قال الله عز وجل في سورة غافر: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:23-27].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بآيات من عنده سبحانه، وهي المعجزات التسع: اليد، والعصا، والسنين، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، فالله سبحانه جعل هذه آيات لقوم فرعون حتى يعودوا إلى ربهم سبحانه وتعالى ويتركوا كفرهم، فأبوا إلا أن يستمروا على ذلك.
قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [غافر:23]، أي: حجة بينة واضحة، إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:24] .
إلى فرعون الذي زعم أنه إله، وطلب من قومه أن يعبدوه من دون الله سبحانه، ثم زعم أنه رب، واستخف عقول قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين.
وهامان هو وزير فرعون، ذلك المجرم الذي ينفذ لفرعون ما يريد، قال تعالى عنهما: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37] فاستجاب لفرعون وبنى له برجاً عالياً حتى يرقى عليه فرعون، ويزعم أنه نظر في السماء فلم يجد فيها إلهاً، وصدقه قومه لكفرهم، خدعهم فرعون فانخدعوا وكانوا خفاف العقول، كما وصفهم الله عز وجل بقوله: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54].
وقارون كان قريباً لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قالوا: إنه كان ابن عم له عليه الصلاة والسلام، هذا موسى المؤمن رسول رب العالمين، وذاك قارون الكافر من بني إسرائيل، كان يحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله عز وجل كنوزاً عظيمة، فكان يؤمر بأن ينفق على الفقراء لكنه كان يستكبر عن ذلك، وينظر إليهم بأنهم لا يستحقون، فهو صاحب هذه الكنوز العظيمة، وربما تنتهي عليه، فكان موسى يقول له: أنفق على بني إسرائيل، ولكنه كان متكبراً مغروراً، يتقرب إلى فرعون مع معرفته بالحق الذي مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقال هؤلاء الثلاثة ومن معهم: سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:24] ، قالوا عن موسى عليه الصلاة والسلام لما رأوا الآيات البينات: سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:24]، كما قال تعالى في آية أخرى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الزخرف:49]، وذلك حين جاءتهم الآيات من عند الله سبحانه آية وراء آية، فكلما ازداد عليهم الضيق يهرعون إلى موسى ويقولون: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، فعندما يكشف الله عز وجل عنهم العذاب إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الأعراف:135] ، فلم يستقيموا على طريقة أبداً مع موسى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هذا ساحر، ووصفوه بأنه كذاب.
وهنا عندما يذكر الله عز وجل ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة -سورة غافر- وهي من السور المكية؛ فكأنه يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لست أول من قيل لك: إنك كذاب، فقد قالوا قبل ذلك لموسى وقالوا لنوح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقالوا لغيرهم من الأنبياء والرسل، قالوا عنهم: سحرة، وقالوا عنهم: إنهم كذابون، وقالوا عنهم: إنهم مجانين، وقالوا ما قالوا عن رسل الله، ولذلك فالإنسان الذي يدعو إلى الله لا ينتظر أن تكون الطريق التي يدعو فيها إلى الله عز وجل مليئة بالورود، وأنها ممهدة له، بل كما ورد في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه) ، فيأتي البلاء من الله عز وجل لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ ليثبتهم ويثبت من معهم، وحتى يميز الخبيث من الطيب، فالمؤمن يثبت على طريق الله سبحانه وتعالى، والذي في قلبه مرض يتزلزل ويتزعزع ويترك وينصرف عن دين الله سبحانه وتعالى، فهذا موسى قالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كذاب، وكذلك قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه مثل ذلك.
لما جاءهم موسى بالحق والبينات من عند الله سبحانه وتعالى قال فرعون ومن معه: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [غافر:25] ، وهذه هي المرة الثانية التي يأمر فيها فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، والمرة الأولى قبل ميلاد موسى عليه الصلاة والسلام، والآن بعدما بعث الله عز وجل موسى لفرعون يدعوه إلى الله سبحانه، ففرعون أمر بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، فقال: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غافر:25] اقتلوا أبناء المؤمنين، وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [غافر:25] استحيوا من الحياة، أي: استبقوهن أحياء، أي: اقتلوا الأبناء واتركوا النساء أحياء؛ لأن النساء لا خوف منهن، فدعوا النساء وذروهن أحياء للخدمة، لخدمة فرعون وجنوده وقومه وملئه.
يقول الله عز وجل: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]، فقد كاد فرعون لموسى ولبني إسرائيل -للمؤمنين الذين مع موسى عليه الصلاة والسلام- ولكن وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ [غافر:25]، هذه جملة من الله سبحانه وتعالى يختم بها هذه الآية، فلم يقل: كيد هؤلاء فقط، ولكن كيد كل الكافرين، جعل الله عز وجل كيدهم هباء منثوراً، وجعل كيدهم في تدمير، وفي ضلال وفي هلاك وفي خسران، فمهما كادوا للمؤمنين وانتصروا في وقت من الأوقات فلابد أن يظهر نور الله سبحانه، وأن يأتي الحق ويكون -رغماً عن الكافرين- هو المنتصر وهو الغالب، قال سبحانه: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]، فهم يكيدون لربهم سبحانه، ويكيدون لأولياء الله عز وجل، ويأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإن ترك المؤمنين في فترة من الفترات بسبب تقصيرهم، وبسبب ذنوبهم، فإنه لحكمة منه سبحانه يبتليهم، ولكن في النهاية يأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإلا أن يخزي الكافرين، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]، وقال سبحانه: يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، ويقول: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17].
فرعون يقول لقومه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26] كأنه بلغ به في النهاية الغيظ والحنق من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى أن يقول ذلك، وكأنه وجد من خوفه من دعاء موسى كما دعا قبل ذلك بالسنين ونقص من الثمرات، وجاء الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكأنه استهان بدعاء موسى فقال: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26]. أي: ليعمل الذي يريده، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] .
وقوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى [غافر:26] هذه قراءة الجمهور، وقرأ الأصبهاني عن ورش وقرأها ابن كثير : (ذَرُونِيَ أقتل موسى، بفتح الياء.
وقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26] أي: دعوه فليدع وليفعل ما يشاء، وسنرى من الأقوى؟
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر:26] هذه أيضاً قراءة الجمهور: إِنِّي أَخَافُ [غافر:26]، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو :(إِنِّيَ أَخَافُ)، بفتح الياء.
وقوله: (أو أن يظهر) فيها أربع قراءات:
أَوْ أَنْ يُظْهِرَ [غافر:26] وتقرأ بالواو: (وأن يظهر)، وتقرأ: (يَظهَر) و(يُظهِر)، فقراءة حفص ويعقوب: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) يظهر: فعل رباعي، كأنه يزعم أن موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي سيفسد وسيظهر الفساد، والفساد في نظر فرعون هو طاعة الله سبحانه وتعالى، وترك عبادة فرعون هذا المجرم الحقير، فكأنه رأى أن موسى سيفسد الناس، وسيظهر الفساد بعبادة رب العباد سبحانه وتعالى، فقال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].
أما قراءة باقي الكوفيين: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف : (أو أن يَظهَر في الأرض الفساد)، وكأن فرعون يقول: أنا خائف من أن يظهر الفساد في الأرض، وهو أكيد يقصد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن على هذه القراءة الفعل من السداسي، أي: أن الفساد سوف ينمو بسبب موسى وبسبب من معه.
أما نافع وابن كثير وأبي جعفر فيقرءون: (وأن يُظهِر في الأرض الفساد)، وأما ابن عامر فيقرأ: (وأن يَظهَر في الأرض الفساد).
إذاً: جميع القراءات مرجعها إلى أن فرعون خائف من أن موسى سوف يظهر الفساد في الأرض بزعمهم، فهو خائف من موسى ومن معه أن يفسدوا ويظهروا الفساد في الأرض، وهم يعنون بذلك دين الله سبحانه وأن فيه الفساد، وكذلك نظر الكفار في كل عصر من الأعصار، فإنهم ينظرون إلى دين الله على أنه هو الفساد، وأنه الذي لا يراد، ولذلك قال كفار قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب الله: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً، أي: دين الإسلام، فغرور الإنسان يدفعه إلى أن يعظم نفسه ويقول: أنا سباق للخير، لو كان الدين هذا خيراً لكنت أنا من أصحابه، فطالما أني لست من أصحابه فهذا ليس خيراً، هذه هي نظرة الكفار لجهلهم وحماقتهم، قالوا ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا بأول من قال ذلك، فهذا فرعون قال ذلك قبلهم بآلاف السنين، قال ذلك لموسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ [غافر:27]، أي: استجرت بالله، ألجأ إليه، وأعوذ به، وأعتصم وألوذ وأحتمي به سبحانه وتعالى، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي [غافر:27] هذا موسى وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن بني إسرائيل لم يكونوا مع موسى على استقامة دائمة حيث يدعوهم لجهاد فرعون، فإنهم كانوا يخافون، فموسى يجد نفسه وحيداً ليس معه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27]، أي: من كل إنسان متعاظم في نفسه، كفر بالله، وكفر باليوم الآخر، وظن في نفسه أنه يقدر على كل شيء، فأعوذ بالله من فرعون ومن معه، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ [غافر:27].
وفي هذا بيان للعقيدة الصافية، فموسى يقول لفرعون: ربي هو ربك، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [غافر:27] أي: عذت بالذي هو ربي والذي هو ربك، فلست رباً ولست إلهاً، وإنما الرب الذي خلقك والذي يستحق العبادة هو الله وحده سبحانه وتعالى، فقال لفرعون: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27].
وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا [غافر:28] هنا نلحظ التلطف في الخطاب، فإنه لو قال لهم: أنا مؤمن معه لقتلوه مباشرة، ولكنه تلطف معهم في الخطاب من أجل أن يتدرج معهم في الحجج، فقال لهم: انظروا وتدبروا وتأملوا وتفكروا، لقد أتى لكم بآيات قبل ذلك، آيات بينات، وأنتم رأيتموها، وكنتم تقولون له: ادع لنا ربك، أي: أنه أتى بالآيات هذه من عند ربه، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا [غافر:28]، هنا إدخال الشك في نفس الإنسان المجادل المخاصم، فهو يقول لهم: إذا فرضنا جدلاً أن موسى هذا كان كذاباً فذنبه على نفسه، أما إذا كان صادقاً فكيف يكون الأمر؟! ففكروا فيما جاءكم به، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28].
ومؤمن آل فرعون هذا قيل: اسمه حبيب النجار ، وقيل: اسمه شمعان، أو حزقيل، لكن لا يهمنا اسمه، وإنما الذين يهمنا هو فعله العظيم الجميل، وجداله بالتي هي أحسن مع هؤلاء، والتدرج معهم في البيان حتى يقبلوا منه هذه الحجة أو يرفضوها، فيقول لهم: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28].
يقول لهم: موسى عليه الصلاة والسلام لم يذنب، فما الذنب الذي جناه حتى تقتلوه؟ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] فتفكروا في الآيات واتركوا ما يقوله الآن، ولكن انظروا في الآيات، ولذلك لمعرفة أي رسول أنه رسول لابد أن يأتي بآية، فإذا أتى بمعجزة يقهر بها البشر، ويرون أنه صادق فيما يقول، وأنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثل ما أتى به؛ فيلزمهم أن يصدقوه فيما يقول، أي: أن للناس على أي رسول أن يقولوا: هات آية تثبت أنك رسول من عند رب العالمين، فيأتيهم بمعجزة يتحداهم بها، معجزة يتحدى بها القوم ويعجزهم أن يأتوا بمثلها، فإذا غلبوا فيلزمهم أن يصدقوا وأن يؤمنوا بما جاء به من شريعة من عند رب العالمين.
ولهذا قال: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] ، ثم افترضوا: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله عز وجل سوف يحاسبه ويعاقبه، ولو كان صادقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، وهو يعدكم بالجنة في الآخرة فسوف يصيبكم من الجنة، ويعدكم في الدنيا بأن يؤتيكم الله الثمرات ويؤتيكم البركات ويؤتيكم الخير، فسوف يصيبكم بعض الذي يعدكم من خير ومن نعم من الله عز وجل.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ [غافر:28] أي: على نفسه في معصية الله سبحانه وتعالى بسفك الدماء، أو بفعل الحرام، كَذَّابٌ [غافر:28] أي: مفتري، يفتري على الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر