عاقبة المتقين حميدة، ونهايتهم سعيدة؛ وذلك لقيامهم بأوامر الله تعالى، وابتعادهم عن نواهي الله تعالى، وقصة إبراهيم عليه السلام خير مثال على ذلك، فقد أراد به قومه شراً فألقوه في النار، لكن الله جعلها عليه برداً وسلاماً، ونصره، وأهلك أولئك الظالمين.
تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ].
أي: لجأوا إلى القوة، وهكذا حال أهل البدع وأهل الضلال؛ فإنهم إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق لجأوا إلى القوة، فأهل البدع الآن إذا عجزوا عن مقاومة أهل السنة استدعوا السلاطين عليهم، كما فعل الجهمية في زمن المأمون ؛ فإنهم استعدوا المأمون على أهل السنة لما كانت لهم القوة، وكان أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة هو رئيس القضاة في زمن المأمون ، فاستعدى المأمون على أهل السنة، وألزموا بالقول بخلق القرآن، وسحب الإمام أحمد رحمه الله وضرب في تلك الفتنة، وهذه هي طريقة أهل البدع والكفر، فأهل البدع إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق أو عن مجادلتهم لجأوا إلى القوة، واستعدوا السلاطين عليهم، وقالوا: إن هؤلاء يريدون كذا ويريدون كذا، وهؤلاء يريدون قلب الحكم ويريدون كذا، وهكذا في كل زمان، والتاريخ يعيد نفسه في كل زمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقالوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، فجمعوا حطباً كثيراً. قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم ].
وهذا من غيظهم، فإنهم جمعوا حطباً عظيماً، والمرأة كانت إذا مرضت تنذر أن تجمع حطباً لإحراق إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم جعلوه في جوبة من الأرض، وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد، قال شعيب الجبائي : اسمه هيزن ، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ].
الله أعلم بهذا، فهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل ].
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه ].
الله أعلم بهذا، فإن الله تعالى وجه الخطاب لنار إبراهيم: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69]، قال العلماء: إن الله قال لها: كوني برداً وسلاماً، ولو قال: لها كوني برداً لهلك إبراهيم من شدة البرد، ولو تركها على حالها لمات إبراهيم من إحراقها، فلما قال: (كوني برداً وسلاماً) صار الجو معتدلاً لا حاراً ولا بارداً، بل برداً وسلاماً، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، فالله على كل شيء قدير، وكل المخلوقات بيد الله يصرفها كيف يشاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: وَسَلامًا قال: لا تضرِّيه ].
فرج الله أسرع من كل شيء، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[الطلاق:2]، وإبراهيم ممن يتقي الله عز وجل، وهو إمام للمتقين، ولما كان متقياً جعل الله له مخرجاً من هذه النار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال: وَسَلامًا لآذى إبراهيم بردها.
وقال جويبر عن الضحاك : كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ قال: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله.
قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك ].
وهذا من أخبار بني إسرائيل، والمنهال بن عمرو قال: أخبرت، وبينه وبين إبراهيم عليه السلام دهور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم!
وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ ].
وهذا ثابت في الصحيحين أن الوزغ من خبثه كان ينفخ في النار، ولهذا يستحب قتله، ومن قتله في الضربة الأولى فله كذا من الحسنات، ومن قتله في الضربة الثانية فله كذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقاً ].
لاشك في فسقه؛ لخروجه على غيره بالأذى، ومن خبثه أنه كان ينفخ في نار إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك. وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة ].
تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها، كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة. وكذا قال أبو العالية أيضاً.
وقال قتادة : كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين. وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال ].
وهي الأرض المباركة، وهي الأرض التي هاجر إليها إبراهيم الخليل؛ فإنه هاجر من العراق إلى الشام، وهي مبعث الأنبياء، فإن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال كعب الأحبار في قوله: إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ إلى حران. وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط عليهما السلام قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها. رواه ابن جرير ، وهو غريب ].
هذا غريب؛ لأن المشهور أن سارة بنت عمه، هذا هو المعروف، لا أنه تزوجها من تلك الأرض.
وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ[الأنبياء:72] أي: الجميع أهل خير وصلاح، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً أي: يقتدي بهم، يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا أي: يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ من باب عطف الخاص على العام ].
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلة في فعل الخيرات، فعطْفهما على فعل الخيرات هو من عطف الخاص على العام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: فاعلين لما يأمرون الناس به.
ثم عطف بذكر لوط، وهو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم، واتبعه وهاجر معه ].
السؤال: ما سبب تسمية بني إسرائيل في القرآن (بنو إسرائيل) مرة، ومرة يسميهم الله عز وجل اليهود؟
الجواب: إسرائيل اسم ليعقوب عليه السلام، وهم بنوه، وبنو إسرائيل يشمل اليهود والنصارى؛ لأنهم من ذرية يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه الصلاة والسلام، ولهذا اليهود سموا دولتهم دولة إسرائيل، وبعض الناس يلعن إسرائيل -يعني: الدولة- وهذا لا ينبغي؛ لأنه اسم نبي، فاليهود جزء من بني إسرائيل، فتارة يخاطب الله اليهود وتارة يخاطب النصارى، وتارة يخاطبهم جميعاً بقوله: (يا بني إسرائيل).
حال الناس عند قيام الساعة
السؤال: ذكرت حفظك الله في حديثك بأنه لن يكون هناك مؤمن أو مسلم على وجه الأرض حين تقوم القيامة، فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث الذي يذكر أن الصالحين يقومون الليل ويصلون ويطول عليهم الليل وبعد ذلك تخرج الشمس من مغربها؟
الجواب: قبض أرواحهم يكون بعد طلوع الشمس من مغربها، فلما تطلع الشمس من مغربها حينئذٍ يغلق باب التوبة وليس هناك إيمان جديد، فالمؤمن يبقى مؤمناً والكافر يريد أن يؤمن، وتأتي الدابة تسم الناس في جباههم، فالمؤمن تسمه بسمة بيضاء، فيبيض لها وجهه، والكافر تسمه بسمة سوداء، فيسود لها وجهه، فيتبايع الناس في أسواقهم: خذ هذا يا مؤمن! بع هذا يا كافر! يعني: أنه أغلق باب التوبة، والمؤمن يبقى على إيمانه والكافر يبقى على كفره، وليس هناك إيمان جديد، ثم بعد مدة تأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين.