أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:51-53].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قادر على أن يبعث في كل قرية وفي كل بلد منذراً، ولكنه شاء سبحانه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الرحمة للعالمين، فكان هو المرسل من عند رب العالمين اختياراً واصطفاء واجتباءً بهذه الرسالة الكريمة إلى الخلق أجمعين، إنسهم وجنهم، ليدعوهم إلى ربه سبحانه، وكما أن الله سبحانه وتعالى ينزل المطر من السماء ليحيي به الأرض، ويصرفه في البلاد بين عباده كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد أنزل القرآن العظيم رحمة منه ليحيي به القلوب، فكما جعل المطر حياة للأرض، فقد جعل القرآن حياة للقلوب، وكما صرف المطر كيف يشاء في كل قرية وبلد فقد أنزل القرآن العظيم على النبي صلوات الله وسلامه عليه ليدعو به الخلق أجمعين، على أن الله قادر على أن يعدد الرسل، قال سبحانه: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا [الفرقان:51]، ولكن الله أراد رفع درجة النبي صلى الله عليه وسلم فجعله وحده ليس في زمنه فقط ولكن في كل الأزمان اللاحقة لزمنه عليه الصلاة والسلام، فكان هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث إلى قيام الساعة وليس بعده رسول، إلا ما يكون من نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ليحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن وسنة، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم المسيح بن مريم حكماً مقسطاً فيقتل الخنزير ويرفع الجزية، ويكسر الصليب)، وبذلك علم أن أحكام القرآن هي التي تنفذ وليس غيرها إذا نزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، بل قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس ويؤمهم بعد نزول المسيح رجل منهم تكرمة لهذه الأمة، فإنها لا تؤم من غيرها.
والآية تبين أن الله عز وجل اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة إلى جميع الخلق وقد نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أو كافة)، أي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى انسهم وجنهم، قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ [الفرقان:52]، أي: فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم أو من جعل أيام لهم، ولغيرهم من المسلمين أياماً أخرى، أو لتمييزهم على غيرهم بل: وَجَاهِدْهُمْ [الفرقان:52]، والجهاد بالسيف في الأعوام المكية لم يكن قد فرض بعد، وإنما فرض جهاد السيف في المدينة، والمراد بالجهاد في الآية الجهاد بالحجة والبيان، والجهاد بالقرآن والإعلان، وهو المسمى بجهاد الدعوة وهو أن يخرج إلى الناس فيدعوهم إلى الله سبحانه ويحذرهم معصيته فإنها توجب غضبه وعقوبته، ووصف الجهاد المطلوب من النبي أن يقوم به بأنه جهاد كبير مبالغة في الحث على الدعوة إلى الله.
وإذا كان في القرآن الحجة البيان، إلا أنه ليس وحده آلة الجهاد فقد جعل الله عز وجل مع القرآن حكم الجهاد قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فإذا كان المسلم يحب رحمة رب العالمين سبحانه، ويحب أن يسلم في بدنه، ويأمن في نفسه ولكن الله عز وجل فرض عليه الجهاد والقتال في سبيله سبحانه وأمره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، كأمره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وكقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، إذ أن في القتال العزة لهذا الدين، والإعزاز للإسلام والمسلمين، ولذا فالله عز وجل حين فرضه لعل بعض المسلمين لم يفهم من الآية الوجوب فقال: لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، فلما جاهد المسلمون وجدوا حلاوة النصر، ووجدوا عزة التمكين بعد أن مكنهم الله سبحانه، وحينها أحبوا الجهاد في سبيل الله فلم يزالوا مجاهدين في سبيل الله، طالبين الشهادة والدار الآخرة حتى أعطاهم الله الآخرة والأولى، فأعطاهم الجنة في الآخرة وأعطاهم الدنيا، فصاروا هم الملوك على الدنيا يحكمون بشرع رب العالمين سبحانه، ودانت لهم الدنيا لأنهم أقاموا دين الله سبحانه، ونصروه، وأحبوا الآخرة، وأحبوا الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى، ففي مكة قال لنبيه: جاهدهم به أي: بالقرآن، وفي المدينة قال له وللمؤمنين: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، وقال أيضاً: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وقال سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، فأمر الله عز وجل المؤمنين بقتال الكفار، والكافر طالما المؤمن يستعد له فإنه يخاف منه، أما إذا نام المسلم ونسي نفسه: فإن الكافر يتحرش به، ويعلو فوقه، ولا يتركه أبداً؛ لأن الدنيا إما أن يغلب المؤمن فيها بدين الله سبحانه فيعزه الله، وإما أن يغلب الكافر بكفره، ولذا ينبغي على الإنسان المؤمن أن يتمسك بدين الله ولا يخاف من أحد، فإنه إن هاب الكافر إستأسد عليه، كما أن المؤمن حين يترك دين ربه سبحانه فإن الله يخذله ولا ينصره؛ لأن من أسباب النصر أن يتعلم الإنسان المؤمن دين ربه وشرعه العظيم، وأن يتمسك به ويدعو إليه، ويجاهد في سبيله، فحينها ينصره الله سبحانه وتعالى.
وقد حفظ الله سبحانه ماء البحر بأن جعل الملوحة التي فيه تمنعه من التعفن، وحفظ الكائنات التي فيه بما جعل لها فيه من غذاءً، وما يسر له من تنفس، وحفظ ماء النهر بأن أجراه؛ إذ الماء العذب إذا وقف في مكانه ينتن، وجري ماء النهر يجعله عذباً فراتاً لا يتعفن ما دام جارياً، ومن حكمة الله سبحانه ورحمته بعباده أن حفظ لهم المياه بتلك الأوصاف المصاحبة لها، فلعلمه سبحانه أن ماء النهر عرضة للجراثيم، وعرضة للبكتيريا، وعرضة للأشياء التي تقع فيه، فقد حفظه الله عز وجل بالجريان، فإنه ما دام جارياً لا يتعفن؛ لأنه متغير دائماً، والنهر من المعلوم أنه عندما يصب في البحر، وعندما يصب في البحر يتبخر بفعل حرارة الشمس إلى السماء، ثم تدفعه وتحركه الرياح إلى مصب النهر، فإذا نزل المطر في أول النهر جرى النهر ليصب في البحر وهكذا تستمر دورة بين الأرض والسماء، يحفظ الله عز وجل العباد بهذه المياه وهذه الأمطار، كما يحفظ الله العيون في الآبار بهذه الصورة، إذ أن ماء العيون نابع من مياه جوفية داخلية، وقد جعل الله عز وجل المياه الجوفية على بعد كبير من سطح الأرض، بحيث تكون بعيدة عن نزول الجراثيم إليها، وبذلك يحفظها الله سبحانه وتعالى في جوف الأرض، وهذا من آيات الله العظيمة سبحانه، قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان:53]، أي: أرسل البحرين أو جعلهما يضطربان فيختلطان، ومنها أمر مريج، قال تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]، أي: أمر مختلط مضطرب، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا ثم شبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه، فقال له
فقوله في الحديث: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم)، أي: صار الناس أهل منكر، ولم تقدر على تغيير هذا المنكر الذي من علاماته: أن تبقى العهود كثيرة مختلطة مضطربة، لا يفي أصحاب العهود بشيء منها، وقوله: (خفت أماناتهم)، أي: كثرت فيهم الخيانات، والمعنى: إذا رأيت الناس على هذا الحال وكانوا مختلطين مضطربين لا رأي يجمعهم، ولا دين يوجههم فابتعد عنهم، ما دمت غير قادر على أن تصلح فيهم شيئاً وتخشى على نفسك أن تتغير معهم، وعجزت عن إصلاحهم، أما إذا كان المؤمن يقدر على الإصلاح فيلزمه أنه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى لعل الناس يستجيبون له، وفي الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). فقوله في الحديث (مرجت العهود)، أي: اختلطت، وكذلك يكون معنى مرج في قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان:53]، أي: جعلهما يختلطان أو يدخل هذا في ذاك، وهما كما وضعهما سبحانه:
قال: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان:53]، فالفرات: شديد الحلاوة أو شديد العذوبة، والأجاج: شديد الملوحة التي فيها مرارة، ثم قال سبحانه: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:53]، قال القرطبي في تفسير البرزخ: أي: حاجزاً من قدرته، فلا يغلب أحدهم على صاحبه، و(حجراً محجوراً) قال: أي: ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، وأمر التقاء البحرين ووجود آخر لم يره الكثير من العرب وخاصة عند نزول هذه الآية، فمن البعد بمكان أن يذهب الناس إلى مصر لينظروا نهر النيل وهو يصب في البحر المتوسط مثلاً، أو غيره من الأنهار وهي تصب في البحار، ولكن الله سبحانه وتعالى يخبر عباده بهذه الآيات العظيمة العجيبة في مدلولها، فيقول: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان:53]، ولم يذكر بحرين معهودين عند الناس كأن يقول مثلاً: البحر الفلاني والبحر الفلاني، بل الآية عامة في كل بحرين يلتقيان، وخصهما في هذه السورة فقال: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان:53]، وأطلق في سورة الرحمن فقال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:19-20]، فاحتمل البحر الملح والبحر العذب، واحتمل البحران المالحان.
وكان في هذه الباخرة أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، وأن البحار المالحة حين تلتقي لا تختلط مياهها، فماء البحر له خصائص معينة وماء المحيط لها خصائص أخرى، وإن كانا مالحين: فإن ملوحة الأول بدرجة معينة وملوحة الثاني بدرجة معينة، كما أن في البحر كائنات حية ليست موجودة في المحيط، وفي المحيط كائنات لا تعيش في البحر، كذلك الماء العذب مع الماء المالح، فإن لكل منهما كائنات حية وأسماك تعيش بداخله لا تستطيع أن تعيش في الآخر، والأعجب من ذلك أن البرزخ: وهو المنطقة التي يلتقي فيها ماء البحر مع ماء النهر، يقولون: كأن حاجزاً يحجز هذه المنطقة عن غيرها فلها كائنات حية تعيش فيها فقط فإذا خرجت منها إلى ماء النهر أو ماء البحر تموت، فإنها لا تعيش إلا في هذا البرزخ الذي قال عنه الله سبحانه: وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:53]، أي: مانعاً ممنوعاً فالداخل فيه ممنوع من الخروج منه؛ لأنه حين يخرج منه يموت. يقول العلماء: بينت هذه الباخرة بعد الدراسات أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، ولقد أقاموا محطات ثم قاسوا النتائج من هذه المحطات ووجدوا أن البحار المالحة تختلف فيها الحرارة والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، وفي سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين، ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت بعد أن قامت مئات المحطات البحرية بدراسة البحار والمحيطات والأنهار، حيث وضع في كل محطة هيئة علمية مؤهلة للدراسة والبحث، وكان خلاصة هذه الأبحاث أنهم توصلوا إلى أن مياه البحار مختلفة عن بعضها فكل بحر له خصائصه التي يختلف بها عن المحيط، والمحيط له خصائصه التي يختلف بها عن منطقة التقاء البحر بالمحيط، وأنهما برغم اختلاطهما لا يغير واحد منهما الآخر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر