إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد:
قال عز وجل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:64-77].
هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يبين الله عز وجل فيها صفات عباد الرحمن الذين شرفهم بنسبتهم إليه فيقول: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا، أي: بسكينة ووقار، وبغير تجبر ولا استكبار.
وليس معنى ذلك: أن يسير المسلم بضعف وتمارض، فقد كان سيد عباد الرحمن يسير بقوة وكأنما الأرض تطوى له، وكأنما ينحط من صبب.
ورأى عمر رضي الله عنه شاباً يسير متضاعفاً فقال له: أأنت مريض؟ قال: لا. فعلاه بدرته وأمره بأن يسير بقوة.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ، فهم لا يجهلون على الجاهل بمثل جهله، كما قال إبراهيم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47] بعد أن قال له: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46]، فعباد الرحمن لا يجهلون على الجهال، ولا يسفهون على السفهاء: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا .
ثم وصف ليلهم فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا .
وقال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].
وقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وبعد أن وصف ليلهم ونهارهم، وأن ليلهم خير ليل، ونهارهم خير نهار، قال عز وجل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، فهم على الخوف من الله عز وجل، فيدعون الله عز وجل بأن يصرف عنهم عذاب جهنم، فهم في النهار في سكينة ووقار وبغير جبرية ولا استكبار، كما قال الحسن البصري : إن المؤمنين قومٌ ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه.
و الحسن البصري رحمه الله قيل: كان كلامه يشبه كلام الأنبياء.
فعباد الرحمن ليلهم خير ليل، ونهارهم خير نهار، ومع ذلك هم على الخوف يقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا أي: ملازماً. إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا أي: بئس المقام منظراً، وبئس المقيل مقيلاً.
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا : وصف حالهم في الإنفاق، وكيف أنهم وسط، فهم لا يبخلون على أهليهم، وكذلك لا يبسطون أيديهم كل البسط، فهم وسط في باب النفقة.
ثم بين بأن عباد الرحمن ليسوا معصومين من الذنوب، ولكنهم لشرفهم لا يقارفون الكبائر، كما أنهم كذلك لا يصرون على الصغائر، فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، لا يتدنسون بالشرك بالله عز وجل؛ لأنه أعظم الذنوب، أن تجعل لله نداً وهو خلقك: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وقتل النفس التي حرم الله أكبر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل لذلك ذكرها بعد قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ويلي ذلك الزنا وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا قيل: أودية في جهنم يعذب فيها الزناة.
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أي: من تدنس بشيء من هذه الكبائر ثم تاب وأناب واستقام على طاعة الله عز وجل؛ فإنه بذلك يدخل في جملة عباد الرحمن، ولا تمنعه هذه الكبائر التي تاب منها وأناب واستقام على طريق الله عز وجل من أن يدخل في جملة عباد الرحمن: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ؛ أي: توبة حقة والتي يعقبها العمل لصالح.
ثم بين أن من صفات عباد الرحمن: أنهم لا يشهدون الزور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت) .
وقيل: الزور هو الباطل. وقيل: أعياد المشركين. وقيل: الغناء. وقيل: اللغو.
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ، كما قال بعض السلف: كم ممن يسمع هذه الآية فيخر عليها أصم أعمى.
أما المؤمن فيتدبر ويزداد إيماناً، ويتفكر في كلام الله عز وجل.
(( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))؛ أي: أن من صفات عباد الرحمن أنهم يحبون أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أبنائهم، ويحبون أن يروا أقرب الناس إليهم في طاعة الله عز وجل؛ لأن المرء يحب الخير لأقرب الناس إليه، فيقول الحسن البصري : هو أن يري الله العبد المؤمن الطاعة في زوجته وفي ولده وفي حميمه، والله ما من شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجة صالحة، أو ولداً صالحاً، أو حميماً أو صديقاً صالحاً، فهذا أقر شيء لعين المؤمن، أن يرى طاعة الله عزوجل في زوجته وفي أولاده.
(( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))؛ أي: أئمة يقتدى بنا في الخير، حتى يتضاعف الثواب ويعظم الأجر.
(( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ )) فهذا خبر لقوله: (( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ )) الذين وصفوا بهذه الأوصاف السالفة: (( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ))؛ أي: الدرجة العالية في الجنة بما صبروا.
(( وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ))* (( خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ))* (( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ )) يعني: لولا عبادتكم (( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ)) يعني: مشركي مكة، (( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا )) أي: ما وعد الله عز وجل به من نصر الإسلام وأهله، وقد صدق الله وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
نسأل الله تعالى أن يشرفنا بأن يجعلنا في جملة عباد الرحمن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر