معنى الوسطية: العدل، قال الله:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا 
[البقرة:143] أي: عدولاً بين الناس.
أهل السنة والجماعة وسط بين الإفراط والتفريط في باب الأحكام والوعد والوعيد، أي: بين الخوارج والمرجئة.. الخوارج يكفرون بالمعصية، والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وقال أهل الوسط أهل السنة والجماعة: لن ننفي عنهم مطلق الإيمان، لكن سننفي عنهم كمال الإيمان، فيخرجون من دائرة الإيمان، ولكنهم باقون في دائرة الإسلام، فالفاسق مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
أما وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات فهم يثبتون الصفات والأسماء التي أثبتها الله لنفسه، فهم وسط بين المعطلة الذين ينفون الاسم والصفة، يقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا كريم ولا كرم، وأخف منهم المعتزلة الذين يقولون: نثبت الاسم ولا نثبت الصفة، نقول: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وبين المشبهة الذين غالوا في الصفات فشبهوا الخالق بالمخلوق، شبهوا الحق بالخلق، قالوا: سمعه كسمع الخلق، وبصره كبصر الخلق، حاشا لله من ذلك، وجاء أهل السنة والجماعة فكانوا وسطاً بين هؤلاء وبين هؤلاء: يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل.
ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟
أولاً: التمثيل هو الأدق في التعبير؛ لأن الله جل وعلا قال:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى:11] هذه صيغة القرآن وهي الأدق.
ثانياً: الفارق بين التمثيل والتشبيه: أن التمثيل معناه المماثلة دون أدنى فرق. والتشبيه واقع في أكثر الصفات لا في كل الصفات، والمشبه يضرب للصفة هيئة معينة كأنه يراها، وهذا بهتان عظيم على الله جل وعلا، فأنت تكيف صفة من رأيته، أو من حدثك الثقة أنه رآه، أو أنك رأيت مثله، والثلاثة منفية عن الله جل وعلا، فأنت ما رأيته، وما حدثك الثقة -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن كيفية الصفة، ولا رأيت مثل الله؛ لأنه لا مثل لله جل وعلا،
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
[الشورى:11] .
أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رضي الله عنه وأرضاه، هذا من طبقة فحول العلماء، و
سفيان الثوري ثقة، بل أمير المؤمنين في الحديث رافع راية السنة، صاعقة في الحفظ، وكان فقيهاً إماماً حجة، وكان له مذهب لكن أصحابه لم يحملوه وهو كوفي الأصل.
ومن طرائف طلبه العلم: أن أمه قالت له: اجلس في مجلس التحديث وأنا أغزل عليك.
قال المصنف: [ أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباد قال: حدثنا أبو الفضل شعيب بن محمد بن الراجيان قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت لـأبي عبد الله سفيان الثوري : حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤخذ أنت. فقال لي: يا شعيب ! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. من قال غير هذا فهو كافر ].
تعريف القرآن لغة واصطلاحاً
القرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة أو قرآناً، هذا في اللغة، ثم بعد ذلك أنزلها أهل العلم على كلام الله جل وعلا المختص به الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الاصطلاح: هو كلام الله المعجِز -اسم فاعل- المتعبد بتلاوته، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله الذي أعجز به البشر أن يأتوا بمثله أو بآية أو بسورة منه.
المتعبد بتلاوته: ليخرج حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي؛ لأنه من الله معنى واللفظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتعبد به.
كلام الله: إضافة الصفة إلى الموصوف، فإن الله تكلم بهذا القرآن، وسمع جبريل من الله جل وعلا هذا الكلام، ونزل به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كلام الله، وأي مبتدع قال بأنه مخلوق فهو على دائرة كفر.
الأدلة من الكتاب على أن القرآن كلام الله
الأدلة من السنة على أن القرآن كلام الله
الأدلة العقلية على أن القرآن كلام الله
قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق)؛ لأن الكلام غير الخلق فالكلام صفة لا تقوم بذاتها، أما المخلوق فيقوم بذاته، فالمضاف إلى الله نوعان: النوع الأول: إضافة صفة إلى موصوف، وهو ما لا يقوم بذاته، وهذا غير مخلوق كالكلام وكالرحمة وكالنعمة وكالكرم، فهل نعمة الله تقوم بذاتها وتراها تمشي وتسير وتأمر وتنهى؟ لا.
النوع الثاني: مضاف إلى الله يقوم بذاته فهذا مخلوق، مثل عيسى روح الله، فعيسى عليه السلام رآه الناس أمامهم يدعوهم إلى الله جل وعلا، وهو قائم بذاته، والأوضح من ذلك: الكعبة بيت الله، فهذا إضافة شيء قائم بذاته منفصل عن الله جل وعلا، من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، أما الشيء المعنوي الذي لا يقوم بذاته فهو غير مخلوق؛ لأنه إضافة صفة إلى موصوف.
وقال الله تعالى:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
[الأعراف:54]، وواو العطف -في الأصل- للمغايرة، فيكون الخلق غير الأمر، والأمر هو الكلام، والخلق هو أثر الفعل المترتب عليه، يقول الله جل وعلا:
كُنْ فَيَكُونُ
[البقرة:117]، المكون هذا هو المخلوق، وأثر كلمة (كن) غير مخلوق.
(منه بدأ) أي: الله جل وعلا هو الذي ابتدأ الكلام، وهذه صفة أزلية أبدية قديمة.
(وإليه يعود) هذه إشارة إلى علامات الساعة، وأن الله جل وعلا يوم القيامة يقبض القرآن من الصدور ومن السطور.. يقبضه من الصدور بقبض الحفظة، ومن السطور من المصاحف، فلا يبقى على وجه الأرض مصحف فيه ذكر الله جل وعلا، بل لا يبقى واحد يقول: الله الله، ولن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، وتهدم أيضاً الكعبة، نسأل الله العفو والعافية.
قال
الثوري: (من قال غير ذلك أو من قال غير هذا فهو كافر) هذا الكلام فيه إيهام شديد يرجع إلى الكلام على الإيمان والكفر، لكن عندنا قاعدة وضابط في مسألة التكفير؛ إذ الكفر من أشد ما يكون، ولا بد أن يتحرى طالب العلم في هذه المسألة، ولا ينطلق هذه الانطلاقة الخبيثة التي تخرج الناس من دائرة الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فالمسألة صعبة جداً، وطالب العلم المدقق المحقق هو الذي يتكلم فيها، فهذه المسألة فيها طرق ثلاث:
الطريق الأول: أن تثبت أن عين الفعل كفر بالكتاب وبالسنة، وألا يكون في الفعل خلاف بين العلماء في حال من الأحوال.
الطريق الثاني: أن القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة.
الطريق الثالث: إذا زالت الشبهة، وقامت الحجة؛ نطلق الحكم، فنقول عن هذا الرجل: كافر.
سؤال: هل إلقاء المصحف كفر أو لا؟
الجواب: إلقاء المصحف ليس بكفر حتى نستدل بالإلقاء على أنه مستهزئ مستهين؛ لأن المسألة مسألة استهزاء وتعظيم، ولأن المخبر ليس كالمعاين، فهذا موسى ألقى الألواح وكسرها وما عاتبه الله جل وعلا، فنقول: عين الفعل كفر، والإلقاء لا بد أن يكون مقروناً بالاستهزاء حتى ننزل على الفاعل الحكم بالكفر.
ومسألة خروج المرء من الملة، ليست هينة، بل لا بد من طالب علم متقن مدقق يتحدث عنها، وليس كل من هب ودب يتكلم فيها؛ لأن هذه المسائل دقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد باء بها أحدهما)، فلا يتكلم في هذه المسائل إلا طالب العلم المحقق المدقق، وتعرفونه بطرح مسائل العلم عليه والنظر في كيفية استدلاله وفهمه للدليل، فهذا هو الذي تأخذ منه هذا القول بالكفر أو غيره.
إذاً: (من قال بغير هذا) أي: إن القرآن مخلوق فهو كافر. نقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى نقيم عليه الحجة ونزيل عنه الشبهة، وتنتفي الموانع وتتوافر الشروط.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.