قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن الشجاع! بارز الأبطال، يا ابن العالم! اطلب العلم ونحو ذلك، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد) ].
وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن إسرائيل كقولك عبد الله ].
هذه الآية يخاطب الله تعالى فيها بني إسرائيل فيقول: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، وقد أنعم الله بهذه النعمة على آبائهم، فالنعمة على الآباء نعمة على الأحفاد، فهو تذكير لهم بما أنعم به على آبائهم، وتهيج وحث لهم على أن يعملوا بطاعة الله عز وجل، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب حفيد إبراهيم عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزق ابنين نبيين كريمين أحدهما: إسماعيل، وهو الابن الأول من هاجر التي أهداها له ملك مصر، فكانت سرّيّة تسراها فأتت بإسماعيل، وإسماعيل هو الأب الثاني، وهو أبو العرب، ومن ذريته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أنجبت زوجته سارة وهي بنت عمه، وكانت لا تنجب، ثم أنجبت إسحاق بعد مدة ما يقارب اثنتي عشرة سنة بعد إسماعيل، وأنجب إسحاق يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب بن إسحاق، وآخرهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإسرائيل هو يعقوب.
والناس الآن يقولون دولة إسرائيل ويسبونها ويشتمونها، والصواب أن تسمى دولة اليهود لا دولة إسرائيل، ولا ينبغي أن يسب إسرائيل عليه الصلاة والسلام ولو كان الإنسان لا يقصد النبي الكريم بل يقصد الدولة، فلا ينبغي أن تسمى بهذا الاسم، بل يقال: دولة اليهود قبحها الله، وأما أن يقال: إسرائيل ويشتم إسرائيل فهذا لا يجوز؛ لما فيه من الموافقة لاسم إسرائيل نبي الله عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: ذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك: أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون].
هذا حصل لآبائهم وأجدادهم، والخطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكرهم بنعمته سبحانه وتعالى على آبائهم وأجدادهم؛ لأن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد، وتذكيراً لهم بأن يشكروا نعمة الله التي أنعم بها على آبائهم وأجدادهم فيكونوا أول المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأول المؤمنين به والمنقادين لشرعه ودينه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] يعني: في زمانهم ].
والمراد بقوله: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] يعني: من عالمين زمانهم، كما في قوله تعالى: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:140] أي: فضلهم على عالمي زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، والمراد على عالمين زمانهم في وقتهم فهم أفضل الناس، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الأمة أفضل منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40] قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم؛ بذنوبكم التي كانت من إحداثكم، وقال الحسن البصري : هو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [المائدة:12] الآية.
وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه، وأدخله الجنة، وجعل له أجرين، وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية : وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة:40] قال: عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس : أوف بعهدكم، قال: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس ].
هذه المعاني كلهاحق، وكلها جزء من المعنى، وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة:40] يعني: دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه والانقياد لشرعة؛ وقوله تعالى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40] أي: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة.
جمع له سبحانه بين الترغيب والترهيب، وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون راجياً خائفاً، فيجمع بين الرجاء والخوف، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون [السجدة:16]، فالمشروع للمؤمن الواجب عليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في سيره إلى الله، وفي عبادته لربه عز وجل، فلا يقنط من رحمة الله فيغلب جانب الخوف، ولا يغلب جانب الرجاء فيأمن مكر الله؛ لأنه إذا غلب جانب الرجاء أمن مكر الله واسترسل في المعاصي، وإذا غلب جانب الخوف قنط ويئس وتشاءم وأساء الظن بالله.
وفيه دليل على أن الرهبة إنما هي عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، والرهبة هي الخوف، والخوف الذي هو العبادة خاص لله، ولهذا قال تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يعني: ارهبوني، ولا ترهبوا غيري، فالرهبة وخوف العبادة لا يكون إلا لله، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك، وأما الخوف الطبيعي كالخوف من السبع أو من عدو معه سلاح أو من البرد فيلبس ليستدفئ أيام الشتاء، فهذا خوف طبيعي، فالخوف من العدو الذي أسبابه ظاهرة كما قال الله تعالى عن موسى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21] لا بأس به، وأما خوف السر كالذي يخاف من الميت في سره، أو يخاف من غائب ليس معه أسباب فهذا شرك، فخوف العبادة هو خوف السر كالذي يخشى من الميت أن يضره بسره لا بشيء ظاهر، ويخشى منه أن يسلط عليه عدوه، أو يحرمه دخول الجنة، أو يقطع رزقه بسره لا بشيء ظاهر، فهذا خوف العبادة، وخوف العبادة صرفه لغير الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من الله تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يقول: يا معشر أهل الكتاب! آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41]قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك.
قال ابن عباس : ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ].
لأنهم أهل كتاب أنزل الله عليهم التورة، فهم أهل كتاب وليسوا كالجهلة من كفار قريش، فإنهم عباد أوثان ليس عندهم شيء من العلم، وأما هؤلاء فعندهم علم التوراة، ولهذا فكفار قريش في الجاهلية يأتون إلى اليهود ويسألونهم ويقولون: أنتم أهل العلم، فليس من يعلم كمن لا يعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو العالية : يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس ، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ ، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان ].
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41] أي: بالقرآن أو بمحمد فهما متلازمان، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد، ومن كفر بمحمد فقد كفر بالقرآن، فهما متلازمان وكل منهما حق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41] فيعني به: أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم ].
قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي [البقرة:41] يعني: تعتاضوا، والمراد بالشراء الاعتياض، يعني: تأخذون هذا بدلاً من هذا، كما أن المشتري يأخذ السلعة ويعطي الثمن، فهؤلاء يأخذون الدنيا ويعطون دينهم، فيبيعون الدين بالدنيا، وسماها ثمناً قليلاً؛ لأن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ ولهذا في الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، فالدنيا كلها ثمن قليل مهما أعطي الشخص من المناصب والرئاسات والأموال فهي كلها ثمن قليل، والمعنى لا تعتاضوا عن الإيمان بالله ورسوله وطلب ما عند الله في الدار الآخرة من الثواب في الدنيا مهما أعطيتم من الدنيا، فمهما حصل لكم من الدنيا فكلها ثمن قليل وشيء قليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها.
وقال السدي : وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41]يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم! علِّم مجاناً كما علمت مجاناً، وقيل معناه: لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس؛ لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة)].
الحديث المعروف: (لم يرح عرف الجنة) وكأن المؤلف رواه بالمعنى، فعرف الجنة هو ريحها.
وهذا يشكل على بعض الإخوة الذي يدرسون في الجامعات في تخصص شرعي، بقصد الدنيا فقط، فإن في هذا الحديث وعيد شديد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح عرف الجنة) فهذا وعيد شديد يدل على أن هذا من الكبائر؛ وذلك لأنه قصد بتعلمه للعلم الذي هو من أجل الطاعات وأفضل القربات الدنيا، والله تعالى يقول في كتابه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وأيضاً هذه الآية كذلك شاملة لمن تعلم العلم في هذه الدنيا، فالواجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، وأن يجاهد نفسه حتى تكون نيته لله، وإنما يكون ما يأتيه من المال أو من المكافأت وسيلة تعينه على طلب العلم وعلى تعلم العلم والتعليم، ولا يكون قصده الدنيا فقط، وأما إذا لم يكن تعلمه إلا لأجل الدنيا فهو من أهل الوعيد، كأن يكون ما تعلم إلا لأجل وظيفة، أو لأجل المال الذي يحصل له، أو لأجل الشهادة، فهذا عليه الوعيد الشديد، لكن الإنسان يجاهد نفسه حتى تصلح نيته، وإن كانت النية من أصعب الأمور كما قال بعض السلف، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وقال: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6]، قال بعض السلف: تعلمنا لأجل الدنيا فأبى العلم إلا أن يكون لله، فالإنسان يتوب مما سلف، ويجاهد نفسه حتى تصلح نيته وتستقيم، ويضرع إلى الله عز وجل أن يوفقه للإخلاص والصدق.
هذا التفصيل الذي ذكره المؤلف رحمه الله غير ظاهر، والمعروف عند أهل العلم أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم؛ لأنه عمل، وهذا بخلاف أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، فتلاوة القرآن لا يجوز أخذ الأجرة عليها، ومثل ذلك من يقرأ القرآن للميت ويأخذ أجره على أخذ تلاوة القرآن فقط، فحتى ولو لم يقرأ للميت فلا يجوز؛ لأن أخذ الأجرة على العبادات ممنوع، لا تلاوة القرآن، ولا تعلم العلم، ولا على الآذان، ولا على الإمامة أو القضاء، وإنما يؤخذ له من بيت المال كمرتبات، أو يؤخذ معونة من دون شرط من المتبرعين فلا بأس بذلك، وأما أن يستأجر شخصاً ليقرأ سورة البقرة فيعطي كذا، أو يعلم فيعطى كذا أجرة ، أو يستأجر لأن يصلي كل يوم بكذا أو كل شهر بكذا، أو يؤم الناس بكذا فلا يصح، ولهذا سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يقول: أصلي وأصوم رمضان بكذا وكذا درهم، فقال: اسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا، وإنما يؤخذ له من بيت المال؛ لأن بيت المال فيه كفالة هؤلاء، أو معونات تعطى كتبرع، وأما الاستئجار فلا، وقال بعض العلماء: إذا تعطل ولم يجد أحداً يعطيه أو تعطل المسجد ولم يوجد مؤذن جاز أن يستأجرونه للضرورة، وإلا فإن العبادات لا يؤخذ عليها أجرة مطلقاً، ولهذا من حج ليأخذ أجرة فإنه ممنوع، أما من حج بقصد إعانة أخيه وقصد الاستفادة ورؤية المشاعر فلا بأس، ولهذا فرق شيخ الإسلام رحمه الله بين من حج ليأخذ ومن أخذ ليحج، فأما من حج ليأخذ فهذا داخل في قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فهذا أخذ أجرة على العبادة، فهو كمن صلى أو أذن أو قرأ القرآن لأجل الدراهم، وأما من أخذ ليحج فهذا لا بأس به، وهو كمن أخذ المال ليتوصل به إلى الحج وله رغبه فيه ولكن لا يستطيع؛ ولهذا قالوا: إذا حج ليأخذ فإن عليه أن يرد الباقي على الصحيح إلا إذا سمح له، وأما المشارطات كأن يشارط على ألا يحج إلا بكذا، فلا يصلح، والقاعدة في هذا أن جميع العبادات لا يؤخذ عليها أجرة.
فالمقصود: أن التعليم لا بأس بأخذ الأجر عليه؛ للأحاديث، كحديث البخاري : (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وأما تفصيل المؤلف فهو واهٍ.
والمقصود بكل ما سبق العلوم الشرعية ومما يبتغى به وجه الله، وأما العلوم الدنيوية وإن كانت مستحبة أو فروض كفاية فهذه قد يتعلم الإنسان الزراعة أو الصناعة أو الصيدلة أو الهندسة أو النجارة أو الخرازة لأجل أن يتكسب فلا بأس بذلك، فهذه الحرف إذا حسنت نية الإنسان فيها أُجر عليها، لكن ليست كتعلم العلم الشرعي، ومثل من يتعلم ليكون بناء، أو دهاناً أو مبلطاً، أو كهربائياً، أو سباكاً، أو يتعلم الطب والهندسة والصيدلة، فكل هذه أعمال دنيوية لا بأس بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وقوله في قصة المخطوبة (زوجتكها بما معك من القرآن)، فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله، فتركه)، رواه أبو داود . وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم ].
حديث عبادة : أنه علم رجلاً من أهل الصفة فأهدى له قوساً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله) هو عند أهل العلم ضعيف، ولكن لو صح فهو محمول على أنه تبرع، فنهاه النبي أن يفسد أجره.
وهنا أبو داود ذكر سندين لحديث عبادة ، حيث قال: كتاب الإجارة:
بسم الله الرحمن الرحيم، باب في كسب المعلم.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبله ].
فيه الأسود بن ثعلبة ذكر أنه مجهول.
السند الثاني: قال: حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: حدثنا بقية ) حدثني بشر بن عبد الله بن يسار، قال عمرو : وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يارسول الله؟ فقال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) ].
فيحتاج إلى مراجعة رجال السند الثاني، لكن لو صح فيحمل على ما سبق جمعاً بين النصوص.
وهذا الحديث في ابن ماجة بالأسناد الأول الذي فيه الأسود بن ثعلبة، ثم ذكر حديث أبي، فقال: حدثنا سهل بن أبي سهل ، حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار فرددتها).
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، وقال البويصيري : هذا إسناد مضطرب، قاله الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن سلم . وفي التقريب قال عن عبد الرحمن: مجهول شامي من السادسة.
والغالب أن الأحاديث التي ينفرد بها ابن ماجة فيها ضعف، لكن السند الثاني هو الذي يحتمل أنه صحيح.
ومعنى قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ].
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة:42] لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقال أبو العالية : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه، وقال قتادة : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله.
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك. وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس : وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
قلت: وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي: لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود : (وتكتمون الحق) أي: في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون الحق حال كتمانه أيضاً، ومعناه: وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق؛ لتروجوه عليهم، والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ].
فهما شيئان: الشيء الأول: لبس الحق بالباطل، مثل لبسهم اليهودية والنصرانية بالإسلام، وادعاؤهم أن اليهودية دين حق، فهذا من لبس الحق بالباطل، والثاني: الكتمان، حيث يكتمون ما عندهم من العلم بأن محمداً رسول الله حقاً، وأن الشريعة نفس الشرائع السابقة، فهذا من كتمانهم الحق، فنهوا عن هذا، فهم نهوا عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، فهم يعلمون أنهم يلبسون الحق ويكتمون الحق عن علم، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله: [ قال مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وَآتُوا الزَّكَاةَ أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم.
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس : يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعداً. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى: وَآتُوا الزَّكَاةَ قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى: وَآتُوا الزَّكَاةَ قال: صدقة الفطر.
وقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد ].
هذه الآية فيها وجوب صلاة الجماعة، وذلك في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فهذا أمر بإقامة الصلاة، ثم قال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ يعني: أقيموها مع المصلين والأمر للوجوب، فقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] يعني: أقيموا الصلاة وأدوها في الجماعة مع الراكعين المصلين، فإذا جمعت بين الأمرين دل على الوجوب، فقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: أقيموها مع الراكعين.
وقد يقول قائل: أنا أصلي مع جماعة في البيت فأكون قد ركعت مع الراكعين، فهذه الآية هل هي نص واضح في وجوب صلاة الجماعة؟
نقول: هي تدل على صلاة الجماعة عموماً، والنصوص الأخرى تدل على أنه لا بد من أدائها في المسجد ، ومن ذلك حديث ذكره البخاري أن النبي قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا فيه وجوب الجماعة في المسجد على الرجال، ومعلوم أن الغالب في كل بيت وجود اثنين أو ثلاثة، فلو صلى الناس في البيوت لتعطلت المساجد، ولكن النصوص فيها أنه: (من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)، والأعمى سأل النبي أن يصلي في بيته وقد يكون عنده أولاده فيصلي معهم فلم يرخص له، والذين أمر أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار قد يقولون إنهم يصلون في بيوتهم ومع ذلك ما عذرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، فالآية هذه عامة في وجوب الجماعة والنصوص الأخرى دلت على أنه لا بد من أدائها في المسجد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر