يدعي اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فرد الله عليهم بأن الأمر ليس كما تمنوا ولا كما يشتهون، بل من أحسن فله الحسنى، ومن أساء فله الخزي في الدنيا والآخرة.
كما ذكر الله تعالى بني إسرائيل بما أمرهم من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يذكرونه ويعرفونه.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة... )
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى إخباراً عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا[البقرة:80] أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
وقال الضحاك : وقال ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم.
فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً[البقرة:80] وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك.
فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جاداً في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، ولن ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها لا تنفع الإنسان، وما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.
تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته...)
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.
وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. والله أعلم ].
محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، وتكون في نفسه من الصغائر، فالصغائر تجتمع مع بعضها البعض حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أن قوماً كانوا في البرية وأرادوا أن يطبخوا طعاماً، وليس عندهم حطب، فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء من ذلك، فأججوا ناراً وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات فإنها تجتمع على الإنسان حتى تهلكه.
الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما يروى عن بعض السلف أن النار تفنى، فهذا محمول عند بعض أهل العلم على نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم إن الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت.
وليس بصحيح ما ينسب إلى شيخ الإسلام وابن القيم أن النار تفنى، وليس أيضاً بصريح، فـابن القيم في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر يخالفه، ويحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله...)
قال الزمخشري : خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل: كان أصله: (ألا تعبدوا إلى الله) كما قرأها من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أُبي وابن مسعود أنهما قرآها: (لا تعبدوا إلا الله).
ثم يأتي بعد حق الله عز وجل حق الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، وحقهما آكد الحقوق بعد حق الله عز وجل، ثم الإحسان إلى الأقارب، ثم إلى الأيتام، ثم إلى المساكين.
وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83] أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43] ].
فالصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، ففيها الإحسان إلى خلق الله، وهما واجبتان؛ لأن الله عينهما ونص عليهما.
فسيئة الكفر هي سيئة الشرك، فالمشرك هو الذي عبد مع الله غيره، والكافر هو الذي جحد توحيد الله وجحد حقه وعبد الشيطان، فالمشرك كافر والكافر مشرك، وإذا كان الشرك أكبر فإنه يخرج من الملة، وكذا النفاق الأكبر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: