إسلام ويب

ضرورة الإيمانللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان ضروري لكل فرد كي يسعد ولا يشقى، وضروري لكل مجتمع كي يتماسك ولا يتحلل، فبالإيمان تغمر الفرد السعادة، وتكتنفه الطمأنينة، ويشعر بالرضا والارتياح. أما المجتمع بغير إيمان فمجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، وبهذا يتبين أنه ينبغي لكل إنسان أن يعرف الوسائل الموصلة إلى الإيمان الصحيح، والأمور التي تحبط هذا الإيمان.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    كلمة هزت مشاعري، وكادت أن تخنقني العبرة، قالها أخي المقدم ولست لها بأهل، وهي: أن يكون لي أيادٍ بيضاء على هذه المدرسة، فحقيقة الفضل لله وحده قبل كل شيء، ثم لمن قام على هذه المدرسة وتأسست على يديه من الإخوة والزملاء، ثم لمن واصل الطريق وأكمل البناء إلى هذه الساعة المباركة وإلى ما بعد ذلك -إن شاء الله- حتى تحقق هذه المدرسة رسالتها، وتؤتي أكلها في إخراج جيل مسلم قرآني يعرف كيف ولماذا يعيش؟ وما هي رسالته في هذه الحياة؟

    وزاد من ألمي أن نظرت إلى هذه الوجوه بعد طول غياب، وطول شوق، فإن النظر إلى وجوه أهل العلم والقرآن ومجالستهم ومحبتهم تعتبر قربة إلى الله عز وجل.

    وأنا أهنئكم وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجزي القائمين على أمركم من مدرسين وإدارة كل خير، فهم هنا لا يؤدون وظيفة رسمية يتقاضون عليها أجراً، وإنما يمارسون رسالة أنيطت في أعناقهم، وهي من أساسيات وظائفهم في هذه الحياة أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل، وأنتم في هذه المؤسسة القرآنية لستم طلاباً كبقية الطلاب في بقية المدارس الذين يطلبون العلم لنيل الشهادة، وللحصول على الراتب والمرتبة، وبالتالي الوصول إلى ما يتمناه الإنسان من أمانٍ مادية بحتة تتمثل في: منصب وجاه ومركب ومنزل، وزوجة حسناء، وتنتهي طموحاته عند هذا الحد المهين الذي هو طموحات كل كافر على وجه الأرض، وليس للكافر بعد هذا أي هدف.

    لا. هذه ليست أمانيكم ولا أهدافكم، بل أنتم طلاب علم وخدمة لكتاب الله وحفظة لقرآنه، التحقتم بهذه المؤسسة القرآنية واخترتموها اختياراً من بين سائر المدارس؛ لتعيشوا في ظل القرآن ولتتربوا على منهجه، ولتتخلقوا بخلقه؛ وليرى الناس في المجتمع نموذجاً من البشر ما رأوه في غير هذه المؤسسة؛ لأنها تستظل بظل القرآن، هذه هي أهدافكم! وإذا صحت منكم النيات، وصلحت منكم المقاصد، وكان هذا الغرض؛ بارك الله في العمل مهما كان قليلاً، وبارك الله في الجهد مهما كان ضئيلاً، وأوتي الإنسان خير الدنيا ونعيم الآخرة، وإني لأرجو الله تبارك وتعالى أن تكون هذه الأهداف الكريمة، وهذه المقاصد النبيلة متوفرة في نفوسكم، وفي نفوس المدرسين والقائمين على أمر هذه المدرسة من الإداريين، هذا ما أتوقعه إن شاء الله.

    أما موضوع الكلمة والتي لم أوافق عليها ابتداءً خصوصاً في مدرستكم؛ لأن من يأتي ليلقي كلمة أو موعظة في مدرستكم كمن يجلب التمر -كما يقولون- إلى نجران، فماذا أقول لكم، أو أوجد من فكر أو عظة لمن انتظر منكم الموعظة، وممن أهرب إلا لمن إليه المهرب، ولكن وبإلحاح من الإخوة قبلت لا على أني سأفيد ولكن لعلَّ الله أن يجعلني مستفيداً، ولأحظى بالنظر إلى وجوهكم، فوالله إن اجتماعي بكم والنظر إلى هذه الوجوه المباركة في هذه الساعة لهي من أغلى الأماني، ومن أحلى الساعات في حياتي، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا جميعاً شقياًولا محروماً.

    الإيمان هو التفسير الحقيقي للحياة

    الإيمان هو الذي يقدم التفسير الحقيقي لهذه الحياة؛ لأن هذه الحياة لغز حارت في فهمه العقول في القديم والحديث، وترددت في عقول الناس عدة أسئلة عن هذه الحياة، ما هذه الحياة؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين سأذهب بعدها؟ حتى قال شاعر والكفر والضلال تساؤلات تدل على منتهى التيه الذي يعيش فيه، وعلى منتهى الضياع الذي يعاني منه، والفراغ الذي يقتل روحه:

    جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

    ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

    وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت

    كيف جئت؟

    كيف سرت؟

    كيف أبصرت طريقي؟

    لست أدري

    ولماذا لست أدري؟ لست أدري

    وهذا منتهى الضياع؛ لأنك لا تدري من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وما هو الهدف والغرض من خلقك؟ وماذا سيكون بعد هذه الحياة؟ لا تدري إلا إذا تعلمت من الله؛ لأن مجرد العقل والذكاء فقط ليس كافياً لتلقي العلوم، فلو أتينا بشابٍ من أغوار تهامة، أو من الصحراء تتوفر لديه عوامل الذكاء، وأساسيات النبوغ، وطلبنا منه دون أن نعلمه أبجديات اللغة العربية، وقلنا: اقرأ لنا هذه الرسالة بذكائك، هل يستطيع الشاب الذي لم يتعلم الحروف الهجائية أن يقرأ الرسالة بالذكاء فقط، أم لا بد من المعلم؟ لا بد من المعلم.

    ولو عرضنا عليه مسألة رياضية مكونة من مجهولين، وطلبنا منه فك الأقواس وإيجاد المجاهيل؛ بناءً على المعاليم الموجودة، لكان ذلك أشد صعوبة عليه؛ لأنه لم يدرس الرياضيات.

    ولو طلبنا من الإنسان الذي لا يتقن اللغة الإنجليزية أن يقرأ رسالة باللغة الإنجليزية وهو لا يعرف الحروف الإنجليزية فإنه لن يتمكن بذكائه من قراءة هذه الرسالة.

    إذاً: فالعقل وحده ليس كافياً في الحصول على المعارف والعلوم، بل لا بد من المعلم، والذي يعلمنا لا بد أن تكون لديه الخبرة والمعرفة والقدرة والهضم الكامل لمادته حتى يكون تعليمه مفيداً، وإذا كان فاقداً للمعلومات كان تعليمه خاطئاً، فإذا ذهبت بمسألة رياضية عند مدرس العلوم لم يعرفها، وإذا أتينا بحقيقة هندسية عند مدرس اللغة العربية لم يعرفها، فلا بد من الاختصاص، وهذا وارد في حياة الناس وفق سنّة التطور التي هي نظام يشهده ويلمسه كل إنسان فيما ينبغي له أن يتطور، ولا تنطبق هذه القاعدة على ما ينبغي له أن يثبت من أمور هذه الحياة.

    إذاً: فنحن لا نعرف من أين جئنا وإلى أين، ولماذا جئنا إلا إذا تعلمنا من الله عز وجل، ويوم ألا نتعلم من الله فسوف نجيب على هذه التساؤلات بإجابات خاطئة، ويترتب على أخطائنا أخطاء في السلوك، والعقائد، والعبادات، والمعاملات؛ لأن العلم الذي يحمله الإنسان للإجابة على التساؤلات خاطيء.

    ولذا يوم أن تعلمت البشرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علمه الله بوظيفة، ومن أين أتى الإنسان، وإلى أين سينتهي بعد هذه الحياة، أخذت البشرية الإجابات الصحيحة على هذه التساؤلات فسعدت، وهيمن العدل والأمن والطمأنينة والاستقرار والسكينة على قلوب أهل الأرض.

    ويوم أن تخلت البشرية عن الإجابات الربانية، والنظم المحمدية التي جاءت بها رسالة الإسلام، وبدأت تجيب على الأسئلة بإجابات من عندياتها ضلت وتاهت وانحرفت، وما يُلاحظ اليوم من عدم وجود الطمأنينة والقلق الذي يسيطر على العالم، والاضطراب والشذوذ الأخلاقي والجنسي، والتطاحن والتسابق من أجل التدمير، كلها نتائج حية لعدم معرفة الإنسان لماذا جاء؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين سيذهب بعد هذه الحياة!

    الإيمان أول واجب على الإنسان تعلمه

    من أول المهمات على الإنسان أن يتعلم الإيمان؛ لأن الإيمان ليس أمراً جانبياً على هامش الوجود، بل هو أمرٌ رئيسيٌ في صلب حياة الإنسان؛ لأنه يفسر لك قضية مصيرك ووجودك، إنها قضية جنة أبدية أو نار أبدية، وإن قضية المصير لا يُجازف فيها؛ لأن المجازفة فيها مجازفة خاسرة، يمكن لك أن تجازف في كل قضية؛ لأن لكل قضية ومجازفة حلاً ومخرجاً إلا قضية المصير، فإذا مات الإنسان وقابل ربه وانكشفت أوراقه وأظهرت حساباته ووجد أنه خاسر فكيف يصححها؟ هل هناك إمكانية للتصحيح، أم أنه خطأ لا يصحح؟

    لذا كان للعاقل أن يهتم بقضية مصيره حتى لا يخطئ خطأً يخسر فيه نفسه، ويخسر فيه دنياه وأخراه، وقد فكر الكثيرون من العقلاء في القديم والحديث وأجابوا بعقولهم على إثبات العقيدة في الله عز وجل، بطرقهم الخاصة بعيداً عن الرسالات والأديان التي نزلت على الأنبياء.

    فمنهم من اعتمد على داعي الفطرة: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم:10] .. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] إن داعي الفطرة يصرخ بملء صوته: إن لهذا الكون خالقاً، وإن هذا الكون لم يُخلق عبثاً، ولكن هذا الداعي يُغمر ويُسكت بما يغطى عليه من الشبهات، أو يطغى عليه من دواعي الشهوات، وبعض الناس يتمرد على شهواته ويستعلي على شبهاته فيصل إلى الحقيقة عن طريق داعي الفطرة.

    وبعضهم اعتمد على مبدأ يسميه العقلاء: مبدأ السببية، وهو أن لكل حدثٍ محدث، إذ لا يوجد في الكون شيء بغير محدث، فلو قلت لكم الآن: إن هذا الجهاز وهو لاقط يقوم بالتقاط الصوت وتحويله عبر السلك إلى المكبر، والمكبر يضخم هذا الصوت، ويقوم بتحويله عبر الأسلاك إلى السماعات، فلو قلت لكم: إن هذا المكبر وهذا الجهاز وهذه السماعات وجدت من غير صانع، وكان هذا المكبر وهذا الجهاز في القرون الساحقة القديمة قطعة من الحديد، والسماعة هذه -أيضاً- كانت قطعة من الحديد، ولكن مع الزمن وتوالي الدهور والعصور، وتعاقب السنين والأحقاب هبت الرياح من هنا ومن وهنا، وجاءت الرياح تحمل الحجارة من هنا، واستطاعت عوامل التعرية أن توجد هذا الجهاز هكذا، هل يمكن أن يكون هذا الكلام معقولاً؟!! إنه غير معقول بل مستحيل!

    ستقولون لي: حسناً! وهذه السماعة من الذي علقها هناك؟ قلت: كذلك السماعة، جاءت الرياح والأعاصير يوماً من الأيام فأخذت بها وعلقت واحدة في هذه الزاوية والأخرى في الزاوية الأخرى، صدفة! ستقولون: عجيب!

    حسناً: هذه السماعة نحن نرى فيها أشياء، فهناك جسم داخل هذه السماعة فمن الذي ركب هذا الجسم؟ فقلت: هذا ليس صعباً -أيضاً- فهذا أخذته الرياح صدفة ووضعته في السماعة، وأصبح يكبر الصوت، ما رأيكم هل هذا الكلام معقول أم أنكم سوف تقولون عني: أحمق فلا يمكن أبداً أن الرياح وعوامل الزمان والتعرية والسنين هي التي أوجدت هذا الجهاز، أو أوجدت هذا اللاقط أو هذه السماعة.

    سبحان الله! لا يمكن أن تكون هذه إلا بمهندس أو بمخترع، أو بإنسان يفهم كيف يربط الأسلاك والسماعات في الجهاز، وكم قدرة هذا الجهاز من الوات، وكم قدرته من الفولت، (210) أو (110)، بحيث يتبع تعليمات هذا الجهاز حتى يعمل، فإذا اختل شيء في تشغيل هذا الجهاز لم يعمل وبطل مفعوله.

    التفكر في النفس من الإيمان

    لنتفكر فيك أيها الإنسان! نأتي إليك فقط ولا نذهب بعيداً؛ لأن التفكير في الكون يجب أن يسبقه التفكير في النفس؛ فألصق الأشياء بنفسك، فإذا كنت لا تعرف نفسك فلا يمكن أن تعرف ربك، والله يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] فلو فكرت في جزئياتك أنت، وحكمة الله في خلقك، لوجدت أنك خُلقت لحكمة، وأن كل عضو فيك، بل كل خلية وشعرة وعظم، ومفصل، ونقطة، وعرق خلق فيك لحكمة، ولا يمكن أبداً أن يوجد فيك شيء إلا لحكمة.

    آخر ما قرأت في جريدة الشرق الأوسط بحث علمي حديث، هذا البحث يقول: إن الأطباء اكتشفوا أن في رجل الإنسان عروقاً وأوردةً وشرايين ليس لها أي غرض، يعني: موجودة دون أن يكون لها أي دور في عملية إمداد الجسم عبر الشعيرات الدموية بما يحتاجه من الدماء، وإنما تكون هذه الأوردة وهذه الشرايين مملوءة بالدماء وتصل إلى نقطة معينة مسدودة ولا تذهب هنا ولا هنا، وبعد ذلك وجدوا أثناء البحوث العلمية أن هذه العروق والأوردة هي بمثابة قطع غيار يمكن استعمالها في إيجاد حلول لأمراض القلب، فإذا وجدنا إنساناً عنده امتداد في الشريان أو انقطاع أو انسداد في الأوردة، وهذه لا يمكن أن يركب لها قطع بلاستيكية، وحاولوا أن يركبوا قطعاً بلاستيكية فلم تنجح، ثم ذبحوا خنزيراً في لندن وأخذوا قلبه ووريداً من أوردته ووضعوها في جسم الإنسان فتعفن؛ لأن الخنزير خبيث -وهم مثله خنازير، فمن خنزير إلى خنزير- لكن بالرغم من هذا لم تصلح خنازيرهم، فوجدوا أن هذا الشريان الموجود والذي ليس له دور أبداً لا يمكن أن يبقى فقطعوه واستفادوا منه، ووضعوه في القلب وصلح القلب.

    من كان يعرف أن هذا الشريان له غرض؟ لم يكن يعرف أحد، لكن البحوث العلمية والكشوفات الآنية كل يوم تثبت أن لهذا الإنسان حكمة، وأن في كل جزئية منه حكمة تبدأ من رأسه إلى أخمص قدمه، ويخفى على الناس كثيرٌ من حكم الله تبارك وتعالى في الخلق، ولكن الإنسان مأمور باستمرار أن يفكر في نفسه، ولو فكر في رأسه فقط وما أوجد الله فيه من الحكم، أو في رقبته فقط وما أوجد الله فيها من الحكم لوجد الكثير.

    هذه الرقبة هي جزء يربط بين الجذع والرأس، أو (زنبرك) تتحرك ذات اليمين وذات الشمال بغير تعب، ولو جعل الله الرقبة متصلة بالرأس والجذع عبر قطعة من الخشب لوجد الإنسان صعوبة بالغة في التحرك والتفاهم مع الناس، فلو أراد أن ينظر إلى الشمال لزم أن يحرك جسمه كله، فلو أن رقابكم لا تمكنكم من الحركة ذات اليمين وذات الشمال لصعب عليكم الأمر، إذ كل واحد يفترض به وهو جالس أن تكون عينه أمامه، ولا يستطيع أن يراني أنا إلا الذي أمامي فقط، لكن الله أعطى الرقبة قدرة على الحركة ذات اليمين وذات الشمال لتسهيل التخاطب والالتفات بغير صعوبة، وهذه حكمة من الله.

    وترون يوم أن يصاب الإنسان بشد عضلي في عضلة الرقبة، كأن تنام على وسادة مرتفعة -مثلاً- فأنت معتاد على أن تنام على وسادة مستوية، لكن يحدث في ليلة من الليالي أنك لم تجد وسادتك، أو كنت ضيفاً وأعطاك المضيف وسادة كبيرة أو أنها أصغر من وسادتك، فنزلت العضلة أو طلعت، فيحصل عندك شد عضلي، أو تخرج من الهواء الرطب المشبع بالرطوبة إلى هواء لافح فيحصل عندك شد عضلي، هذا الشد العضلي -يسمونه العند- لا يمكنه من الحركة، فتراه لا يرى إلا أمامه، ويقول: رقبتي، حسناً! تعال قال: والله لا أريد أن أرقد أو أقعد .. سبحان الله! من أجل رقبته، عضلة بسيطة، كيف تسلبه راحته!

    يدك هذه بمثابة الجنديين اللذين يدافعان عنك، وتصوروا إنساناً بغير يدين كيف يدافع عن نفسه؟ فإذا جاءته بعوضة أو ذباب وجلس على عينيه أو حيوان يريد أن يفترسه، أو ثعبان يريد أن يلدغه، كيف يصنع؟ ليس معك إلا أن تعض، ولا يمكنك أن تعض كل شيء، وربما تعض الشيء هذا فيدخل في فمك فتموت، فالله جعل لك جنديين معلقين، ثم جعلهم الله في أعلى جسمك من أجل أن تستطيع الدفاع بهما عن كل جسمٍ، إذ لو كانت اليدان في الركبتين فإنه يلزمك أن تدني رأسك من أجل أن تأكل -مثلاً- لكن الله جعلها في أعلى الجسد من أجل أن تنال بها رأسك، وركبتك، وقدمك و... بسهولة.

    ثم حتى تكون الفائدة كاملة من اليدين فصَّل الله اليدين، إذ لو كانت اليدان على شكل عصا مثل (الصميل) فكيف ستستعملها؟ ما تنفع إلا للمضاربة، فتضرب بها هذا، وتضرب بها هذا، لكن الله ما خلقك للمضاربة، ومن أجل أن يعطيك صميلاً هنا وصميلاً هنا، لا. فالله خلقك للعبادة، ففصل يديك لتعينك عليها فوضع لك عدة مفاصل، أول مفصل في الإصبع، ويليه مفصل ثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس، هذا التفصيل له غرض من أجل أن تستطيع الانتفاع به، إذ لو كانت حتى أصابعك هذه من دون مفاصل فإنك لن تستطيع أن تحمل مسماراً واحداً، فلو فُقد هذا التفصيل في يديك، فكان هناك مفصلان فقط في الذراع، بينما الأصابع لا يمكن أن تُعطف لما استطاع إنسان في الدنيا أن يشد مسماراً على مسمارٍ، وإذا ما استطعنا أن نشد المسامير، فهل من الممكن أن تقوم حضارة أو صناعة، هل من الممكن أن يكون هناك سيارات وطائرات، وما حدث من التطور الصناعي؟ لا. لا يمكن؛ لأنك بماذا ستشد المسمار: بسنك، أم بالعصا؟ لا يمكن أبداً. لكن الله تبارك وتعالى أعطاك هذا الجسم وفصله تفصيلاً، وجعل لك هذه القدرة من أجل أن تعمر الكون وتعمر الدنيا والآخرة.

    فهذا فقط مما يظهر لك حكمة الله عز وجل في خلقك أيها الإنسان! ومبدأ السببية اتفق عليه جميع العقلاء؛ لأن لكل سبب مسبب، ولكل حدثٍ مُحدِث، حتى الطفل الصغير لو جئت به وعمره سنة واحدة، لا يعقل ولا يفهم شيئاً ثم تعال من وراء ظهره وهو جالس ودقه في ظهره، ماذا يفعل؟ يلتفت ليرى من الذي دقه؛ لأن عنده في فطرته أن لكل دقة داق، وقد جربت هذا والله مع طفلة صغيرة عندي، كانت جالسة فأتيت ودققتها في ظهرها فالتفتت، سبحان الله! إذاً هي عندها يقين، وعندها في فطرتها أن لهذا الحدث مُحدِث.

    أيضاً حتى في طباع الحيوانات، الآن لو كنت في الصحراء وهناك غزال، أو ضبع، أو نمر، وسمع طلقة رصاص في مكان معين، فإنه يلتفت من أين جاءت هذه الطلقة؛ لأنه يهمه أمر الطلقة، ويعرف أن هذه الطلقة لا يقصد بها غيره، فمن أساسيات وجوده أن يكون حذراً على حياته، فهذه طلقة خارجة عن العادة، وشيء ليس بمألوف عنده، فمبدأ السببية وارد.

    ومن الناس من اعتمد هذا المبدأ حتى وصل إلى العقيدة في الله عز وجل.

    ومنهم من جعل المسألة حسابية ورياضية يعني: تجارية (1+1=2) كيف؟

    قالوا: إن الأضمن لحياتنا وآخرتنا الإيمان بالله؛ لأننا بالإيمان لا نخسر شيئاً، بل نكسب كل شيء، وبالكفر لا نكسب شيئاً بل نخسر كل شيء، إذاً الأضمن لنا والأحوط هو: الإيمان، حتى قال شاعرهم وفيلسوفهم وهو أبو العلاء المعري وهو فيلسوف ملحد:

    زعم المنجم والطبيب كلاهما     لا تبعث الأجساد قلت: إليكما

    إن صح قولكما فلست بخاسرٍ     أو صح قولي فالخسار عليكما

    ونحن في دين الله لا نقبل هذا المبدأ حقيقة؛ لأننا لا نبني ديننا على الاحتمالات، فإن كان فأنا رابح وإن لم يكن فلم أخسر شيئاً، لا. وإنما نأخذ أدلتنا باليقينيات، ونتقبلها بالجزم الذي يبلغ جذور وأعماق النفس، بحيث لا يخالط الإنسان منها أدنى شك؛ لأن الشك في دين الله يورث الكفر والعياذ بالله، لكني أورد لكم هذه القضية على أساس أنها قضية عقلية، وصل إليها العقلاء وقالوا: الأحوط لنا أن نؤمن بالله، حتى قال أحد الفلاسفة الغربيين الذين يعيشون في السويد وهو: باسكال، يقول: إما أن تؤمن بالله وإما ألا تؤمن، فماذا تختار؟ يقول: قبل الاختيار توازن بين ما يمكن أن تربحه بالإيمان وما يمكن أن تخسره بالكفر، ثم يقول: إنك بالإيمان تربح كل شيء، ولا تخسر شيئاً مهماً، وإنك بالكفر تخسر كل شيء ولا تربح شيئاً مهماً.

    فالإيمان حقيقة مربح؛ لأنه يدعوك إلى الفضيلة؛ والصدق والوفاء والبر والعفاف والطهر والكرم والمروءة والشجاعة والنجدة وإلى كل الأخلاقيات التي تستقيم بها حياة الناس، فبالإيمان تربح كل هذه الأشياء، وتربح -أيضاً- الجنة في الآخرة، ويدعوك الإيمان -أيضاً- إلى أن تترك الزنا، والغناء واللواط، والخمور والفجور، والزور وأكل الحرام والربا، كل هذه الأمور تدعو إليها العقول بدون أديان.

    إذاً: أنت بالدين والإيمان ربحت كل شيء ولم تخسر شيئاً مهماً، خسرت الزنا؛ وهل الزنا مكسب؟ لا. خسرت الخمور، وهل الخمور مكسب؟ لا. خسرت الفجور، وهل الفجور مكسب؟ لا. فأنت لم تخسر شيئاً بترك هذه المحرمات، بل ربحت كل شيء، أما بالكفر والضلال -والعياذ بالله- فإنك تخسر كل شيء، ولا تربح إلا اللعنة والعياذ بالله.

    ولذلك فإن الخيار الأفضل، والبديل الأمثل هو الإيمان، ولا شيء غير الإيمان! ونحن إذا آمنا لا نربح فقط الآخرة كما يتصور بعض الناس، حينما يقول: اهتدِ والتزم وآمن وتمسك لتكون في الآخرة من الفائزين، لا. بل نربح الآخرة ونربح قبلها الدنيا؛ فربحنا في الدنيا بأن نعمرها بطاعة الله، وربحنا في الآخرة بأن نكون في جوار الله عز وجل، فنجد ثمرة سعينا في هذه الحياة، فنحن بالإيمان نكسب الدارين، وبالكفر والعياذ بالله نخسر الدارين، ولا نخاطر بدنيانا لنربح آخرتنا بل نربح دنيانا وآخرتنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088537270

    عدد مرات الحفظ

    777194433