اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت بسم الله الرحمن الرحيم: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:1-8].
هذه السورة هي الحادية والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي سورة فصلت، وسورة فصلت واحدة من سبع سور بدأت بالحرفين (حم) أولها سورة غافر التي ذكرناها قبل ذلك، وآخرها سورة الأحقاف، وهذه السورة من السور المكية، ومجموعة السورة الحواميم يطلق عليها عرائس القرآن؛ لما فيها من جمال، وما فيها من حكم، وما فيها من آيات تخاطب المشركين بأمور تدل على وجود الله سبحانه، وأنه الخالق الذي يستحق وحده أن يعبد، وتناقش هؤلاء وتذكرهم ما حل بالسابقين من عذاب، وتذكرهم بالدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو من عذاب أليم وغير ذلك.
وتسمى هذه السورة بسورة فصلت، لأن الله عز وجل ذكر في أولها: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ [فصلت:3]، وتسمى بسورة السجدة أو سورة (حم السجدة) يعني: السورة التي في أولها الحرفان (حم) والتي فيها السجدة، فهي الوحيدة من الحواميم التي فيها سجدة، كذلك تسمى بسورة المصابيح؛ لقوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [فصلت:12] وكذلك ذُكر أنها تسمى بسورة (الأقوات) لأن الله عز وجل ذكر فيها: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10] يعني: قدر في هذه الأرض الأقوات لأهلها فيها، كذلك هذه السورة تسمى بسجدة المؤمن، وسورة المؤمن هي سورة غافر، وكأنها السجدة التي بعد سورة المؤمن. هذه أسماء هذه السورة.
وهذه السورة عدد آياتها اثنان وخمسون آية على العد البصري والشامي، وثلاثة وخمسون على العد الحجازي، وأربعة وخمسون على العد الكوفي، وكما ذكرنا قبل ذلك أن الخلاف في العد إنما هو بحسب الوقوف، فالبعض يعتبر هذه رأس آية فيقف عليها. فيعدها، فالخلاف سيكون في الآية الأولى منها (حم) فسيعد الكوفيون هنا أن هذه رأس آية، فعند الكوفيين أن هذه السورة أربعة وخمسون، فيعتبرون (حم) هذه رأس آية، وعند غيرهم تعتبر هي وما بعدها آية واحدة، وكذلك قول الله عز وجل: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فالوقف هنا عده الكوفيون رأس آية، وكذلك عده الحجازيون، وغيرهم اعتبر هذه وما بعدها آية واحدة، فالخلاف في العد هو خلاف في موضع الوقف هل هنا رأس آية أو ليس رأس آية؟
وقد قدمنا قبل ذلك أن سور الحواميم نزلت على ترتيب وجودها في المصحف، فأول ما نزلت من الحواميم سورة غافر وآخر ما نزل من الحواميم سورة الأحقاف، وكلها من السور المكية كما قدمنا قبل ذلك، فهذه السورة على الترتيب في النزول تعتبر السورة الحادية والستون، لكن في ترتيبها في عد المصحف تعتبر الحادية والأربعين.
فأغراض هذه السورة منها التنويه بشأن القرآن العظيم، كما في قوله عز وجل: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ [فصلت:1-3] فذكر أن هذا القرآن نزل من عند رب العالمين الذي فصله سبحانه، فالله الرحمن الرحيم العزيز الحكيم سبحانه تبارك وتعالى هو الذي فصل لنا هذا القرآن، وذكر أنهم يعجزون عن معارضة هذا القرآن العظيم، وذكر في هذه السورة هدي هذا القرآن العظيم، وأنه هدىً للناس، وأنه معصوم من أن يتخلله الباطل، وأن الله عز وجل يؤيد النبي صلوات الله وسلامه عليه بما أنزله عليه من هذا القرآن العظيم الذي يبين للناس الشريعة والمنهاج.
كذلك يذكر لنا كيف تلقى المشركون هذا القرآن، قال عز وجل: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5] فتلقوا هذا القرآن بالرفض؛ ورفضوه لأنهم خافوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحسدوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأوا أمامهم الآيات البينات، ولكن لم يعتبروا ولم يتعظوا غيرة وحسداً، كما قال عز وجل عنهم: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] فحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لماذا أنت ينزل عليك القرآن؟! فكان الرد من هذا الباب ليس بكونهم لم يفهموا القرآن، بل فهموا وعلموا، ولذلك قال الله عز وجل: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3] فهم يعلمون، وهم يفهمون لغة هذا القرآن، ويعلمون ما هي الفصاحة، وكيف تكون، وما هي البلاغة، وكيف تكون، فإن هذا اللسان العربي لسان واضح مبين، لذلك لم يريدوا أن ينقضوا شيئاً من هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وجماله وحلاوته، وإنما كان أقصى ما يقولونه: ما معنى أنه نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه دون غيره؟
كذلك يخبرنا الله عز وجل عن إبطال مطاعن هؤلاء المشركين في هذا القرآن العظيم، ويذكرهم ربنا سبحانه بأنه نزل بلغتهم، فإنهم قالوا: إن القرآن تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من بشر آخر، فأخبرنا الله عز وجل أن هذا الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم منه لسانه أعجمي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، فلو نزل هذا القرآن بلسان أعجمي لقالوا: أأعجمي وعربي؟! أي: كيف يكون القرآن بلسان أعجمي ونحن عرب نتكلم باللغة العربية، نريده عربياً، فلما نزل لهم باللسان الذي يفهمونه إذا بهم يعرضون، فأي عقول هذه؟ وهم شهدوا على أنفسهم فقالوا: في آذاننا وقر، وقلوبنا فيها أكنة مما تدعونا إليه، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5].
كذلك يذكر الله عز وجل في هذه السورة بما يكون في هذه الدنيا من عذاب وعقوبة، كالذي حدث لقوم عاد وثمود، فقال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] وهم عرفوا ما الذي حدث بهؤلاء الأقوام السابقين، فكانوا يخافون من ذلك فيناشدون النبي صلى الله عليه وسلم الله ويناشدونه الرحم ألا يصنع بهم ذلك، ومع ذلك لم يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه!
وذكرهم بيوم القيامة وكيف أنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وتشهد عليهم جلودهم يوم القيامة، وأنهم يقولون لجلودهم ولأعضائهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21].
كذلك يذكر لنا سبحانه ما يكون في يوم القيامة من مناقشات بين الكفار وبين من طلبوا من الله عز وجل أن يريهم هؤلاء الذين أضلوهم في هذه الدنيا وأضل بعضهم بعضاً، فلما أفاقوا على الموت وأفاقوا على القيامة وأفاقوا على النار قالوا: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت:29] يقولون ذلك يوم القيامة وهم في النار، يقولون لله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا [فصلت:29] أي: ندهسهم بأقدامنا، وندوس عليهم بأقدامنا مثل ما عملوا فينا وورطونا في الدنيا وأدخلونا النار، فيبكون وهم في جهنم ويتمنون العودة إلى الدنيا، ولكن لا رجوع ولا إجابة لهؤلاء، ويتمنى بعضهم لبعض عذاب الضعف، فيقول الله: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38] أي: كلكم تستاهلون المضاعفة من العذاب، والعياذ بالله!
كذلك ذكر لنا كيف كانوا في الدنيا يعرضون، ويوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، كانوا في الدنيا يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] أي: لا تسمعوا لهذا القرآن، وحين يقرأ عليكم القرآن الغوا وتكلموا وباعدوه؛ بحيث ما أحد ينتبه له.
كم كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد الله كيدهم في نحورهم، ونشر دينه، ونصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وأخزى هؤلاء الكافرين.
كذلك يخبرنا عن المؤمنين السعداء نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم فيقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] انظر الفرق بين المؤمن وبين الكافر، فالكافر في النار وفي العذاب وفي الهوان وفي الذل، والمؤمن تتنزل عليه الملائكة في حال وفاته، وتطمئنه وتقول له: لا تخف؛ فأنت راجع إلى رب غفور رحيم، لا تحزن أنت مكانك في الجنة ولن تدخل النار، قال عز وجل: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل من الآيات وما يسر الله في هذه السورة الكريمة.
بدأ الله عز وجل في هذه السور بهذه الحروف، فمنها ما هو مهموس ومنها ما هو مجهور ومنها ما هو من حروف الرخاوة، وغير ذلك، فالله عز وجل انتقى من هذه الحروف نصف حروف اللغة العربية فوضعها في أوائل بعض سور القرآن؛ لحكمة من الحكم.
وهذه الحروف من العلماء من قال: لو جمعناها وكونا منها جملة بعد أن نأخذ المكررات منها، فنظروا وكونوا جملة عجيبة وهي: (نص حكيم قاطع له سر)، هذه الحروف التي تكررت أخذوا منها المكرر وأخذوا الحروف الغير مكررة فطلعت منها هذه الجملة التي تدل على هذا المعنى: أن هذا نص حكيم قاطع له سر، فهي من أسرار هذا القرآن!
والعلماء يذكرون أنه بدأ بهذه الحروف حتى يري هؤلاء الكفار أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون بها، من جنس اللغة العربية التي أنتم تنطقون بها، فأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من هذه الحروف، فعجزوا عن ذلك، والعرب قوم إذا تحداهم إنسان يقبلون التحدي ويعاندون، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هم يحسدونه وتحداهم صلى الله عليه وسلم عجزوا، وما عرفوا كيف يردون عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنهم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يقدروا على أن يأتوا بمثله.
وهذا التحديث كان للعرب الذين هم أهل اللغة العربية وأهل البلاغة وأهل الفصاحة، وأما الجهلة الحمقى من النصارى والمجرمين وغيرهم فهم يجهلون اللغة العربية، ويجيء الجاهل الأحمق الغبي منهم ويقول: أنا سآتي بمثل هذا القرآن، ويتكلم بكلام تافه ليس له معنى، ويقول: أنا قلت هذا الشيء مثل هذا الشيء، فيلقى هو وكلامه في مزبلة؛ فلا ينظر إليه أحد؛ لأنه أصلاً ليس من أهل العربية حتى يتكلم بذلك، وليس هذا الذي أتى به مثل هذا القرآن، بل هو كلام فارغ، لكن العرب قوم يعلمون كما وصفهم الله عز وجل بذلك، فهم يعلمون ما هي اللغة العربية، وما هي الفصاحة، وما هي البلاغة، وكان أحدهم إذا سئل: عرف الشيء الفلاني، يعرفه تعريفاً وجيزاً في كلمات قليلة تأتي بالمعنى الكبير، ويمكن أن البعض من الناس ينقده في هذا، فيقول: أقلني، لا أقصد كذا، فيلغي الذي قاله ويأتي بشيء ثان أقصر منه؛ لأنه يفهم اللغة العربية ويعرف ماهية البلاغة في الكلام، وماهية الفصاحة، أما الجاهل الذي لا يفهم ذلك مثل تلميذ في الابتدائي لا يفهم شيئاً، ولا يفهم اللغة العربية، لكن مثل أستاذ في اللغة العربية أو دكتور فيها فإنه حين ينظر يقول: مستحيل أن يقول إنسان: أنا سآتي بمثل هذا القرآن. ولو يحبس نفسه في البيت ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فإنه بعد ذلك سيخرج على الناس عاجزاً لم يأت بشيء، ولما يتطاول بعضهم ويقول شيئاً يقول كلاماً يضحك الناس عليه فيما يقوله، فهو من أهل الفصاحة ومن أهل اللغة ولكنه عجز أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولذلك قالوا: لن نأتي بمثله، ولكن سنقول فيه: هذا شعر، ويقوم يكذب بعضهم بعضاً: أين أوزان الشعر؟ وأين التفعيلات التي فيه؟ هذا ليس شعراً، فيقولون: سنقول: هذا سحر، فيقال: ما هو السحر الذي في هذا الذي تلاه؟ أقصى شيء يصلون إليه أنهم يقولون: هو يفرق بين الولد وبين أبيه، فأبوه يبقى كافراً والابن يصير مسلماً، فيفرق بين الولد وأبيه، هذا هو الذي يقولونه في القرآن وهم يعرفون أنهم كذابون فيما يقولون، لذلك ربنا سبحانه تبارك وتعالى أخبر عن هذا القرآن أنه كتاب حكيم فقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42] أي: نزل من عند رب العالمين من لدن حكيم حميد سبحانه تبارك وتعالى.
واليهود كانوا ينظرون نظرة أخرى إلى القرآن وإلى هذه الحروف التي في أول القرآن، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: ماذا نزل عليك من القرآن؟ فيقرأ لهم: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] وعندهم حساب يسمونه بحساب الجمل، يأتون بالحروف ويجعلون لكل حرف رقماً، ويقسمونها على نسق: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت إلخ ويقولون: الألف: واحد، والباء: اثنان، والجيم: ثلاثة، والدال: أربعة، والهاء: خمسة، والواو: ستة، والزاي: سبعة، ويجعلون لكل حرف رقماً؛ يعملون هذا الشيء من أجل أنهم يفترضون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون: بناءً على كذا سنعرف العدد ونعرف أشياء من الغيب، وهذا من العلم المحرم، وهذا شيء حرام.
فاليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم: الم فقالوا: الألف هذا حرف بواحد، واللام بثلاثين، والميم بأربعين، فنجمع واحداً وثلاثين وأربعين ينتج واحداً وسبعين، إذاً: عمر دعوتك سيكون واحداً وسبعين سنة، فيقول بعضهم لبعض: كيف نتبع رجلاً دعوته عمرها واحد وسبعون سنة؟
فيأتون يسألونه مرة أخرى: ماذا نزل عليك؟ فيقول لهم: المص [الأعراف:1] فيقولون: الألف بواحد واللام بثلاثين والميم بأربعين والصاد بسبعين فيكون المجموع مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: لا نريد أن نتبعك؛ لأن عمر دعوتك قليل، وإذا قرأ عليهم: (الر) يقولون أيضاً: الألف بواحد واللام بثلاثين والراء بمائتين، فيكون المجموع مائتين وواحداً وثلاثين سنة، فمن أين أتوا بالمائتين وواحد وثلاثين؟ هذا كذب، ولا يحل أن يتكلم بهذا الشيء لا في دين ولا في دنيا.
فقالوا في النهاية: لبس علينا، واليهود يعرفون يقيناً أنه نبي من عند رب العالمين، وشهد عليه ربنا سبحانه فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20] فكما أن أحداً لا يغلط بابنه فإنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
والمؤمنون يعرفون أن هذه الأحرف لها سر من الأسرار، وأن الله عز وجل أنزلها لحكمة من الحكم، فلا مانع أن يعرفوا البعض من هذه الحكم، ومنها أن هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فنتحداكم أن تأتوا بمثله، ولذلك الغالب أنه إذا ذكر شيئاً من هذه الحروف يذكر بعدها إشارة إلى القرآن، كما قال في أول البقرة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]، أي: القرآن، وقال: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:1-3]، وهنا قال: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:1-3].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر