح فيه، البدن الذي فيه روح أصل الإيمان موجود فيه بشقيه: تصديق الخبر، والانقياد للأمر، هذان معاً هما الروح الذي يسري في الجسد، فيبقى الجسد حياً حتى لو بترت بعض أعضائه، لو بتر ساقه أو أطرافه أو عينه أو غير ذلك من أعضائه يبقى كائنا حياً يستطيع أن يعيش، ما زالت فيه الروح، لكن إذا خرجت الروح لم ينفعه شيء، فإذا خرج الإيمان بشقيه وهو تصديق الخبر والانقياد للأمر لا يبقى فيه إيمان، بل يقضى عليه بالكلية؛ لكن كالشجرة أيضاً، الشجرة إذا اجتثت من جذرها لا تنفع، لكن إن كسرت منها واستخرج بعض الأفرع والأغصان هذا ينقصها ولا يبقيها سليمة؛ لكن ما زالت حية.

    حكم تحكيم القوانين الوضعية

    السؤال: هل تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر، أم كفر دون كفر؟

    الجواب: تكلمنا في هذه المسألة بالتفصيل من قبل، لكن يبدو أنها ما زالت تحتاج إلى شيء من التوضيح.

    يعني: هل تحكيم شريعة غير شريعة الله تبارك وتعالى يدخل في الاستحلال أم في الإصرار؟ وبالتالي: هل فاعله كافراً كفراً أكبر، أم كافراً كفراً دون كفر؟

    إن هذه الشريعة هي الدستور الأعلى، والقانون الأوحد المهيمن؛ لكن الحاكم بغير ما أنزل الله حينما عرض عليه قضية أو قضيتين أو عشر قضايا أو حتى أغلب القضايا التي تعرض عليه، حكم في قضايا عارضة وجزئية بغير ما أنزل الله، لا بسبب التكذيب، ولا بسبب الرد والرفض، وإنما بسبب مجاملة لصديقه أو قريبه، أو رشوة أغري بها، أو محسوبية أو هوى، فهذا كله كفر دون كفر، هذه معصية، وليس كفراً يخرج من الملة، لكنه ينقص إيمانه؛ لأن هذا انحراف عارض في التطبيق وليس في المبدأ.

    بعبارة أخرى نقول: من رغب عن تطبيق الشريعة الإسلامية، واستبدلها بالقوانين الوضعية، هذا الاستبدال له صور عدة: إما أنه يكون رافضاً لها بقلبه، وحينها لم يوجد قول القلب الذي هو الانقياد والإقرار والقبول، أو كراهية لها، أو معتقداً أن القوانين الوضعية أفضل من الأحكام الإلهية، باعتبار أنها أحكاماً رجعية جامدة لا تناسب العصر، كما يقع من العلمانيين وخصوم الإسلام، أو عناداً ومكابرة.. يؤمن أنه حكم الله لكن يعاند ويكابر ولا يقبله ولا ينقاد له، فهذا كافر خارج عن ملة الإسلام، ولو كان مصدقاً بها مقراً بأنها شريعة الله عز وجل، كفره ككفر إبليس الذي ما شك في أن الأمر بالسجود صادر عن الله تبارك وتعالى، لكنه رد حكم الله ولم يلتزمه، ففي حق مثل هذا نستدل بقوله تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فالمسألة هنا ليست مسألة خطأ في التطبيق أو خطأ عارض، هي مسألة مبدأ، فحين يحصل التخلي عن أصل تحكيم الشريعة كمبدأ عام، وإبطال تحكيمها في أغلب شئون الحياة والدولة، وتنكيس راية الشريعة تماماً. في العالم راية الشريعة نكست وأخليت تماماً كمبدأ، ثم استبدلت راية الشريعة براية القوانين الوضعية الجاهلية لتصبح هي بدل الشريعة الإسلامية. الشريعة هي المظلة ذات السيادة، وهي المهيمنة على المجتمع؛ فإن ذلك لا يتضمن فقط عدم الحكم بما أنزل الله بتعطيله وإبطاله، بل يتضمن جريمة أخرى هي الإباحة العامة للحكم بغير ما أنزل الله.

    فما بالك لو انضم إليه الإلزام القسري، إلزام الأمة جميعها بالتحاكم إلى هذه القوانين الجاهلية، ليس هذا الحد، بل يفتن كل من تمرد على هذه القوانين أو حاول تغييرها حتى ولو كان قاضياً، بل يحاكم من خالفه أو حاول تغييره.

    ما أكثر ما يتردد في ساحات المحاكم الوضعية عبارات تقشعر منها الجلود وتشمئز لبشاعتها النفوس؛ لما تتضمنه من رد الدفاع الشرعي، حينما يدافع المدافع بحكم الشرعية، أو بأدلة الشرع الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل القاضي الوضعي الحكم الشرعي والدفاع الشرعي لا لشيء إلا لأنه يخالف القوانين الوضعية.

    يرد حكم رجم الزاني أو جلد الشارب أو قطع يد السارق؛ لأنه يخالف القوانين، وهذا فصل بين الخلق والأمر، قد يكون هذا الشخص مؤمن بأن هذا حكم الله، لكنه لا ينقاد إليه قلبياً، ويجعل عدم تطبيق الشرعية مبدأ عاماً يلزم كل الناس بتعطيل الشريعة أولاً، ثم باستباحة الحكم بغير ما أنزل الله إباحة عامة يلزم بها سائر الناس ويمتحن ويفتن من خالفها أو تمرد عليها، فالله عز وجل له الخلق والأمر: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، الذي يخلق هو الذي يأمر ويحكم، فكما لا يخلق إلا الله، كذلك لا يأمر ولا يشرع إلا الله عز وجل.

    وسبق أن أشرنا إلى عبارة: الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكيف أن هذه تنافي العقيدة الإسلامية تماماً، وأنها تساوي قولنا: الله عز وجل هو الخالق الرئيسي لهذا الكون، هل يقبل هذا: أن الله هو الخالق الرئيسي؟ ! كما له الخلق له أيضاً الأمر، فكما أنه لا يصح أن تقول: الله هو الخالق الرئيسي، كذلك لا يصح أن تقول: شريعة الله هي الشريعة الرئيسية للقوانين.

    في عهد جنكيز خان ملك التتار حينما استبدل أحكام القرآن وأحكام الشريعة بكتابه الياسق أو اليافا، وجعله خليطاً من الشريعة الإسلامية مع بعض القوانين الأخرى من الملل الأخرى، ووقفت الأمة منه هذا الموقف الخطير أمام بهذا الفعل لإيبائه ورده ورفضه الشريعة الإسلامية.

    فأرجو أن يكون بهذا اتضح الفرق بين الإصرار وبين الاستحلال، بعض العلماء يقولون: في حالة الحكم بالكفر الأكبر نتيجة الاستحلال له صورتان:

    تكذيب الخبر، أو رد الحكم وإبطاله وعدم الانقياد له والتزامه، في هذه الحالة الثانية بالذات قالوا: كلاهما كفر، لكن لا يحكم على قائله أو فاعله بالكفر حتى يتثبت من وجود أفعال أو شروط معينة، وانتفاء موانع تمنع من الحكم بالكفر على الشخص، لكن يحكم على من فعل كذا فهو كافر، ولا يجزم بأن فلان بعينه كافر حتى نتأكد من زوال العوارض الأهلية من إكراه أو جهل أو تأويل.

    حكم الصلاة خلف الإباضية من الخوارج

    السؤال: هل تجوز الصلاة خلف الإباضية من الخوارج؟

    الجواب: نطبق الكلام الذي ذكرناه. الخوارج من أهل البدع، والأصل أنك إذا كنت مستطيعاً أن تعزل الإمام المبتدع الفاسق ببدعته كبدعة الخوارج مثلاً، إذا كنت ممكناً، وتستطيع عزله، يجب عليك أن تعزله، ولا تصلي خلفه، فإن عجزت فإما أن تصلي في مسجد آخر، فإن تعين عليك فلا جمعة ولا جماعة ولا عيد إلا خلف هذا المبتدع، ففي هذه الحالة: إن كنت لا تستطيع تغييره إلا بإحداث فتنة أكبر فصل خلفه، كما بين ذلك شيخ الإسلام في الكلام الذي ذكرناه عنه في مثل هذا، هذه القاعدة في شأن أهل البدع عموماً.

    فالقاعدة: أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فما دام لم يحكم بكفره، وما دام باقياً على أصل الإسلام حتى وإن تلبس بهذه البدعة، فتصح صلاته لغيره مع الكراهة؛ لأن بعض العلماء متفقون على هذه الكراهة، والله تعالى أعلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج عصرية المواجهة

    السؤال: استعمل في الآونة الأخيرة في بعض المصنفات تعبير سلفية المنحى، وسلفية المنهج، عصرية المواجهة، على أساس أن هذا التعبير فيه رد على من يحيون السلفية في بضع القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر؟

    الجواب: هذه العبارة ينبغي تحتاج لنوع من التوضيح؛ لأن فيها إيهاماً، فلا نقول كما تقول هذه العبارة: سلفية المنهج عصرية المواجهة، لكن نقول: سلفية المنهج سلفية المواجهة، قال الله تبارك وتعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، هل حينما نتلو هذه الآية في هذا الزمان نقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة عصرية، أم أن فيها من العموم ما يقضي استفراغ الوسع في الأخذ بأسباب القوة، هل يفهم حينما نقول: سلفية العصر سلفية المواجهة، أما الجهاد في سبيل الله في هذا الزمان يكون بالسيوف والرماح والنبال والخيول حتى نحترز فنقول: عصرية المواجهة؟ أم أن هذا الاحتراز نحن لا نحتاج إليه، وإلا نحفظ الأمة الإسلامية في متحف من متاحف التاريخ.

    فسلفية المواجهة هي بطبيعتها لابد أن تكون عصرية؛ لأن المنهج شامل لكل زمان ولكل مكان، أيضاً مفهوم هذه الثنائية: سلفية المنهج عصرية المواجهة، مفهومه إدخال البعد الزمني في تعريف السلفية، وبالتالي كأن هذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية الذي يعني الرجوع إلى الوراء، وأنها فهم متجه إلى الوراء.

    فلما نقول سلفية المنهج يعني فهم متجه إلى الخلف، عصرية المواجهة فهم متجه للأمام، نحن نقول: المنهج السلفي لا هو متجه للخلف ولا هو متجه إلى الأمام، بل هو متجه إلى أعلى، بمعنى أن السلفية ليست رجوعاً للوراء، السلفية هي عملية ارتقاء وتسامي وصعود إلى مستوى السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

    فإدخال العنصر الزمني أو البعد الزمني في التعريف بالمنهج، على أساس أن له بعد زمني يتجه إلى الوراء، معناه: أنه لا يصلح لمواجهة مشاكل العصر المتجه للأمام، فكأن السلفية هي مجرد تراث ذكري لا يتضمن منهجاً للتعامل مع كل العصور.

    باختصار: نستطيع أن نعبر عن الحقيقة في هذا الأمر أننا نريد بالضبط بسلفية المنهج وسلفية المواجهة: نريد أن نعيش عصرنا، ونواجه مشكلاته بنفس الطريقة التي نتوقع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا سيسلكونها إذا عاشوا في عصرنا.

    فالسلفية لا تتجه كما ذكرنا لا إلى الوراء ولا إلى الخلف، إنما السلفية تتجه إلى أعلى، فهي عملية ارتقاء وارتفاع إلى مستوى السلف الصالح رضي الله عنهم في عقيدتهم ومفاهيمهم وسلوكهم وأخلاقهم والتزامهم وغيرها من الثوابت التي لا تتفاوت بتفاوت العصور، وارتقاء إلى مستوى العصر الذي نعيشه، هناك لابد أن يكون مواجهة لتحديات هذا العصر، وارتفاع إلى مستوى العصر أخذاً بالأسباب التي أمرنا الله بها في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].

    فكل ما يحقق مصالح المسلمين، ويوفر لهم عناصر القوة بكل أنواعها؛ ينبغي أن نرتقي إليه، هذا هو جوهر السلفية للتعامل مع العصر، لا كما يحصل من بعض الإخوة للأسف الشديد أو بعض الناس ممن يستسلمون أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار في هذا الزمان، ولا يقوى على مواجهة الواقع الذي يتحداه، لكنه يهرب منه بشتى الأحلام، فيتوقع أننا مسلمون وموحدون وحينما نحارب الكفار ستنزل علينا معجزة من السماء، وينزل معنا الملائكة تحارب حتى لو قاتلناهم بالرماح والسهام والسيوف، وسوف نغلبهم لأننا موحدون، كلا. أنت ما طبقت الآية، ولا احترمت الأسباب وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، حينما دافع الله عن بيته الحرام بالطير الأبابيل فإنه لم يكن هناك إسلام، ولم ينزل قرآن، ولم تأت سنة، ولا قامت الأمة بعد.

    فلا ينبغي أن نتوقع أن ينصر الله دينه بكلمة (كن) جرى في السنة أنه لا بد من الابتلاء، ولابد من الجهاد والبذل في سبيل هذا الدين، أما مجرد النوم والأماني فيعني هذا الهروب من مواجهة الحقيقة.

    صورة أخرى من الهروب أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين هؤلاء: أن بعض الناس يقول: هي الحل والمخرج من البعد العظيم، وستحصل حرب نووية تدمر فيها القوة الكافرة كلها، ويقضى على كل العالم، ويبقى المسلمون ثم بعد ذلك هم الذين يقومون من جديد بالرماح والسيوف ويجاهدون ويعيدون الإسلام من جديد. هذا هروب من مواجهة الحقيقة. أولاً: البعد الحضاري، من المستطاع ملء الفجوة فيه لولا الخونة الذين أذلوا المسلمين لأعداء الله في الشرق والغرب، والذين أشركوا كل قوى الكفر في تحديد مصير المسلمين، ولم يشركوا المسلمين أنفسهم في تحديد هذا المصير، والآن يحدد مصيرنا اليهود والنصارى، ونحن لا حول لنا ولا قوة، ثم نقول: الدول لا تدفع الأموال لوجه الله حقاً ويشترون بها أولياء الشيطان ليذلوا المسلمين ويسيمونهم سوء العذاب.

    المقصود: أن هذا الأمر داخل في الأسباب المادية بشيء من الصبر والإصرار والهمة، وهناك قابلية لحصول نوع من التقدم بالنسبة للمسلمين يمكنهم من مواجهة أعداء الله مهما بلغ بطشهم، لكن بالعلوم الحديثة، وبالأخذ بجميع أسباب القوة وليس بالأماني ونجلس وننام ونقول:

    أماني إن تك حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا

    فلا بد من مواجهة المشكلة كما تواجه أي مشكلة أخرى واستفراغ الوسع في الأسباب، ثم بعد ذلك يجيب الله المضطر إذا دعاه، بعد ما نأخذ بالأسباب لا بالأحلام، وننتظر حدوث خوارق من السماء؛ لأن هذا لم يقع حتى مع أشرف خلق الله، نعم الله قادر أن يقول للشيء: كن فيكون، فيصبح كل من في الأرض عباد ربانيين ليس فيهم مشرك ولا مبتدع ولا ضال ولا فاسق، لكن ليس لهذا خلقت، وهذا ينافي الحكمة التي خلق الله من أجلها الخلق ليبتليهم.

    فالمنهج السلفي أو منهج أهل السنة والجماعة لا يعني ولا يشير إلى جيل ولا إلى أجيال مضت، ولكن تتسع دائرته لتشمل الحاضر والمستقبل.

    أيضاً لأنه لا يتعلق بالزمن والعصور، ولكن يتعلق باتباع طريقة ثابتة واحدة حتى وإن قل أصحابهم، فكما ذكرنا هذا التعبير: سلفية المنهج وعصرية المواجهة كأن فيه دمغاً للسلفية أنها دعوة رجعية تنافي التقدم، ولذلك احتيج لهذه الثنائية وأن يقال: سلفية المنهج عصرية المواجهة، وهذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية، فالسلفية عند الغربيين عقدة من أسلافهم الصالحين، ويسمون دائماً السلف عندهم بالقرون الوسطى المظلمة، وبالعهود المظلمة في أوروبا؛ لأن هؤلاء لهم حق في أن تصيبهم هذه العقدة من جراء ما عاناه أسلافهم من حرب للتقدم العلمي، والاكتشافات العلمية، وقهر الكنيسة وبطشها، والعقيدة الشركية التي قدمتها لهم، ومحاكم التفتيش، إلى غير ذلك مما حصل في أوروبا، وقد حكيناه في مناسبات أخرى، فكان لهذا الفعل رد فعل ظهر في فصل الدين عن الحياة، والكفر بالدين، ورفع شعار: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، فسلفهم السيئ الظالم المشرك الوثني عقدوا، فيسمونها العصور المظلمة، فأوروبا والغرب ما رأوا النور أبداً بعد هذه القرون المظلمة، وحتى في هذا الزمان هم ما زالوا يعيشون في بربرية هي أشد من العصور المظلمة التي يعيبونها.

    الشاهد: أن موقفهم من السلفية هو انعكاس لمفهوم السلفية عندهم، فيقولون: السلفية رجوع إلى الوراء، حتى انساق بعض الصحفيين وراء هذا المفهوم، فدائماً يعبرون عن الرجعي بكلمة سلفي، حتى إن بعض الصحفيين في إحدى المجلات الإسلامية للأسف لما تكلم عن السلفية الناصرية، يعني: الذين يريدون أن يعودوا إلى فكر عبد الناصر ، يسمونهم: السلفية الناصرية، يعني: كل شيء يشير إلى الوراء فهو سلفي، وكما يفعل زكي نجيب محمود في كثير من مقالاته، يقولون: كيف يكون الجيل الحالي أكثر سلفية من الجيل الماضي؟ ترى البنت تمشي مع أمها البنت سلفية، وأمها متبرجة في ملابسها. هذا معنى كلامه، فيقول: كيف نجد الثورة في الشباب في كل العالم تتجه إلى الأمام، ونجد بيننا من يدعوهم إلى السلفية، يدخلون تعريف السلفية أنها رجوع إلى الوراء دائماً.

    كذلك أوروبا لما تخلت عن الدين، وعما كان عليه أسلافها تقدمت، أما نحن فلا يوجد مبرر أبداً أن نتأثر بهذا المفهوم عن السلفية وننساق خلفه؛ لأن أسلافنا هم خير أخرجت للناس.

    أعلى أنموذج بشري دب على هذه الأرض في سورة هذه الجماعة أو العصابة المؤمنة التي أخرج الله بها العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، بالنسبة لنا الأمر عكسي: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الإسلام بهذا المنهج القويم.

    مما يزيد الاشتباه في هذا التعبير المهم وهو سلفية المنهج عصرية المواجهة باقي السؤال: أن هذا التعبير يشيع رداً على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فهذا مما يؤكد أن ما فهمناه في محله، وأن المقصود بهذه الثنائية الإشارة إلى البعد الزمني الذي أشرنا إليه، يعني: ما المقصود بالقضايا التاريخية، وإحياء مثل هذه القضايا التاريخية؟

    كثير من الناس يشيرون بهذا التعبير، وكل من هب ودب يشنع على السلفيين؛ بأنهم يحيون قضايا اندثرت كما يفعل كثير من المشائخ، ولعلكم تتابعون ذلك، هذا فيه جناية الحقيقة على منهج أهل السنة والجماعة، وجناية معماة ومغطاة؛ لأن هذه القضايا التي يشيرون إليها هي على قسمين: هناك بعض البدع عادة أهل السنة وعلماء أهل السنة أنهم لا يبدأون بإثارة أي شيء لم يتكلم فيه السلف الأوائل، لكن كانوا كلما ظهرت بدعة وخرج المبتدعة بصورة من صور الانحراف يتصدون لهم، فيؤلفون الكتب ويناظرونه ويناقشون دلالاته من منطلق قوله تبارك وتعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، ومن منطلق قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8].

    فمن هذا المنطلق كانوا يضطرون إلى الرد على أهل البدع، وكانوا يدفعون دفعاً إلى التصدي لهؤلاء المبتدعة، فليست كل قضايا العقيدة كانت رداً على المبتدعة، وهناك منها فعلاً ما كان رد فعل لبعض الضلالات، فاضطر علماء أهل السنة أن يردوا على هؤلاء، لكن إذا انقرضت البدعة، وانقرضت بعض هذه البدع واضمحلت فالموقف الصحيح هو إماتتها والسكوت عنها، وأوضح مثال لذلك: قضية خلق القرآن.

    أما إذا نفس البدعة ظهرت في ثوب عصري جديد .. ظهرت البدعة نفسها، والضلالة نفسها في ثوب عصري جديد، بل تبوأت مراكز التأثير على كل صعيد، فلا شك أن كشف أمرها ودحر شبهاتها من فروض الكفايات، بل إن في ربطها بالفرقة الأم تجسيداً لخطرها، ووجوب سلوك المسلك الذي سلكه السلف الصالح معها، وما في شك أن من أبرز مميزات الدعوة السلفية: تحصين أتباعها ضد هذه البدعة؛ ولذلك لا تكاد تجد فيهم التلون والتقلب في قضايا العقيدة؛ لأن عندهم وضوح شديد في هذه الأمور الأساسية، الدولة الرافضية الخبيثة لما قامت بقيادة الخميني -عليه من الله ما يستحقه- ما اشتبهت أبداً على سلفي سواء في شرق الأرض أو في غربها؛ لأن أصول المنهج هي التي تشدهم إلى الأصل، منهج أهل السنة والجماعة يعطيهم البصيرة في الحكم على مثل هذه الفرق من أول نظرة: بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]، بخلاف غيرهم ممن يهملون العقيدة، بل يعيرون السلفيين بالاهتمام بالعقيدة ممن ذهبوا إلى الخميني ، وذهبوا إلى الشيعة وبايعوه على إمامة المسلمين، وقالوا: رضينا بـالخميني إماماً وزعيماً، وقالوا للشيعة: نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فيم تعذرهم؟ في لعن الصحابة؟ ! تعذره في تكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة؟ ! وأن الأمة كلها ارتدت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق على الإسلام إلا خمسة؟ ! تعذرهم في تكذيب قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]؟ لو كانوا يعرفون ما معنى أهل السنة والجماعة التي ينتسبون إليها كانتساب العوام؛ بل العوام أسلم من هذه الحيثية، فلما غاب عن أنظارهم صفة الفرقة الناجية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة: هي الجماعة}، جماعة الصحابة، أو كما جاء في رواية أخرى ضعيفة: {هي ما أنا عليه وأصحابي}، أو: {هي من كان ما أنا عليه اليوم وأصحابي}؛ لكنها صحيحة المعنى، فإذا كانت الفرقة الناجية هي على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهل يمكن أن الفرقة الناجية تخذل؛ بحيث أنها تقع في موالاة من يكفرون أصحابه ويلعنونهم ويصفونهم بالزندقة؟ ! هل هذا يعقل؟ ! هذه ثمرة إهمال قضايا العقيدة التي لمسناها في كثير من المواقف، ليس فقط في هذه القضية.

    الشاهد: أن البدعة إذا ظهرت من جديد فالرد عليها ليس إحياء لقضايا تاريخية؛ بل هو حالة دفاع عن النفس، أو بتعبير أدق: دفاع عن العقيدة التي هي أعظم الحصون والسدود التي تحمي الأمة، فإذا انهار خط الدفاع الأول الذي هو العقيدة ينهار بعده كل شيء في هذه الأمة.

    فتوعية المسلمين والشباب ضد هذه البدع، وتحصينهم إذا شاعت البدعة من جديد في مجتمعنا لا يسمى هذا إحياء لقضايا تاريخية قد اندثرت، مثلاً: قضايا التوحيد.. قضايا الأسماء والصفات.. الكلام على ضلالات الصوفية، هل هذه قضايا تاريخية اندثرت، أم أن هذا واقع نعيشه ونلمس آثاره؟ ! وبالذات في بلاد الأعاجم ومع الأعاجم من المسلمين.

    كنت قريباً مع شاب يعيش في بريطانيا من مورشت التي هي الجزيرة التي بجانب مدغشقر في جنوب أفريقيا في الشرق، هذا يتبع فرقة صوفية تسمى النقشبندية، وشيخهم الكبير موجود في جزيرة قبرص، يحكي أشياء عن شيخه بمنتهى الانبهار؛ من أنه يعلم الغيب، وأنه يعلم ما في الأرحام، وأنه يعلم ما يكون غداً، قلت: هذه صفات الإله! يقول: لا، لكن الله هو الذي يعلمه! ! ضلال في ضلال.

    يقول: إن الحائط انشق لشيخه، وظهرت هالة من النور، ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً طفل صغير، ويقول له: هذا هو المهدي، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام سلمه المهدي حتى يعمله الطريقة إلى حين خروجه، وأن المهدي الآن موجود.

    فيقول لي: إن شيخه الآن يقوم بتعليم المهدي.

    فهل حينما نتكلم في التحذير من ضلالات الصوفية، والقديانية والبهرية وهذه الفرق الضالة، وتوعية الناس بالعقيدة، هل في هذا إحياء لقضايا تاريخية، أم أن هذا شيء نعيشه الآن؟

    أما المعتزلة فتكاد تكون الآن مسيطرة على مرافق التعليم في الجامعات، في أقسام الفلسفة وغيرها، يكاد الفكر المعتزلي هو الفكر الذي يتستر خلفه العلمانيون الآن، الذين لا يريدون أن يطعنوا في الإسلام صراحة؛ حتى لا تنكشف حيلهم؛ لكن يتسترون وراء هذه الفرق ويحيون هذه المناهج، وبالذات منهج المعتزلة. القدر كمثال: هل الكلام في القضاء والقدر إحياء لقضايا تاريخية ماتت واندثرت؟ كلا. هذا عدم فهم لأصل الإسلام، هل كل قضايا العقيدة هي ردود فعل؟ أم أنه يجب على كل مسلم أن يتعلمها ابتداء حتى يستحق وصف المؤمن، وإلا فما معنى حديث جبريل؟ ! {ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى}، ما معنى هذا؟ كيف نؤمن بالقدر؟ عامة الناس لا يعرفون القضاء والقدر إلا عند نزول المصائب، يقول: هذا قضاء وقدر! كما كانوا يسألون في التحقيقات سؤال أساسي: هل مقتل الفريق بدوي كان قضاء وقدر، أو مدبر؟ فالحادثة الفعلية كلها بقضاء وقدر، فليس لديهم فهم للقضاء والقدر.

    والسؤال المشهور بين الشباب الفارغ الخاوي: الإنسان مخير أم مسير؟ هذه قضية القضاء والقدر فقط، أما قضية القدر بمعنى حقائق وقعت في الغيب يخبرنا بها الوحي الصادق حتى تستقر في قلوبنا، وعقيدة لنا تشكل مفهوماً لنا من صلب الإيمان! فهذا ليس عندهم خبر فيه، وعامة المثقفين تجدهم قريبين جداً من القدرية.

    فالقضاء والقدر عقيدة كسائر العقائد لابد أن نتعلمها من مشكاة النبوة حتى نستحق وصف المؤمن، المؤمن هو الذي يؤمن بالقضاء والقدر، وفي الأحاديث: {ان مت على غير ذلك دخلت النار}، أو {لم تفلح أبداً}، كما قال عبادة بن الصامت لابنه عند الموت: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو أعظم سبب من أسباب النجاة.

    إذاً: قضية مثل هذه القضية أنا أذكرها كمثال وليست مجرد رد فعل، وحدث تاريخي؛ لأن البدع قام المسلمون بالرد عليها، وإذا افترضنا عدم وجود هذه الفرق الضالة، سيبقى واجب علينا أن نتعلم العقيدة، نعرف كيف نعرف الله؟ هذا أصل أصول الدين، معرفة الله، أما هم يسخرون من هذه القضايا ويرفضونها، ويشتغلون بالقضايا النظرية التي لا عمل من ورائها، وهل قضايا العقيدة لا عمل من ورائها؟ بل إن وراءها أخطر الأعمال الذي هو عمل القلب: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225].

