إسلام ويب

شرح الأربعين النووية [35]للشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله عز وجل كامل شامل لجميع أمور الحياة؛ وذلك أنه جاء بكل ما يصلح الإنسان في دينه ودنياه، وفي معاملته مع ربه ومعاملته مع الخلق، ومن ذلك ما بينه الشرع الحنيف في كيفية قسمة الميراث بين ورثة الميت، وكذلك بيان المحرمية من النسب ومن الرضاعة، وكذلك بيان حرمة الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
    الحديث الثاني والأربعون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

    هذا الحديث هو آخر كتاب النووي الأربعين، وكما هو واضح أن الكتاب ليس فيه أربعون حديثاً، بل هي اثنان وأربعون حديثاً، ولعله ذكر الأربعين تغليباً وحذف الكسر الذي هو بعد الأربعين، فقال عنه: الأربعون.

    وهذا الحديث هو من الأحاديث القدسية التي يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

    ذكر بعض أسباب المغفرة

    هذا الحديث مشتمل على ثلاثة من أسباب المغفرة:

    السبب الأول: كون الإنسان يدعو الله ويرجو المغفرة.

    والثاني: كونه يستغفر.

    والثالث: كونه لا يشرك بالله شيئاً، يعني: يخلص لله في عمله، ويكون سالماً من الشرك.

    سعة رحمة الله عز وجل

    قوله: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)، يعني: أنك إذا دعوت الله عز وجل وألححت عليه في الدعاء وطلبت منه المغفرة ورجوت الله عز وجل ولم تيئس فإن الله تعالى يغفر لك ما كان منك من الذنوب جميعاً ولو تكررت ولو كثرت ولا يبالي، وهذا نظير قول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    فإذاً: من أسباب المغفرة كون الإنسان يدعو الله ويرجوه أن يغفر له، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يجيبه ويغفر له.

    ومغفرة الذنوب هو سترها عن الخلق والتجاوز عنها بحيث لا يعاقب عليها، هذا هو مغفرتها؛ لأن الغفر هو الستر، ولهذا قيل للمغفر: مغفر لأنه يستر الرأس ويغطيه عن السهام.

    فغفر الذنوب سترها عن الناس وعدم إظهارها وحصول ستر الله عز وجل للعبد فيها، وكونه يتجاوز عنها فلا يؤاخذ عليها ولا يعاقب عليها، فيكون كأنه لم يكن، ولكن هذا يكون مع التوبة إلى الله عز وجل، فالإنسان عليه أن يرجو ويدعو وهو تائب لا أن يكون مصراً على الذنب وهو مشغول بالذنب ومهموم بالذنب وشغله متعلق بالذنب وفكره متعلق بالذنب ثم يقول: اللهم اغفر لي، فإن هذا مما يكون على اللسان دون تواطؤ القلب عليه، وإنما يكون الاستغفار نافعاً إذا تواطأ القلب واللسان على ذلك، وكان بتوبة من الله سبحانه وتعالى.

    قوله: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)، يعني: هنا بين كثرة الذنوب وأنها تبلغ عنان السماء، ويحتمل أن يكون المراد بعنان السماء أنها تصل إلى السماء بكثرتها، أو يقال: إن المراد بالعنان هو السحاب، أي: أنها تبلغ إلى السحاب، أو مع العلم أن الإنسان إذا نظر فإن الذنوب يكون حجمها ومقدارها بالغاً هذا المبلغ، فإذا ما كثرت الذنوب وبلغت هذا المبلغ وعظمت هذا العظم وتاب الإنسان منها واستغفر الله عز وجل، فإن الله تعالى يغفر له ويتوب عليه.

    شروط التوبة

    التوبة لابد فيها من شروط: الأول: أن يقلع الإنسان من الذنب، بمعنى: أن يترك الذنب الذي وقع فيه نهائياً ويتخلص منه ويبتعد عنه.

    الثاني: أن يندم على ما مضى، بأن يندم على فعله الماضي وعلى ذنوبه التي وقع فيها.

    الثالث: أن يعقد العزم في المستقبل على ألا يعود إلى ذلك.

    هذا إذا كان الذنب في حق من حقوق الله وفيه كفارة عليه أن يأتي بالكفارة، وإن كان يتعلق بحقوق الآدميين.

    فالشرط الرابع: أن عليه أن يعيد حقوقهم إليهم أو يطلب منهم الحل والمسامحة.

    خطر الشرك وفضل التوحيد

    قوله: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً آتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا فيه أن ترك الشرك والسلامة منه وإخلاص العمل لله عز وجل سبب من أسباب مغفرة الذنوب، فإن الشرك إذا لم يتب منه لا يغفر، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فذنب الشرك لا يغفر، وصاحبه معاقب ومخلد في النار أبد الآباد، ولا يخرج منها بحال من الأحوال.

    وأما ما كان من الذنوب دون الشرك فأمر صاحبها إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وتجاوز ولم يعاقبه على ما حصل منه من الذنوب، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه لا يخلده في النار ولا يعذبه عذاب الكفار، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله تعالى أن يبقى فيها لمعاقبته على ما حصل منه من الكبائر، ولكنه بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.

    فإذاً: لا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها، وأما أهل الإيمان والتوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً فإنهم وإن بقوا في النار ما بقوا وإن مكثوا في النار ما مكثوا فإن الله تعالى يخرجهم منها ويدخلهم الجنة، كما جاء في هذه الآية من سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله عز وجل.

    وكذلك جاءت الأحاديث المتواترة الكثيرة في إخراج أهل الكبائر من النار بشفاعة الشافعين وبعفو أرحم الراحمين؛ فإنها تدل على خروج من كان من أهل التوحيد من النار إن دخلها، وإذا شاء الله تعالى أن يعفو عنه فإنه لا يدخلها، ولهذا يقول الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض) أي: ملئها أو ما يقارب ملأها.

    (خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً) يعني: سليماً من الشرك؛ لأن وجود الشرك لا يغفر الله تعالى معه الذنوب، ولهذا فإن المشركين يؤاخذون على شركهم بالله وعلى أعمالهم الأخرى التي يأتون بها مع الشرك؛ والكفار يتفاوتون في الكفر ويتفاوتون في التعذيب في النار، ويتفاوتون في إيذاء المسلمين في هذه الحياة الدنيا، فمنهم من يكون مع كفره يؤذي المسلمين، ومنهم من يكون مع كفره يأتي بالأمور المنكرة والأمور القبيحة فيكون بذلك أسوأ ممن ليس عنده إلا مجرد الكفر، كما قال الله عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، ولهذا كان أصحاب النار في النار دركات بعضهم أسفل من بعض، كما أن أهل الجنة في الجنة درجات بعضهم أعلى من بعض، فأهل الجنة يتفاوتون بالرفعة وأهل النار يتفاوتون بالسفل والنزول في النار، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546618

    عدد مرات الحفظ

    777249994