إسلام ويب

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - المدخل إلى القواعد الفقهيةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك لورود نص في كل مسألة، وإنما لوجود قواعد كلية مستنبطة من الأدلة الشرعية، تدخل تحتها من الجزئيات ما لا حصر لها، وعليه يتعين على من رام الفقه أن يشمر عن ساعد الجد لضبط ودراسة هذه القواعد الفقهية؛ لأن معرفتها ستغنيه عن البحث عن كثير من الأحكام التي لم يعلمها من قبل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    إخوتي الكرام! إنا نحبكم في الله، وأسأل الله جل في علاه أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، بجانب معاذ بن جبل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام هو معاذ بن جبل ) .

    وأذكر ثلاث مبشرات لطالب العلم:

    أولها: ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في مجلس يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة) فهذه أولى المبشرات.

    ثانيها: إن طالب العلم ينطلق من مجلس العلم إلى الجنان إن كان مخلصاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -في السنن بسند صحيح كالشمس-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها تستغفر لطالب العلم، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).

    ثالثها: كفاك فخراً بأنك ستجتمع على خط واحد مع معاذ بن جبل إمام العلماء، وتكون وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يا للشرف! أنت أصبحت من النبي صلى الله عليه وسلم بمكان، ليست هناك منزلة يمكن أن تداني هذه المنزلة.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

    وأيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وأقول: طالب العلم هو أغلى ما يكون في هذه الدنيا، الأمة بأسرها لا تحتاج إلا لطلبة علم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وجبال العلم قد ماتوا، نحن في يتم الآن، الدنيا بأسرها تتخبط يمنة ويسرة لموت ثلاثة كانوا جبالاً لأهل العلم، كانوا منارات كالنجوم يهتدى بهم، فلما قضوا نحبهم ترى الدنيا تتخبط، وكل يتصدر للفتوى، والله أعلم هل هو أهل لها أم لا؟!

    الحاصل: أن الدنيا بأسرها تتخبط لضياع أهل العلم، ونحن نقول ما قاله علي بن أبي طالب : (موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام، وهذه الثلمة لا تنسد إلا بوجود الخلف)، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم عند موت أي أحد أن نقول: (اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها)، وأحرى بنا أن نقول ذلك عند عند فقد العلماء، فنحن بحاجة إلى من يرفعون منارات العلم ويحفظون هذا الدين، كما قال ابن القيم مستقياً كلامه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله جل في علاه يغرس لهذا الدين غرساً).

    فقال رحمه الله: والله ما أرى الغرس إلا أهل العلم، ولذلك أول بعض العلماء حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) كقول أحمد وغيره: لا أعرفهم إلا أن يكونوا أهل الحديث.

    وقال ابن القيم : هم أهل العلم، وكفى أهل العلم فخراً بأن الله جل وعلا جعلهم من أولي الأمر.

    قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فهذه الآية تدل على أن العلماء هم من أولي الأمر، فكما أن عليك السمع والطاعة لأولي الأمر من الحكام والأمراء فأيضاً لابد من السمع والطاعة للعلماء، وهذه الآية تدل على ذلك. فطالب العلم ينظر في الدليل فيأتي أولاً بالشاهد، ثم يرى وجه الدلالة من هذا الشاهد، حتى يرى في نفسه قوة وهو يتكلم عن مسألة علمية، ووجه الشاهد في الآية السابقة قوله تعالى: وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ فمن هم أولو الأمر؟

    جاء الرد من الله جل في علاه مفسراً ومبيناً في قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: أولو الأمر: الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة التفصيلية، وهم العلماء المجتهدون.

    فهذا شرف ليس بعده شرف، فالعلماء هم من أولي الأمر، والله جل في علاه جعل لهم الصدارة في الدنيا؛ لأنهم الذين يوصلون الناس إلى ربهم، ورحم الله ابن عيينة حين قال: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس.

    وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) متفق عليه، هذا منطوقه ومفهومه: أن الله جل وعلا إن لم يرد بعبد خيراً فلن يفقه في الدين، نعوذ بالله من الخذلان.

    حتى نتعرف على أهمية طلب العلم، وكفاك أخي شرفاً وفخراً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي) أي شرف وأي منزلة بعد هذا!

    ورب السماوات والأرض لمداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، وهذا باتفاق العلماء المحدثين والفقهاء، فالعالم له منزلة ليست كأي منزلة، وكما بينا في الحديث الذي سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) ، وشتان شتان بين القمر وبين سائر الكواكب.

    أقول: فطلب العلم هو أفضل عبادة يمكن أن يتقرب بها العبد لله جل في علاه، وعلماؤنا كانوا يرون المدارسة خير من قيام الليل، فهذا ابن أبي حاتم يروي -في الجرح والتعديل- عن أبيه أنه كان يقول: مدارسة مسألة من العلم خير من قيام ليلة بأسرها. ولذلك كان يأتيه أبو زرعة فيتدارس معه المسائل ويقول: هذا عندي أشهى من كذا وكذا، فكانوا يرون المدارسة أفضل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه.

    مكانة الإمام الشافعي

    هذه قصة وإن كان في سندها كلام: جاء الشافعي إلى أحمد ليلاً فقدم له أحمد الطعام فأكل كثيراً، ثم جلس طيلة الليل ما صلى ركعة واحدة حتى أوتر، ثم قام فصلى الفجر بنفس وضوء العشاء فجاءت بنت الإمام أحمد تقول لأبيها مستنكرة ما رأته من الشافعي الذي كان يقول أبوها فيه: إنه للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، وكان الإمام أحمد بداية يقول لأهل الكوفة والعراق: لا تسمعوا للشافعي ، أي كان أحمد ينهى عن سماع الشافعي ؛ لأن أحمد كان من المحدثين ورأى أن الشافعي رحل من مكة إلى العراق وسمع من أهل الرأي؛ لكن الشافعي جمع بين الحديث وبين الفقه، فكان أحمد يحسب أن الشافعي لما كان يعامل أهل الرأي أنه من أهل الرأي الذي يقدمون القياس على الأثر، فلما جالس أحمد الشافعي علم أنه بحر، فالذين كانوا يتتلمذون على أحمد ينظرون لـأحمد وهو يمشي خلف بغلة الشافعي ، فقالوا له منكرين: يا أحمد ! تنهانا عن سماع الشافعي ونراك خلف بغلته، فقال أحمد : والله لو ما تكلم الشافعي وسرت خلف البغلة لا ستزدت علماً من هذا البحر أو هذا الحبر.

    ولذلك لا غرو ولا عجب أنه لما أتى إسحاق بن راهويه فقيه خراسان -وهو من المحدثين الأفذاذ ومن شيوخ البخاري - إلى مكة ولقيه الإمام أحمد فذهب به إلى مجلس الشافعي فقال: تعال سأريك رجلاً لم تر عينك مثله، يعني: الشافعي ؛ وذلك لقوة حافظة الشافعي وعلمه الذي جمع فيه بين الفقه والحديث؛ لأن الانفراد بالفقه يضعف صاحبه في الحديث، فتراه يحتج كثيراً بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، قد تراه في كتاب مغني المحتاج للشربيني ، وهذا هو الذي أضعف كثيراً من الفقهاء، ومن انشغل بالحديث دون الفقه صار فيه ضعف في فتواه، فالجمع بين العلمين فيه قوة، ولذلك قال أحمد لـإسحاق : ائت لتسمع هذا الشيخ، فنظر إليه فوجده شاباً يافعاً، فقال: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث؟! وهذه كانت ملامة على إسحاق ، وقد تندم عليها وعض عليها أنامله، ولا حين مندم، فقد ضاع منه علم الشافعي .

    أنا أقولها الآن وأصرخ بها في آذان الإخوة: اعرفوا كيف تتعلمون وتطلبون العلم؛ لأن هذه هي البغية وهذا هو الهدف وأنت لن ترتقي إلا أن تكون طالباً للعلم حقيقة، أما إذا كنت من العوام أو شبيهاً بالطالب فلن تفيد ولن تستفيد.

    لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

    بعض الإخوة عندهم ضيق في النظر لا يعرفون أن يميزوا بين العلم وغيره، والآن الصيت أو السمعة هي التي تأتي بالناس في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وقد بين أنس رضي الله عنه حال الأزمنة المتأخرة بقوله: (أن ما من زمن إلا وبعده أشر منه) إننا في ضياع وفي تيه وفي تخبط؛ لأن العلم الآن يقبض بقبض العلماء.

    فلابد أن نعلم أن النجاة لا تكون إلا في العلم الصحيح، الذي يوصلك بحق إلى الله جل في علاه، ولذلك فالعبرة من هذه القصة أن إسحاق تندم كل الندم في كونه لم يصاحب الشافعي وقال: أأجلس لهذا الحدث وأترك ابن عيينة ؟ فقال له أحمد ناصحاً إياه إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي لا تجده عند غيره.

    هذه نصيحة غالية تكتب بماء الذهب على السطور.

    إذاً: لا بد من محدثين فقهاء أصوليين، هذه الآلات يجب أن تشتبك لتستقبل الأمة فقيهاً محدثاً تنجو به.

    وهذا يحيى بن معين جبل وجهبذ من جهابذة الإسلام، قالوا له وهو في مرض موته ما تريد؟ قال: بيت خال وإسناد عال، الإسناد العالي هو الذي يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالكثير، وهذه فاز بها كثير من علمائنا، وكانوا يرحلون من أجل هذا العلو.

    والنزول معناه كثرة العدد، كأن يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة فأكثر، لكن فهم المتن وفقهه أولى من الإسناد العالي، فـإسحاق بن راهويه لما ناظر الشافعي وعرف علمه، خرج من مكة ثم بعد ذلك انكب على كتب الشافعي ، فتندم كل الندم أنه لم يصاحب الشافعي ليأخذ منه هذا العلم كما أخذ أحمد بن حنبل .

    فالغرض المقصود أنهم كانوا يرحلون ويجتهدون في مدارسة العلم، وقال أحمد رحمه الله: أفضل عبادة يتقرب بها العبد لربه جل في علاه هو طلب العلم.

    الأمة بأسرها تستبشر ببزوغ شموس العلماء والفقهاء المحدثين الذين ينقذون هذه الأمة، وما من أحد ينبغي له أن يبخس حقه أو ينزل قدره، بل يطمع في كرم الله جل في علاه، ما دامت المسألة ليست بيد أحد ولا يملكها أحد، بل المسألة من فوق العرش، فكن يأخي صاحب همة عالية، كن ذكياً في التعامل مع من فوق العرش، إن ربك يحب منك الطمع! أنت تطمع في فضله، والله يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)، اطمع أن تكون كشيخ الإسلام ابن تيمية ، أو كـالعز بن عبد السلام أو كـالجويني أو كـالشافعي ، فكل ذلك ممكن ومتاح، وهو تحت قدرة من؟ تحت قدرة الله جل في علاه، والله جل في علاه يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78].

    فهذه كانت مقدمة أبين بها شرف العلم وشرف العلماء وطلبة العلم، وأن طالب العلم إذا علم قدر هذا الطريق صبر عليه وصابر من أجله حتى يسير على الدرب، ومن سار على الدرب وصل.

    نحن درسنا بفضل الله سبحانه وتعالى المصطلح، ودرسنا أصول الفقه، ودرسنا أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ثم بعد ذلك نبين القواعد الفقهية، وأيضاً نأخذ أقسام التدليس، وهذه الدروس خاصة بالرجال، وإن كانت هناك دروس خاصة بالنساء وكثير من الإخوة يحتاجونها، ونسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم في طريق طلب العلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088475580

    عدد مرات الحفظ

    776918338