إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [144-152]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان ذلك يعجب اليهود، ثم أمره الله تعالى بالتحول إلى البيت الحرام، فهي قبلة أبينا إبراهيم عليه السلام، فأغضب اليهود ذلك، وجعلوا ينكرونه، مع أن من صفات النبي عليه الصلاة والسلام في كتبهم أنه يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم، لكنهم أهل بهت وعناد، ولا يحبون للمسلمين الخير.
    قال الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] إلى قوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

    فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142]، وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143].

    وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] إلى الكعبة إلى الميزاب، يؤم به جبرائيل عليه الصلاة السلام).

    وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالساً في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلى هذه الآية: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، قال: نحو ميزاب الكعبة، ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

    ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به ].

    وفي نسخة: عن هشيم عن يعلى بن عطاء ، فإن هشيم يروي عن يعلى .

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا قال غيره، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، إن الفرض إصابة عين الكعبة ].

    يعني: يجب على الإنسان أن يصيب عين الكعبة، ولا يميل يميناً ولا يساراً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقول الآخر -وعليه الأكثرون-: أن المراد المواجهة، كما رواه الحاكم ].

    أي: المراد الجهة، فعلى القول: إن المراد الجهة، إذا كان بعيداً فيكفيه التوجه إلى جهة القبلة، وأما من كان داخل المسجد الحرام وهو يشاهد الكعبة ففرض عليه أن يصيب عين الكعبة ولا يميل عنها، ولو مال عنها لم تصح صلاته، فلو كان هناك خط بينك وبين الكعبة فيجب أن يصيب هذا الخط الكعبة ولا يميل عنها.

    وقول الشافعي : يجب على كل أحد أن يصيب عين الكعبة فهذا فيه مشقة، وخاصة على من كان بعيداً عنها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقول الآخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة، كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] قال: شطره: قبله، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

    وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.

    وكما تقدم في الحديث الآخر: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال القرطبي : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي) ].

    ابن جريج هذا مدلس وعنعن.

    كما أن هذا الحديث ضعيف ولا يحتج به.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو نعيم الفضل بن دكين : حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه قبلته قبل البيت، وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت).

    وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة، فنزلت: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، فصرف إلى الكعبة).

    وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: (كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه، فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتبن قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ).

    وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر، وإنها الصلاة الوسطى)، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.

    وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري .

    حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر -أو العصر- في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك رجال يؤمنون بالغيب) ].

    قوله: التستري، نسبة إلى بلدة تستر.

    وقول الراوية: مسجد إيلياء، يعني: بيت المقدس.

    وقولها: فصلينا السجدتين الباقيتين، يعني: الركعتين الباقيتين من الصلاة الرباعية.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن مردويه أيضاً حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علاقة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب: إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة.

    وقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة ].

    حيثما توجه قالبه، يعني جسمه، وقلبه نحو الكعبة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ].

    المسايفة يعني: القتل بالسيوف، وأما إذا كان القتل من مكان بعيد بالرماية فتصلى صلاة الخوف، وأما المسايفة فإن فيها قطع الرقاب، فيصلي إلى أي جهة كانت.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئاً في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ].

    فهذه هي الحالات الثلاث التي يكون الإنسان معذوراً فيها في عدم استقبال القبلة: الحالة الأولى: صلاة النافلة، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حيثما توجهت به راحلته)، وأما الفريضة فإنه ينزل ويصلي في الأرض إلى القبلة.

    والحالة الثانية: في حالة المسايفة، أي: في حال القتال بالسيوف.

    والحالة الثالثة: إذا جهل جهة القبلة بعد الاجتهاد، أي: اجتهد في البرية ولكنه جهل جهة القبلة.

    وهناك حالة رابعة أيضاً لم يذكرها الحافظ ابن كثير ، وهو المريض في المستشفى على سريره إذا كان لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولا يوجد من يوجهه، وكذلك المربوط والمصلوب على خشبة لغير جهة القبلة، فإنهم يصلون ولو إلى غير القبلة، يقول الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    قال المؤلف رحمه الله: [ مسألة: وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية في قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وهو ينافي كمال القيام.

    وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره، وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده، كما قال جمهور الجماعة؛ لأنه أبلغ في الخضوع، وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره. ].

    والصواب من هذه الأقوال: أنه ينظر إلى موضع سجوده في حال قيامه وركوعه وسجوده، وفي حال التشهد ينظر إلى سبابته، وأما القول بأنه ينظر أمامه، وهو قول المالكية واستدلوا بهذه الآية: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] فليس بجيد؛ لأن المقصود من الأمر الاستقبال لا النظر، أي: المقصود استقبال القبلة، وأما النظر فإنه ينظر إلى موضع سجوده في حال القيام وفي حال الركوع وفي حال السجود، وفي التشهد ينظر إلى موضع سبابته، يفعل ذلك حتى ولو كان يشاهد الكعبة، أو كان في المسجد الحرام.

    وقال بعض العلماء ينظر إلى الكعبة إذا كانت أمامه، والصواب أنه ينظر إلى موضع السجود كما قلنا.

    وأما القول بأنه ينظر إلى الصدر، فهذا ليس بشيء.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أي: واليهود الذين أنكروا استقبالكم وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً، ولهذا تهددهم تعالى بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088464550

    عدد مرات الحفظ

    776885380