اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:73-76].
يضرب الله عز وجل لنا في هذه الآيات مثلاً، وأمرنا أن نستمع لهذا المثل فقال: فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] ولم يقل: فاسمعوا له من السماع؛ لأنه قد يمر الشيء على أذنك فقد تفهمه، وقد لا تفهمه.
ولكن الاستماع بمعنى: الإصغاء والتدبر والتأمل فيما يقوله الله سبحانه وتعالى.
فيضرب الله لنا الأمثال ويقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]، والبعوضة من خلق الله عز وجل فلا يستحيي أن يضرب المثل بها، وبما فوقها من كائنات يخلقها الله عز وجل.
فهي وإن كانت حقيرة في نظركم لكنها عظيمة جليلة في خلقتها؛ ولذلك لو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا شيئاً من أحقر الأشياء التي ينظرون إليها ويستقلونها في أعينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
فلذلك يضرب الله عز وجل المثل بهذا الشيء وإن كان يبدو لك حقيراً، ولكن خلقته خلقة عظيمة جداً، فالله الذي خلقه والذي قدره على أن يطير، والذي قدره على أن يؤذيك ويضايقك.
فانظر إلى الذبابة وسميت ذبابة؛ لتذبذبها وكثرة طيرانها، وذهابها ومجيئها، فهي مخلوق خلقه الله عز وجل يؤذي بطبعه فجعله الله عز وجل في الدنيا عبرة، وجعله يوم القيامة في نار جهنم عذاباً على أهل النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذباب كله في النار ليكون عذاباً لأهلها.
وفي الدنيا لا يقدر الإنسان على أن يمحو الذباب أو يفنيه، وقد يقلل منه، وهو يتكاثر سريعاً بأمر الله تعالى فيبقى ليؤذي الإنسان، وقد ينفع الإنسان به في أشياء كما ذكرنا في الحديث السابق.
فالله عز وجل يضرب لنا المثل بالذباب الذي نحتقره ونستصغره، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]، إنه لو اجتمع هؤلاء جميعهم العباد والمعبودون من دون الله سبحانه فلا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً.
قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73] فلو أن الذبابة وقعت على طعام أحدكم فأخذت منه شيئاً، وطارت به؛ ما قدرت أن تستنقذه منها.
وقد ذكرنا سابقاً كيف أنهم راقبوا هذا في الذباب ووجدوا أنه بمجرد أن تضع لعابها على الطعام وقبل أن يدخل في جوفها تحوله إلى شيء آخر يسهل امتصاصه والطيران به.
ولا يقدر أحد أن يستنقذه منها أبداً، قال سبحانه: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73].
والإنسان قد يكون قوياً، فيصارع إنساناً قوياً، ويغلبه ويأخذ منه ما سلبه إياه.
ولكن الذبابة الحقيرة تأخذ الشيء، ولا تقدر أن تسترجعه منها.
إذاً: اعرف قدر نفسك فالله عز وجل خلق الأشياء وسخرها لكم، وخلق أشياء ولم تقدروا على تسخيرها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] الطالب هو الذي يريد استنقاذ الشيء، والمطلوب هو الذبابة الضعيفة.
فكما ضعف الطالب عن الذبابة كذلك ضعفت الآلهة التي يطلبونها ويرجونها من دون الله عز وجل، وضعف عبادها، وهي لا تنفعهم إلا أن يتوبوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ويعبدونه وحده لا شريك له.
ومن هذه الآية يتبين عدم احتقار أي مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى، فلعل الله عز وجل يجعل فيه من القوة ما إنه يسلب منك شيئاً، فلا تقدر أن تسترد هذا الشيء منه.
ومعنى قوله تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:74] أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له.
والعجب من هؤلاء حين يعبد أحدهم هذه الأصنام ويسأل: كم آلهة تعبد؟ يقول: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء!
فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم حصيناً والد عمران بن حصين فقال: (من الذي لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء).
إذاً: عرفوا أن الذي في السماء هو الذي ينفعهم، وهو الذي يضرهم، وهو الذي يملك لهم كل شيء، ومع ذلك عبدوا غيره، وأوحت لهم الشياطين أنكم إنما تعبدونها لتقربكم إلى الله زلفى، وقد أمر الله عز وجل عباده بعبادته وحده، ونهاهم أن يشركوا به شيئاً، ومع ذلك أصروا على الشرك بالله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74] أي: إن الله قوي عزيز لا يمانع، يمنع ما يشاء، ويعطي ما يشاء.
فأجاب الله سبحانه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] أي: هل أنتم تقسمون لأنفسكم شيئاً أم الذي يقسم الأرزاق، ويقسم الرحمات هو الله سبحانه وتعالى؟
فهم قد عارضوا ربهم سبحانه وتعالى، وادعوا أشياء لا يحل لهم أن يدعوها، واعترضوا على نبوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى أنه يصطفي من يشاء.
وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة الذي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:8]، فقال الله عز وجل: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [الحج:75] أي: يصطفي من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى أنبيائه في الأرض، فالملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض اصطفاه الله عز وجل واختاره واجتباه من بين الملائكة، فهو مقرب إلى الله عز وجل، وكان من أعظم ملائكة الله عز وجل جبرائيل عليه الصلاة والسلام الذي نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء من قبله.
قال الله سبحانه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] أي: ومن الناس كذلك يصطفي رسلاً، فاصطفى منهم آدم، ونوحاً، واصطفى إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، واصطفى نبينا صلوات الله وسلامه عليه وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين بل على سائر خلقه.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]، فالله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يستحق أن يختاره من خلقه لرسالته، علام الغيوب يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء.
فالله عز وجل يعلم ما يكون أمامكم من أشياء وضعها الله عز وجل في أماكنها، وما أمامكم من زمان، وكم ستعيشون في الأرض؟ وإذا متم من يخلفكم؟ كذلك يعلم ما بين أيديكم من أعمال ستعملونها، وما خلفكم مما قد عملتموه، وكل ذلك عند الله عز وجل في كتاب.
قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ[الحج:76].
فكل أمر من الأمور مآله إلى الله عز وجل، ليحاسب من فعله يوم القيامة، فيسأل الإنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم.
يعلم الله عز وجل ذلك ويحاسب ويجازي العباد عليه، وإليه ترجع جميع أمور خلقه.
فالذين قالوا: ليست من عزائم السجود كـمالك وأبي حنيفة قالوا: هذه الآية أمرت بالركوع والسجود وكأنها أمرت بالصلاة، فعبرت عنها بالركوع والسجود.
لكن غيرهم قال: الأمر هنا بالركوع وبالسجود، فيسجد الإنسان لهذه السجدة، وذكروا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن هذه السورة فضلت بسجدتين فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما) وإسناده فيه ضعف.
وفي هذه الآية عطف العبادة على الركوع والسجود وهما عبادة فكأنه خصص ثم عمم.
إذاً: ذكر الركوع والسجود للمزية؛ ولأنهما علامة خضوع العبد لله سبحانه، ويظهر ذلك عندما يحني جبهته ويحني جسده لله تعالى، ويسجد على أشرف أعضائه، وهو وجهه فيجعله على الأرض مطيعاً لله رب العالمين.
قال الله سبحانه: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الحج:77] أي: ذللوا أنفسكم لربكم وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه، وافعلوا الخير بجميع وجوهه لعلكم تفلحون.
قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] وقد علم الله عز وجل أن المفلحين الذين يفعلون ذلك.
و(لعل) من الله عز وجل لا بد من تنفيذ ما ذكره سبحانه مرتبطاً بها، فهو أوجب على نفسه سبحانه أن يجعل دار الكرامة لمن أطاعه، ودار المهانة لمن عصاه، فقال هنا: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
ولعل معناها الرجاء عندنا فنحن نعمل الخير رجاء رضا الله وجنته، لكن الله تعالى قد علم الطائعين فأعد لهم جنته، والعاصين فأعد لهم ناره.
فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت أحدنا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
فالذي يجاهد ليعلي شرع الله سبحانه وليرفع كلمة الله هو الذي يجاهد في سبيل الله سبحانه.
ومن أعظم الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه في الله، وأن يجاهد أعداء دينه من الكفار ومن المنافقين.
وكذلك أن يجاهد في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك جاء في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) وإن كان الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولكن لا يتم الإيمان إلاَّ أن يعمل أعمالاً أخرى من أعظم هذه الأعمال: أن تكون أميناً مأموناً عند الناس في أموالهم وأنفسهم، فإذا كانوا معك فهم آمنون من شرك فلا تؤذيهم في أبدانهم .. ولا تخونهم .. ولا تخادعهم.
فيعطيك المال وهو آمن أنك سترد إليه ذلك، وأنك لن تخونه ولن تخدعه ولن تضيع عليه ماله، وكذلك في النفوس.
ومعلوم أن المسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عملاً آخر من أعمال الإسلام التي يجب على المسلم فعلها فقال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعليه فالمسلم هو الذي حصل أركان الإسلام، وكان من صفاته: أن الناس يسلمون من لسانه ويده، فلا يقع فيهم بغيبة، ولا بنميمة، ولا يشهد عليهم زوراً، ولا يفعل بهم فجوراً وغير ذلك من آفات اللسان.
ومن صفاته: أن يسلم الناس من يده فلا يؤذي بها أحداً إلا بحق الله سبحانه وتعالى، فيغضب لله، وينتصر لله عز وجل، ليس المؤمن الذي يؤذي ويلعن أو يطعن في الناس.
وقال في المجاهد: (من جاهد نفسه في طاعة الله) فقد يكون الإنسان يجاهد في سبيل الله عز وجل في الظاهر، وفي الباطن أنه ما قاتل إلا لدنيا يصيبها، أو قاتل ليقال عنه: جريء وشجاع.
ولذلك هنا ينبه النبي صلى الله عليه وسلم أنك لكي تجاهد عدوك حق الجهاد لا بد أن تجاهد نفسك في البداية على طاعة الله سبحانه، وعلى القيام بأمره وعلى الإخلاص وعدم المعصية.
ولا يتخيل أن إنساناً لا يجاهد نفسه سيجاهد أعداء الله سبحانه، بل ذلك دليل على أنه سيفر منهم.
فإذا كان في نفسه لا يصبر على طاعة الله ولا يصلي ولا يصوم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، ومن ثم يريد جهاد الكفار وهو لم يجاهد نفسه، فإن ذلك لمن العجب!
قال: (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) فالمهاجر من هاجر من مكة إلى المدينة، أو المهاجر الإنسان الذي يهجر دار الكفر ودار المعاصي إلى دار الإيمان ودار الطاعات، ولكن مع هجر الخطايا والذنوب، فالإنسان المؤمن يبتعد عن الخطايا وعن الذنوب، ويكون هاجراً لها ومخاصماً لها وبينه وبينها حواجز عظيمة؛ لأنه يطيع الله سبحانه.
قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، فحق الجهاد أن تجاهد في سبيل الله سبحانه وتجاهد نفسك فتلزمها بالطاعة وتنهها عن المعصية، وتجاهد الناس في الله فتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتجاهد المنافقين وتجاهد الكفار كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه، فمن فعل ذلك كان المجاهد حق الجهاد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل هذه الدرجة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر