صلاح القلب واستقامته هو الأساس في صلاح الفرد أولاً ثم المجتمع ثانياً، فلا يستقيم الإنسان ولا تصلح أمور حياته وتصرفاته إلا إذا صلح قلبه، ومقاييس الناس عند الله تعالى هي القلوب، وليست الأعمال والأشكال الظاهرة، فمتى ما صلحت القلوب أصلح الله الفرد والمجتمع.
أهمية صلاح القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فالقلب محل السعادة أو محل الدمار والشقاء على العبد، فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف القلب بأنه إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب ملك والأعضاء جنود، وإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا زهد الملك وكان أميناً زهدت الرعية وكانت أمينة.
دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه على عمر بن الخطاب وفي حجره أموال كسرى وهو يبكي بكاء شديداً، فقال علي : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: قوم أدوا هذه الكنوز والله إنهم لأمناء، فقال: يا أمير المؤمنين زهدت فزهدوا، وكنت أميناً فصاروا أمناء.
فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا سرق الملك سرقت الرعية، وإذا زنى الملك زنت الرعية، ومن قبل قالوا:
إن كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
فمقياس الناس عند الناس المال، ويقولون: معك درهم تساوي درهماً، إن كان معك مال تكلم فيسمع لك، إن نكحت ينكح لك، يعني تقبل إن نكحت، وإن تقدمت تقبل، وإن شفعت تشفع، ويؤخذ بكلامك؛ لأنك من ذوي الوجاهات، ومن ذوي الرياسات، ومن ذوي الأموال.
أما مقياس الناس عند رب الناس: فهو طهارة القلوب، نقاء القلوب، فهذه التي عزت بحق في هذه الأمة، وفي هذه الآونة خصوصاً، فقلب واحد مخلص لنصرة الدين أقسم بالله غير حانث وأقسم على قسمي قسماً آخر لقلب واحد صادق مخلص لنصرة الدين، مخلص لوجه الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو يجعل الله النصر على يديه، قال الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ[الإسراء:25] بما في قلوبكم. إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا[الإسراء:25].
جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر) أي ضعيف نحيف حقير رث الثياب، لكنه تقي نقي، قلبه طاهر، معمر بحب الله جل وعلا (مدفوع بالأبواب)أي: دفعه أغرار الناس وسفهاؤهم وأراذلهم، الذين يقيسون الناس بالأموال والوجاهات (لو أقسم على الله لأبره) أي: لاستحى الله جل وعلا أن يرده خائباً إذا رفع يديه، وإذا قال: يا رب، قال الله: لبيك لبيك، كما ورد ذلك عن البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه كان رثاً ضعيفاً فقيراً وهو من الصحابة الكرام، ولما كانت المعركة قالوا له: يا براء قد دولت علينا فادع الله جل وعلا أن يولينا ظهورهم، فقام إلى الله جل وعلا ورفع يديه وقال: (اللهم بحق لا إله إلا الله -أو قال كلمة نحوها- اللهم ولنا ظهورهم، اللهم واجعلني أول شهيد فيهم، فدخل المعركة فكان رضي الله عنه وأرضاه أول الشهداء)، فنصر الله جل وعلا الأمة بدعائه، وولاهم ظهور الكافرين بدعائه؛ لأن الله علم طهارة ونقاء قلبه وصدقه وإخلاصه لنصرة الدين.
هذه القصص لا أذكرها لنتسلى بها، بل لأبين لكم ما نحن فيه من عطب، وأن الأمة لا يمكن أن ترتفع من كبوتها إلا بنقاء هذه القلوب وبالصدق والإخلاص مع الله جل وعلا؛ لأن محل الكرامة والنصرة القلوب، والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، فإن وجد قلباً صادقاً طاهراً قبل هذا العبد الذي هو من أصحاب القلوب الطاهرة.
فالصالح التقي طاهر القلب، وإن بذل كل نفسه في المعاصي فإن الله سيختم له بالصالحات؛ لعلمه بأن هذا القلب طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
فعلم الله طيب قلب هذه المرأة ونقائه وطهارته، لما وجدت الكلب بلغ منه العطش ما بلغ بها، وهي قد ارتوت، سقت هذا الكلب فشكر الله لها هذا العمل، وتقاطرت ماء السقيا على جبال ذنوب الزنا فهدمتها وجعلتها كثيباً مهيلاً!
إذاً: الله تعالى يزن الناس بنقاء القلب وطهارة القلب، أما سمعتم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: في الرقة والتوكل والنقاء لله جل وعلا.
إن أتتنا المصائب والبلايا تترى فاعلم أن الطامة من قلوبنا؛ لأننا لسنا صادقين مع الله جل وعلا، ولسنا مخلصين لنصرة الدين، ولسنا نعمل لله، فالذي ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه، وأسألكم سؤالاً: من منا قام ليلاً فقال: أنا وقف لله، وقتي لله، مالي لله، عملي لله، ما أريد إلا الله، فأنا بالله ولله ومع الله؟ والله لو منا صادق فعل ذلك ليلة واحدة ثم رفع يديه في ذلك الوقت الذي هو وقت إجابة ووقت صدق مع الله جل وعلا، فإن الله سيأتي بالنصر والتمكين لهذه الأمة. كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، لكن هناك فرق بين من يقولها بصدق قلبٍ وإخلاصٍ مع الله جل وعلا وبين من يقولها بغير إخلاص.
ولذلك عقب ابن القيم على حديث البطاقة فقال: كل يصلي ويصطف خلف الإمام والإمام يقرأ، وكل مستمع وكل يقرأ الفاتحة وكل يسبح وكل يسجد لله جل وعلا، والفرق بين مصل وآخر كما بين السماء والأرض، ما الذي فرق بينهما؟ طهارة القلب وصدق القلب وإخلاص القلب مع الله جل وعلا.
صلاح القلوب سبب للاصطفاء والتكريم
إن كان مقياس الناس عند أراذل الناس وسفهاء الناس وأغرار الناس: المكانات والوجاهات والأموال، فإن محل الكرامة عند الله هي القلوب، فالله جل وعلا لا يكرم إلا صاحب القلب النقي التقي الطاهر، الله جل وعلا لما نظر إلى الناس عربهم وعجمهم مقتهم واختار واصطفى منهم العرب؛ لأنهم أطهر قلوباً من العجم، ثم بعد ذلك اصطفى منهم كنانة، ثم اصطفى من كنانة بني هاشم؛ لأنهم أطهر قلوباً، ثم نظر في قلوب بني هاشم فلم يجد أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله محل كرامته ورسالته، فقد جعله خاتم النبيين، بل أفضل الرسل وأكرم الرسل عنده جل وعلا؛ لطهارة قلبه ونقائه.
وأيضاً لما أراد الله جل وعلا أن يصطفي صحابة رسول الله الصفوة، التي تنصر هذا الدين وتحمله على أعناقها، ليصل إلينا غضاً طرياً كما نزل، نظر الله إلى القلوب فلم يجد أطهر من قلوب الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأنبياء فاختارهم لهذا الأمر.
وقد ورد في سنن الدارمي عن ابن مسعود بسند صحيح قال: (من أراد أن يتأسى فليتأس بمن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أطهر قلوباً) أي: هذه أهم العلل التي جعلت الله جل وعلا يختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأخلص قلوباً، وأنقى قلوباً، وأصدق قلوباً مع الله جل وعلا؛ ولأنهم أحسن أخلاقاً، وأعمق علماً.
و أبو بكر أفضل البشرية على الإطلاق سوى الأنبياء، وأفضل الصحابة، أفضل ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، كفى فخراً بـأبي بكر أن يذكره الله جل وعلا بصيغة الجمع في الكتاب العزيز، قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ[النور:22] قوله: (أولوا الفضل) المقصود به أبو بكر ، فالله جل وعلا يخاطب أبا بكر بصيغة التعظيم، ما الذي جعل لـأبي بكر هذه المكانة! ما أرفعها من مكانة! ما أعظمها من مكانة، ما السبل التي اتخذها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ليرتقي إلى هذه المنزلة؟ والله لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كفة لرجحت كفة أبي بكر ) هل لأنه كان وسيماً قسيماً ذا مال ومن أغنى الصحابة وله السلطان والوجاهة عند الناس؟ لا والله ما كان كذلك، وإنما العلة أنه كان أطهر قلباً وأعمق علماً وأحسن خلقاً، والذي يدلك على ذلك الحديث الموقوف عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله ما سبق أبو بكر هذه الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه).
والقلوب هي الميزان وهي المعيار عند الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا، وأن يصفي قلوبنا ويجعلها صادقة مخلصة معه؛ لتتنزل الرحمات، وترتفع البلايا التي على هذه الأمة.