قال الله عز وجل في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:13-14].
ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الشريعة العظيمة التي شرعها لنا، وجعلها لنا طريقاً ومنهاجاً ومسلكاً نسلك بها إلى جنة الله عز وجل، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، فهي شريعة الله سبحانه ومنهجه ودينه الإسلام، الذي دعا إليه كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فكلهم دعوا إلى توحيد الله، فقالوا: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعث بمثل ما بعث به السابقون، أن يدعو قومه ويدعو العالمين إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي: أقيموا توحيد الله سبحانه وتعالى وادعوا إليه، وانهوا عن الشرك بالله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: لا تتفرقوا في دين الله، كما تفرق الذين من قبلكم من بعد ما جاءتهم البينات، فأمرنا أن نتحد وأن نعتصم بدين الله وبشرع الله سبحانه وتعالى، وأن ندعو إليه، وأسه وأساسه وأعظمه توحيد الله سبحانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً) فالإسلام خمسة أركان، أعظمها وأعلاها توحيد الله سبحانه وتعالى، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فشرع لنا هذا الدين الذي هو ملة إبراهيم ونوح وآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكل الأنبياء على هذا التوحيد وهو لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عند المشركين وكبر عليهم أن تدعوهم إلى إله واحد وهم مشركون به سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) كان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم أن اختاره الله سبحانه وتعالى نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فالله نهاهم أن يجادلوا في ذلك، فليس الأمر إليهم، إنما الأمر إلى الله فهو الذي يجتبي إليه من يشاء ويهدي من يشاء، فيجعله رسولاً أو خليلاً أو نبياً، ويوحي إليه أو ينزل عليه ملكاً من السماء، فهذا الأمر إلى الله عز وجل.
فالله الذي فعل ذلك، وأغلق باب الجدل في ذلك، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، فالله هو الذي اختار محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولاً نبياً، فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ويهدي إليه أيضاً من يشاء، ولكن للهداية أسباب يأخذ بها الإنسان، أما الاختيار والاصطفاء في أمر الرسالة أو النبوة فلا أسباب لها، فلا يقول أحد: سآخذ بالأسباب لكي أكون رسولاً في يوم من الأيام، فالرسالة محض وهبة من الله عز وجل، وهي منحة من الله عز وجل فلا يوجد فيها أخذ بالأسباب.
والذين أخذوا بالأسباب لكي يكونوا رسلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدث أن أعطاهم الله عز وجل شيئاً، بل كفروا ولم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، فالله يختار من يشاء، ويهدي من ينيب إليه، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]، فيأمر الله العباد أن يأخذوا بأسباب الهدى من أجل أن ينالوا الهداية من الله، فإذا أردت أن تدخل الجنة فخذ بأسبابها وآمن أن الله يدخل جنته من يشاء، وحقق الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأسباب لدخول الجنة هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
فالأخذ بالأسباب فيما تنتج فيه الأسباب نتائجها، لكن الرسالة ليس لها أسباب حتى يقال: خذ بالأسباب لكي تكون رسولاً أو نبياً، ولذلك قطع الله هذا الأمر وقال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ)، أما الجنة والهداية فلها أسباب، فمن أخذ بالأسباب وصل في النهاية إلى الرب سبحانه وتعالى وإلى جنته، فخذ بأسباب الهداية يهدك الله، وخذ بأسباب التقى يجعلك الله تقياً، وخذ بأسباب الجنة يدخلك الله إياها.
وقوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: من يرجع إلى الله ويتوب إليه سبحانه وتعالى ويستغفره فالله يغفر له ويتوب عليه، والله كريم تواب رءوف رحيم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً، فالله عز وجل إذا رفع العبد يديه إليه ودعاه أن يعطيه شيئاً فالله يعطيه، أو أن يهديه فالله يهديه، مع الاعتقاد أن الله هو الموفق لذلك سبحانه وتعالى، وهو المعطي والهادي سبحانه وتعالى، فله الفضل أولاً وآخراً، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى ويعطي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً.
فالعبد أمامه طريقان: طريق السعادة وطريق الشقاء، والمؤمن يرى الطريقين وكذلك الكافر، وكل منهما بين الله عز وجل لهما طريق السعادة وطريق الشقاء، ولكن المؤمن زاده الله عز وجل بصيرة، فأنار له قلبه فاتبع هذا الطريق فسلكه، والكافر قلبه مظلم وممتلئ بالحقد والغل والحسد وبعدم حب الدين، فهو يرى أمامه ما ينفعه ومع ذلك يعاند ولا يريد أن يسلك هذا الطريق، فالله يهدي إليه من ينيب.
ومن ركن إلى الله عز وجل وتاب إليه تاب الله عز وجل عليه، ولذلك نرى ذلك في حكمة الله سبحانه وتعالى أن غفر لآدم ولم يغفر لإبليس، فآدم وقع في الخطيئة فراجع نفسه، واستشعر الذل والندم، فقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، فوفق الله عز وجل آدم أن يقول ذلك، فتاب الله عز وجل عليه.
وإبليس استكبر وأبى أن يسجد لآدم، وقال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، أي: أنا في مدة عمري أعبدك مع الملائكة، والآن سنسجد لهذا الذي خلقته من طين، فاستكبر، وكان إبليس يعرف ربه حق المعرفة، وعبد الله سنين كثيرة مع الملائكة، ثم أقسم بعزة الله سبحانه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، فهو يعرف التوحيد ويعرف ربه سبحانه وتعالى أنه هو العزيز سبحانه فلجأ إلى ذلك، وقال: (فَبِعِزَّتِكَ) ثم قال: أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14]، لأرى هذا الذي كرمت علي، كيف أصنع به؟
فلم تنفع إبليس معرفته بالله سبحانه وتعالى، ولم تنفعه عبادته مع الملائكة زمناً طويلاً؛ لأنه استكبر والجنة لا يدخلها مستكبر، فلما استكبر على أمر الله، وتكبر على آدم واحتقره ورفض أن يسجد له، استحق عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأبى إبليس أن يسجد لآدم استكباراً بعبادته لله سبحانه، وحقداً وغيرة أن الله أكرمه وجعله أحسن منه وهو مخلوق من طين، وتناسى أن الله إليه الخيرة في ذلك، فيختار من يشاء، ويرفع درجات من يشاء.
فلم يتفرقوا عن جهل، فالله بصرهم، وأرسل إليهم الرسل، وعلمهم وبين لهم، وأنزل عليهم الكتب وأقام عليهم الحجج، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر، وآتاهم الله التوراة، ثم أنزل على عيسى الإنجيل فتفرقوا وهم يعلمون.
فما تفرق أهل الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم، فتعلموا فكان منهم الأحبار والرهبان، وتفرقوا مع وجود العلم بسبب البغي فيما بينهم، فقد بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضاً، وعلا بعضهم على بعض، وغار بعضهم من بعض، وحسد بعضهم بعضاً على ما أعطاهم الله سبحانه، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:54]، فطلبوا الدنيا بالدين فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم دنياهم وأخراهم.
وتفرق أهل الكتاب شيعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهو الدين الخالص الذي نزل من عند الله على النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وقال سبحانه وتعالى: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40].
فالمنهج الذي جعله الله عز وجل للمؤمنين أنهم إذا اختلفوا ردوا الأمر إلى الله، قال تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حدث تنازع بين المؤمنين ردوا الأمر إلى الله ورسوله.
ومعنى قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، أي: إذا حدث خلاف، أو شاع إرجاف بين المؤمنين فليهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه إذا كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يكونوا في عهده فليلجئوا إلى أهل العلم ويسألونهم عن ذلك، فإنهم يستنبطون من الكتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلهم على ذلك، فرجعوا فيه.
وليس كل أهل العلم يستنبطون الأحكام وإنما بعضهم، والاستنباط لغة: هو إخراج الشيء الخفي.
واصطلاحاً: استخراج الأحكام الشرعية من مفاهيم الكتاب وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تنازع المؤمنون في شيء فليردوه إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم يستنبطون حكمه ويستخرجونه من كتاب الله ومن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، إما بالنص، أو بدلالة الإشارة أو بالعبارة، أو بالقياس على الشيء، فينظرون ويستخرجون حكم النازلة التي نزلت.
أما إذا تفرقوا إلى فرق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (كلها في النار إلا واحدة) وهم الذين هم على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كان كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف.
والإنسان الذي يظن بنفسه أنه أفضل وأعلم وأحكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جاهل مغرور، إنما العلم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الصحابة الأفاضل تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه، ثم أمرهم صلوات الله وسلامه عليه فقال: (بلغوا عني ولو آية) وأمروا بالبلاغ ليؤخذ منهم ذلك، فأخذ أهل العلم من الصحابة الأفاضل عقيدة الإسلام الصافية الخالدة، ودين رب العالمين الذي أنزله على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، واعتصموا بذلك ولم يختلفوا أو يتفرقوا، فإذا اختلفوا صاروا كالذين من قبلهم.
وقوله تعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، بغياً: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، أو بسبب أنهم بغى بعضهم على بعض حدثت الفرقة بينهم.
قال تعالى: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، الأجل المسمى هو يوم الحساب وهو يوم القيامة، يوم الجمع ويوم النشور ويوم الجزاء، وأجلهم في ذلك وعد من الله، ووعد الله حق، ولولا هذا الوعد لقضى الله عز وجل بين عباده.
قال تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أي: تفرق الذين من قبلنا بسبب البغي فيما بينهم، وورثوا الكتاب للذين من بعدهم، فأخذوا بالتوراة وبالإنجيل وهم في شك في قلوبهم من هذا القرآن ومن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله بين لهم، فوقعوا في الشك في النبي صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا القرآن ببعدهم عن الحق الذي كان عندهم في التوراة وفي الإنجيل، فقد حرفوا وأزالوا الحق عن مواضعه فصاروا في عمى لا يهتدون طريقاً، ووصفهم الله بأنهم ضالون ومغضوب عليهم، ولذلك يدعو المؤمن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، و(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود.
و(الضَّالِّينَ): النصارى.
وهم الذين تفرقوا في دينهم من بعد ما جاءتهم البينات ومن بعد ما جاءهم العلم، فصاروا في شك مريب، أي: موقع للريبة في القلوب.
قوله: (فلذلك فادع) أي: فلذلك الدين القيم، ولهذه الشريعة ادع الخلق إلى دين ربك وادع إلى كتابه.
قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، أي: استقم على دين الله سبحانه وعلى شرعه بتوحيدك لله سبحانه، ونفذ أوامره واجتنب نواهيه.
وقد أمره في سورة هود بالاستقامة على دينه سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها)، فسورة هود فيها ذكر القيامة وفيها ذكر الأشقياء والسعداء، قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108]، فشاب النبي صلى الله عليه وسلم مما أمره الله عز وجل في سورة هود، ومما أخبره بما سيكون في يوم القيامة من بعث العبيد وما يكون منهم من شقي وسعيد ومن حساب شديد.
وأخوات سورة هود هن السور التي مثلها في ذكر يوم القيامة والجزاء والجنة والنار، قال الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] فهو سبحانه وتعالى بصير وخبير بكم سبحانه وتعالى، ففي سورة هود أمر بالاستقامة كما في هذه الآية.
وهنا أمره سبحانه وتعالى بالاستقامة فقال: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فأمره أن يستقيم على هذا الدين، وهو مستقيم على دين الله عز وجل، وهذا من باب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، فيؤمر بالاستقامة وهو عليها عليه الصلاة والسلام، فالمؤمنون أولى بأن يستقيموا على دين الله سبحانه، ولا يتفرقوا فيه، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103]، ولا تزيغوا عن دين الله سبحانه.
1- (فَلِذَلِكَ فَادْعُ).
2- (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
3- (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ).
4- (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ).
5- (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ).
6- (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).
7- (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).
8- (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ).
9- (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا).
10- (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
فهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم قائم بذاته، ومعنى أراده الله عز وجل وأمر به، ومثلها آية الكرسي، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]
1- (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
2- (الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
3- (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).
4- (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ).
5- (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
6- (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
7- (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
8- (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ).
9- (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
10- (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
وهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم مستقبل بذاته.
وهذا من بلاغة وفصاحة القرآن إذ يأمر الله عز وجل فيها بأمر أو ينهى عن شيء.
فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الخلق لهذا الدين ولهذه الشريعة العظيمة.
ثم أمره بأمر آخر وهو أن يستقم على دين الله سبحانه كما أمر الله سبحانه وتعالى، والمعنى أن ينفذ جميع ما أمر الله به ويمتنع عن جميع ما نهى الله عنه، وهذا أمر بإقامة الدين كله، فمن حقه أن يشيب رأسه صلوات الله وسلامه عليه عندما يسمع ذلك.
وكذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد منا التوحيد؟ اعبد آلهتنا وادع إليها، ونحن نستجيب لك وندخل معك في هذا الدين، فيقول الله عز وجل له: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فلا يوجد في الدين قاعدة اسمها (الغاية تبرر الوسيلة)، أي: لكي يدخل هؤلاء في الدين فلا مانع أن نشرك معهم اليوم لكي يسلموا معنا غداً، فالدين دين خالص لله سبحانه وتعالى، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن أعرضوا فعليهم الجزاء من الله عز وجل، والدين دين قيم، ودين قوي، ودين لا يحتاج إليكم، بل أنتم الذين تحتاجون إلى الله الغني الحميد، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، سبحانه وتعالى، فهو مستغن عن العباد وعن عبادتهم، وأنزل الدين لتنتفعوا أنتم، لا لينتفع هو سبحانه وتعالى، فلذلك يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ).
و أبو سفيان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل فتح مكة، مر مع أبي بكر رضي الله عنه على مجموعة من المسلمين الذين كانوا مستضعفين قبل ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وإذا به ينظر إليهم وقد صاروا بعز في هذا الإسلام، فينظرون إليه ويقول أحدهم وهو بلال أو غيره رضي الله عنهم: أما أخذت سيوف الله من رقاب أعداء الله؟ أي: أنه بقي من رقاب أعداء الله أمثال أبي سفيان ، وكان شيخ الكفار في كفره، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك تعالى عنه.
فلما قالوا ذلك غضب أبو بكر رضي الله عنه، وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش؟! فـأبو بكر، يريد أن يتألفه ليسلم ويدخل في دين الله عز وجل، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لـأبي بكر : (ارجع إليهم فصالحهم، لعلك تكون أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء من المسلمين الذين كانوا يؤذون في مكة وكان يؤذيهم أبو سفيان ومن معه فقد أغضبت ربك، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال لـبلال ومن معه: لعلي أغضبتكم يا إخواني، فقالوا: لا، غفر الله لك.
فالله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس مع هؤلاء الفقراء، وألا يتركهم ليذهب إلى هؤلاء الكفار حتى لو كان الثمن دخولهم في الدين، فأمره الله ألا يجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً، وإذا أرادوا فليجلسوا مع هؤلاء الفقراء، وإذا لم يريدوا فلا يجلسوا فهم الذين يخسرون وليس المؤمنين.
فقال لنبيه: قل آمنت بما أنزل الله من كتاب، فالتوراة نؤمن أنها كتاب من عند الله ونزلت من عند الله، والإنجيل كتاب من عند الله، وكذلك صحف إبراهيم والزبور التي أنزلت على داود، فنؤمن بكتب الله التي أنزلها الله على الأنبياء السابقين إجمالاً، وأنها دعت الخلق إلى توحيد الله وإلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأفضل هذه الكتب وخيرها وخاتمتها كلها هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين.
قال تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، أي: أمرت أن أحكم بينكم بالعدل، وهذا أمر للنبي صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر