قال المصنف رحمه الله: [ يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر؛ وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ].
قوله: استفكوا، يعني: طلبوا فك الأسارى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54]؛ وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ].
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] مثل قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] يعني: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يعب بعضكم على بعض؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، وكالنفس الواحدة، وكل مسلم يتألم بألم أخيه، ويسره ما يسر أخاه، ويحزنه ما يحزنه.
وكذلك بنو إسرائيل كالنفس الواحدة، فلا يقتل بعضهم بعضاً، وأقروا بذلك، فعملوا ببعض الكتاب ولم يعملوا بالبعض الآخر، فهم آذوهم عملاً بالكتاب، وقاتلوهم مخالفة لكتابهم، وعاب الله عليهم وأنكر عليهم، فهم يعملون ببعض الكتاب ولا يعملون بالبعض الآخر: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
قال المصنف رحمه الله: [ وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84]، أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا النفاق وصحته، وأنتم تشهدون به].
قال المصنف رحمه الله: قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] الآية.
قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ].
الأقرب للصواب أن قريظة مع الأوس، وقينقاع وبني النضير مع الخزرج كما سبق.
قال المصنف رحمه الله: [ يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذ به بعضهم من بعض ].
أي: أن الله حرم عليهم في التوراة أن يقتل بعضهم بعضاً، وأن يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأمرهم بالفداء من وجد فيهم أسيراً، فعملوا ببعض الكتاب، وهو مفاداة الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وكفروا بالبعض الآخر، فلم يعملوا بما فيه من النهي عن القتل والإخراج، فقتل بعضهم بعضاً، ونهب أمواله وأخرجه من داره، ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملاً بالكتاب، فعمل ببعض الكتاب وكفر بالبعض، وفيه دليل على أن من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع ولا يفيد عمله بالبعض، ولهذا قال سبحانه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ومن كفر بكتاب من كتب الله فقد كفر بالجميع، ويجب على كل إنسان أن يؤمن بكتب الله جميعاً، فمن آمن ببعض كتب الله وكفر بالبعض الآخر فهو كافر، كما أن من عمل ببعض الكتاب ولم يعمل بالبعض الآخر فهو كافر أيضاً، وكذلك من آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل متضامنون، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، كما قال الله عن عيسى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].
ولهذا أخبر الله عن الأمم الكافرة التي كذبت نبيها أنها كافرة بجميع الرسل: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر:80] فهم كذبوا نبياً واحداً، لكن تكذيبهم لهذا النبي تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين، وليس قبل نوح رسول، فهو أول رسول، ومع ذلك أخبر الله عن قومه أنهم كذبوا المرسلين، فالرسل جاءوا بعد نوح، والمراد جنس المرسلين، فتوعدهم الله بالنار، وبين أن هذا كفر بالجميع نعوذ بالله، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى فيصيبها ما أصابهم، وأن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.
فالواجب على كل إنسان أن يؤمن بجميع رسل الله وكتبه، وأن يؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وبكتابه القرآن، ولا يجعل القرآن عضين فيؤمن ببعضه ويكفر ببعضه، قال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91] أي: أجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالجميع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم.
يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ].
الأوس والخزرج كانوا أهل أوثان، وكان اليهود يظاهرون أهل الأوثان على قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فكانوا يعاونون الأوس والخزرج عليهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة ].
لأن المفاداة إنما هي في الأسرى فقط، أما القتلى والإخراج من الديار فهذا ليس فيه مفاداة؛ لأن الله تعالى عاب عليهم كونهم يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ونفي المفاداة في سفك الدم فلا دية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس، وكان النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتلا بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] الآية.
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي : نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] الآية.
وقال أسباط عن السدي ، عن عبد خير ].
قال المصنف رحمه الله: [ قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله : يا رأس الجالوت! هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ [البقرة:85] قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم، قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين ].
سلمان ثبت، ويقال أن له صحبة، وكأنه فيه خلاف في الصحبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره:
حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ، قال حدثنا الربيع بن أنس ، أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرض، فقال عبد الله : أما إنه مكتوب عندكم في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]، أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86].
قال المصنف رحمه الله: [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86]، أي: استحبوها على الآخرة واختاروها: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه].
ولا شك في هذا؛ لأنهم قوم بهت، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تفعل فعل اليهود فيصيبهم ما أصابهم من خزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. نسأل الله العافية.
والأحفاد على سيرة الأجداد، واليهود الموجودون في فلسطين الآن هم على آثار آبائهم وأجدادهم، فلا يرجى منهم خير، واليهود قوم بهت، ولم يسلم منهم إلا القلة منذ عهود طويلة، بخلاف النصارى فإنه يسلم منهم الآن المئات والآلاف في المراكز الإسلامية، لكن ما سمعنا أن يهودياً أسلم، فاليهود قوم بهت خبثاء، ولم يسلم منهم إلا القلة، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
وقد جاء في حديث فيما معناه: (لو أسلم عشرة لأسلم أو لتبعهم الكثير)، فاليهود عندهم حسد وعناد وعتو وجبروت وقسوة في القلوب، نعوذ بالله، والنصارى أرق منهم وأقرب إلى قبول الحق، ولهذا فإنه يسلم الآن المئات في المراكز الإسلامية وفي مكاتب الدعوة، وفي الشركات والمؤسسات وغيرها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89].
قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89].
وقال مجاهد : فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب قال حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيهم سناً على بردة مضطجعاً فيها بفناء أصلي، فذكر البعث والقيامة والحساب، والميزان، والجنة والنار، قال ذلك بأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة : فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد .
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان، فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال فنصروا عليهم، قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم.
قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا [البقرة:89] أي: من الحق وصفة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
قال المصنف رحمه الله: قال مجاهد : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
قوله: شروا الحق، بمعنى: باعوه، مثل قوله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس، والمراد بالشراء الاعتياض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال السدي : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية بأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة وسعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [البقرة:90] أي: أن الله جعله من غيرهم، فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] ].
قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم.
قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.
قال السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله ].
ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالله غضب عليهم بتركهم العمل بالتوراة، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بعبادتهم العجل، ثم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا منافاة بين هذه الأقوال، فكلها حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60][الأعراف:206]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، تعلوه نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار) ].
ابن عجلان فيه كلام، فقد حصل له اختلاف في حديث أبي هريرة ، والحديث صحيح، ولا شك أن المتكبرين الذين يتكبرون عن الإيمان بالله وبرسوله أن أنهم لهم الصغار والإهانة وعذاب النار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر