أما بعد:
فأوصيكم -أيها المؤمنون- ونفسي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما ادخرتم وأفضل ما أسررتم.
يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
ثم اعلموا عباد الله أن من سنن الله الماضيه وحكمته البالغة ومشيئته النافذة أنه جعل الدار الآخرة دار محاسبة وجزاء، وجعل هذه الدار دار عمل واختبار وبلاء يبتلي فيها عباده ويختبر فيها خلقه.
وأخبر الله تبارك وتعالى أنه يجزي علية جزاء لا منتهى له فقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] ولما كانت هذه الدار دار ابتلاء كان لابد للمؤمن من أن يتجمل برداء الصبر، وإن رداء الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء لهو رداء عظيم طال ما تزين به الأنبياء واكتسى به الأصفياء والأولياء على مر الدهور وكر العصور.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قلت: يارسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد عليه بلاؤه، وإن كان في دينه رقه ابتلي على حسب دينه)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وما يزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة).
إن طرق البلاء تتباين، وأنواعه تختلف من شخص إلى آخر، وهي على كل حال تظهر مدى صبر العبد ومدى يقينه بفرج رب الأرض والسماء، ومدى إيمانه بقضاء الله وقدرة خيره وشره، فلا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده.
أيها الزوجان الكريمان: إن انتظار فرج رب الأرباب جل جلاله والصبر على البلاء مما أمركما الله به، وإن لكما في نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام أسوة حسنه بعد أن بلغ من الكبر عتياً، فلما رأى آيات الله القاهرة، وأعطياته المجزلة على مريم بنت عمران طمع ذلك النبي والعبد الصالح في فرج أرحم الراحمين جل جلاله، فدعا الله بقلب نقي وصوت خفي في مكان خلي: رب فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:5-6] فتوسل إلى الله بضعفه وعجزه وقد خط الشيب في رأسه، وتبرأ من حوله وقوته، ولجأ إلى حول وقوة رب العالمين جل جلاله قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4]، توسل إلى الله الذي أنعم عليه سابقا بأن ينعم عليه لاحقا.
أيها المؤمنون! إن التوسل إلى الله بإظهار العبد لفقره وتبرئه من حوله وقوته وطوله، واستناده إلى حول وقوة جبار السموات والأرض جل جلاله، لهو من أعظم الوسائل عند الله جلا وعلا، فإن ذلك مما يرزق الله به العباد ويفرج الله تبارك وتعالى به الشدائد.
واعلموا أن ما يدفع الله أعظم وأن ما عند الله من خير هو أبر وأتقى وأكرم، فسبحان الله وبحمده، كم من أب رزق مولوداً قرت به عينه، حتى إذا زالت به الوحشة واطمأنت إليه النفس، وتمنى عليه الأماني، وازدادت فيه الرغبات فجع بموته وأخبر بفقده.
إن في هذا أعظم العزاء لمن ابتلي بفقد الولد، وإن لله جل وعلا ما أعطى ولله ما أخذ، فالله الله في الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء.
إن في هذا تفريجاً كبيراً لمن ابتلي بكرب أو مرض من المؤمنين، على أنه ينبغي للعبد أن لا يقنط من رحمة الله وأن لا ييأس من عفوه وفرجه، فليسأل كاشف الغم وفارج الهم، ومجيب دعوة المضطرين أن يرحمه، فإن الله أرحم من سئل وأكرم من أعطى.
أيها المؤمن! إن الله بنى هذه الدنيا على غنى وفقر، وعلى شدة ورخاء، وعلى عسر ويسر، واعلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأريعين عاماً.
ولك -أيها المؤمن- في سلوة قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أهل الجنة: (أهل الجنة ثلاثة)، وقال في آخرهم: (وعفيف متعفف ذو عيال).
أولها:
الإيمان بعلم الله جل وعلا للمعدوم والموجود، وعلم الله للممكن والمستحيل، وأن الله علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].
وثانيها: الإيمان بأن الله كتب كل شي قبل أن يخلق الخلائق، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه) فما من مصيبة تقع إلا وقد كتبها الله أزلاً في اللوح المحفوظ.
وثالث ذلك: الإيمان بمشيئة الله الشاملة، وقدرته النافذة، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].
أما رابعها فهو الإيمان بأن الله خالق كل شيء، أوجده وكونه وصيره على هيئته، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].
وصفوة القول أن الصبر رداء جميل، فتزينوا به في العسر واليسر، وتزينوا به في السراء والضراء، جعلني الله وإياكم ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: أيها المؤمنين! فإن أعظم ما يمكن أن تصاب به الأمة أن تفقد خيار رجالاتها، وأهل العلم والمروءة الكاملة فيها، ولقد فجع الأمة عامة وأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بفقد رجل طال ما وقف في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله على بصيرة، كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، فجعت أمة المسلمين بوفاة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن صالح رحمه الله تعالى.
وإن في الموت لعبرة لمن يعتبر، ذلك أن الشيخ طالما وقف في المحراب يصلي على أموات المسلمين، ويدعو لهم بالمعفرة والرحمة، وقبل أيام معدودة يقدمه الناس فيصلون عليه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة، إنها سنة الله الماضية في الخلق، فسبحان الحي الذي لا يموت، سبحان من يفنى خلقه ويبقى وجهه.
رحل ذلك الشيخ بعد أن ترك مآثر خالدة، وترك معالم بينة، بعد أن طوف في محراب رسول الله عليه وسلم أكثر من أربعين عاماً، يتلو كتاب الله جل وعلا.
بلد الرسول قباؤه وعقيقه قبر أبر على عظامك حاني
يبكيك فيه شيوخه ورجاله عند الصلاة وحين كل أذان
يبكيك فيه منائر وأهلة والمنبر الشرقي ذو الأركان
أنا لست أبكي فيك شخصا غائبا بل أبكي فيك معاقل الإيمان
أبكي الإمامة والخطابة والتقى أبكي القضاء ونبرة القرآن
في ذمة الله الكريم وحفظه وظلال خلد وارف وأمان
ألا وصلوا وسلموا على أعظم من أصبتم بفقده، على نبي الهدى ورسول الرحمة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على صفيك من خلقك، وخليك من عبادك، اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص -اللهم- منهم الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، اللهم ارض عن هذا الجمع المبارك معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم خص شيخنا بمزيد من الرحمة يا حي يا قيوم، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر