وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. رواه ابن أبي حاتم .
وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة -أي: بلاء ابتلينا به- فلا تكفر.
وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه، وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، الآية ].
احتج جمهور العلماء على كفر الساحر بقوله تعالى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، أي: فلا تكفر بتعلم السحر، ودلت الآية على أن تعلم السحر وتعليمه كفر، والمراد به السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين، فإنه لا بد فيه من أن يفعل الكفر؛ لأن هناك عقداً بين الشيطان والساحر، ومقتضى هذا العقد أن يكفر الساحر -والعياذ بالله- بأن يتقرب للشيطان بشيء من العبادة التي هي من خصائص الله، أو يطلب منه أن يمزق المصحف، أو يبول عليه، أو يلطخه بالنجاسة، أو يتكلم بكلمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، فإذا كفر الساحر علمه الشيطان السحر، واستجاب لمطالبه، فيأتيه بالأخبار المغيبة عن البلد، وإذا أمره أن يلطم شخصاً لطمه، أو يقتله قتله، وما أشبه ذلك، وهذا من الابتلاء، والله تعالى أنزل الملكين وأمرهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فله الحكمة البالغة، فهو يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والأخيار بالأشرار والأشرار بالأخيار، فله الحكمة البالغة فيما أراده سبحانه وتعالى من الابتلاء والامتحان ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
ومن الحكم ظهور قدرة الله سبحانه وتعالى على وقوع المتضادات، فالساحر الكافر يقابله المؤمن المطيع، والكافر يقابله المؤمن، والعاصي يقابله المطيع، والليل يقابله النهار، والحر يقابله البرد، والعدو يقابله الصديق، والحرارة تقابلها البرودة، والرطوبة تقابلها اليبوسة، والملاسة تقابلها الخشونة، وغير ذلك من المتقابلات، وذات إبليس التي هي مصدر كل شر وبلاء يقابلها ذوات الأنبياء والملائكة والصالحين، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6].
والله تعالى أعذر وأنذر، وبعث الرسل إلى الناس لتوحيد الله وليحذروهم أسباب سخط الله، ولرد فطرتهم إلى الحنيفية، ولكن الشياطين اجتالتهم وصرفتهم عن دينهم مع أن الله آتاهم الأسماع والأبصار والأفئدة.
وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ابتلائه وامتحانه، وفي تقديره الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والخير والشر، فهو سبحانه وتعالى -كما قال- لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، لكمال حكمته وعلمه وقدرته سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر ].
هناك نوع آخر من السحر لا يتصل صاحبه بالشرك، وهو سحر الأدوية والتدخينات، وهذا لا يتصل صاحبه بالشياطين، لكنه يضر بالناس في أبدانهم وأموالهم، فيدعي المعرفة ويسلب أموال الناس بالباطل، كما يفعل بعض الناس ممن لا علم عنده، ولا يتصل بالشياطين، ولكنه يأكل أموال الناس بالباطل، فيفتح محلاً، ويقول: إنه يعالج الناس، وكل من أتاه يعطيه علاجاً، فيعطيه شيئاً يدهن به وآخر يشربه وآخر يستنشقه، وقد يضر بأجسام الناس، وهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل، واستحل إيذاءهم وضررهم كفر، وإن لم يستحله ففعله محرم وكبيرة، وإذا رفع إلى ولي الأمر فإنه يستتيبه، فإن تاب وإلا عزره بما يراه رادعاً، وقد يصل التعزير إلى القتل بحسب نظر الحاكم الشرعي، هذا إذا كان صاحبه لا يتصل بالشياطين، أما السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين فهذا حده القتل، وحد الساحر ضربه بالسيف.
قال بعض العلماء: إنه يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً، لهذه الآية: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، يعني: فلا تكفر بتعلم السحر، ويدل على ذلك غير هذه الآية كذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر
وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً ].
أي: لما توفي أمير المؤمنين عثمان بن عفان حصل شر بموته وقتله رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف:155]، أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [الأعراف:155]، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ].
وهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، أما الشافعي -رحمه الله- فإنه فصّل وقال: إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، وإن وصف ما لا يوجب الكفر فإن استحله كفر، وإن لم يستحله فقد ارتكب محرماً وكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، والجمهور لم يدخلوا السحر في المسمى اللغوي، فلا حاجة إلى التفصيل؛ لأن الجمهور يقولون: إن الساحر كافر مطلقاً، وأما سحر الأدوية والتدخينات فلا يسمى سحراً شرعاً، ولكنه سحر من جهة اللغة، مثل النميمة تسمى سحراً لغة، وكذا القول البليغ، ومنه سمي السحَر سحَراً؛ لأنه يقع في آخر الليل.
وأما الشافعي فإنه لما أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر احتاج إلى التفصيل.
والمقصود أن ما كان سحراً من جهة اللغة وليس فيه اتصال بالشياطين لا يكفر صاحبه إلا إذا استحله، أما إذا كان الساحر يتصل بالشياطين فإنه يكفر، وعلى هذا فليس هناك خلاف بين الجمهور وبين الشافعي رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: (من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر ].
قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه عنعنة الأعمش ، ولكن الأئمة لا يعتبرون تدليسه، ولأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وله شواهد من الأحاديث المرفوعة، فله حكم الرفع، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث حفصة الذي رواه الإمام مسلم : (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وفي رواية عند الإمام أحمد: (فصدقه)، فلهذا قال الحافظ: هذا إسناد صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس...) ].
يضع الشيطان عرشه على الماء تشبهاً بالله؛ لأن الله تعالى عرشه على الماء، فالشيطان من خبثه يفعل ذلك ثم يبعث سراياه، فقبحه الله وأخزاه.
قوله: [ (نعم أنت) ]، يحتمل أن (نعم) بفتح النون والعين، ويحتمل أنها (نِعْم أنت)، فتكون فعلاً، والمقصود بالمدح محذوف وتقديره: نِعْم الرجل أنت، أو نِعْم الشخص أنت، ولابد من أن يكون معرفة.
والجن يسمون رجالاً، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، فلهذا يقول الشيطان لبعض جنده: نعم الرجل أنت.
فإن قيل: كيف نعرف بالدليل أن الله تعالى عرشه على الماء؟
قلنا: إنه قد أخبرنا بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، ويقال: إنه في السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، وفوق ذلك العرش، والله تعالى مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته.
والسنة المطهرة تبين لنا ذلك أيضاَ، كما جاء في حديث عبد الله بن عوف : (إن الله كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلُق أو نحو ذلك، أو عقد، أو بغضة، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة ].
الساحر حينما يفرق بين المرء وزوجه يخيِّل إلى الرجل أن امرأته في صورة قبيحة كريهة مشوهة فينفر منها، ويخيل إلى المرأة أن زوجها بصورة قبيحة حتى تنفر منه، فتحصل الفرقة وهذا هو سحر التفريق، وهو الصرف.
والجمع يكون بضد ذلك، بأن يحسنها في عينه حتى تكون من أجمل الناس، ولو كانت دميمة الخلق، والحال كذلك بالنسبة للرجل، وهذا هو العطف.
فالتفريق هو الصرف، والجمع هو العطف، وهما من أنواع السحر، قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان، والله اعلم ].
يقال: امرأة وامرأتان، والمرء والمرءان، ولا يجمعان.
المراد بالإذن في قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] الإذن الكوني القدري، والإذن يكون كونياً ويكون شرعياً، فالشرعي يستفاد من قول الله تعالى في سورة الحشر: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي، والآية نزلت حينما حاصر المسلمون بني النضير، وقطع بعضهم النخيل إغاظة للعدو، ورأى بعضهم أن يتركه؛ لأنه مال سيئول إلى المسلمين وسيبقى لهم، فالله تعالى بين أنه من قطع نخيل بني النضير بقصد الإغاظة فهو على صواب، ومن أبقاه لأنه مال سيئول إلى المسلمين فهو على صواب، فصوب الله كلا الفريقين فقال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي: نخلة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الحسن البصري : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى ].
وفي نسخة: (ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه ].
هذا ليس بجيد، فإن السحر لا يضر إلا إذا أذن الله كوناً وقدراً، وقد يدخل فيه ولا يضره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102]، أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]، أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق ].
قوله: [ (استبدلوا بالسحر) ] بالباء؛ لأن الباء تدخل على المتروك، مثل قوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، فالمتروك هو الذي تدخل عليه الباء.
والأصل هو أن يقول: (استبدلوا السحر بمتابعة الرسول)؛ لأن متابعة الرسول هي المتروك والسحر هو المأخوذ، فتركوا متابعة الرسول وأخذوا بدله السحر، فاستبدلوا السحر بمتابعة الرسول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس ومجاهد والسدي : من نصيب، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : ما له في الآخرة من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق وقال الحسن : ليس له دين، وقال سعيد عن قتادة : مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]، قال: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة ].
الخلاق والنصيب والدين والحظ بمعنى واحد، وأما الجهة فليست واضحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ، أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، وقد استدل بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [البقرة:103] من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف ].
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [البقرة:103]، يدلَّ على أن السحر كفر وليس بإيمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان -هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر ].
وهذا لا يدل على أنه قتله ليس بكفر، بل قتله كفر على الصحيح، وقال بعضهم: إنه لا يكفر به، ولكن حده القتل كقتل القاتل ورجم الزاني، ويكون مؤمناً، والصواب أنه كافر، وأن قتله كفراً لا حداً.
وقال بعضهم: إنه لا يقتل وإنما يسجن حتى يموت، وذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة، والصواب أنه كافر، وأنه يقتل، وأن قتله كفراً لا حداً، وهذا هو قول الجمهور.
وعلى هذا القول فالساحر لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه كافر، وأما سحر الأدوية والتدخينات فهذا إذا لم يستحله صاحبه وقتل فقتله يكون حداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه ].
هذا الحديث روي بلفظ: (ضربه)، وروي بلفظ (ضربة بالسيف).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً، قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً، والله أعلم ].
والترمذي ضعَّف إسماعيل المذكور، وعليه فيكون الحديث موقوفاً، ورواية الطبراني تدل على أنه مرفوع، والموقوف يؤيده المرفوع، فهذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وظاهر كلام الحافظ أن رواية الطبراني لا بأس بسندها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لَعِبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم.
وقال الإمام أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً ].
معنى (أَراه) بالفتح: أعلم أنه ساحر، أما (أُراه) بضم الهمزة فمعناها (أظنه)، فـجندب رضي الله عنه قتله لأنه يعلم أنه ساحر، وبعد تحققه من ذلك، ولم يقتله بالظن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم ].
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أن السحر الذي ليس فيه شرك لا يقتل صاحبه، وإنما يعزر، إلا إذا استحله، وهو يقصد بذلك سحر الأدوية، فهو قد أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر