قام المرجفون والمبغضون الذين يتربصون بـ
عثمان رضي الله عنه وأرضاه الدوائر من أهل مصر وغيرهم يتلمسون السقطات على
عثمان ، وما أخذ عليه شيء، بل هي في أنظارهم، فقد أجلاها لنا
ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، فعن
عثمان بن موهب قال: (
جاء رجل من أهل مصر وحج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر ، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فأجبني، قال: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، فقال: الرجل: الله أكبر!) فكأنه يقول: هذه سقطات من الكبائر، فإن الفرار يوم الزحف من الكبائر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها: التولي يوم الزحف)، وذكر أيضاً أنه لم يشهد بدراً، وخير الناس هم أهل بدر، والدليل على ذلك حديث قصة بعث
حاطب بن أبي بلتعة إلى مكة برسالة يقول فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يجند الجنود لكم، فلما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ووصلت الورقة إليه، قال
عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
لا يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، ولذلك العلماء قالوا: إن العشرة المبشرين بالجنة هم أفضل الصحابة ثم البدريين، ثم بعد ذلك أهل بيعة الرضوان، فهو يقول: إنه ليس من أهل بدر، وإنه فر يوم الزحف، وإنه ليس من أصحاب بيعة الرضوان، ولذلك قال له
ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله قد عفا عنه وغفر له، وهذا لقول الله تعالى:
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ 
[آل عمران:155]، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)، وهذا يستنبط منه حكم فقهي، وهذا الحكم وقع فيه اختلاف بين الفقهاء، ألا وهو: هل تمريض الزوجة واجب على الزوج أم لا؟ بمعنى: لو مرضت الزوجة فهل يجب على الزوج أن يذهب بها إلى الطبيب وينفق عليها أم لا؟ فالجمهور على أنه لا يجب، وهذا يجعلكم تستغربون منه جداً، لكن الجمهور الذين قالوا: إنه لا يجب على الزوج أن يمرضها قالوا: إن على الزوج أن يسكنها من حيث يسكن، ويطعمها من حيث يطعم، والغرض المقصود أن جمهور الفقهاء قالوا: لا يجب عليه التمريض، لكن هذه الرواية تثبت قوة من قال بوجوب تمريض الزوجة؛ لأنه تغيب عن واجب، بل هو من أوجب الواجبات، لكن ممكن يشكل علينا ويشوش علينا أن معركة بدر لم يكن القصد من الخروج إليها القتال، وإنما خرجوا للعير، فممكن نقول: لا يجب، و
أنس بن النضر تخلف عنها، وكثير من الصحابة تخلفوا عنها، فهذا يدل أنه لا يجب عليهم الخروج، لكن ممكن نقول: إنه تركها من أجل ما هو أوجب، وإن كانت هذه الأدلة تحتمل النظر، لكنها دليل لمن يقول بوجوب تمريض الزوجة.
ثم قال: وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد ببطن مكة أعز من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده، فقال: (هذه عن عثمان) يعني: جعل اليمنى لـعثمان وبايع باليسرى، فهذا يدل على أفضلية عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يده اليمنى كيد عثمان، وفيه دلالة على أنه رضي الله عنه قد بايع بيعة الرضوان، ولا يصح أن يقال: إنه ليس من أهل بيعة الرضوان، بل هو من أهل بيعة الرضوان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وهذه القصة مشهورة، وهو أنه طلب من عمر أن يذهب وافداً إلى قريش، فقال: لا أحد يحميني منهم، ولي عندهم ما عندهم، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
قال بعض العلماء: يقال: إنه لم يتزوج أحد قط ببنتي نبي غير عثمان بن عفان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه ابنتيه رقية وأم كلثوم، ولذلك سمي ذا النورين رضي الله عنه وأرضاه.
و
عثمان بن عفان له فضائل كثيرة، فهو من السابقين في الإسلام، وهو الذي أنفق ماله كله أو جله في سبيل الله، فخاب وخسر من قال: إنه كان يأخذ من بيت مال المسلمين، يعني: الذين يقولون بالحرب الدائرة على
عثمان أن من المآخذ عليه أنه كان يأخذ من بيت مال المسلمين، وينفق على نفسه وينفق على ذويه، وحتى
عثمان نفسه قال: أفيكم
طلحة؟ أفيكم
علي؟ واستشهدهما على أنه كان أغنى المسلمين مالاً، وأنفق جل ماله في سبيل الله، وكفى
عثمان فضلاً أن
عبد الرحمن بن عوف عندما مات
عمر بن الخطاب وكتب في الوصية أن الخلافة تكون في رجل من الستة أصحاب الشورى، فلما اجتمعوا نزل كل رجلين لواحد من هؤلاء، فصارت ثلاثة أسهم لـ
علي وثلاثة أسهم لـ
عثمان فذهب
عبد الرحمن بن عوف فقال لـ
علي لو لم تأخذ أنت الولاية من يكون أحق بها غيرك؟ قال:
عثمان، وقال لـ
عثمان: لو لم تتول إمرة المسلمين من أحق بها غيرك من الموجودين، فقال:
علي بن أبي طالب ، فانظروا إلى الإنصاف، وانظروا إلى إحقاق الحق ولو على النفس، مع أن كل واحد منهما قام ليصلي على
عمر ، فقام
علي يتقدم ليصلي إماماً على
عمر وقام
عثمان يتقدم ليصلي على
عمر فـ
عبد الرحمن بن عوف قال: لا، أنتما في محل اختيار الولاية، فمن تقدم للصلاة منكما فقد تقدم للولاية، وحجبهما عن الصلاة على
عمر رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك
علي يقول:
عثمان ، و
عثمان يقول:
علي ، لكن ظهر فضل
عثمان؛ ولذلك شيخ الإسلام
ابن تيمية تكلم ببصر نافذ فقال: من قدم
علياً على
عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فهم أفضل الناس على الإطلاق، فقال
عبد الرحمن بن عوف : والله ما دخلت بيتاً من بيوت الأنصار ولا المهاجرين ولا جلست مع جماعة منهم إلا ما عدلوا عن
عثمان بأحد، أي: ما فضلوا أحداً على
عثمان ، قال: حتى النساء في خدورهن ما اخترن إلا
عثمان بن عفان؛ ولذلك أجمع المتأخرون على فضل الأربعة
أبو بكر ثم
عمر ثم
عثمان ثم
علي رضي الله عنهم وأرضاهم.
كان مشهد قتل
عثمان مشهداً مزرياً جداً ومشهداً مروعاً، حبس عنه الماء وهو الذي أروى المسلمين حينما عز الماء، انظروا لعل الله جل وعلا أراد أن يوفيه جزاءه جزاءً موفوراً يوم القيامة؛ لأنه لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ما كان هناك سقيا الماء إلا من بئر رومة، وقد تحكم فيها اليهودي الملعون، فـ
عثمان بن عفان ذهب يساوم الرجل وأعطاه وكساه من المال وكان خبيثاً ماكراً فقال: لا أعطيك بئر رومة كلها، لكن هي لك في يوم ولي في يوم، فكان في يومه يحجب الماء عن المسلمين، فجاء
عثمان في يومه فتركها سبيلاً للمسلمين، فكانوا يأخذون يوم
عثمان فلم يبق ماء في يوم اليهودي، فعلم اليهودي أنه لا مربح له بعد ذلك، فعرض على
عثمان أن يشتري يومه، فاشترى يومه وتركها في سبيل الله، ومع ذلك حاصر هؤلاء الظلمة
عثمان ومنعوه الماء حتى مات عطشاً، ولم يكتفوا بذلك بل دخلوا عليه وقتلوه شر قتلة، فرضي الله عنه وأرضاه، وهو من السابقين والعشرة المبشرين بالجنة.
نتمنى أن يمتع الله أعيننا بالنظر إلى وجوههم، ويجعلنا معهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.