قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام، حين دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، ولهذا قال هاهنا: إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أي: الذين آمنوا به، كما قال: وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ [هود:40].
وقوله: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي: من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه، ويتواصون قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل على خلافه.
وقوله: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ أي: أهلكهم الله بعامة، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد؛ إذ دعا عليهم نبيهم ].
وذلك بعد أن أخبره الله بأنهم لا يؤمنون، وقد لبث فيهم مدة طويلة وصبر عليه الصلاة والسلام صبراً عظيماً، وكان يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وهم لا يزدادون إلا شدة، ويرمونه بالجنون وبالسفه وبالضلال وهو صابر عليه الصلاة والسلام، ولبث هذه المدة الطويلة وهم لا يزدادون إلا شدة وأذى، حتى إن الأجداد كانوا يوصون الأحفاد بالكفر بنوح، وكل جيل كان يوصي الجيل الذي بعده بالكفر بنوح عليه الصلاة والسلام، حتى أخبره الله في النهاية بأن عدد المؤمنين لن يزداد، كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] فلما أخبره الله بذلك دعا عليهم، وقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، فأخبره الله بأنه لن يؤمن أحد زيادة، ومع هذه المدة الطويلة كانوا قلة، ولذا فالذين آمنوا كلهم ركبوا في سفينة نوح، والباقي أهلكهم الله حيث انفجرت الأرض عيوناً وانشقت السماء بالمطر والتقى ماء الأرض وماء السماء على أمر قد قدر، فأهلك الله جميع من على وجه الأرض إلا من ركب في السفينة.
فمع هذه المدة الطويلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- ما آمن إلا عدد قليل ركبوا في السفينة، وفي بعض الأخبار الإسرائيلية ذكر أنه كان عددهم ستين أو سبعين أو ثمانين، ولكن كل هذا ليس عليه دليل، ولا نستطيع أن نجزم إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونوح عليه السلام دعا عليهم، ولما امتنعت دوس وأبت عن الإيمان قالوا: يا رسول الله! ادع الله عليهم، ثم قالوا: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله وجاءوا مسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو إسحاق عن مرة عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرماً قد نبتت عناقيده. وكذا قال شريح ].
يعني: كان عنباً، فإن الكرم هو العنب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس رضي الله عنهما: النفش: الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة : النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة : والهمل بالنهار ].
الهمل هو: الرعي، وقوله: (نفشت فيه غنم القوم) يعني: رعته ليلاً، بأن جاءت في الليل ودخلت وأكلت منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا : حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس .
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد : حدثني خليفة عن ابن عباس قال: فحكم داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم، فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا! فأخبر بذلك داود عليه السلام، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود عليه السلام فأعطاهم رقابها، فقال سليمان عليه السلام: لا، بل تؤخذ الغنم فتعطى أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم. وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلاً لي، فقال شريح : نهاراً أم ليلاً؟ فإن كان نهاراً فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلاً فقد ضمن، ثم قرأ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ... الآية.
وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة : (أن ناقة
وهذه الآيات فيها أن المجتهد إذا اجتهد فإنه مأجور على اجتهاده ولو لم يصب الحق، وإذا أصاب الحق فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة؛ لأن الله تعالى أثنى على داود وسليمان جميعاً، وأخبر سبحانه أنه فهَّم سليمان، ويدل لهذا الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) والله تعالى أخبر أن سليمان وداود كلاً منهما مجتهد فأثنى عليهما وقال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ، وبين أن المصيب هو سليمان فقال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فدل على أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فخطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده، وكل من سليمان وداود اجتهدا، وداود لم يصب وسليمان هو الذي أصاب؛ حيث إن الله فهمه، ثم أثنى عليهما جميعاً فقال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وذلك أن في هذه القصة أن أصحاب غنم جاءت غنمهم ودخلت بستاناً فيه كرم وعنب فأكلته ولم تبق منه شيئاً، فجاء أصحاب الكرم يشكون إلى داود عليه السلام ما فعل أصحاب الغنم بكرمهم، فقضى داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الكرم، فقال: تعطون غنمكم أصحاب الكرم بدلاً من الكرم الذي أكلته غنمهم، أي: أنه قضى أن تكون الغنم لأصحاب البستان مقابل ما أكلت من الحرث، وحكم فيها سليمان بأن تدفع الغنم إلى أصحاب العنب ويدفع العنب إلى أصحاب الغنم، فأما أصحاب الكرم فإنهم إذا دفعت إليهم الغنم يعلفونها ويشربون ألبانها وما ولدت من الأولاد يكون لهم، وأما أصحاب الغنم فيأخذون الكرم يبذرون ويسقون حتى يعود العنب كما كان، فإذا عاد العنب كما كان دفع الكرم إلى أصحاب البستان ودفعت الغنم إلى أصحابها، هذا قضاء سليمان عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْماً قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فبكى، قال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد ! بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود ].
النفش هو الرعي ليلاً، وفي حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل الحائط أن يحفظوا حائطهم بالنهار وأن على أهل المواشي أن يحفظوا مواشيهم بالليل، فإذا أصابت المواشي شيئاً بالنهار فهو هدر ليس فيه شيء، وإذا أصابت في الليل فهو مضمون على أصحابها؛ لأن عليهم أن يحفظوها بالليل، لكن الحديث فيه كلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال -يعني: الحسن -: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى، ولا يخشوا فيه أحداً، ثم تلا: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [ المائدة:44] ].
وفي نسخة: (الحكماء) وحاكم يجمع على حكماء ويجمع على حكام، والحكام هم القضاة، والحكماء المراد بهم هنا القضاة، وعلى هذا فيكون الحكماء والحكام بمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم ].
هذا إن ثبت عن إياس ، فإنه إذا اجتهد القاضي فأخطأ فهو مأجور وخطؤه مغفور، وإذا اجتهد وأصاب فله أجران.
وبعضهم يقول: كل مجتهد مصيب، وليس كذلك؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، فمن قال: إنه مصيب فمعناه: أنه مصيب في اجتهاده، يعني: مأجور على اجتهاده، فالصواب: أنه ليس كل مجتهد مصيب؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، لكن إذا اجتهد وأصاب فله أجران: أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد وفاته أجر الإصابة وخطؤه مغفور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي السنن: (القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار).
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال: حدثنا علي بن حفص أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله! هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى) وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
والعلماء استنبطوا من هذه القصة أحكاماً كثيرة، فقال البعض: قول الحاكم: ائتوني بالسكين لأشقه وهو لا يريد ذلك، أو يوهم أنه يريد أن يفعل شيئاً وهو لا يريد أن يفعله؛ حتى يستخرج الحق، هذا جائز، وهو مأخوذ من هذه القصة، وذلك أن امرأتين خرجتا مع كل واحدة منهما ابن فأتى الذئب وأخذ ابن الكبرى، وترك ابن الصغرى، فغارت وقالت: كيف يأخذ ابني ولا يأخذ ابنها؟ فادعت أنه لها، فتحاكمتا إلى داود، فكانت الكبرى ألحن بحجتها من الصغرى فقضى به للكبرى، ثم تحاكمتا إلى سليمان فقال: كل واحدة تدعي أنه ابنها، ائتوني بالسكين أشقه بينكما؛ كل واحدة أعطيها نصفه، فقالت الكبرى: شقه، وقالت الصغرى: لا تفعل، هو ابنها يرحمك الله! حقي لها لا أريده، فقضى به للصغرى؛ لأنه عرف أن الصغرى رحمته فلا تريد شقه؛ لأنه ابنها، وأما الكبرى فلم تبالي، بل قالت: شقه.
واستنبط العلماء من هذا أن الحاكم ينبغي له أن يستخرج الحق ولو بشيء لا يريد أن يفعله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وبوب عليه النسائي في كتاب القضاة: باب الحاكم يوهم خلاف الحكم؛ ليستعلم الحق.
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشر عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكر قصة مطولة ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عند داود عليه الصلاة والسلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان عليه الصلاة والسلام واجتمع معه ولدان مثله، فانتصب حاكماً وتزيا أربعة منهم بزي أولئك، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً، فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: فرقوا بينهم. فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: أبيض. فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكي ذلك لداود عليه الصلاة والسلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم ].
في هذه القصة أنه كان داود عليه السلام حكم بقتل المرأة لما زنت بالكلب؛ لأنه شهد عليها أربعة، وكان سليمان غلاماً؛ فجمع الصبيان لما سمع بهذه القصة، وفعل معهم مثل قصة المرأة، ففرقهم سليمان وسألهم عن لون الكلب، فقال واحد: أحمر، وقال الثاني: أسود، وقال الثالث: أغبش، وقال الرابع: أبيض، وكل واحد اختلف عن الآخر، فأمر سليمان بقتلهم، فلما سمع داود خبر قصة سليمان مع الصبيان أمر بهم في الحال فسألهم فاختلفوا، فأمر بقتلهم، هذا إن صحت هذه القصة، لكن هل يستحقون القتل؛ لأنهم شهدوا عليها زوراً أم يستحقون الجلد؟ فإن صح هذا فيكون هذا في شرعهم، لكن السند فيه سعيد بن بشير وفيه قتادة وهو مدلس.
وأما في شرعنا فلو قذف جماعة رجلاً أو امرأة فإنهم يجلدون حد القذف ولا يقتلون، وأما هذا إن صح فيكون في شرعهم، لكن القصة في ثبوتها نظر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ].
يعني: أنه عليه الصلاة والسلام كان حسن الصوت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى الأشعري وكان حسن الصوت: (لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود) يعني: أوتي صوتاً حسناً، والمراد بالمزمار: الصوت الحسن، وليس المراد بالمزمار آلة الغناء، والمراد بالقرآن: المقروء، وهو الزبور، فكان داود عليه السلام إذا قرأ الزبور استمعت له الطيور وجاوبته الجبال، كما قال تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ:10] لحسن صوته عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء، فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويباً؛ ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جداً، فوقف واستمع لقراءته وقال: (لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود. قال: يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً).
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ].
يعني: أن صوته كان أحسن من هذه الأصوات، والبربط والصنج كلها من المزامير ومن آلات اللهو، والمعنى: أن حسن صوت أبي موسى أحسن منها، ويفوقها في الحسن والجمال، وتلك ليس فيها حسن.
وقوله: (لو علمت أنك تستمع لحبرته لك) ليس مراده الرياء، وإنما يحسن صوته من أجل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يعني: صنعة الدروع.
قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:10-11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ يعني: في القتال ].
يعني: أن الحلقة تكون بمقدار المسمار لا تزيد عليه، ولا يكون المسمار غليظاً فيخرق الحلقة، ولا تكون الحلقة واسعة فيقلق ويتحرك المسمار، وإنما يقدر في السرد تقديراً، كما قال سبحانه: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة. تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا يعني: أرض الشام. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]، وقال تعالى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12].
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم ].
وهذه خاصية أعطاها الله سليمان عليه الصلاة والسلام ولم يعطها أحداً بعده، ولهذا سأله سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، فالله عز وجل سخر له الريح والشياطين والجن، ولهذا لما عرض عفريت على النبي صلى الله عليه عليه وسلم خنقه وقال: (أردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد حتى يلعب صبيان المدينة، فذكرت قول أخي سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] فتركته)، يعني: أن تسخير الجن والشياطين خاص بسليمان، فخشي النبي صلى الله عليه عليه وسلم أنه لو ربط هذا الشيطان في سارية يكون هذا مشاركة لسليمان في ملكه، فلذلك أطلقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى يصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ تعظيماً لله عز وجل، وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل، حتى تضعه الريح حيث يشاء أن تضعه.
وقوله: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي: في الماء يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك. وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ أي: غير ذلك، كما قال الله تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ [ص:37-38] ].
يعني: بعضهم يبني وبعضهم يستخرج اللآلئ، وبعضهم مصفد مربوط في الأغلال؛ لتمردهم، فإنه عليه الصلاة والسلام سلط عليهم فكان يربط المتمردين، ومنهم غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم: إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء. ولهذا قال: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ [ص:38] ].
وهذا مما خص عليه الصلاة والسلام به، ولهذا مات وهو متكئ على عصاه ولم تعلم الجن بوفاته، بل كانوا يعملون ويشتغلون وهم يظنون أن سليمان حي، فلم يعلموا حتى سقط، وذلك لما أكلت الأرضة العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، فعرفوا أنه مات، كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14] فكانوا يشتغلون ويعملون أعمالاً شاقة وسليمان ميت له مدة على العصا ولم يعلموا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر