صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن القرآن العظيم هو أعظم ما أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي حوى صوراً عظيمة تتضمن عظات بالغة، وآيات محكمة.
وفي هذا اللقاء المبارك وقفات مع سورة الأعراف أو مع بعض آياتها، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا فيها وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
ومما جاء في آياتها قول ربنا جل وعلا: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8]، هذا الوزن الذي أخبر الله جل وعلا عنه يكون يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وقد دل الكتاب والسنة إجمالاً على أن للميزان كفتين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فطاشت السجلات ورجحت البطاقة)، لكن اختلف العلماء، في ما الذي يوزن: فقال بعضهم: الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق عبد الله بن مسعود : (أتعجبون من دقة ساقيه؟ لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)، وقال آخرون: إن الذي يوزن هو العمل نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقال آخرون: إنما تجعل الأعمال في صحائف وتوزن الصحائف، واحتج أصحاب هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضعت السجلات في كفة والبطاقة في كفة فرجحت البطاقة وطاشت السجلات)، والذي يظهر والعلم عند الله أن كل هذا صحيح، فيوزن العمل وصاحبه، وتوزن صحائف العمل، ثم يكون بعد ذلك أو قبله أخْذ الناس لكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم.
القلوب أوعية، والتصديق بكلام الرب تبارك وتعالى هو مفتاح الدخول إلى رحمته، كما أن التكذيب بالله جل وعلا وبما جاء عن الله والتكذيب برسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه هو سبب كل نقمة وبلاء، قال الله جل وعلا: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10]، فالتكذيب بكلام الله جل وعلا سبب لكل بلاء وهو عنوان الكفر، والتصديق بما جاء عن الله والعمل به هو عنوان الإيمان، والله هنا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ، فهم لم يصدقوا بها أصلاً، وأعرضوا عنها إعراضاً، قال الله بعدها: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، والسماء خلق من خلق الله، وهي طباق يركِّب بعضها بعضاً، خلقها الله جل وعلا وجعلها سقفاً محفوظاً، تمر عليها أعمال بني آدم، فكم من عبد صالح على فراشه يرفع من العمل ما تفتح له أبواب السماء، وكم من عبد لم يعرف الله طرفة عين لا يرفع له عمل ولا تقبل له دعوة حتى إذا مات هذا وهذا بكت السماء والأرض على من فقدت الطريق إلى عمله، فإن العمل الصالح يرفع حتى يصبح له باب معين في السماء يغدو من خلاله عمل ابن آدم، فإذا عرف العبد عند أهل السماء بالعمل الصالح والطاعة فمات وفقد ذلك الموضع من السماء عمله فيبكي عليه، ولهذا قال الله عن أهل الوبال والخسران والكفران: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29]، وهنا يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، ثم علق الله ذلك بالمحال في لفظ تعرفه العرب، إذ أن من صنعتها أساليب الكلام قال الله جل وعلا: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ، وكل من أعطي عقلاً ولو مسكة منه، أدرك أنه لا يمكن للجمل أن يدخل في سم الخياط.
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44]، قال العلماء: دخل طاوس بن كيسان على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان، فتلا عليه هذه الآية: فصعق هشام ، فقال طاوس رحمه الله: هذا ذل الخبر، فكيف إذاً بذل المعاينة؟!
وقد أنزل الله على ألسنة رسله أمراً ووعداً على الإيمان بالله ورسله، والوعد على الإيمان هو الجنة، وأنزل نهياً حذر منه، وجعل على من تجاوزه وعيداً هو النار، فإذا آل أهل الجنة إلى الجنة -جعلني الله وإياكم منها- وآل أهل النار إلى النار -أعاذنا الله وإياكم منها- تحقق الوعد والوعيد لكلا الفريقين، فينادي أهل الجنة أصحاب النار كما حكى الله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف:44-45].
من أعظم ما يمكن أن يتحلى به عبد من السفال والوبال أن يكون ممن يصد عن سبيل الله جل وعلا.
ثم ذكر الله نداء آخر، قال الله جل وعلا قبلها: وَبَيْنَهُمَا [الأعراف:46] أي: بين أهل الجنة والنار: حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ [الأعراف:46]، ظاهر القرآن أنها أماكن مرتفعة؛ لأن العرف في لغة العرب هو: ما علا وارتفع.
وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف: أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46]، هذا إخبار بحال أهل الأعراف.
والمقصود من هذا: أن الإنسان إما إلى خير وإما إلى شر، وإن عجز فعلى الأقل أن ينتسب إلى أهل الخير أو أن يحاول أن يبتعد عن أهل الشر، فالله جل وعلا يبين هنا أن أصحاب الأعراف باختيارهم وإرادتهم ينظرون إلى أصحاب الجنة، فإذا نظروا إليهم وقد استقروا في الجنة نادوهم، قال الله: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46] أي: يطمعون في دخولها؛ لأنهم أعطوا نوراً وذلك النور لم يطفأ بعد، فبقاء النور في أيديهم يجعل الطمع في قلوبهم يعظم في أنهم سيدخلون الجنة.
ثم قال الله: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] أسندها الله -كما يقول النحويون- إلى ما لم يسم فاعله، لم يقل الله: إن أبصارهم تصرف بإرادتهم، وإنما قال: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ، هؤلاء الأخيار الذين على الأعراف لا يريدون أن يروا حتى أهل النار فضلاً على أن ينتسبوا إليهم.
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47] أنخ مطاياك هنا أيها المبارك وتأمل! فهؤلاء قوم النور في أيديهم، والجنة على مرأى من أعينهم ومع ذلك يبقى لديهم خوف أن يدخلوا النار، ولا يمكن لأحد مهما استقام قلبه، وحسن عمله، وصلحت سريرته أن يأمن مكر الله، قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، فهؤلاء من أصحاب الأعراف هم على تلال مشرفة من الجنة، والله يذكر عنهم خيراً ويثني عليهم، ومع ذلك يعلمون أن النجاة أبداً لا تكون إلا بيد الله وبالالتجاء إلى الله.
قال الله: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] يصيبهم في قلوبهم الفزع والخوف، ويرون على أصحاب النار الذل والهوان، وليست الآخرة دار عمل، ولا يمكنهم أن يعملوا طاعة حينها، فلا مفر من غير الالتجاء إلى الله: قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47]، فإن رأيت أحداً ممن ابتلاه الله بمعصية فاحذر من شيء وتمسك بشيء؛ احذر من أن تشمت به، فإنك لا تدري لعل الله يهديه ويضلك، فهذا ما تحذر منه، وتمسك بأن تسأل الله العافية من مثل هذا الصنيع، قال الله على لسان أصحاب الأعراف: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
ذكر قال الله نداء لأهل النار: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، الماء في الدنيا كما أنه أعز مفقود فإنه أذل موجود، ومع ذلك لا يتمنى أهل النار شيئاً أعظم من تمنيهم للماء، قال الله عنهم: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ، فيكون الجواب: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا أي: الماء والطعام: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ .
ثم جاء الوصف لأصحاب النار: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:51].
قال الله جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:53]، أي: يقع ما أخبر الله عنه، وهذا لا يكون بكماله وتمامه إلا في عرصات يوم القيامة، قال جل وعلا: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53].
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [الأعراف:54] يقول العلماء: إن الله خلق الليل قبل النهار، قال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37]، ومعنى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ، أي: يغطيه بظلامه.
ثم قال جل وعلا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54] وهذه الأشياء خلق من خلقه، يقول صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر وقد نظر إلى الشمس: (أتدري أين تذهب؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي عند العرش فتسجد، ثم تستأذن ربها فيأذن لها، حتى يأتي يوم فتستأذن فلا يؤذن لها، فتطلع على الناس من المغرب، هنالك تؤمن كل نفس لم تكن آمنت من قبل)، كما قال الله جل وعلا: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
فربنا هنا يقول: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] ففرق الله ما بين الخلق والأمر، وهذه أحد أدلة أهل السنة على أن القرآن منزل غير مخلوق، ففرق الله جل وعلا ما بين خلقه وبين أمره، فبعض الأشياء خلقها الله خلقاً، وبعض الأشياء كانت أمراً، والقرآن من أمره جل وعلا؛ لأنه كلامه تبارك وتعالى وصفة من صفاته، كما أن ذات الله لا يشبهها شيء، فكذلك صفات الله لا يشبهها شيء، قال الله جل وعلا: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] أي: تقدس وتعاظم وتعالى، واللفظ (تبارك) لا يخاطب به أحد غير الله، لا يقال لغير الله: تبارك، كائناً من كان، فلا تقال لمحمد عليه الصلاة والسلام ولا لجبريل ولا لإخوانه من النبيين، ولا لإخوان جبريل من الملائكة عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
والقرآن منزل من عند الله لا يمكن أن يرقى أحد إلى أسلوبه وبيانه، فلما عرَّف الله بذاته العلية دعا الله جل وعلا عباده إلى أن يدعوه.
قال الله جل وعلا: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ [الأعراف:54-55] أي: ربكم الذي عرفكم بنفسه قبل قليل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، فأما قوله جل وعلا: تَضَرُّعًا ، هذا حال من قلب الداعي؛ أن يدعو الإنسان يدعو وهو منكسر ذو وجل، وهو يرغب من الله جل وعلا أن يجيبه، ويطمع في رحمة ربه، يعرف أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن مقاليد كل شيء بيديه، ويقول جل وعلا: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ، وهذا حال الداعي، وكلما كان الداعي يدعو في مكان مستتر كما دعا زكريا عليه الصلاة والسلام في مكان خلي بقلب نقي وصوت خفي: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، كان أجدر في أن يجيبه الله.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبدُ الله شيئاً أخبر الله أنه لا يكون، فمثلاً الله جل وعلا أخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا يأتي أحد يطلب من الله النبوة، مع أننا نعلم جميعاً أن الله قادر على أن يجعلنا أنبياء، لكن الله جل وعلا ختم النبوات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الاعتداء في الدعاء أن يطلب الإنسان هذا وأمثاله، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
ثم قال ربنا وهو الخالق: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي: ازداد الحمل وهناً على وهن، وأصبح الذين كانوا بالأمس يستبشرون بالحمل يخافون اليوم من آلام الولادة، يخافون أن يفقدوا الزوجة، فيصبح في الناس شدة خوف، فيقول الله جل وعلا: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا أي: تضرعا إلى الله بسلامة المولود وصلاحه وهما: الأب والأم، لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
قال الله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190].
قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يبينها الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيء)، فالله يقول: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، ولما ذكر الله القرآن، قال لمن كذب القرآن قال: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا [الإسراء:107]، فإيمان الناس بالقرآن لا يزيد القرآن كمالاً، وكفر الناس بالقرآن لا يورث القرآن نقصاً؛ فالقرآن من عند الله آمن به من آمن وكفر به من كفر، والله جل وعلا غني عن الشركاء غني عن الطاعة لا تضره المعاصي، فقال الله جل وعلا: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ، وهذا كما قلت: لا يمكن أن ينزل على آدم.
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191].
إن من أعظم ما بينه القرآن: أن قضية الخلق فيصل، فالله جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق، وبما أنه جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق فلزاماً أنه لا ينبغي أن تفرد العبادة إلا له تبارك وتعالى، ولهذا لما أراد الله أن يقيم الحجة على خلقه قال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:190-191]، كيف يشرك ويساوى ما بين مخلوق لا يخلق مع الخلاق العظيم جل جلاله؟!
ومن جملة ما دلت عليه الآية: أن الإنسان جُبِل على التضرع إلى ربه في الضراء، حتى أهل الكفر، قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، والضراء في الغالب لا تميز المؤمن من الكافر، لكن يميز الكافر من المؤمن إذا انتهى الضر ورفعت البلوى بقدر الله، قال الله جل وعلا: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12]، وأولياء الله والعارفون به والمؤمنون به؛ يعبدونه جل وعلا، ويتضرعون إليه في السراء والضراء، كما قال ابن قدامة : ما الذي على لوح ترفعه أمواج البحر وتضعه بأفقر إلى الله جل وعلا منك وأنت في مكانك هذا. فحاجة أي أحد إلى الله جل وعلا سواء، فالإنسان لو دخل قصور الملوك، وبيوت الأثرياء، ودهاليز أهل الثراء هو فقير إلى الله كفقر من هو في البحر على لوح لا يمكن أن يستغنى عن الله طرفة عين، وعندما يعرف العبد أنه في أعظم حاجة إلى ربه، فهو الذي عرف ربه حقاً؛ لأن معرفة العبد بفقره إلى الله يورثه انكساراً، والانكسار يورثه عبادة، لعله بعبادته لربه يستجلب رحمته ويستدفع نقمته، فإذا رفعت البلوى والضر تميز من كان يعبد الله على بصيرة ممن كان يعبده لعارض، تقول العرب:
صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا قامَ
في تلك الحقبة الزمنية قبل أن يموت موسى وبعد أن نجا من البحر، أعطاه الله جل وعلا موعداً قال الله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142] فصامها عليه الصلاة والسلام كما يقول أهل التفسير، وكانت شهر ذي القعدة، ثم إنه استحيا أن يلقى الله وعليه خلوف فم الصائم فطعم، فلما طعم عاقبه ربه وليس عقاباً الذنب، لكن لخلاف الأولى، فزادها الله عشراً، فصام عشراً، فكان الميقات مكانياً وزمانياً، أما الميقات الزماني فلم يذكره القرآن، لكن أهل التفسير يقولون: إن موسى كلم ربه في اليوم العاشر من ذي الحجة، وأما الميقات المكاني فإن الله ذكره في القرآن: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ [طه:80]، فإن الله جل وعلا كلم موسى عند جانب الطور الأيمن التكليم الثاني؛ التكليم الأول كان وقت البعثة، والتكليم الثاني كان بعد النجاة من البحر، قال الله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:142-143] لميقات زماني ومكاني ضربه الله له.
قال الله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، فالله جل وعلا كلم موسى تكليماً يليق بجلاله وعظمته وقد سمعه موسى ووعاه.
أعطي موسى منزلة أحب أن يرتقي إلى أعلى منها، قال الله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، ثم من باب التعزية والتسلية له قال له ربه: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف:143] إذا بالجبل تسيح هضباته وتدك صخراته، فلما رأى موسى ما حل بالجبل قال كما حكى الله عنه: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، وصعق بمعنى: أغمي عليه: فَلَمَّا أَفَاقَ [الأعراف:143] أي: من صعقته، قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143] تنزيهاً لله عما لا يليق به: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: وأنا أول من يؤمن أنك لن ترى في الدنيا، أو وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ من بني إسرائيل، تحمل على عدة محامل.
رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، وفي الآخرة جائزة وواقعة عقلاً وشرعاً، ومعنى هذا: أن الله قادر في الدنيا على أن يعطينا قدرة نراه فيها، فهي من حيث العقل يمكن أن نقول: إن الله قادر على أن يعطينا قدرة أن نراه فيها هذا معنى الجواز العقلي، ممتنعة شرعاً؛ لأن الله قال: لَنْ تَرَانِي ، فدل الشرع على أنها لن تقع، وهذا الأمة كلها متفقة عليه، وبقيت الرؤية في الآخرة وقد ذكر القرآن: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، فهي جائزة عقلاً؛ لأنها إذا كانت في الدنيا جائزة عقلاً فمن باب أولى أن تكون في الآخرة جائزة عقلاً، لكنها في الآخرة زيادة واقعة قدراً وشرعاً؛ لأن الله جل وعلا أخبر أن عباده المؤمنين سيرون ربهم تبارك وتعالى.
قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] فذكر الله منته على هذا الكريم.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ [الأعراف:144] أي: اجتبيتك واخترتك، قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام ليس أفضل الخلق كلهم، وإنما المراد بكلمة الناس هنا: أهل زمانه.
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144] والشكر من أعظم مناقب أولياء الله الصالحين.
أولها: أن يستقر في القلب أن النعمة من الله.
والثاني: أن يلهج اللسان بذكر الله لها وأن يعرَّف العبد بها غيره: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
وألا تستعمل في معصية الله، وأن تستعمل في طاعة، فهذه من حيث الإجمال قواعد الشكر.
قال الله جل وعلا بعد أن من على آل داود: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81] إلى أن قال جل وعلا: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، فالله جل وعلا يفيء على عباده النعم ويطالبهم بالشكر، مع علمه تبارك وتعالى ومع علمنا أن الله جل وعلا غني عن شكر الشاكرين كما حررناه سابقاً، لكن شكر العبد يعود عليه، كما قال الله: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12].
قال الله: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144].
هذه وصية من رب العالمين لنبينا صلى الله عليه وسلم في المقام الأول بأن يكثر من ذكر الله، وذكر الله جل وعلا: حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر؛ أمر الله به عباده على كل حال، وقال العلماء لو كان ذكر الله يستثنى منه أحد لاستثنى الله منه زكريا يوم أن قال له ربه: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، ثم قال له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، ومن أحب الله حقاً أكثر من ذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون! قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
وختم الله هذه الوصية بقوله: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ، والغفلة أن يكون في الإنسان ميل وجنوح عن ذكر ربه أو عن عبادة ربه إجمالاً، وللغفلة أسباب قد تكون علمية محضة لا تصلح في موعظة.
قال الله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ (عند) مكانية، والملائكة الأصل أن أمكنتهم -أي: مساكنهم- السماء، كما جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله! ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)، والملكوت الأعلى ملكوت إيماني تعمره الملائكة؛ العرش تحمله الملائكة، وحول العرش طائفة أخرى تطوف، ثم لكل سماء خزنتها، والملائكة لهم آداب عامة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ [مريم:64]، فهم يستحيون عظيم الحياء من ربهم، يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث النواس بن سمعان : (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بما شاء من الأمر، ثم يمضي على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير).
والملائكة منهم أعلام معروفة كجبريل وإسرافيل وملك الموت وميكال ومالك وهو أحد خزنة النار، وهاروت وماروت وهذان ابتلى الله جل وعلا بهما أهل بابل، وغيرهم ممن نعلم ما وكل إليهم وما أسند إليهم، لكننا لا نعلم أسماءهم؛ ولكن نقول بالجملة: إن الملائكة يتفقون مع الجن في أننا لا نراهم، ويتفق الجن معنا أن كلينا مكلفان، والملائكة والجن كلاهما عقلاء مثلنا، فنتفق الثلاثة في أننا جميعاً عقلاء: الإنس والجن والملائكة، ونختلف في أن الجن والإنس يتفقان أنهما مكلفون والملائكة غير مكلفين.
والجن تحكمهم الصورة، والملائكة لا تحكمهم الصورة، والمعنى: لو أن جنياً تشكل في هيئة مخلوق، ثم قتل ذلك المخلوق فإنه يموت الجني في الهيئة التي تشكل بها، وأهل العلم يقولون: لو أن ملكاً تشكل في هيئة كمثل جبريل لما تشكل في صورة رجل تام الخلقة لـمريم ، لو قدر جدلاً أن أحداً طعنه فإنه لا يموت، فالصورة لا تحكمه كما تحكم الجني، وأحد التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه في بيته في المدينة وهو يصلي، فمكث ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فنظر في عراجين البيت فإذا حية فهمَّ الرجل الذي ينتظر أبا سعيد أن يقتلها، فأشار إليه أبو سعيد أن مكانك، فلما فرغ من صلاته أخذ بيده وأخرجه من الدار وأشار إلى بيت غير بعيد، قال: انظر إلى تلك الدار، قال: نعم، قال: إنها كان يسكنها رجل منا معشر الأنصار، فلما كان يوم الأحزاب كان هذا الرجل حديث عهد بعرس، فكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عند الخندق ويستأذنه إذا أمسى، فيأذن النبي له؛ لأنه حديث عهد بعرس، فذات يوم قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ معك -أو عليك- سلاحك فإني أخاف عليك بني قريظة -أخاف عليك غدر اليهود- فأخذ الرجل سلاحه ومضى إلى بيته، فلما أتى الدار إذا بزوجته خارج الدار، فأصابته الحمية والغيرة وسل سيفه، فقالت: لا تعجل -أي علي- وأشارت إليه أن ادخل الدار، فدخل فإذا حية قد التفت على فراشه، فأخرج سيفه فضربها، قال
والملائكة تعرف معنى البشارة فيفرحون بحمل البشارات إلى الناس؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم رزق من زوجته خديجة ستة أولاد؛ أربعة إناث واثنان ذكران: عبد الله والقاسم وكلاهما مات قبل البعثة، وهما صغيران، فبقيت البنات الأربع، والبنات الأربع ثلاث منهن توفين في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق له أحد من ظهره الشريف إلا فاطمة فزوجها علياً ، وإن كان تزويجها لـعلي قبل وفاة أخواتها وقد زوجها بعد انصرافه من بدر لـعلي ، فأنجبت الحسن والحسين من علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلما أنجبت تعلق صلى الله عليه وسلم بـالحسن والحسين كونهما كانا ابناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له أولاد يدرجون في بيته الطاهر، فكان يحبهما ويضع كل أحد منهما على فخذ ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، ويخرج لهما لسانه ويداعبهما بإخراج لسانه لهما، وينزل من المنبر ليحملهما، فهذا يصل خبره إلى الملكوت الأعلى، فتنافس الملائكة في أن تنقل البشارة لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم لـحذيفة : (أرأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ ملك نزل الليلة من السماء لم ينزل قبل، استأذن ربه في أن ينزل من السماء ليسلم علي ويبشرني أن
وهو الذي كان معه رفيقاً في هجرته، وجبريل كان يعلم الصحابة مادة الدين؛ ويعلمهم الطريقة التي ينقلون بها الدين، سيأتي حديث عمر : (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، وهذا لا يجتمع في وصف أحد؛ لأن أهل المدينة من الصحابة آنذاك يعرف بعضهم بعضاً، فالذي قدم من قريب من بيته من داره مترجلاً شعره ليس عليه أثر سفر، بياض ثيابه شديد هذا يدل على أنه قادم من أهل المدينة، أما الأعراف الذين يأتون من خارج المدينة لابد أن يرى عليهم أثر السفر، لكن هذا الجالس شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب وفي نفس الوقت لا يعرفه منا أحد، (ثم أسند يديه إلى ركبتيه، قال: أخبرني عن الإيمان).. عن الإسلام.. عن الساعة، وجبريل هو الذي نزل بهذا على رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكنه أسلوب في التعليم.
وأوكل الله جل وعلا إلى ميكال النزول بالقطر من السماء، وإسرافيل أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، وملك الموت أوكله الله جل وعلا بقبض الأرواح، وهؤلاء المباركون كلهم يجتمعون في أنهم كما قال الله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، والسجود لله جل وعلا أعظم منقبة ولهذا حرم الله جل وعلا على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود.
هذا وعظ على وجه الإجمال حول سورة الأعراف نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر