وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن الله جل وعلا خلق عباده لأمر عظيم ألا وهو: عبادته جل وعلا وحده دون سواه، قال ربنا وهو أصدق القائلين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
فكل ما حال بين العباد وبين تحقيق هذه الغاية العظمى من عبادة رب العباد جل جلاله يسمى فتنة، وتعظم هذه الفتنة بمقدار صدودها عن عبادة الرب تبارك وتعالى، فالعباد أجمعون إنما خلقوا ليعبدوا الله، فإذا عظم ذلك الصدود عن عبادة الله وإفراده جل وعلا بالعبادة عظمت تلك الفتنة.
ولما كان أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من لدن نوح إلى نبينا عليه الصلاة والسلام إنما بعثوا ليعرفوا العباد بربهم جل وعلا، أعلمهم الله أنه أعطى أحد خلقه بعض الخوارق التي تلبس على الناس دينهم، ولئن عرف التاريخ الإنساني من زعم أنه نبي، وعرف أفراداً قلائل زعموا أنهم أرباب من دون الله، إلا أن أولئك الذين زعموا أنهم أرباب من دون الله لم يعطوا حظاً من مكانة أو قدرة تدلل على شيء مما يقولون، فعرف الناس كذبهم، وما اتبعوهم إلا خوفاً من سيوفهم وسياطهم.
لكن الدجال أعطي خوارق تلبس على الناس دينهم كما سيأتي، ومن هنا عظمت فتنته، قال صلوات الله وسلامه عليه: (ما من فتنة من خلق آدم إلى أن تقوم الساعة هي أعظم من الدجال)؛ لأن الدجال ينجم عنه الصد عن إفراد الله جل وعلا بالعبادة لما آتاه الله جل وعلا من الخوارق حتى تكتمل فيه الفتنة العظمى.
وهذا التمهيد نزدلف به إلى ما يلي: أن الله جل وعلا وحده من بيده الهداية، فلا يقدر أحد على صرف المحن، ولا يثبتك عند الفتن إلا هو، ولا يرزقك الثبات في الدنيا والآخرة إلا هو، فما يقوله العلماء والمرشدون والوعاظ من أساطين البيان وأمراء الألفاظ يبقى هباء منثوراً، بل قد يكون نقمة إن لم يكتب الله جل وعلا لذلك الكلام نفعاً وأثراً في قلبك، قال الله جل وعلا حكاية عن نوح مع قومه: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:32-34].
فلا يمكن لقلب أن يتعظ إلا إذا أراد الله جل وعلا له أن يرزق الموعظة الحسنة، بصرف النظر عمن خاطبه، فنحن لا نقول إلا كلاماً مكروراً سطره العلماء وردده الوعاظ، ونعيده في جيلنا، ويعيده غيرنا في جيله، والهداية الحقة والخاصة بيد الله تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل ما نقول ونسمع حجة لنا لا علينا.
على هذا نزدلف أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم حذروا أممهم من الفتن، ولما كان الدجال أعظم صاد عن دين الله عظم تحذير أنبياء الله ورسله من هذه الفتنة.
ومجمل الحديث فيه من الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الدجال وأخبرهم عنه، ثم قدم إلى المدينة بعد ذلك الخبر النبوي تميم بن أوس الداري من غسان، وهي قبيلة عربية يمانية معروفة، فقد ركب تميم وأصحاب له البحر طلباً للتجارة، فماج بهم البحر شهراً، وضربتهم أمواج البحر إلى جزيرة في البحر، فلما دنوا منها وجدوا مخلوقاً غريب الخلقة، عليه شعر كثير، فسألوه: من يكون؟ قالت: أنا الجساسة.
قال الشراح: سميت بذلك؛ لأنها تتجسس الأخبار للدجال، فأدخلتهم إلى مكانه فرأوا رجلاً عظيم الخلقة مقيداً بيديه إلى عنقيه، قالوا: من أنت؟ فلم يستخفوه بسؤالهم؛ كان ثبتاً، قال: بل أنتم من أنتم؟ قالوا: نحن قوم من العرب ماج بنا البحر حتى آل بنا الأمر إليك، فسألهم عن ثلاثة مواطن في أرض فلسطين: عن نخل بيسان، وعن بحيرة طبرية، وعن عين في قرية يقال لها: زغر، فأجابوه أن نخل بيسان ما زال يثمر، وأن بحيرة طبرية ما زالت فيها ماء، وأن تلك العين ما زالت تنبع، فأخبر أن الأمر قريب أن يحرم الناس من هذا كله؛ بأن النخل لن يثمر وبأن البحيرة ستجف، وبأن العين ستنضب.
فسألهم عن نبي الأميين فأخبروه أنه خرج.
فسألهم: هل قاتله العرب؟ فأخبروه، فأخبرهم بعد أن أجابوه عن نفسه، قال: أنا المسيح الدجال ، ويوشك أن أخرج.
بناء على صحة هذا الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح فإن الدجال حي وهو مسيح ضلالة، كما أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حي وهو مسيح هدى، مرفوع في السماء، قال الله جل وعلا: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157-158]، هذا الحديث عن مسيح الهداية عيسى بن مريم.
وكلاهما حي، وسيخرجان في آخر الزمان على ظاهر الأحاديث، ويكون على يدي عيسى بن مريم قتل المسيح الدجال.
قال: يوشك أن أخرج، ففي زمنه صلى الله عليه وسلم في المدينة تحدث صلى الله عليه وسلم ذات يوم عن الدجال، ورفع وخفض، أي: أكثر، حتى ظن الناس أن الدجال قريب منهم في نخل المدينة، فأخذوا يتحسسون من فيها، فسألهم صلى الله عليه وسلم: ما بالكم؟ فأخبروه أن طريقة عرضك للحديث جعلتنا نشعر أن الدجال قريب، فقال صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أنا أخوف عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)؛ لأن الفتن إنما تواجه بأمرين:
تواجه بالعلم والإيمان، ولا يمكن أن يكون هناك أحد جمع الله في قلبه علماً وإيماناً مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالنبي أراد أن يقول لهم: إنه لو خرج وأنا بين أظهركم فأنا كفيل أن أكشف باطله وأرد كيده بإذن الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن يخرج بعدي -أي: وأنا لست فيكم- فكل امرئ منكم حجيج نفسه) وجاء في رواية صحيحة: (يكفيكم الله إياه بالصالحين).
على هذا أشيع أن غلاماً يهودياً يتقول أقوالاً تحدث لبساً، كان هذا المتقول اسمه صياف أو صاف وعرف بين الناس بكنية ابن صياد ، وهذا الرجل يأتي بأمور يخلط فيها ما بين الكذب والصدق والحقيقة والخيال، فظنه بعض الناس أنه الدجال حتى هم عمر بقتله، ولم يكن يوم ذاك على ما يبدو لدى النبي صلى الله عليه وسلم علماً من ربه كامل في قضية الدجال، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عمر عن قتله.
ثم ما زال الوحي ينزل عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيه الله جل وعلا أخباراً عن الدجال يتضح فيما بعد أنه لا يمكن أن يكون الدجال على الأظهر هو صاف أو ابن صياد ذلك الغلام اليهودي الذي كان حياً في المدينة.
لكن ذلك الغلام كان يطمع في المدح، ولفت النظر إليه، فتارة يخلط الصدق بالكذب، وتارة يتبرأ من كونه دجالاً، وتارة يقول أقوالاً يوهم الناس أنه هو المسيح الدجال.
وعلى هذا مات النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أظهر الأدلة على أنه ليس الدجال أن النبي أخبر أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، وهذا الرجل كان يقطن في المدينة، وقد ثبت في رواية صحيحة أنه ادعى الإسلام وحج، ودخل مكة، لكن ينجم على هذا الإشكال خبر في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رأى في منامه كأنه عند الكعبة رجلاً تضرب لمته إلى منكبيه، يتقاطر منه كالجمان، قلت: من هذا؟ أي في المنام، قيل لي: هذا المسيح عيسى بن مريم، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا خلفه رجل جعد قطط، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال.
الإشكال في الحديث كما حرره الحفاظ والعلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الرؤيا رآها وكأنه في المنام عند الكعبة، قالوا: فكيف يتفق هذا مع ما ثبت في صحيح الأخبار أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة؟
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة عدة أرجحها والعلم عند الله أن هذه الرؤيا وإن كانت رؤيا الأنبياء حق إلا أنه لا يلزم أن تكون على ظاهرها، فكم من رؤيا رآها الأنبياء لا تقع على ظاهرها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر وله ثوب يجره، فكان تأويل هذا بالدين، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب لبناً خرج من أظافره، وأعطى فضلته لـعمر ، فكان تأويل هذا بالعلم، فهذه كلها أولت على غير ظاهرها، فكذلك رؤياه صلى الله عليه وسلم للدجال عند الكعبة يئول على غير ظاهره، وهذا أفضل ما قيل في تخريج الأحاديث، والعلم عند الله.
على هذا نقول: إن الدجال ما زال حياً على ظاهر رواية فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها.
والجواب عن الأحاديث التي وردت، حديث: (ما من نفس منفوسة يبقى عليها مائة عام) فهذا يحمل على أنه مستثنىً كما استثنى الله جل وعلا إبليس فإنه حي قطعاً، ولا يدخل في حديث العموم الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم.
مات صلوات الله وسلامه عليه وقد بين للأمة ما يعنيها في أمر دينها: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
مكان خروجه، والجمع بين الروايات يدل على أنه يخرج أولاً في خراسان، ثم يخرج من طريق بين الشام والعراق، وأما لبثه في الأرض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، لا يبقي أرض إلا يطؤها إلا مكة والمدينة) ومن هنا قال العلماء: إن من أسباب العصمة من فتنة الدجال سكنى مكة والمدينة. (وأنه يمكث في الأرض سرعته في التنقل كالغيث استدبرته الريح) كما قال صلى الله عليه وسلم.
قلنا من قبل أنه وجد أفراد ادعوا الألوهية كفرعون والنمرود ، لكن فرعون والنمرود لم يأتوا بدلائل تدل على أنهم يملكون شيئاً من الربوبية، أما هذا فهو قطعاً لا يملك شيئاً من الربوبية، لكنه يملك فتناً تلبس على الناس، ولهذا وصفت فتنته بأنها أعظم فتنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أو الدجال فشر غائب ينتظر) يمر على القرية الخربة فيدعو أهلها إلى الإيمان به فيستجيبون، فلا يكلف نفسه أن يبحث عن كنوزها، وإنما يخرج منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل -كذكور النحل- تخرج لوحدها، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فيعود ذلك بالنفع على أهل تلك القرية وعلى أهل تلك البلدة، ويمر على القرية فيدعو أهلها فلا يجيبون فيتركهم مرملين مجدبين لم يبق عندهم شيء، وفي هذا فتنة.
ومعه نهران: نهر ماء أبيض رأي العين، ونهر نار تتأجج رأي العين، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أدركن أحدكم ذلك -أي: ذلك اليوم، وذلك النهرين- فليأت الماء الذي يرى أنه نار تتأجج فإنه ماء) ثم انظر إلى شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، قال يوصي الذي يدرك هذا اليوم، قال: (وليغمض عينيه)؛ لأنه إذا فتح عينيه سيراها ناراً عياناً، ولا يمكن عندها أن يقدم، وسيحجم على أن يأتيها، فحتى يأتي الحق أمره صلى الله عليه وسلم ونصحه بأن يغمض عينيه، كما تسقي ابنك الدواء أحياناً فإنك تعطيه إياه بطريقة يغلب على ظنك أنك لو أعطيته إياه بصورة واضحة لما قبله، فتعطيه إياه بصورة يقبلها فيها.
والمقصود من الحالين من ضرب المثال ومن الحال الأول قضية الوصول إلى النفع، قال صلى الله عليه وسلم: (فليغمض عينيه فإنه ماء أبيض) أي ما يراه الناس نار تأجج.
على هذا من أعظم فتنته استجابة الجمادات له كما بينا، وهو مكتوب بين عينيه كفر، وإحدى عينيه كأنها عنبة طافية، أي: أنه أعور العين اليمنى، وهنا أنخ أيها المبارك! مطاياك لتعلم أن الله جل وعلا يرى في كل مخلوق نقصاً، فالكمال المطلق له جل وعلا وحده، فهذا الرجل يزعم أنه إله، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، والكنوز أن تخرج فتخرج، ويطوف على الأرض كلها في أربعين يوماً، ومع ذلك يعجز أن يمسح ما هو مكتوب على جبهته، بل يعجز أن يمسح أثر العور عن عينيه، حتى يظهر النقص فيه، وقد قلنا مراراً: إن الإنسان إذا أراد أن يعرف عظمة الله فلينظر النقص الذي في المخلوقين، فالنقص الذي في المخلوقين أياً كانوا من أهل الحق أم من أهل الباطل، يريك عظمة الخلاق جل جلاله، فقد خُسِفَ القمر ليرى الناس عظمة ربهم تبارك وتعالى، ويشج رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكسر رباعيته، ويدخل المغفر في وجنتيه لعلم الناس كمال وجه الله تبارك وتعالى، وعلى هذا قس ما تراه من حوادث يدلك على عظمة الخالق تبارك وتعالى.
فهذا المخلوق على ما فيه من جبروت وعلى ما أعطي من خوارق إلا أنه يعجز أن يمسح أثر الكفر من على جبهته، وأثر الأذى والعور من عينه، قال صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه: كفر، يقرؤها كل مؤمن ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق).
يأتي المدينة فينزل في سباخها، فإذا نزل في سباخها يخرج له رجل شاب من أهل المدينة جمع بين العلم والإيمان، فيسأل الذين يحيطون بالدجال ممن آمنوا به من السذج عن هذا الرجل الدجال فيقولون له: إنه ربنا، فيكفر به، فيريدون أن يقتلوه، ثم يرون عليه ما يرغبهم أن يقدموا به على ربهم الذي يزعمون، ويريدون أن يستأذنوه فيقبل الدجال أن يدخل عليه؛ لأن الدجال يهمه أن يؤمن مثل هذا به، فيخرج هذا الرجل وقد جمع علماً وإيماناً، ولا يمكن أن تواجه الفتن إلا بهذين: بالعلم والإيمان.
فعندما يقدم إليه يقول له الدجال إنه الإله، فيقول له: بل أنت الدجال الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فيقتله الدجال ويجعله قطعتين، بينهما رمية الغرض، هكذا قال صلى الله عليه وسلم، ورمية الغرض هي المسافة التي يجعلها الإنسان بينه وبين الهدف الذي يتخذه لسهمه، فمن أراد أن يتعلم الرماية يتخذ غرضاً يصيبه ثم يبتعد عنه حتى يرميه، فهذا الدجال يقسم ذلك الفتى ثم يفرق قسميه مقدار رمية الغرض، والناس ينظرون، وهذا من أعظم الفتن، ثم يحييه فيقوم حياً، فيقول الدجال: ما تقول في؟ فيقول: ما ازددت بك إلا كفراً، أنت الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فيريد أن يقتله قتلاً حقيقياً فلا يسلط عليه، ويرى على ترقوته -على رقبته- نحاساً، فيقيده ويرميه في نهر يعتقد أنه نار، والحق أنه رماه في نهر يؤدي به إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (هذا -أي: الشاب- أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)؛ لأنه لا يوجد شيء ندعو إليه أعظم من التوحيد، وشهادة هذا الرجل أجلت للناس أمر التوحيد وبينت لهم كذب هذا الرجل -أي: الدجال- وبينت لهم أن الله جل وعلا منزه عن العيب والنقائص، وأنه لا يمكن لمؤمن أن يرى ربه قبل أن يموت، وبهذه الشهادة التي قام بها هذا الشاب قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).
الأمر الثاني: الاستعاذة بالله منه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى أمته أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات.
الأمر الثالث: قراءة فواتح وخواتيم سورة الكهف، فقد قال العلماء: إن المناسبة ما بين قراءة فواتح سورة الكهف وما بين التخلص من فتنة الدجال أن في فواتح سورة الكهف أخبر الله جل وعلا قصة أصحاب الكهف الذين نجاهم الله جل وعلا من ذلك الملك الظالم، فينجي الله جل وعلا من أدرك الدجال من فتنته بقراءة أخبار أولئك الأخيار الأبرار الذين حكاهم الله في القرآن، وأخبر الله جل وعلا أنهم استعاذوا بربهم ولجئوا إليه، فنجاهم الله جل وعلا من تلك الفتنة: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان ينبغي عليه ألا يعمد إلى الخروج إليه، خوفاً من أن يقع فيه، ومن هنا قاس العلماء أن الإنسان ينبغي عليه أن يفر من الفتن كلها، وألا يقربها حتى يتمكن من البقاء على دينه، وأن يعصم نفسه، فلا ينبغي لعاقل أن يقتحم أبواب الفتن، ظناً منه أن ينجو.
من الطرائق كذلك كما حررنا: سكنى مكة والمدينة؛ لأن الله جل وعلا حرم على الدجال تحريم منع وشرع أن يدخل المدينة، فسكناها في الغالب يقي من الدجال، ومن كتب الله عليه الضلالة فلو سكنها فوقع في قلبه المرض فإنه سيخرج إليه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن المدينة ترجف بأهلها وقت خروج الدجال، فيخرج منها كل كافر ومنافق يتبع ذلك المسيح الدجال.
هذا ما يتعلق بفتنة المسيح الدجال على وجه الإجمال، ويسوقنا الأمر بعد ذلك إلى أحاديث عدة نحررها فيما يلي:
الغيب لا يعلمه إلا الله، والله جل وعلا أخفى عنا الساعة، والقيامة تطلق علمياً على ثلاثة: على موت الإنسان، وهذه دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأثر: (من مات فقد قامت قيامته)، والأمر الثاني: هي التي يكون فيها فناء الدنيا، وهذا هو المقصود بالساعة إذا صرفت وأطلقت، قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].
وتطلق القيامة على الأمر الثالث وهو: بعث الأجساد ووقوف العباد بين يدي ربهم جل وعلا، هذا الموطن الثالث الذي تصرف إليه كلمة القيامة في القرآن والسنة، وهذا الغيب أخفاه الله جل وعلا عن كل أ حد، لكنه جعل له أشراطاً وعلامات، قال الله جل وعلا: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] ومن أعظم أشراطها خروج المسيح الدجال كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولا يخرج الدجال إلا وقد حصل المسلمون قبل خروجه على نصر عظيم، يكون أكثر الأرض قد وطد، وعلا شأن الإسلام، وفتحت القسطنطينية، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في قوله: (هل سمعتم بمدينة نصفها في البر ونصفها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فأخبر أنه سيفتحها سبعون ألفاً من بني إسحاق) أي: من الروم، وهذا يدل على أن أكثر الروم قبل الدجال يدخلون في الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه بعد فتحها -أي: هذه المدينة- يخرج الدجال في الناس، فهذا يدل على أنه يخرج بعد انتشار الإسلام.
واليهود لهم دور كبير في خروجه، قال صلى الله عليه وسلم: (يتبعه سبعون ألفاً -أي: الدجال- من يهود أصبهان).
الأمر الثاني: أن يعلم العبد أن الناس منهم أئمة في الخير ومنهم أئمة في الشر، وكلمة إمام لوحدها لا تعني مدحاً ولا تعني ذماً، قال الله جل وعلا عن فرعون وآله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41]، وقال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فكما أن المسيح الدجال داعية لفتنة عظيمة فإن عيسى بن مريم داعية هدى ورشد، وداعية إلى الخير صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان يتأمل نفسه وينظر صنيعه، ويحاسب ذاته في أقواله وينظر هل هو ممن يدعون إلى الخير ورأس هدى في البر، أو هو ممن تنكر الطريق وسلك طريق الأشرار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الكذب أيها المؤمنون مطية سوء، ولهذا المسيح الدجال عرف بالكذب وهو أعظم ما عرف به، وأعظم الكذب الكذب على الرب جل وعلا، وادعاء الألوهية، وهذا الكذب المحض الذي يرقى إليه شيء، وهو داخل في قول الله جل وعلا: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].
والإنسان مهما علا سلطانه وعظم بنيانه، وفخر بأي شيء آتاه الله جل وعلا إليه فإن مصير الخلق كلهم إلى زوال، ثم تبقى الأمور واحدة من ثلاثة: ما لا يكون بالله لا يكون، وما يكون لغير الله يضمحل ويفنى ولا يبقى له أثر، وما يكون بالله ولله هو الذي يبقى نفعه وإن ذهب أثره ينفع الله جل وعلا به من يشاء من عباده.
هذا ما أعان الله جل وعلا على قوله حول فتنة المسيح الدجال.
قال الرب تبارك وتعالى في سورة الزخرف: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:1-3] في هذه الآية فائدة علمية، وقد تمسك بها المعتزلة في أن القرآن مخلوق، إذ قالوا: إن (جعل) بمعنى: خلق، واحتجوا بأن الله جل وعلا قال: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، والمعنى خلق الظلمات والنور، وهذا القول الذي ذهبوا به باطل من وجوه: وهو أنه قبل أن شرع في بيانها نأخذ نظير لها، ثم نطبق هذا النظير على هذه الآيات التي بيننا.
ثمة أفعال لا يتضح معناها إلا من سياقها، فمثلاً قال الله جل وعلا: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99]، فأخبر جل وعلا بمثل هذا، والمقصود به النظر بالعين الباصرة، لأن الفعل (نظر) هنا تعدى بحرف الجر (إلى)، قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فالفعل نظر إذا تعدى بحرف الجر إلى يكون المعنى: النظر بالعين الباصرة، وإذا تعدى بحرف الجر (في) فإن المقصود به: التدبر والتأمل، يقول أحدكم: نظرت في أمري، يعني: تفكرت فيه، ولو كان لا يرى بالعين في المعنويات.
وقال الله جل وعلا عن أهل النفاق إنهم يقولون يوم القيامة: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] فلم يتعدى الفعل هنا لا بـ (إلى) ولا بـ (في)، فيصبح معناه أي: أمهلونا، من هنا نفهم أن أمهات الأفعال لا تعرف إلا في سياقها وما تعدت به، وكذلك الفعل (جعل) جاء في القرآن على أضرب عدة، فقد جاء بمعنى: سمى، قال الله جل وعلا: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] أي: سموا الملائكة إناثاً، ويدل عليه قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى [النجم:27].
ويأتي بمعنى صير، ومنه قول الله جل وعلا حكاية عن القرشيين في سورة (ص): أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] فجاء الربط هنا بالفعل جعل، ومعلوم أن القرشيين لا يقصدون بقولهم عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] أنه خلقها، وإنما قصدوا أنه صيرها إلهاً واحداً.
وجاء جعل في القرآن بمعنى: خلق، قال الله جل وعلا: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189].
يتحرر من هذا وفق قواعد العرب أن الفعل جعل إذا تعدى إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير، وإذا تعدى إلى مفعول واحد يكون بمعنى الخلق، فقول الله جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3] تعدى إلى مفعولين، فلا يكون بمعنى الخلق، فلا يصبح هناك حجة لمن زعم أن القرآن مخلوق، هذا إذا استصحبنا كذلك الأصل العظيم، وهو أن الله جل وعلا أخبر في قرآنه في آيات عديدة أن هذا القرآن منزل من عند الله تبارك وتعالى.
الفائدة الثانية: قال الله جل وعلا في الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ [الإسراء:105] ثم قال: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105]، والفرق بين المعنيين: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:105] بالحق أنزلناه أي: أنزلنا هذا القرآن متضمناً للحق، فالقرآن صادق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، قال الله جل وعلا: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].
أما قول ربنا جل وعلا: (وبالحق نزل) فهذا مثل من تبعثه برسالة تريد منها أن يوصلها إلى غيره، فحتى تصل رسالتك إلى غيره على النحو الأتم والوجه الأكمل لابد من توفر أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرسول أمين، لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، والأمر الثاني: أن يكون قوياً، لا يضعف أمام أحد فيغير في الرسالة، والقرآن نزل به من عند الله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: (وبالحق نزل) تدل عليها آي التكوير، قال الله جل وعلا في الثناء على جبريل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ [التكوير:19-20] أي: لا يقدر أحد أن يجبر جبريل على أن يغير القرآن الذي معه وهو ينزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لجبريل أن يغيره من تلقاء نفسه؛ لأن الله قال بعدها: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، فجبريل قوي وأمين في آن واحد، فأمانته تنفي الخيانة، فلا يمكن لجبريل لما اتصف به من الأمانة بشهادة رب العالمين أن يغير في القرآن، ولا يمكن لأحد أن يستغل ضعفاً في جبريل فيغير القرآن؛ لأن الله جل وعلا بشهادته لجبريل وصفه بأنه قوي، قال الله جل وعلا: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:6] أي: ذو قوة، وقال جل وعلا: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] فوصفه كذلك هنا بالقوة، وهنا يتحرر معنى قول الله جل وعلا: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105].
يحبس أهلها على قنطرة، فيخلص ما في قلوبهم من غل، قال الله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [الحجر:47]، ومر علي رضي الله عنه على طلحة والزبير وقد قتلا، فقال: أما إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43].
فيأتون أبواب الجنة وهم يملأ قلوبهم الشوق إلى وعد الله، فيجدونها قد أغلقت، فيأتون أباهم آدم: يا أبانا! استفتح لنا الجنة، فيقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ فيأتون نبينا صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد! فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلها الأنبياء ثم الصالحون.
ولا ينبغي لمؤمن يعرف الله أن يزاحم في شيء، ولا ينافس على أمر أعظم من أن يكون واحداً ممن يزاحمون على دخول باب الجنة، فكل ما قربك من هذه المزاحمة حري أن تصنعه، وكل ما نأى بك على أن تنأى بنفسك عن هذه المزاحمة حري بك أن تذره، وإنه سفاه منا أن يخبرنا الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا له فيها موضع قدم.
وهذا والله! حقيقة الغبن أن يخبر الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا فيها موضع قدم، على أن هناك حقائق يجب أن نعلمها، والدرس وإن أخذ جانب الوعظ، لكن هذا الذي به أرسل الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، فنحن لا ينبغي أن نتعلم العلم لننبز به الأقران، وننافس به غيرنا، ونختار من الألفاظ ما هو غريب، أو نأتي بالأشعار ما يقرب الناس منا أو يدلهم على فصاحتنا، فهذه كلها أمور إن جاءت تبعاً فحسن، وإن لم تأت فلا أتى الله بها، لكن ينبغي أن يوطن الإنسان قلبه على أمر عظيم، وهو أن يفوز ويظفر بدخول جنة عدن؛ لأنه إن لم تكن جنة كانت نار، ولا يوجد خزي أعظم ولا أكبر من النار، قال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:190-192].
فلا يوجد خزي يفر منه المرء أعظم من النار، ولا يوجد فوز ومطلب وبغية وغاية هي أعظم من الجنة، قال الله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [النبأ:31]، وهي الوعد الأعظم والبشارة الكبرى التي جاء بها الأنبياء وكتبها الله جل وعلا وعداً عليه مفعولاً، يسأله عباده منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرفع الإسلام ولا سؤال للصالحين أعظم من أن يسألوا ربهم دخول جنته، قال الله جل وعلا عنها: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا [الفرقان:16] أي: وعداً يسأله عباده إياه.
فإذا دخلوا الجنة أعطوا زيادة كبد الحوت، ثم ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ثم يمتعون فيها قليلاً حتى يجدوا لذتها، ثم يسمعون منادياً ينادي: يا أهل الجنة! فينظرون من شرفاتها خوفاً من أن يقال لهم: اخرجوا منها وقد ذاقوا لذتها، والمنادي نفسه ينادي أهل النار: يا أهل النار! وقد ذاقوا حرها ووهج شررها، فينظرون على الضد، لعلهم أن يقال لهم: اخرجوا منها.
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح وينادي مناد: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، فينقطع عن أهل النار -عياذاً بالله- الأمل في أن يخرجوا، وينقطع عن أهل الجنة الخوف من أن يخرجوا، قال الله: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40].
ولا يكادون ينتهون من هذا النداء حتى يأتيهم نداء آخر فينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو، ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا؟ فيكشف الحجاب، فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، وحتى يرزق المؤمن هذا الأمر ينبغي أن يكون في قلبه اليقين أولاً بأنه لا وجه أكرم من وجه الله، فإذا استقر في قلب أي أحد يقيناً أنه لا وجه أحد أكرم من وجه الله، ولا وجه أجل منه، قال الله عن ذاته العلية: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
وقال: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، فإذا استقر في قلب أي أحد أنه لا أعظم من الله، ولا أحد أكرم منه، لا أحد أعظم منه اسماً، ولا أحد أكرم منه وجهاً، وأنه جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، وأنه تبارك وتعالى وحده من له الفضل والمنة عليك، ووقع في قلبك واستقر الشوق إلى لقائه جل وعلا، فإذا وقع هذا فإنه يرث الإنسان بعدها برحمة الله عملاً بتوفيق الله يعينه على أن يدخل الجنة.
فإذا كتب الله له الجنة من الله عليه بعد ذلك بالعطية الجزلى، والبغية العظمى وهي رؤية وجه الله جل وعلا، قال الله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال جل وعلا: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
كثرة ذكره جل جلاله، فذكر الله جل وعلا أنس السرائر، وحياة الضمائر، وأقوى الذخائر، ولما أراد الله أن يمن على زكريا بالولد، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10] أي: أنت سوي الخلقة لكنك تعجز أن تكلم الناس، فتعامل معهم بالإشارة، ومع أنها ثلاثة أيام منقطعة، وهي آية له وبرهان وبشارة من الله، لكن الله جل وعلا أمره مع هذا الصمت أن يكثر من ذكر الله، فإذا ذكر الله تحركت شفتاه، وإذا كلم الناس عجز، فيكلمهم بالإشارة، فلم يعف الله نبيه زكريا عن ذكره حتى وهو في آية وبرهان من الله، قال الله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].
بل إن أهل الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- وقد انقطع عنهم التكليف يلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا في الدنيا النفس، فهم في جنة عدن يمتعون ومع ذلك لا يفترون من ذكر الرب تبارك وتعالى.
وحملة العرش قريبون من ربهم تبارك وتعالى، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7] فأثبت الله لهم التسبيح، وهو أحد أنواع عبادته وهو ذكره.
والمقصود أن مما يقربك من الله كثرة ذكره، قال الله لنبيه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].
الأمر الثاني: بعدك عن الضرر بالناس؛ لأن الذي يعرف الله يعرف أن الله مقتدر، ومن يعرف أن الله مقتدر لا يتعرض لظلم العباد؛ لأنه على يقين أن الله جل وعلا قادر عليه، فليس من فراره من ظلم الناس خوفه من الناس، وإنما خوفه من ربه، وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل ، لكن الذي منعه أن ينتقم لنفسه خوفه من الله، قال تعالى: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [المائدة:28-29].
والمقصود أن البعد عن الضرر بالناس من أعظم الأدلة على خوف العبد من ربه.
والأمر الثالث: لابد أن يكون لطالب الجنة شيء من الليل يقوم فيه بين يدي ربه، يخلو فيه بين نفسه وبين مولاه، يبث إلى الله، ويشكو إلى الله بلواه، ويسأل الله جنته، ويتلو كتابه، ويقرأ آياته، ويتضرع لخالقه، ويتذلل بين يديه، قال الله عن الصالحين من خلقه: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
ورابعها وبه أختم: لابد أن يكون في قلوبنا شفقة على والدينا عملاً بوصية الله لنا، فإن القيام بحق الوالدة على الوجه الأول ثم حق الوالد من أعظم أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون! هذه أشتات من علم، يسر الله قولها في هذا اللقاء المبارك، عل الله أن يتقبل منا ومنكم.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر