وقد بينا أن العلماء اشتغلوا بالإسناد وبالمتن، وأمر الإسناد فيه صعوبة، وقلنا: إن المرحلة الأولى في نقد السنة: أن نتكلم على المتون، وبينا كيف كان الصحابة ينظرون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا: هذا صحيح أو هذا ضعيف.
الآلة الأولى التي تستخدم في نقد متون السنة: هي العرض على كتاب الله جـل في علاه، فما معنى العرض على كتاب الله جـل في علاه؟ يعني: أن كل حديث يأتي لا آخذ به حتى أنظر هل في كتاب الله مايشهد له أم لا؟ وذلك مثل الأحاديث التي ظاهرها التعارض مع الكتاب، فإن كان هذا التعارض من كل وجه ردت، وأما إن أمكن الجمع بين قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم فنقبل؛ لأنها كلها جاءت من مشكاة واحدة.
المقياس الثاني: عرض السنة على السنة، وذلك بالنظر إلى هذه الأحاديث هل تصح عن الرسول أم لم تصح، فعلماء الحديث قعدوا قواعد كثيرة جداً في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، منها: النظر إلى تعدد الروايات التي ظاهرها المخالفة.
مخالفة الثقات لبعضهم مع اتحاد المجلس
وأشهر مثال في ذلك: زيادة الثقة مع اتحاد المجلس، فمثلاً: تسعة من الثقات ذكروا الحديث بلفظ وجاء رجل ثقة فزاد عليهم لفظة، كحديث
وائل بن حجر فقد خالف زائدة -وهو ثقة- غيره من الثقات، فقد روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه، وأما بقية الرواة فقالوا: يحركها، فهنا المجلس متحد.
وأما إذا تعددت المجالس كأن يجلس النبي بعد الفجر ويقول: أحدثكم بحديث فيذكر الحديث، فالصحابة يحملون عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ثم إن الصحابة الذين جلسوا معه في الفجر وحملوا عنه الحديث ذهبوا إلى أشغالهم، فجاء آخر في العصر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفس القضية التي تكلم عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعاد نفس الحديث الذي تكلم به في الفجر، ثم جاء بعد العشاء آخرون وقالوا: يا رسول الله عنت لنا مسألة نسألك عنها، فصادف أن تكون هذه المسألة هي التي تكلم عنها في الفجر وتكلم عنها في العصر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وعقد مجلساً ثالثاً ثم حدثهم بنفس الحديث، فهذا مجلس ثالث لحديث واحد، فالعلماء ينظرون إلى هذه المجالس التي تعددت هل يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بلفظ واحد في المجالس الثلاثة، أم تختلف الألفاظ بتعدد المجالس؟ وهل نجمع بين هذا الألفاظ أم نقول: إنها شاذة ومخالفة للثقات؟ أقول: عند تعدد القصة فإننا ننظر في الأسانيد والمتون، فإذا اختلفت الروايات وكان الرواة كلهم ثقات، فمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه تكون روايته شاذة، وهو قول للشافعي وهو الراجح الصحيح.
وأما مخالفة الضعيف للثقة فهو فتكون منكرة، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض؛ لأننا سنقدم الثقة على الضعيف، وأما إذا كان كل الرواة ثقات، فننظر إلى من هو أتقن، فإن كان للحديث قصة فصاحب القصة هو أتقن من غيره، ومثال ذلك: حديث ابن عباس وأبي رافع في مسألة نكاح المحرم كما سنبين.
كذلك لو خالف الفقيهُ المحدثَ في تصحيح حديث أو تضعيفه فإننا نقدم عالم الحديث؛ لأنه المختص، فهذا أول تأصيل أصله العلماء أن المختص بالأمر هو الذي يقدم.
حكم صيام من أصبح جنباً
حكم الاغتسال من الجماع دون إنزال
المثال الثاني: مسألة الاغتسال من الجماع دون إنزال، يعني: رجل جامع امرأته فأكسل ولم ينزل، فهل يغتسل، أو يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة؟ فهذه المسألة اختلف فيها الصحابة، فهذا
زيد بن ثابت جاءه رجل يستفتيه فقال: جامعت امرأتي فلم أنزل؟ قال: ما عليك إلا أن تغسل ذكرك مما أصابك منها وتتوضأ، وروى حديث: (
إنما الماء من الماء) فسمع بعض الصحابة هذا الكلام فذهب إلى
عمر فقال: إن
زيد بن ثابت يفتي بكذا وكذا، فقال
عمر : ائتني به، فعقد المجلس وجاء بأهل بدر فقال لهم: أرأيتم ماذا يقول
زيد ، فاختلف الصحابة البدريون في ذلك، فمنهم من قال قوله، ومنهم من قال: بل عليه الغسل، فقام
عمر بن الخطاب وأرسل إلى
حفصة ، فقالت
حفصة : لا علم لي بذلك، فبعث إلى
عائشة وبعث إلى غيرها فقالت
عائشة رضي الله عنها وأرضاها: على الخبير سقطت، إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل.
وحديث (إنما الماء من الماء) رواه زيد وأبو أيوب الأنصاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم، فقال عمر : والذي نفسي بيده لو أفتى أحدكم بغير قول عائشة لأنكلن به نكالاً.
نقول: فلو نظرنا إلى أسانيد حديث عائشة وحديث زيد فكلها أسانيد كالشمس، فينبغي أن نجمع بينهما إن أمكن الجمع، لكن قال بعضهم: إن حديث: (إنما الماء من الماء) منسوخ، والصحيح الراجح في ذلك أنه ليس بمنسوخ لكنه مقيد؛ لأن قوله: (إنما الماء من الماء) عام؛ لأن الماء هنا معرف بالألف واللام، فالألف واللام هنا الاستغراقية وهي تدل على العموم، فحديث: (إنما الماء من الماء) مقيد بمسألة الاحتلام أو بمسألة التفكير، فلو أن رجلاً نام نوماً طويلاً عميقاً ورأى في نومه أنه يجامع امرأة ولكنه لم ينزل، فهذا لا يجب عليك الغسل؛ لأن الماء من الماء.
مثال آخر: لو أن رجلاً كان يتفكر في امرأة ولم ينزل، فهذا أيضاً ليس عليه غسل حتى لو أنزل المذي، وإنما عليه الوضوء.
إذاًً: الراجح والصحيح الجمع بينهما، فإذا جاوز الختان الختان فعليه الغسل إن كان في الجماع، ولذلك روى أبو هريرة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها فعليه الغسل) (جهدها) يعني: جاوز الختان الختان.
وكذلك عائشة رضي الله عنها بعد أن روت لهم الحديث أتت لهم بدليل عقلي في هذا فقالت: لقد وجب الحد بالختان ألا يجب الغسل؟ يعني: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب حد الزنا، فإذا وجب الحد وجب الغسل.
حكم نقض المرأة شعرها عند الغسل الواجب
أقسام المتابعة والفرق بينها وبين الشواهد
القاعدة الثانية: إذا اختلفت الروايات فينظرون: إذا تعددت الروايات للراوي وعضدت يحكمون على الراوي الثاني بأنه واهم.
الأمر الثاني ينظرون في الشواهد والمتابعات، والمتابعة: هي موافقة الراوي للراوي في نفس الطبقة، لكن هل يشترط الموافقة في المتن؟ هناك خلاف عريض بين المحدثين، والصحيح الراجح أنه يشترط أيضًا الموافقة في المتن، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لحوم الحمر الأهلية حرام) فيرويه مثلاً: مالك عن نافع عن ابن عمر ، فإذا رواه الليث عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر ، فـالليث هنا تابع مالكاً في ابن عمر ، فاتفقا في الشيخ الأعلى، فتسمى: متابعة قاصرة، لكن لو روى مالك عن نافع عن ابن عمر فجاء الليث إلى المدينة فروى عن نافع عن ابن عمر، فهذه تسمى: متابعة تامة؛ لأنه وافقه في الشيخ المباشر.
أما موافقة المتن للمتن بدون موافقة للسند، فمثل أن تكون الرواية عن ابن عمر فتأتي رواية موافقة لها عن أبي هريرة ، فرواية أبي هريرة شاهدة لرواية ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فهنا قعد المحدثون قاعدة مهمة جداً: وهي إذا اختلفت الروايات نظروا في المتابعات والشواهد، ففي عصر الصحابة مثلاً ننظر هل وافق هذا الراوي غيره؟ مثلاً: لو خالف ابن عباس علي بن أبي طالب فهنا ننظر هل وافق علي بن أبي طالب أحد، فإذا وجدنا أن أكثر من رواه قد وافق علياً فنقول: ضبط علي ووهم ابن عباس .
وهذا كحديث نكاح المحرم، فقد وهّم سعيد بن المسيب ابن عباس في هذا الحديث؛ لأنه نظر إلى أبي رافع قد اتفق مع ميمونة ، واتفق مع يزيد بن الأصم في الروايات، وانفرد ابن عباس برواية أخرى، فاتفاق هؤلاء الثلاثة يبين لنا أن ابن عباس قد وهم في هذا الحديث.
أمثلة على المتابعة والشواهد
تقديم صاحب القصة
هناك قاعدة قعدها العلماء في نقد المتون المتعارضة، وهذه القاعدة هي: أن صاحب القصة يقدم على غيره ممن يحكون القصة، فقد جاء عن
أبي رافع قال: (
كنت السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة ، وقد تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً) فكأنه يقول لـ
ابن عباس : أنت لم تحضر القصة، بل أنا السفير والوكيل، فأنا أتقن منك وأنت قد وهمت في ذلك؛ لأن
ابن عباس قال: (
تزوجها وهو محرم).
والمثال الثاني: قطع الحمار والمرأة والكلب للصلاة إذا مروا بين يدي المصلي، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المرأة والحمار والكلب الأسود إذا مروا أمام المصلي تُقطع بهم الصلاة، فلما سمعت عائشة ذلك قالت: أشبهتمونا بالكلاب والحمير؟ والله لقد كنت معترضة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبلته وهو يصلي، فإن أراد أن يسجد غمزني في رجلي) فكأنها تقول: أنا صاحبة القصة وأنا التي حدث معها هذا الأمر، فقد كنت أنام معترضة بين النبي وبين القبلة فكيف تقولون: إن المرأة لو مرت تبطل الصلاة؟ لكن هنا لم نرجح قول عائشة مع أنها صاحبة القصة؛ لأن صاحبة القصة جعلت المسألة في غير محل النزاع، فقد استدلت بدلالة هي أخص من هذا الذي نتكلم عنه.
مسألة تعدد المجالس واختلاف الروايات
هذه مسألة أخيرة في عرض السنة على السنة: وهي إذا كانت المجالس قد تعددت واختلفت الروايات فالعلماء قالوا في المجالس المتعددة: إذا أثبتنا أن المجالس متعددة فإننا نجمع بين هذه الروايات التي وردت في المجالس، مثال ذلك في المخالفة أو في تعدد القصة: (
أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى ذي الحليفة فصلى وبعد الصلاة أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بالحج والعمرة). وفي رواية أخرى: (
أن النبي صلى الله عليه وسلم استوى على ناقته، فلما استوى على ناقته قال: لبيك اللهم بحج أو بعمرة)، في الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج بعد السلام، والرواية الثانية فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعدما استوى على ناقته، وهناك رواية ثالثة: (
أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما علا شرف البيداء) فعندنا ثلاث روايات، فأي هذه الروايات تكون أصح؟ قال بعض العلماء: الرواية الثالثة هي الأيسر والرواية الأولى هي الأصح، فجاء
ابن عباس ورسم لنا طريقاً واضحاً فقال: لا مخالفة بين الروايات الثلاث: فالذين رووا القصة الأولى ثقات أثبات فلا نوهمهم، والذين رووا القصة الثانية ثقات أثبات فلا نوهمهم، والذين رووا القصة الثالثة ثقات أثبات فلا نوهمهم، ثم قال
ابن عباس : في هذه الحالة نقول: لا نوهم الرواة الثقات ونجمع بينهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا وفعل هذا وفعل هذا، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم من أجل التيسير على الناس، إذ إن هذه الشريعة السمحاء ما جاءت إلا بالتيسير على الناس، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أريد أن أييسر عليكم، لكن من أراد الفضل فإن الفضل كل الفضل والكمال كل الكمال أن تحرم بعدما تسلم في المسجد، لكن إن كنت لم تقلم أظافرك ولم تستعمل السواك كما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم فلك أن تؤخر الإحرام حتى تستوي على الناقة، وهناك تيسير أكبر أن تحرم وأنت على البيداء، فكان هذا تيسير على الأمة، وكان هذا جمعاً لطيفاً من
ابن عباس ، وكان تقعيداً وتأصيلاً لكل محدِّث ينظر في متون السنة هل يضعف أو لا يضعف، أو يقبل كل الروايات من الرواة الثقات دون أن يوهمهم؟ والنظر في تعدد القصة من أهم القواعد، فهناك قاعدة عند أهل الحديث وهي: إعمال الأحاديث أولى من إهمال أحدها، فنعمل بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قدر استطاعتنا، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وهي لا يمكن أن يطرح؛ لأن فيه الفائدة.
فهذه هي القاعدة الثانية التي قعدها العلماء في النظر إلى متون السنة.
القاعدة الثالثة: وهي النظر العقلي: أي: أن يعرض الحديث على العقل، فهل سنوافق المعتزلة في عرضنا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على العقل حتى نقول: هذا الحديث صحيح، أو هذا الحديث ضعيف؟ وهل العقل له الاستطاعة حتى يحكم أن هذا وحي أو ليس بوحي؟!