    قضية الأسماء والصفات، دائماً يبرزونها على أنها أيضاً قضية جدلية، وربما بعض العلماء اضطروا للكلام بالتفصيل في قضايا العقيدة بطريقة كلامية كرد فعل للبيئة الثقافية التي كانت تواجههم وطبيعة أهل البدع في زمانهم كـشيخ الإسلام وغيره، وصحيح أنه يجب أن تبتعد عن هذا الخوض الكلامي الجدلي أو يفرغ فيه المتخصصين، لكن عموم المسلمين يبقى عليهم واجباً أن يعرفوا ربهم.

    والغريب أن كل الفرق تجعل معرفة الله عز وجل والتوحيد أصل أصول الدين، حتى الفرق الضالة كالمعتزلة أو الخوارج وكما سماه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى وهو من أئمة أهل السنة: بالفقه الأكبر، وسمى الأوراق التي جمعها في العقيدة: الفقه الأكبر، وذلك بالنسبة إلى فقه الفروع.

    فالشاهد من هذا الكلام: أننا ابتلينا ببعض الجهلاء في هذا الزمان، حتى ما تعارف عليه أهل البدع في القرون الماضية هم لا يصلون إلى مستواهم، يقولون: هذه قضايا جدلية، وأحياناً نجد بعض هؤلاء يأتي بهذه القضايا في صورة نكت يضحك عليها الناس، كالسواك، والجلباب، واللحية إلى آخر المنظومة التي تحفظونها، ولا يدرون أن إيمانهم يكون في خطر بهذا الضحك، يضحكون على شعائر الإسلام بحجة أنهم يهتمون بعظائم الأمور، وهؤلاء الناس يهتمون بالسفاسف، فهذا خطر عظيم، وينبغي أن من يوجد في هذه المجالس يقوم وينكر على المستهزئ بآيات الله، ويحذره نصيحة له من هذا الخطر، ويتداول الناس الأشرطة كما يتداولون شرائط الأغاني والأشياء المضحكة، فهذا شيء لا ينبغي السكوت عليه، أن يجعل الناس يضحكون على شعائر الإسلام ويسخرون منه، وهذا ليس بالأمر الهين.

    الشاهد: أن العقيدة ينبغي أن تشغل المساحة العظمى في خريطة الدعوة الإسلامية، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول لله، ويؤمنوا بي وبما جئت به}، فهذا مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    على أي الأحوال: إن فضح سبيل المجرمين سواء كان غزوهم للإسلام من الداخل أم من الخارج فهو من المقاصد الأساسية لهذه الشريعة: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وليست كل القضايا التي تناقشها السلفية هي قضايا تاريخية، وربما أحياناً حصل فعلاً في بعض العصور -كرد فعل للبيئة الثقافية- إطالة واستطراداً كثيفاً في بعض هذه القضايا التاريخية، وحتى ربما قضايا كلامية وفلسفية، ولكن هذا نرفضه ولا نتبعه إذا لم يوجد في عهدنا مثل ما وجد عندهم؛ لكن يبقى بعد هذا أصل الدين وقضايا التوحيد لا بد أن تتعلمها حتى تستحق وصف المؤمن، تؤمن بالله، كيف تؤمن بالله؟ تؤمن بملائكته، كيف نؤمن بالملائكة؟ يعني تستوعب النصوص، هل نؤمن بالملائكة عن طريق العقل؟ لا. سبيل للعقل كي ندرك هذه الأشياء، كيف يعرف العقل أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؟ من أين يأتيه هذا الخبر؟ كيف يعرف كل النصوص التي وردت في أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى؟ العقيدة تعرف عن طريق التلقين، والتلقين يكون عن طريق الوحي، ونحن نأخذ هذه الأخبار لتستقر في قلوبنا ونصدقها؛ حينئذ نستحق وصف الإيمان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796524