قول المؤلف ( عبد الله ) هو: عبد الله بن مسعود ؛ لأن عبد الرحمن بن يزيد من تلاميذ عبد الله بن مسعود .
وقوله: وهن من تلادي ].
يعني: التي حفظتها قديماً، فالتلاد: هو القديم، ومنه المال التليد، والمال الطريف، فالمال التليد: المال القديم، والطريف: المال الجديد. فيقول عبد الله بن مسعود: سورة بني إسرائيل، والكهف، والأنبياء حفظتها قديماً في أول الهجرة، وقوله: (هن من تلادي) أي: حفظتها قديماً، فقد كان رضي الله عنه من حفاظ القرآن، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على
وقوله: (من العتاق الأول) يعني: من أوائل ما نزل.
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:1-6].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها أي: لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها.
وقال النسائي : حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] قال: في الدنيا) وقال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].
وقال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:1-2]، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول:
الناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحن ].
أبو العتاهية في أشعاره حكمة، وهو ليس جاهلياً. وهذه الآية فيها تنبيه من الله سبحانه وتعالى لعباده أن ينتبهوا وأن يستعدوا للحساب بالعمل الصالح، فقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، يعني: قرب وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، يعني: أكثرهم، فهذا أكثر أحوال الناس، فهم في غفلة معرضون عما خلقوا له؛ لانشغالهم بشهواتهم ودنياهم والحساب قريب، وما بين الإنسان وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات.
فالواجب على كل إنسان أن يستعد للقاء الله تعالى بالعمل الصالح وإخلاص العبادة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدود الله، فهذا تنبيه من الله تعالى لعباده وحث لهم على الاستعداد والانتباه وعدم الغفلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقيل له: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيدة الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: (إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] أي: جديد إنزاله إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، كما قال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضاً لم يشب، ورواه البخاري بنحوه ].
قوله: (وروى) كأن الضمير يعود إلى ابن عساكر .
قوله تعالى: (محدث) يعني: جديداً، وليس فيه حجة لمن يقول إن القرآن مخلوق؛ لأن حدث الله ليس كحدث المخلوق؛ ولأن كلام الله لا يشابه كلام المخلوقين، وهو محدث يعني: جديد تكلم الله به وأنزله على نبيه.
وقد رد الإمام أحمد رحمه الله على الزنادقة في كتابه الرد على الزنادقة، وبين لهم أنه ليس لهم حجة ولا متعلق بهذه الآية قال: إن حدث الله لا يشبه حدث المخلوق، والجهمية والمعتزلة يقولون محدث، وهذا دليل على أن القرآن مخلوق محدث.
وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:4]، أي: السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد ].
في هذه الآيات إثبات هذين الأسمين لله عز وجل فمن أسمائه السميع والعليم، وفيه إثبات صفة السمع والعلم لله عز وجل؛ لأن أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فكل اسم مشتمل على صفة، فقوله: (هو السميع) فيه إثبات السمع، ويدعى الله بأسمائه فيقال: يا سميع يا عليم، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]. ففي هذه الآية إثبات صفة السمع والعلم، فهو يسمع أقوال عباده ويعلم أحوالهم ونياتهم، قال سبحانه وتعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1].
قالت عائشة رضي الله عنها: (سبحان من وسع سمعه الأبصار لقد جاءت المجادلة -وهي
والسمع والبصر من صفاته الذاتية قال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، والفعلية مثل الكلام، فإن الكلام يتعلق بالمشيئة، والاختيار والغضب والرضا والاستواء هذه أيضاً من الصفات الفعلية، فهي متعلقة بالمشيئة والاختيار.
وهكذا هم متناقضون، فالباطل لا يستقر على شيء، فأقوالهم متضاربة متناقضة، وهذا يدل على فسادها وبطلانها فمرة يقولون ساحر، ومرة يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون، ويريدون بذلك رد الحق، لكن يختلفون بأي شيء يردونه، فكلما أتوا بقول تبين لهم بطلانه، ورأوا أن الناس لا يصدقونه فينتقلون للقول الثاني وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ [الأنبياء:5]، يعنون ناقة صالح وآيات موسى وعيسى، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59]، ولهذا قال تعالى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:6] أي: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا بل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97] ].
من كتب الله عليه الشقاء فلا حيلة فيه كما قال تعالى: وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:97]، وهذا من رحمة الله تعالى بهم أنه لم يعطهم الآيات فلم يجيبوا ولو أعطوا آية ثم لم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقوبة؛ لأن من عادة الله أن من اقترح آية وأعطاه الله الآية التي يقترحها ثم لم يؤمن أن يعجل له بالعقوبة كما حصل لقوم صالح لما اقترحوا الناقة فأعطاهم الله إياها، فلما لم يؤمنوا أهلكهم الله، وهكذا فكل من أعطي آية فلم يؤمن بها عذب وأهلك، ومن هؤلاء أصحاب المائدة على القول بأنها نزلت كما قال تعالى: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].
وهذا قاله سبحانه لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات فقالوا: يا محمد! اسأل ربك أن يفتح لنا هذه الجبال التي بمكة فقد ضيقت علينا؛ حتى نزرع ونبذر مثلما يبذر أهل الأمصار، أو اسأل ربك أن يجعلها لنا ذهباً.
وهكذا آيات اقتراحية كما أخبر الله في سورة الإسراء: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:90-93]، فكلها آيات اقتراحية، ولكن من رحمة الله أنه ما أجابهم؛ لأنهم لو أجيبوا ثم لم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة.
قال رحمه الله تعالى: [ هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب : حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: (كنا في المسجد ومعنا
هذا الحديث غريب وضعيف ففيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه أيضاً انقطاع، وقوله: (حدثني من شهد عبادة ) يدل على أن في آخره انقطاع، لكن هذه الأشياء التي جاءت في الحديث بعضها له شواهد من الآيات والأحاديث الصحيحة، وقوله: (إنه لا يقام لي وإنما يقام لله)، جاء في اللفظ الآخر: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7]، أي: جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة كما قال في الآية الأخرى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109].
وقال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن:6].
ولهذا قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، أي: اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشراً، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم ].
إن الله تعالى أرسل إلى الناس رسلاً من جنسهم؛ حتى يأخذون عنهم، ويحفظون كلامهم، ولو كانوا من جنس آخر لما فهموا عنهم، ولما استفادوا منهم، ولهذا لما اقترح المشركون أن يكون الرسل من الملائكة قيل لهم: إن هذا لا يكون، وإنه لو كان الرسول ملكاً لكان بشراً، وإن البشر لا يستطيعون أن يأخذوا من الملك على صورته التي خلق عليها ولا أن يقربوا منه.
ولهذا قال الله سبحانه: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9]، وفي هذه الآية دليل على أن النبوة خاصة بالرجال قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا [الأنبياء:7].
وأنه ليس في النساء نبية، وفيه رد على ابن حزم القائل بأن أم عيسى مريماً نبية ؛ لأن الملائكة كلمتها وكذلك أيضاً سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية؛ لأن الملائكة كلمتها، وأم موسى قال: إنها نبية، وهذا باطل، والصواب أنه ليس في النساء نبية، فالنبوة مختصة بالرجال كما في هذه الآية وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109].
فالله تعالى ذكر منزلة مريم التي هي من أفضل النساء في مقام الامتنان، بأنها صديقة قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فبلغت درجة الصديقية ولم تصل إلى درجة النبوة.
وقوله: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء:8]، أي: في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ [الأنبياء:9]، أي: الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك.
ولهذا قال: فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ [الأنبياء:9]، أي: أتباعهم من المؤمنين وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء:9]، أي: المكذبين بما جاءت به الرسل ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: شرفكم، وقال مجاهد : حديثكم، وقال الحسن : دينكم، أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول ].
يا لها من نعمة وهي هذا القرآن الكريم فقال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، فهو شرف، وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] أي: هذه النعمة فتشكرونها، وتقبلون على القرآن وتعملون به وتصدقون أخباره وتنفذون أحكامه، فتعملون بمحكمه وتؤمنون بمتشابهه، فالواجب على الأمة أن تعتني بهذا القرآن وتعتز به، وأن تفتخر به فهو فخرها، وسؤددها، وشرفها، وعزها، إذا عملت به، وإن ضيعته هلكت وضاعت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].
قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا [الأنبياء:11]، يعني: كثير من القرى قصمناها وأهلكناها بسبب ظلمها. و(كم) للتكثير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، أي: أمة أخرى بعدهم].
قال قتادة : استهزاء بهم. لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [الأنبياء:13]، أي: عما كنتم فيه من أداء شكر النعم. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14]، اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:15]، أي: ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً ].
لا يفيد الاعتراف بعد نزول العذاب كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:86-85] فإذا نزل العذاب لا يفيد الإيمان، ففرعون آمن لما نزل به العذاب، وهو الذي كان يقول للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]فلما نزل به العذاب قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، لكن هذا لا يفيد فإذا نزل العذاب فقد انتهى الأمر.
وقوله: (هجيراهم) يعني: يلهجون بها.
وهذا فيه تحذير من الاستمرار على المعاصي؛ لأن الواجب على الإنسان ألا يستمر على المعاصي، بل يجب عليه أن ينتبه من غفلته ويتوب إلى الله عز وجل قبل أن تأتيه العقوبة؛ لأنها إذا نزلت فلا يفيد حينئذ الاعتراف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر