إسلام ويب

التدليس في الحديث - بيان حكم تدليس الإسناد في الصحيحينللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر علماء الحديث بعض المسائل التي تحصل في التحديث ومع المحدثين على اختلاف أصنافهم، وحددوا مواقفهم منها، ومن ذلك التدليس في الحديث، فرد العلماء رواية المدلس إذا عنعن حتى يصرح بالتحديث، ولكن أشكل على بعض العلماء بعض الأحاديث التي رويت في الصحيحين عن بعض المحدثين المدلسين بالعنعنة دون التصريح بالسماع، فجمهور العلماء قالوا: تقبل هيبةً للصحيحين، وأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول، ثم حملوا هذه الروايات على محامل أخرى كثيرة.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فما زلنا في موضوع التدليس وأقسام التدليس، تكلمنا في الأسبوع الماضي عن قسم من أقسام التدليس ألا وهو تدليس الإسناد، وبينا أقسام تدليس الإسناد وحكم تدليس الإسناد.

    رأي بعض المحققين في عدم قبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

    نتحدث اليوم إن شاء الله عن تدليس الإسناد في الصحيحين، أي: عنعنة المدلس في الصحيحين، ولا يقال: إن عنعنة المدلس في الصحيحين قليلة، بل الصحيح الراجح أن في كتاب البخاري ومسلم أحاديث ليست باليسيرة، بل أحاديث كثيرة جداً فيها عنعنة المدلسين، كأمثال هشيم بن بشير ، والوليد بن مسلم وسفيان بن عيينة والزهري وسليمان بن مهران الأعمش وأبي إسحاق السبيعي ، ومعهم قتادة وابن جريج والحسن البصري، فكل هذه الأسماء أسماء مدلسين، وقد عنعنوا في الأحاديث وذكروا في البخاري ومسلم بالعنعنة، فما الحكم في هذه المسألة؟

    جمهور المحدثين يفرقون بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، فيرون إفراد الصحيحين بحكم غير حكم الكتب الأخرى.

    فيقولون: أي عنعنة في البخاري أو مسلم وردت عن هؤلاء المدلسين، فهذه تحمل على الاتصال ولا تحمل على الانقطاع، فانبرى لهم قلة من المحققين المتأخرين، كـابن دقيق العيد والحلبي وابن المرحل والمزي ، فهؤلاء ما ارتضوا هذا التفريق بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، ولذلك لما سئل المزي في سؤال صريح عن عنعنة الأعمش وقتادة وأمثال هؤلاء في الصحيحين، فقال: هم يحسنون الظن في الشيخين، أي: في أصحاب الصحيح؛ لأنهم لما سألوه قالوا: جمهور المحدثين يحملون عنعنة المدلسين في الصحيحين على الاتصال، فقال: يحسنون الظن بالشيخين، وكأنه لا يرضى بهذا، لكن صرح ابن دقيق العيد تصريحاً تاماً أنه لا يرتضي بهذا الكلام، وأن الصحيحين كغير الصحيحين، ويقول: قالوا: بأن الأحاديث التي في الصحيحين تقبل عنعنة المدلس فيها لاحتمالين:

    الاحتمال الأول: إجماع الأمة على قبول هذين الكتابين، وهذا الإجماع فيه عسر، يشق على الإنسان أن يبين لنا إجماع الأمة بذلك، إلا أن يقول: قد تلقت الأمة هذه الأحاديث بالقبول، ومع ذلك يقولون: إلا أحرفاً يسيرة انتقدت، كما انتقد الدارقطني وغيره على البخاري ومسلم بعض الأحاديث، فهذه ينخرم بها الإجماع، فتلقت الأمة الأحاديث بالقبول، فيقول: هذا الاحتمال الأول، ويشق على الإنسان أن يأتي بالإجماع.

    الاحتمال الثاني: أن أصحاب الصحيح قد اطلعوا على الرواية التي فيها العنعنة من طريق آخر فيه اتصال، قالوا: وهذا إحسان ظن بأهل الصحيح، وهو محتمل.

    إذاً: تكون هنا العنعنة احتملت الانقطاع ورواية البخاري لعنعنة المدلس تحتمل أنه سمعه، أو نقول: فيها اتصال، وهذا الكلام مع أن فيه احتمالاً لكن ليس بأكيد، أو ليس بمقطوع به، فلذلك لا يصح لنا أن نمرر عنعنة المدلس، مع أن القاعدة عند المحدثين العامة هي: أن كل مدلس قد عنعن في الإسناد لا بد أن نوقف الحكم على حديثه حتى يصرح بالسماع، قالوا: فإن لم يصرح فلا نمشي هذه الرواية، فالقاعدة العامة لا بد أن يعمل بها في الصحيحين وفي غيره.

    قول الجمهور بقبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

    فأما جمهور المحدثين فقالوا: هذا من الغلط بمكان، بل كل عنعنة لمدلس في الصحيحين لا بد أن تمر، قلنا: لم؟

    قالوا: لأمور عدة أولها: أن صاحب الصحيح هو البخاري ، جبل الحفظ، وطبيب العلل، وهو عالمها؛ لأنه أخذ علم علل الحديث من علي بن المديني ، وهو نفسه قال: ما استصغرت نفسي عند أحد كما استصغرتها عند ابن المديني . وأما مسلم فقد أخذ علم علل الحديث من شيخين جبلين وهما:

    محمد بن يحيى الذهلي ، فقد كان وتداً عظيماً، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري ، فـمسلم أخذ عنه.

    كذلك أخذ عن البخاري ، فهو جبل في علم العلل، وهم الذين قعدوا التقعيدات المهمة جداً بأن عنعنة المدلس لا تمر، فلا يمكن أن يقعد البخاري هذه القاعدة ويأتي في الصحيح فيخرج من القاعدة، وكتابه أشرف الكتب، وفيه أشد الاجتهادات التي اجتهد فيها البخاري في تصنيف هذا الكتاب؛ لحاجة الناس إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    الوجه الثاني: أن البخاري قال: صنفت هذا الكتاب من ثلاثمائة ألف حديث، فهو يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف من الضعيف، قال: فانتقيت من ذلك هذا الكتاب، وهو لا يأتي عشر هذه الأحاديث، فهذا يدل على حرص البخاري وتحريه جداً في أن تكون الأحاديث كلها من الصحاح.

    الوجه الثالث: كما قلنا عن البخاري أنه كان يستخير الله في كل حديث يكتبه.

    كذلك الإمام مسلم رحمه الله يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعةأبو زرعة كان آية في الحفظ في ذلك الزمان- فكان إذا علَّم أو أشار لي على حديث أن فيه علة علمت عليه وتركته.

    فمعنى ذلك أن كتاب الصحيح مر على مسلم ومر على أبي زرعة الحافظ الثقة الثبت، فإذا ضيعنا أبا زرعة ومسلماً وقلنا: إنهم ما أدركوه، فهذا اتهام صريح لـمسلم ولـأبي زرعة، هذه وجهة نظر الذين ينافحون عن الصحيحين.

    وقالوا أيضاً: عندنا إجابات أخرى غير هذه الإجابات، وهي: أن العنعنة التي في مسلم ليست كالعنعنة في غير مسلم والبخاري ؛ لأنكم لو نظرتم فستجدون العنعنة التي في مسلم عن مدلس لا يدلس إلا عن ثقة كـابن عيينة ، وهذا بالإجماع أحاديثه تمر، كذلك البخاري ومسلم يروون عن مدلس إلا إذا كان مكثراً من الحديث، قليل التدليس، كـسفيان الثوري، فإنه كان علماً معلماً كان رجلاً حافظاً بحراً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والبخاري نفسه الذي أخرج له في صحيح البخاري قال عنه: ما سمع الثوري من حبيب بن أبي ثابت ، ونحن لا نوافقه على هذا، فقد وردت أدلة تدل على أنه سمع، ولكن مقصود البخاري أن الثوري لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت ، قال: ما سمع من حبيب بن أبي ثابت وعدد، ثم قال: ما أقل تدليس الثوري ! فتدليس الثوري قليل في بحر أحاديثه، وقلنا: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.

    توجيه آخر: أنهم لما رووا عن مدلسين ما رووا عن أي مدلس، وليس المدلس الذي يروي عن الضعفاء وغيرهم، وإنما رووا عن بعض المدلسين الثقات الذين لا يدلسون إلا عن ثقة، أو يكون أحدهم بحراً في الأحاديث.

    الوجه الثالث: يقولون: لو قلنا بأن هناك من يدلس عن الضعفاء وأدخلوا أحاديثه في كتاب الصحيحين فهذا قول له وجهة نظر، قلنا: ما هي هذه الوجهة؟

    قالوا: لأنهم ضمنوا عدم التدليس عن الضعفاء أو التصريح بالسماع ممن يروي عن هؤلاء المدلسين، كأمثال الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، وكثيراً ما يرد في الصحيحين إن نظرت إلى هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتدليس الالتقاء، فـالبخاري ومسلم لا يرويان عنهم إلا برواية أخرى متصلة، وهذا ليس حصراً، لكن أقول: هذا الغالب، فيرويان عن شعبة ، وشعبة قد قال: قد كفيتكم تدليس ثلاثة: تدليس أبي إسحاق ، وتدليس قتادة ، وتدليس سيلمان بن مهران الأعمش، فقالوا: وأيضاً يرويان كذلك عن يحيى بن سعيد القطان الذي يروي عن الثوري ، وهو الذي تكفل لنا سماع الثوري ؛ لأن ابن القطان ما كان يرضى بحال من الأحوال أخذ الأحاديث عن الثوري حتى يبين له سماعه، ويحيى بن سعيد القطان كان يروي عن أبي إسحاق بواسطة، فلا يروي عنه مباشرة، وإنما يروي عن زهير عن أبي إسحاق ، وهم قالوا: نحن نأتي بهذه الرواية وفيها أبو إسحاق مدلس، لكن ابن القطان كان يأخذ من زهير سماع أبي إسحاق ، وكان ينتقي من رواية زهير ما انتقاه من سماعات أبي إسحاق ، فمكانه أيضاً يرضى بتدليسه، فإذا وجدت الرواية عن يحيى بن سعيد عن أبي إسحاق بواسطة زهير ، فاعلم أنه انتقى من أحاديثه السماعات، ولو كانت عنعنة فتحمل أيضاً على السماع.

    الوجه الرابع: قالوا: نحن نحسن الظن بأصحاب الصحيح؛ لأن مسلماً كان يقول: كنت أعرض الحديث -يروي الحديث بإسناد عالٍ فيه عنعنة المدلس- لشهرة المتن، يعني: المتن مشهور وصحيح ما يحتاج إلى أحد، قال: ولم أنزل بالإسناد، فكان يعلو بالإسناد ولا ينزل لشهرة المتن، ولذلك قالوا: العنعنة تقبل في من هذه الحالة؛ لأن الحديث في كل أحواله سواء فيه العنعنة أو غير العنعنة قد اشتهر بين أهل العلم أنه من الأحاديث الصحيحة، فلا حاجة لنا أن نتكلم فنقول: هذه عنعنة ولا يستدرك على مسلم.

    وهذه الأوجه من إجابات ابن حجر والنووي على الدارقطني في استدراكه على مسلم والبخاري في نفس المسألة.

    فهذه الإجابات كلها لجمهور المحدثين الذين أحسنوا الظن بالصحيحين، وعموماً لا نستطيع أن نخالف الجمهور، ولسنا ممن يكون من الاجتهاد بمكان حتى يفصل في النزاع بين المحققين الذين قالوا: قاعدة التدليس لا بد أن نمرها على الصحيحين وغيرهما، لكن الأسلم لنا أن نكون مع الجمهور، لا سيما وأن فحل علم النقد وعلم الرجال المحدث الشهير الذهبي ، أنه بعدما ترجم لـخالد بن مخلد القطواني قال: ولا أدري كيف يروي البخاري لمثل هذا الرجل، ولولا هيبة الصحيح .. وسكت. فـالبخاري ومسلم أوقفوا الذهبي في أن يتكلم في مثل هذه المسائل، فهذه المسائل صراحة لا بد لنا أن نسلم فيها بإحسان الظن بـالبخاري ومسلم .

    وقد أعياني حديث مهم جداً، وهو حديث هشيم بن بشير ، وهو مدلس تدليس التسوية، وتدليس التسوية ليس بالهين؛ ولذا يشترط العلماء في تمرير الإسناد الذي فيه تدليس التسوية: أن العنعنة تلغى من أول الإسناد إلى آخره، يعني: لا بد من التصريح بالسماع من أول الإسناد إلى آخره، فلا يكتفى بأن هشيماً يقول: حدثني شيخي، بل لا بد من التصريح بالسماع من الطبقة التي فوقه، والطبقة التي بعده؛ لأنه يسوي، فإذا كان يسوي في التدليس فيمكن أن يعملها في أي طبقة من طبقات الإسناد، فلذلك لا بد من التصريح في طبقات الإسناد.

    وقد أعياني البحث كثيراً في كثير من الروايات التي أجد فيها رواية الأعمش أو غيره يعنعن صراحة في مسلم ، وقد وجدت في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم كثيراً ما يأتي بالروايات التي تصرح بالسماع، وهذا من فوائد المستخرجات، من أهم فوائد المستخرجات أنه دائماً يبين لك التصريح بالسماع، أو يبين لك الانقطاع أين هو بالضبط، أو ضعف الراوي بالمتابعة والمشاهدات والشواهد، فهو له فوائد كثيرة، لكن هشيماً ما وجدت له تصريحاً بالسماع.

    وأعياني البحث أيضاً أنني لم أر أحداً استدرك على مسلم هذا الحديث الذي فيه تدليس التسوية، وهشيم بن بشير يعنعن، والحديث كله مليء بالعنعنة، ومع ذلك لم يستدرك الدارقطني هذا الحديث، وهذه جعلتني أقف وأقول: أسلم شيء على الإنسان أن يقف مع الجمهور، ولا يتكلف أو يتنطع.

    القول الراجح في مسألة التدليس في الصحيحين

    الصحيح الراجح أن نقول إحساناً للظن بالصحيحين: كل عنعنة جاءت من مدلس في الصحيحين فهي محمولة على الاتصال، وكما قلت: إن أصحاب الصحيح تلقت الأمة أحاديثهم بالقبول، فلا بد علينا أن نقول: تمر عنعنة المدلس كما هي على السماع في الصحيحين دون غيرهما.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521720

    عدد مرات الحفظ

    777103028